«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا

«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس

حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا

ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على إطلاق العنان للشيطان الكامن بداخله. في محاضرته التالية، يرسم الباحث والناقد البلجيكي «مارك سخافرز» صورة مختلفة عن الكاتب الفلمنكي الأشهر. جاءت المحاضرة بمناسبة إطلاق السيرة الذاتية الشاملة عن حياة هوغو كلاوس (1929-2008م)، التي اشتغل سخافرز عليها طوال السنوات العشر الماضية، وصدرت مؤخرًا تحت عنوان: «حياة كلاوس» في 971 صفحة من القطع الكبير (أمستردام، 2024م)، وشكّلت حدثًا كبيرًا في الوسطين الأدبيين في هولندا وبلجيكا.

هنا ترجمة للمحاضرة:

مشاهد من حياة كلاوس

باريس، 1951م. فندق فيرنويل القذر مُطلًّا على نهر غيف غوش. بطلنا هوغو كلاوس شاب في الـثانية والعشرين من عمره، يصعد إلى الطابق العلوي بخطوات سريعة، حيث يقيم الكاتب الأميركي المغترب إليوت ستاين، الذي رتب غرفته حتى بدت كأنّها مكتبة، وقعت عينا كلاوس على كتاب «دفاتر ملاحظات هنري جيمس» (حرره إف أو ماتيسين وكينيث موردوك، الطبعة الأولى 1947م)، الاكتشاف الذي سيغيّر مجرى حياة كلاوس، فوفقًا له، أعاد قراءة هذا الكتاب مرارًا وتكرارًا بانغماس كبير. سجّل جيمس مئات المشاهد في دفاتر ملحوظاته وأسماها «البذور»، علّها تنبت في رواياته. سيقلّد كلاوس هذه الطريقة: في ملحوظات قصيرة وخاطفة، يدوّن الأفكار والأحداث اليومية وملحوظاته عن حيوات آخرين طُوال حياته، وغالبًا ما يبدأ العمل على قصة أو سيناريو بقائمة من هذه المشاهد، ليعيد ربطها في قصة تُروى.

لرسم بعض الخطوط العريضة لصورة هوغو كلاوس، اسمحوا لي أن أقدّم قائمة تلخّص ما أسمته فيرجينيا وولف (وهي كاتبة مفضّلة أخرى لدى كلاوس) «الحقائق الخصبة المُوحية»، التي تصنع قصة، أو -في هذه الحالة- ​​عناصر لسيرة ذاتية.

في المشهد الأول، نرى كلاوس (صبيًّا يبلغ من العمر 15 عامًا، وإن كان يبدو أكبر قليلًا بالنسبة لسنّه)، بصحبة رفيقه وزميله في صفوف «الشباب الاشتراكي الوطني» أناتول خيكيره. يطرق كلاوس باب الرسام ألبرت سيرفايس الذي يملك مرسمًا كبيرًا أعلى منزله ذي البرج العالي في «سانت مارتنز لاتيم»، حيث يستطيع الفنان المتديّن رؤية 28 بُرجًا من أبراج الكنائس عبر نوافذه في الشتاء.

سيزعم كلاوس لاحقًا أنه فقد إعجابه بالألمان في أثناء الحرب بمجرّد خسارتهم، ولكن مِنْ هذه الزيارة إلى سيرفايس في 21 يوليو 1944م، يمكن لنا أن نستنتج أن التعصّب النازي لكلاوس الشاب استمر مشتعلًا على الأقلّ حتى نهاية الحرب، فسيرفايس الذي يُعَدّ أحد رواد الفن التعبيري الفلمنكي، كان قد صنع اسمًا لنفسه في السنوات السابقة رائدًا كبيرًا في التعاون مع المحتل النازي، حتى إنه ذهب بنفسه إلى جوزيف غوبلز في برلين أكثر من مرة لتهنئته بـ «انتصارات» هتلر.

يود المرء أن يعرف بالضبط كيف جرت المحادثة بين الزائرين المراهقين والفنان الفلمنكي الشهير. كلاوس بدوره أبقى المشهد مُعتمًا وغير واضح، وفي المرة النادرة التي أشار فيها إلى هذه الزيارة، بعد مرور 40 عامًا، قال: إن الذعر سيطر على سيرفايس وهو يحاول «إقناعنا» بالمشاركة في الحرب متطوعين ضمن صفوف الألمان!

إضافة إلى الكذب، كان التعتيم أيضًا أحد وسائل كلاوس في صياغة ماضيه ليناسب احتياجاته الخاصة، كان ذكيًّا بما يكفي للتأكد من أن عارَ تعاوُنِهِ مع النازيين لن يعوق مستقبله.

كلاوس الطفل المعجزة

روما، ربيع 1953م. دخل كلاوس إلى متحف «غاليريا بورغيزي»، وتوقف ثابتًا منبهرًا أمام لوحة لوكاس كراناخ «فينوس مع كيوبيد سارق العسل». تلك اللوحة، كما سيكتب لصديقه روجر رافيل: «معجزة، شيء يضغط على قلبك بيد مطاطية». سيعود كلاوس إلى هنا في كل زيارة لاحقة له إلى روما.

باستثناء القبعة المخملية المدببة، فإن فينوس عارية تمامًا، امرأة طويلة، صدرها عالٍ، وساقاها نحيفتان، وأصابع قدميها طويلة، تقف ناظرة إلى رفيقها الملاك كيوبيد الذي يبدو في اللوحة ضئيلًا قبيح المظهر، يكافح للوصول إلى ركبتيها بعد أن سرق قرص العسل، فيما نرى النحل المسروق وقد بدأ في الهجوم عليه فبدا الملاك مذعورًا. سيقول كلاوس لاحقًا: إنه تعرف إلى نفسه في كيوبيد المضطرب بنظرته المرتعبة تلك. نعم، أَحبَّ كلاوس أن يُظهر نفسه كـ«أمير صغير ضعيف»، كما لحظ الناقد والإعلامي الهولندي إيشا ماير ذات مرة. ولم لا؟ فالشفقة على ذاته لم تكن غريبة عليه، والنرجسية أيضًا.

ما وجدته أكثر إثارة للاهتمام من بين جميع الوثائق الموجودة في أرشيف كلاوس، كان ذلك النصّ الغريب الذي يُقال: إن كاتبه شخص «مجهول»، وفيه تُوصَف المدة التي تعرّف فيها كلاوس إلى مجتمع «الحلقة» للفنانين الجدد في أمستردام في نوفمبر 1953م:

«مثل معبود شاب ظهر كلاوس هنا «في أمستردامنا الصغيرة» مُرتديًا بذلة مصمّمة بعناية: قميص أبيض نقي، يتناقض بشكل أنيق مع ربطة العنق الحريرية المضلّعة التي بدت كفراشة خضراء داكنة أسفل ذقنه، بنطاله رمادي ناعم مَكوي بعناية وله خطان حادان، سترته مصنوعة من جلد الغزال ذي اللون الرملي، يرتدي فوقها معطفًا بنيًّا له مربعات عاجية، حذاؤه، ذو المقدّمة المدبّبة والكعب العالي، صناعة إيطالية، وليست مصادفة، فهذا الوسيم ذو الشَّعر الأشقر يشبه الفايكنج بملامح وجه نيرون الشاب وقد عاد للتو من روما».

في هذا النص، يُوصف كلاوس بأنه «القوة الساحقة التي لا يُمكن أن تمر دون أن يُلاحظها أحد»، ووصفت عبقريته بعبارات: «البدائية الذكية» و«عدم التقيّد بالأعراف»، وأيضًا: «بالمقارنة مع هذا الساحر، وَجَد أصدقاؤه الهولنديون أن عيوبهم كبيرة إلى حد مقزّز»!

مَنْ يكون هذ الشخص الحميم المجهول من «أمستردامنا الصغيرة» الذي يتحدث بحماسة شديدة عن الطفل المعجزة كلاوس هكذا؟

أعتقد أن اسمه ببساطة هوغو كلاوس. طريقة صياغة الجُملة والتفاصيل الدقيقة لملابسه والأسلوب واللغة الهولندية الخرقاء المتعثّرة أحيانًا، حتّى الأخطاء الإملائية، كلّها تقريبًا تفضح كلاوس الشاب. في تلك السنوات كتب الروائي الأميركي نورمان ميلر: «إن الطريقة لحفظ عملك والوصول إلى المزيد من القرّاء هي الإعلان عن نفسك»، وقد شارك كلاوس هذه الرؤية: «إن الإيحاء بالنجاح يصنع النجاح». لقد احتفظ بشكّه في كتاباته الخاصة لنفسه، وأظهر في العلن ثقة مطلقة؛ «يتعلّم المرء من الأدغال»، على حدّ تعبير الشاعر الهولندي ومعلّمه هيرمان تيرلينك.

–   «دعيني وحدي أيتها الكلبة» (مذكّرات كلاوس، 30 أكتوبر 1958م).

–    «ابتعد أيها النتن واهتم بشؤونك» (3 ديسمبر).

الكلبة المُخاطَبة هنا هي زوجة هوغو كلاوس الأولى «إيلي أوفيرزير»، لقد اعتدنا الألقابَ العديدة التي خاطَب بها كلاوس حبيبتَه: أليست هي «المذبح الوثني» الذي كان يداعبه بـ«أصابع من نور» في قصائده؟ ألم تكن تارة أخرى «بُستانًا يُزهر في تموز»؟

بغض النظر عن عدد المرات التي تألقت فيها إيلي وتجلت في قصائد كلاوس ورواياته، وعدد المرات التي صُوِّرَ فيها الزوجان كأنهما في «علاقة نموذجية»؛ كانت علاقتهما مضطربة منذ البداية.

الشياطين التي تسكنه

شاعر الحب الأكثر شهرة في بلادنا لم يختبر الحب قط إلا كـ«حيوان صعب»، لا توجد متعة من دون ألم. كان كلاوس متعصّبًا للحرية قبل أي شيء آخر، قال مرة: «الحرية هي أجمل صرخة». رأى بفزع كيف يمكن للرغبات أن تستعبد الإنسان. وبعد ست سنوات من تعارفهما الأول، تزوج من «حبيبته الصغيرة المجنونة»، تحت ضغط من والدها.. وأمواله.

في روزنامته الشخصية رسم كلاوس نفسه مذعورًا على الصفحة التي حملت تاريخ زفافه المرتقب، وكتب بأحرف كبيرة مُتسائلًا: بداية التنكيل؟ ربّما؟ وكان الجواب موجودًا أيضًا، بحروف أصغر حجمًا.. وأكثر رعبًا: «لا».

إسطنبول، ربيع 1961م. قصر طوب قابي، يقف كلاوس منبهرًا لثلاثة أيام (كما يقول، فالمبالغة من سماته) أمام ألبوم فاتح. تُنسب الرسوم القديمة في هذا الألبوم ذات التأثيرات الآسيوية إلى صياح قلم، أو «القلم الأسود». أكثر ما أثار اهتمام كلاوس في هذه الرسوم أو كما أسماها «صياح قلم» في روايته التجريبية «سكولا نوسترا» (1971م)، هي الشياطين الحاضرة باستمرار، الشياطين المتنوعة التي تظهر دائمًا بملامح بشرية؛ (اعتقد كلاوس على الدوام أن البشر والحيوانات لا يختلفون في طباعهم كثيرًا)، وعادة ما تحدّث عن الشياطين التي تسكن داخله: الرجل الذي تعرف إلى نفسه في الملاك كيوبيد واستحوذ على كثيرين بسحره، كان عازمًا أيضًا على إطلاق العنان للشيطان الكامن فيه، كان يعلم أنّ تحت قشرة «المداراة والشفقة على الذات»، يكمن بركان خامد بداخله، لقد وصف الغضب بأنه شعور «لطيف»، وربطه بـ«الكبش»، برجه الفلكي.

كان كلاوس لا يزال يافعًا عندما أطلق معلِّمه الشاعر الهولندي هيرمان تيرلينك عليه لقب «الملاك الشيطاني». هو نفسه كان يبحث عن المفارقات ليصور تطرف شخصيته: «النار الباردة»، «الحنان القاسي»، «البدائية الذكية»، قال: «المتعة الحقيقية الوحيدة التي يمكن أن تستمدها من الكتابة، هي أن تستطيع أن تصبح الشيطان نفسه فيها».

أواخر الستينيات يجلس كلاوس في مقهى «أميركان» المطل على ميدان «لايدزبلاين» في أمستردام. يدخل الروائي الهولندي هاري موليش، إنه في الواقع مقهاه الخاص، يتجه نحو كلاوس فيرى مخطوطة رواية على طاولته. كان موليش قد صرح للتو في إحدى مقابلاته الصحفية بأن الحرب قد عادت مرة أخرى (فيتنام والدكتاتورية الرأسمالية وغيرها)، وأصدر مرسومًا: «الروايات لا تُكتب أثناء الحروب»! والآن يرى هذا المخطوط؟ كتب كلاوس في مذكّراته: «لقد صُدم حقًّا، وصرخ في وجهي: ما هذا؟ ألا زلت تكتب الروايات سرًّا»؟

إذا كان كلاوس قد ناضل لسنوات لحل معضلة ربط أعماله الأدبية بالاتجاهات السياسية، فقد كان هذا أيضًا بسبب من هاري موليش، (كان تأثير زميله واضحًا كذلك في مجالات أخرى. قال كلاوس ذات مرة: «أسير على الدوام بشكل مستقيم جوار موليش»، حالة من «التناطح»، كما أسماها.

مذكراته: «هل تحدثتُ يومًا عن المتعة الغامرة التي تملأ العقل والجسد -بترقّب أكثر إثارة ممّا قد تتسبّب فيه أي مشكلة أيًّا كانت- عندما يحاول المرء إشعال سيجارة بعود ثقاب يحتوي على القليل جدًّا من الكبريت؟ لا! إذن ها أنا الآن أفعل».

كان كلاوس يعلم أن خلق شيء ما من العدم أمر شديد الصعوبة؛ لهذا السبب حاول الاحتفاظ بالتفاصيل وكتابتها في أوراقه، لقد أراد أن يُضفي على رواياته (وهذه هي صياغته): «لمسة من الموضوعية الواضحة»، التفاصيل، وفقًا لملحوظة كتبها كلاوس، هي «المصدر الحقيقي للقصة». اعتراف كتبه كلاوس: «الناس لا يعرفون أنني أحوم فوقهم كالطير الجارح، أنزع منهم نتفًا لأصنع منها كتبًا».

تحدث غرهام غرين عن «شظية الجليد التي تكمن في قلب كل كاتب»، ورأى أن أي كاتب سيكون «الأسوأ» لو تمكن القراء من التعرف إلى الشخصيات أو المواقف الحياتية في كتاباته.

شظية جليد؟ حين يتعلق الأمر بقلب هوغو كلاوس، فهل من الأفضل التحدث عن «كتلة كبيرة من الجليد»؟ في نهاية المطاف، كان كلاوس المتلصّص الذي سافر مع حبيبته الممثلة «كيتي كوربوا» للاحتفاظ بـ«حساب دقيق للخسارات»، ما سيثمر عن روايته اللاحقة «عام السرطان» (1972م). إنه العاشق الذي، في الأشهر التي حدثت فيها القطيعة مع حبيبته الممثلة سيلفيا كريستل، ظل مصممًا على البقاء قريبًا منها، لماذا؟

«لمشاهدة تدهورها»، كتب كلاوس في دفتره استعدادًا لـ«رواية عن الغيرة» يقول: «أريد أن أرى كيف سينتهي الأمر بها، أريد رؤية توترها، ذبولها في غلافها المعدني، سألعب كوميديا ​​​​الصداقة مدة من الوقت، فقط من أجل الرؤية، وبذرائع كاذبة إن لزم الأمر».

ومع ذلك، لم يكتب كلاوس الرواية الأخيرة قطُّ، وتحول إلى خرقة سنتمنتاليّة حين لحظ، في الدفتر ذاته، أنه يضع مرة بعد أخرى أغنية «لا تتركيني» لجاك بريل في جهاز الاستماع، ويبكي عندما يغني: «دعيني أكون ظلًّا لكلبك».

رواية لم تكتمل

كان كلاوس حيوانًا اجتماعيًّا، يكوّن مجموعات كبيرة من الأصدقاء، لكن ذلك لم يمنعه قط من الشعور بالوحدة. قال ذات مرة: إن الشعور بالوحدة «متأصل فيه» لدرجة أنه سيفتقده إذا اختفى.

اختتم كلاوس أعماله الشعرية الكاملة بقصيدة كتبها عام 1999م بعنوان: «إعادة النظر في أبولينير»، وأعطاها صوتًا عُلْويًّا. كتب أن أبولينير «يؤمن بطالعه»، لكن ها هو «معروض للبيع في حالة من اليأس»، والشيء الوحيد الذي يمكنك من خلاله مواجهة هذا اليأس هو ما صاغه كلاوس في الجملة الختامية للقصيدة: «فقط اضحك»، وفي النسخة الأولى التي نُشرت في الصحف كانت الجملة مختلفة قليلًا: «اضحك، اسخر مني».

جنت، خريف 2007م. المعرض الأخير الذي ملأ كلاوس بالحماس وأطلق عليه اسم «الرؤية البريطانية»، تعامل مع رفاقه «يان ديكلاير» و«بريختيا لاووارد» بتعليقات متعمّقة ولمّاحة، وطاقة بدت لوهلة غير متوافقة مع أعمال الهدم التي كان مرض الزهايمر يقوم بها في جسده منذ سنوات. نظر كلاوس مدة طويلة إلى مُجسّد «الكبش» الذي صممه الفنان «ويليام هولمان هانت» المشارك بالمعرض، كان مُجسّدًا من الأقمشة البيضاء يشير إلى سفر اللاويين في العهد القديم (يمكن عدّه كبش فداء المسيح على الصليب). بعد الزيارة، حاول كلاوس أن يكتب رسالة إلى صديق على بطاقة بريدية تحمل صورة للكبش، لم تطاوعه يده، فانفجر غاضبًا وأحدث كثيرًا من الفوضى.

هكذا كان الأمر طيلة الوقت: جعله الزهايمر يراوح ذهابًا وإيابًا كالبندول بين أوقات الوضوح ولحظات الضباب، لهذا اضطر إلى التوقف عن العمل في رواية «الغيوم»، الرواية التي كان لا يزال يرغب في كتابتها. وهكذا أراه في المشهد الأخير، يكتب ما قد يكون آخر ملحوظة عمل له، إنه يكتب، بل يحاول أن يكتب لأنه لم يعد قادرًا على القيام بذلك بشكل جيد: «المهمة سرية».

ربما ستعذرون كاتب السيرة حين يرى أن هذه العبارة، التي كانت آخر ما دوّنه كلاوس، كانت رسالة شخصية موجهة إليه، كما يمكن عدّها أيضًا تذكيرًا مفيدًا لنا جميعًا بما يمكن قراءته في الصفحة 47 من دفاتر هنري جيمس: «لا تقل أبدًا إنك تعرف آخر كلمة في أي قلب بشري».


مارك سخافرز (مواليد 1956م)

كاتب ومحرّر صحفي بلجيكي، درس اللغات الجرمانية وبدأ العمل الصحفي في عام 1994م. منذ 1996م تولى سخافرز تحرير الملحق الأدبي DSL في صحيفة «ذا ستاندارد» أهم الصحف الفلمنكية الصادرة في بلجيكا، كما قدم كتبًا عدة، وبخاصة في مجال السيرة الذاتية، وكان للشاعر والروائي البلجيكي هوغو كلاوس نصيب كبير من جهد سخافرز في هذا المجال، حيث قدّم عنه ثلاثة كتب، كان آخرها السيرة الذاتية الضخمة تحت عنوان «حياة كلاوس» التي تأتي المحاضرة أعلاه بمناسبة صدورها في مارس الماضي، ما شكّل حدثًا أدبيًّا كبيرًا في المشهد الأدبي للغة الهولندية في أمستردام وبروكسل.