الفراغ العمراني.. حضن للتفاعل الثقافي
تشهد السعودية مؤخرًا وفرة في الفعاليات الثقافية المعززة لبناء مشهد ثقافي شامل. ومع تنوع الوسائط والقنوات التي تصل بها للعامة، إلا أن أغلبها كالفقاعة لم تكد تتكوّر حتى انفجرت، ولا نبخس حقَّ هذه الصورة من العروض والمعارض والمحافل بأنواعها، وهو ما يستدعي منا التوقف والتساؤل: أما من صورةٍ سواها؟ فإن كانت مساعينا الثقافية تتطلب منا احتكاكًا أكثر بالعامة لتأسيس الثقافة وبناء الذائقة وجعلها جزءًا من المعيشة، فكيف للعمران لَأْمُ هذا الشِّق بين نتاج الثقافة السعودية ومتلقيها حتى تراها نسيجًا ملتئمًا يكسو حياته اليومية؟ وكيف نضرب وتد خباءِ الثقافةِ المحلية في الفراغ الخارجي العام؟
الفراغات الداخلية والخارجية
رحابة منطقة الإجابات على التساؤلات أعلاه وتنوع أشكال تجلياتها تصعّب الإجابة بشكل منهجي محدد، لكن الإجابة ستكون بتوضيح المفاهيم والعناصر الأساسية التي ستكون المرجع للمصمم والمعماري؛ لذا سنركز في هذا المقال على ثلاث أفكار رئيسة: الفراغ الخارجي العام وتصنيفاته، وأنواع التفاعلات الثقافية في الفراغات بشكل عام، وكيفية اختيار التفاعل الثقافي المناسب للفراغ الخارجي المفتوح.
ولنعرف ماذا نقصد بالفراغ الخارجي العام، فيصنف المعماريون الفراغات التي تضمُّنا بين جدارٍ وسقف على أنها فراغات داخلية، وتلك التي بين المباني على أنها فراغات خارجية. ونقصد بالعام ما كان مفتوحًا للعامة طوال الوقت. الفراغ المعماري بنوعيه يرسم لنا حدودًا تملؤها تفاعلاتٍ تُناسبها، ثم تتحور لأشكال أخرى عند الانتقال لفراغٍ آخر. والغاية من المعماري هو خلق الفراغات برسم حدودها، ومن ثم اختيار حافزات خلّاقة لأنشطة وتفاعلات تُحيي المكان وتثريه. رسم الحدود للفراغات الداخلية بالطبع أسهل منها في الخارجية، إلا أن جمود الحدود هذا يجعل من سيولتها بين الفراغات الخارجية العامة أكثر استيعابًا لاحتضان التفاعلات وتنوعها.
وعلى الرغم من صعوبة تصنيف الفراغات الخارجية فإن يان جيل قسمها في كتابه «الحياة بين المباني» بحسب أنواع النشاطات التي تتخذ حيزًا فيها لثلاثة أنواع: نشاطات ضرورية، واختيارية، واجتماعية، ويقصد بالضرورية: النشاطات الإلزامية كالذهاب للعمل، وأما النشاطات الاختيارية فتحدثُ حيثما وجدت الرغبة والارتياحُ في المكان والزمان، بينما تعتمد النشاطات الاجتماعية على وجود الناس في المكان؛ كأماكن اللعب، وإذا عكسنا أنواع النشاطات على الفراغات فبإمكاننا تقسيمها إلى: فراغات للأنشطة الضرورية، وفراغات للأنشطة الاختيارية، وفراغات للأنشطة الاجتماعية.
إذا ما فكرنا في الفراغات الخارجية العامة في مدينة الرياض على سبيل المثال، فسنجد بعضها حاضنًا للأنشطة الثلاثة السابق ذكرها. وإذا ما استبعدنا النشاطات الإلزامية، ففراغ حديقة حيّ صغيرة قد يحتضن أنشطة متعددة؛ من لعب الأطفال، ورياضة للشباب، ومسطحات خضراء تكفي لاسترخاء أهل الحيّ. انتعاشها في أوقات تحسن الجوّ بشكل أكبر لا يعني هجرانها وقت تدنيه. لكن عطفًا على سؤال المقال الأساسي، يندر وجود حافزات لأنشطة ثقافية بأنواعها. وهنا نسأل، ما أشكال الثقافة ومنتجاتها الممكنة للمعماري والمصمم لِيخلقَ تفاعلًا يناسب الفراغ الخارجي العام؟
تلقي المنتج الثقافي
يصعب تعريف الثقافة لكثرة تداخلاتها مع جوانب متعددة من حياتنا، ومِن تعقيدِ تعريفها تعقيدُ تصنيفات أشكالها ونتاجها. فعادة ما يُربط المنتج الثقافي بالجانب الجوهري والمعنوي للثقافة كالهوية والقيم، وله شكلان: محسوسٌ وغير محسوس، إلا أن هذ النوع من التفصيل في الأنواع والمجالات للثقافة ونتاجها لن يسهِّل اختيار المنتج اللائق لكل فراغ؛ لأن التفاعلات ستختلف مع المنتج ذاته باختلاف الفراغ والمتلقي، ولهذا سنشير للنتاج الثقافي بأنواعه كافة بالمنتجات الثقافية. ونخصُّ بالذكر طرق تفاعلاتها مع المتلقي، ونصنفها لثلاثة أنواع: التفاعل الفكري، والتفاعل الحسي، والتفاعل العاطفي.
التفاعل مع الأفكار في مجالات الثقافة شاملًا مراحل تطور الفكرة، يأتي بدءًا من حافزات توليدها، فطرحها، ثم مناقشتها ومناظرتها أو البناء عليها. يختلف التفاعل وعمقه باختلاف مستوى المتلقي واهتماماته وتفاعله مع المنتج مفردًا أو مع جماعته؛ إذ إن طبيعة التفاعل الفكري تحتاج لوقت أطول وبيئة أنسب ليحدث التفاعل ويتمّ، وهذا ما يصرِفُ العامة عنه، ويصعّب انجذابهم له، مع ما فيه من قوةِ الأثر وعمق التأصيل للثقافة، ومنه: الأطروحات الفكرية، والمحاضرات، والفلسفة، والكتب.
أما التفاعل الحسي، فمن مسماه، فهو يعتمد على الحواس الخمسة إضافة إلى حساسية الحرارة والتوازن، وكل ما يثيرها ويدفعها للتفاعل بدءًا من أدناها وهو النظر، إلى أعلاها وهو اللمس. الأصل أن يستهدف هذا النوع حاسةً واحدة، إلا أنه غالبًا ما يتوسع ليشمل أكثر من حاسة معًا أو تباعًا، وأول هذه الحواس وأهمها اللمسُ والنظر والسمع، ويختلف نوعها وترتيبها بحسب المنتج الثقافي. هذا النوع من التفاعل جذاب أكثر من غيره بشرط صحة التوفيق بين الحاسة والمنتج، وعدم إغفال العمر والجنس والحالات الصحية ليتم التفاعل المرغوب، ومن هذه المنتجات: القطع الفنية، والمعزوفات، والأطعمة، والصور، والملصقات، والروائح، والعطور.
وأخيرًا، يرتكز التفاعل العاطفي على المشاعر المستثارة مِن المنتج الثقافي، فالمستهدف فيه نوع أو مجموعة من المشاعر كالدهشة والبهجة والتعاطف، وتكون ثابتة لدى أغلب المتلقين. يصعب علينا تحديد منتجات بعينها لهذا النوع من التفاعل؛ إذ إن تأثيرها يرتبط بالجو المهيأ حولها أكثر من نوعها، ولكن أشهرها الأفلام، والعروض البصرية والموسيقية، والتصميم الداخلي للفراغ.
فهم أنواع التفاعلات والمنتجات الثقافية المرتبطة بها هي الخطوة الأولى لاختيار الصحيح، ثم تشكيل الحافزات المناسبة له في الفراغ. وقد يختار المعماري والمصمم التعمق لطبقة أخرى من التصنيف ليحدد مستويات التفاعل المُتصور، فلكل من التفاعلات أعلاه ثلاثة مستويات من التفاعل. تبدأ المستويات بمستوى التفاعل السلبي الذي يقتضي وجود المتلقي والمنتج الثقافي في الفراغ نفسه دون الانتباه والقصدية، وهذا يشمل وجود المتلقي السلبي في الفراغ نفسه مع متلقين آخرين يتفاعلون مع المنتج الثقافي مع إغفال حاسة أو أكثر، كأن يرى المتلقي محاضرة من دون أن يسمع النقاش، أو يرى من يقرأ من دون أن يرى ما يُقرأ. يفوقه درجة مستوى التفاعل النشط للمتلقي مع المنتج الثقافي بشكل مقصود، حتى وإن بدت المشاركة صامتة، إلا أنه في الغالب يتضمن مشاركة فعليّة من المتلقي. يكمن الفرق بين المشاركة النشطة الصامتة ومستوى التفاعل السلبي في توجه الانتباه واكتمال تفعيل الحواس. أخيرًا وأعلاها هو مستوى التفاعل التأملي الذي يطول مداه إلى ما بعد لحظة التفاعل، فما يجمع المتلقي والفراغ هو الاستقبال، ليحدث التأمل والتفكر فيه فيما بعد.
عودةً إلى مثال حديقة الحيّ الصغيرة، إيجاد نقطة تخلق تفاعلًا فكريًّا وسط فراغ الحديقة قد يتضمن مكتبة صغيرة وأماكن للجلوس والقراءة. وعلى الرغم من بساطة المثال فإن التفاعل معها يمر على المستويات الثلاثة، فالمستوى السلبي يكون برؤية شخص يقرأ فيها كدعوة لطيفة تُثير فضول المشاركة، كما أنها أوجدت للقارئ البيئة المناسبة والقريبة منه، فقصدها للقراءة أو استعارة الكتب، وقد ينتقل بعدها للتفاعل التأملي عبر نشره مقالًا يراجع فيه أفكارًا تخمرت أثر قراءته للكتاب. ومع أننا نتفحص المثال ذاته من زوايا مختلفة لتسهيل الفهم، إلا أن مستويات التفاعل الثلاثة لا تعني التراتبية بالضرورة في كل الأحوال، ولا وجوب المرور عليها كلها، بل تختلف بحسب المنتج الثقافي.
إذًا، التناغم بين الفراغ والمنتج الثقافي كافٍ لخلق تفاعل ثقافي، ويسهّل ربطهما بأنواع التفاعل ومستوياته الصحيحة في تصور مساحات الخلق الممكنة. المكتبة الصغيرة هي مثال تقليدي لتبسيط الفكرة ليس إلا، فالمعماري والمصمم المحلي قادر على خلق حافزات خلّاقة تأخذنا لأبعاد ثقافية جميلة.
أخيرًا، الفراغ الخارجي العام الحيّ، حيّ بناسه وتفاعلاتهم التي تحصل من خلاله، وللثقافة أن تكون جزءًا أصيلًا منه. نستطيع القول: إن الفراغات الخارجية العامة المحلية فرصة مُهدرة لم تستغل لترسيخ أسس الثقافة، خصوصًا في وقتنا الحالي.