غنائيات المنفى.. خارج الموطن واللغة والذاكرة – قصائد مختارات

غنائيات المنفى.. خارج الموطن واللغة والذاكرة – قصائد مختارات

في خطاب تنصيبها أول امرأة تتولى منصب رئاسة دولة أيرلندا، في ديسمبر 1990م، خلصت ماري روبنسون إلى القول: «إنني بصفتي امرأة، أتمنى أن تُعاد كتابة التاريخ لتُذكر أسماء كل النساء اللاتي شعرن بأنفسهن «خارج التاريخ»، على حد تعبير إيفان بولاند، ليجدن صوتهن حيثما كانت رؤيتهن». وعقّبت صحيفة آيريش تايمز على ذلك قائلةً: «لقد كان مناسبًا تمامًا أن تُذكر الشاعرة باسمها في تلك اللحظة الحماسية بالنسبة للنساء الأيرلنديات. فالقليل من الكتّاب بذلوا جهدًا يُذكر لتضمين التجربة الأنثوية في النتاج الشعري الأيرلندي الحديث». وفي واقع الحال فإن تعبير «خارج التاريخ» هو أيضًا عنوان ديوان إيفان بولاند السادس الذي صدر في عام 1990م.

عُرفت بولاند كأحد أبرز الأصوات في الأدب الأيرلندي المعاصر. فقد كانت شاعرةً وناقدةً وأستاذةً أكاديميةً يُشار لها بالبنان لمساهماتها العميقة في الحياة الأدبية والثقافية في بلد ذي طبيعة خلابة وتقاليد شعرية وثقافية عريقة، ولكنه مرّ بكثير من المحن السياسية والإنسانية على مدى تاريخه حتى عهد قريب.

ولدت الشاعرة عام 1944م بمدينة دبلن، وانتقلت صحبة عائلتها إلى لندن وهي لمّا تبلغ السادسة من عمرها لتبدأ الدراسة الابتدائية باللغة الإنجليزية التي وصفتها بلغة غريبة و«حوشية النطق»، ولتتعرف مباشرةً على النظرة المعادية لكل ما هو أيرلندي في المجال العام ببريطانيا. أكملت دراستها الجامعية بتفوق في مجال الأدب الإنجليزي، ومن ثم درّسته في عدد من الجامعات في أيرلندا وبريطانيا. ومنذ بداية التسعينيات من القرن الماضي انخرطت في تدريس الكتابة الإبداعية في جامعتي آيوا وستانفورد الأميركيتين حيث قضت وقتها مهاجرةً، عابرةً في ترحال دائم، بين مكان عملها ومسقط رأسها حتى وفاتها عام 2020م.

احتفاء بالمهمش في المرويات التاريخية

اشتهرت قصائد بولاند باحتفائها بما هو عادي في الحياة اليومية، وما هو مهمش ومسكوت عنه في المرويّات التاريخية، وبتناولها التحليلي الناقد للأساطير الملحمية والمحكيّات الرومنطيقية الفُلكلورية التي تلقي بظلالها على الوعي الجمعي في بلدها. حيث غالبًا ما تضع قراءها في خضم الخيارات الصعبة التي تواجهها الشاعرة في تناولها لسرديات بلد وثقافة خرجا مقطعي الأوصال، وفي حال من التشنج السياسي والجمود الفكري والاجتماعي، بعد معاناة احتلال أجنبي (بريطاني) استمرت قرونًا عدة، تخللتها مواجهات عنيفة، وحملات تهجير واسعة، وكوارث إنسانية، ومجاعات مروِّعة. وهي معاناة لم تنته تمامًا مع استقلال أيرلندا عام 1921م، حيث ظلت موجات العنف في صعود ونزول لمعظم ما تبقى من القرن العشرين في الإقليم الشمالي؛ «أيرلندا الشمالية» التي ظلت تحت التاج البريطاني.

فالموطن الأيرلندي، اليوم، يظل سليب أجيال من قاطنيه التاريخيين الذي هُجّروا قسرًا على مدى قرون متتابعة إلى أصقاع متناثرة من بريطانيا ومستعمراتها وفي أنحاء مختلفة من العالم الجديد. والثقافة الأيرلندية بدورها سليبة لغتها القومية (الغايلية) التي تقلّص استخدامها قسرًا وبصورة لا رجعة فيها، على مدى حقب زمنية متتالية تمتد حتى عهد قريب، لصالح لغة المستعمِر، الإنجليزية.

ولعله يصعب أحيانًا على المتلقي للأدب الإنجليزي تمييز الفارق بين ما هو «بريطاني» وما هو «أيرلندي». وهو فارق يمثل قلقًا وأزمة هوية كبرى بالنسبة لكتّاب أيرلنديين لهم بصمات رئيسة وفارقة في الأدب المكتوب بالإنجليزية، مثل: ويليام بتلر يتس، وأوسكار وايلد، وجورج برنارد شو، وجيمس جويس، وصمويل بيكيت، وشيموس هيني، وغيرهم.

فها هو جيمس جويس على لسان بطله في رواية «صورة الفنان في شبابه»، 1914م، يقول: «اللغة التي أتحدث بها هي لغته قبل أن تكون لغتي. كم هي مختلفة الكلمات على شفتيه وعلى شفتي! لغته، المألوفة للغاية والدخيلة للغاية، ستظل دائمًا بالنسبة لي لغة الكلام المكتسب. لم أصنع كلماته ولا أتقبلها. فصوتي يبقيها بعيدًا. وروحي حانقة في ظل لغته».

وعلى الوتيرة نفسها وبعد عقود عديدة، تأتي بولاند في ديوانها «الأرض المفقودة»، 1988م، تصف حالها، وهي التي انتقلت من مسقط رأسها دبلن إلى لندن صحبة عائلتها وهي لمّا تزل في سنوات الطفولة: «تلك هي اللغة/ حزن صالح للسكنى/ لحن في القول/ لما عهدنا وتعودنا/ من تعاف للجِراح، كجرحِ الفقد إيّاه/ إذ يوجع بما يكفي ليظل أثرُه ندبةً/ ويشفى بما يكفي ليصبح وطنًا».

القومية الأيرلندية

ويرى الكاتب الصحفي جيرارد سميث أن استكشافها للهوية أمر محوري في شعرها. فكثيرًا ما تناولت موضوعة القومية الأيرلندية وتعقيداتها. فقد كان لديها أيضًا ارتباط دائم بمدينة دبلن، المكان الذي أطلقت عليه اسم «مدينة الظلال». وكان عملها تأملًا مستمرًّا في أيرلندا وعلاقتها بها، وحوارًا مع الماضي ساعيةً على الدوام إلى تضمين من كانوا «خارج التاريخ».

وهذا الوعي «الشقي»، المثلث؛ وعي المنفى المؤبد: خارج الموطن، وخارج اللغة الأم، وخارج ذاكرة العدل الاجتماعي والجندري سيلقي بظلاله بصور متفاوتة على مجمل نتاجها الشعري.

فقد مضت في قصائدها إلى استكشاف الموضوعات المنزلية، وتجارب النساء في أدوارهن الحياتية المختلفة. وغالبًا ما تتعمق في توصيف هذه الأدوار في عزلتها وجمالها. وفي كل الأحوال، فشعرها يجمع بين نغمتها الغنائية العالية ومقارباتها التي تسائل البنى الفكرية التقليدية حول الأنوثة، وتقدم في الوقت ذاته رؤى جديدة حول الإرث الاجتماعي الأيرلندي.

وألمحت الشاعرة والناقدة روث باديل إلى «التزام بولاند بالشعرية الغنائية» حتى عندما تكون شخوصها «نسيج الحياة المنزلية، والأسطورة، والحب، والتاريخ، والمشاهد الطبيعية والريفية». وفي قصائد مثل: «كيف صنعنا فنًّا محدثًا على أرض قديمة»، و«الحال أن علم رسم الخرائط محدود»، تنطلق بولاند من لحظة تفاعل مع الطبيعة لتبني، بلغة أنيقة وتأملية، وصياغات مجازية مبتكرة، عالمًا تستدعي فيه التاريخ والحاضر والأساطير، لكنه يظل في نهاية المطاف عالمًا شخصيًّا مكثفًا. وهي وصفة أتقنتها بولاند في عملها منذ وقت مبكر.

وغالبًا ما يستكشف شعرها التحديات التي تواجهها لكونها أمًّا وزوجةً ومبدعةً في مجتمع أبوي. ورغم رهافة صورها الشعرية، وحميميتها في البوح، فإن عملها يتحدى الشعر الأيرلندي التقليدي من خلال إعطائها صوتًا لتجارب النساء، اللاتي غالبًا ما هُمِّشت أدوارهن في السرديات القومية المتوارثة. ومجموعتها الشعرية «امرأة بلا وطن»، 2014م، تأخذ عنوانها من عبارة الروائية البريطانية فيرجينيا وولف: «في الواقع، كامرأة، ليس لدي وطن». وقد أجادت إيفان بولاند في توصيف حالها شاعرةً من القرن العشرين تشق طريقها في ثقافة عريقة وثرية، ولكنها في الوقت ذاته «ثقافة تفتقر إلى صورة ذهنية واحدة تجمع، بصورة متصالحة، بين كلمتي: امرأة وشاعرة». ولعل هذا التوصيف يذكرنا بالجدالات الكبرى التي خاضتها في مطلع القرن العشرين فيرجينيا وولف ضد قيم العصر الفيكتوري التي شككت في موهبة الإبداع الأدبي والفكري لدى النساء على مدى التاريخ.

 

تعقيدات حياة المرأة

وكما أنجزت فيرجينيا وولف خطبتها العصماء في مقالتها المطولة «غرفة تخص المرأة وحدها» عام 1929م، لتقول: إن التمكين الاقتصادي والاجتماعي هو الشرط الحياتي اللازم لممارسة الفنون الذهنية والإبداع فيها، فقد أظهرت مجموعات بولاند الشعرية، مثل «رضاعة الليل»، عام 1982م، و«شعر ضد الحب»، عام 2001م، بلغة شفيفة وبلاغة قريبة من الروح، التزامها بتصوير تعقيدات حياة المرأة، والمكانة الكبيرة لقصص المرأة في التقاليد الأدبية، وقدرتها على نسج الروايات الشخصية ضمن السرديات الاجتماعية الأوسع.

لقد تركت مساهمات بولاند تأثيرًا دائمًا في عالم الأدب الأيرلندي. فقد قلب شعرها التصورات التقليدية للأنوثة. وفي ديوانها الخامس، «في صورتها الخاصة» (1980م)، تناولت موضوعات مثل العنف المنزلي، وفقدان الشهية العصابي، ووأد الرضّع، ومعاناة مرض السرطان، متحديةً التصوير التبسيطي للمرأة في الأدب والمجتمع الأيرلندي.

حصلت بولاند على العديد من الجوائز الأدبية، بما في ذلك جائزة مؤسسة لانان في الشعر وجائزة الصندوق الأدبي الأميركي الأيرلندي. وامتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من كتاباتها، حيث كانت أيضًا متخصصة في تحرير المختارات الشعرية، وأستاذة أكاديمية بجامعة ستانفورد ساهمت في دعم وتطوير طرق تدريس الكتابة الإبداعية، وشاركت شغفها بالشعر وقدرته على تشكيل الثقافة ومنحها رؤى مختلفة. وتخلص جريدة آيريش تايمز في مقالة تأبينية لها، عام 2020م، إلى أن «إرث بولاند يستمر في إلهام القراء والكتاب على حد سواء، حيث يظل شعرها شهادة على التأثير الدائم لصوت الشاعرة في تشكيل تاريخ الأمة».


مختارات

كيف صنعنا فنًّا مُحدثًا على أرض قديمة

معركة مدوِّيَة جرت في الوادي.

وأنت لم تفهم قصيدة الطبيعة تمامًا.

حتى الآن. حتى هذه اللحظة – وإذا بدت هذه العبارات

متناثرةً، وغير ذات صلة، فاتبع هذا

الصمت إلى حافته، ولسوف تسمع

تاريخ الهواء: هشاشة ورقة السرخس

أو التحليق التصاعدي وبراعة الالتفاف

لسُمَّنة أو شحرور مرسومَين عليها.

التاريخ الآخر صامت: مصب النهر

هناك. في حين قد حُسم الأمر هنا:

ملكان ليس بينهما من يرغب في التخلي.

أحدهما يسود والآخر عهده مندثر.

والآن ساعة الغسق الندي، والجراح القديمة

تنتظر اللغة، تنتظر حقيقةً مختلفةً:

عندما تنظر إلى حرير الصفصاف

والحافة الأوسع للنهر وهي تتحول

وتغدو عاتمةً ثم أعتم، وبعدها

ستدرك أن قصيدة الطبيعة

ليست هي المعركة ولا نهايتها: بل إنها

هذا الصدأ على البوابة المجاورة للشجر، وعلى

الجسور الحديدية للماشية تحت أقدامنا،

وعلى عمود عجلة القيادة: إنها

من نتائج الحرب، غطاء زينة ربما، بل حتى

بطريقتها المتواضعة، فنّ من فنون السلام:

أجرب قول «مسافة» فتترع الكلمة

بأشجار الجميز، وحبوب طلع تكفي لصيف بأكمله

وحين أكتب كلمة «وادي»، يمَّحي القش، والمعدن

والدم، والقسم العسكري، والدروع.

الصمت ينتشر ببطء من هذه الكلمات

صوب أشجار بلوط نصفها داخل، والآخر خارج،

الظلال المتساقطة على المخاضة الضحلة للنهر

في الضفة الجنوبية، بجانب «الجزيرة الصفراء»

في حين يُظهِر الشفق كيف يبدأ هذا التآكل الحلو

في الاكتمال: فما نراه أمامنا

هو ما تقوله القصيدة:

حلول المساء -الماشية، وظلال الماشية –

وشجيرات الجولق، وتبدُّل في النوء

على وشك أن يحوِّلها جميعًا: ما نراه هو كيف

أن هذا المكان وحزنه

قد تحررا من بعضهما الآخر، هذه اللحظة.

من لوحة «العودة من السوق» لـ«شاردان»

ملابسها بألوان يوم ريفي-

أزرق-رماديّ، رماديّ-مزرقّ، وأبيض مثل ريش النوارس-

تلك هي فلاحة شاردان

نلفيها دائمًا مستغرقةً في حلم يقظة عابر

نظراتها حائرة

بين خيالات الحب ومشتريات السوق،

عند قدميها أباريق نبيذ فارغة، وربطة الخبز تحت ذراعها.

جسدها ثبَّته شاردان بالألوان، وقلبها بالخطوط.

في يمينها جراب، تظهر منه رجلان خلفيتان لأرنب،

ومن خلال الباب، ثمة امرأة أخرى نلمحها

في ضوء النهار المصَّور.

لا شيء في هذه الحجرة العارية فُقد أو تبدَّل.

وها أنا أتفكَّر فيما لا يقوله الفن الخالد:

المخاطر والهلاك، ما مضى وما سيأتي،

التاريخ الخفي لهذه المرأة وقصص عشقها –

وحتى سوق الصباح، وقد عادت للتوِّ منها

ومن مساوماتها، حيث يتجمَّع الناس

ويتنقَّلون بين السلع، يتعلَّمون سبل العيش من يوم

لآخر، يسيِّرهم سبب مشترك للبقاء،

وإن ظهروا في الضوء المنهمر آحادًا متفرِّدين،

مثل الطيور على ثلج يتراكم.

أيا نبع باندوسيوم

على خطى الشاعر الروماني هوراس 3: XIII

وأنت مُتَجَلٍّ كالبلُّور، وزهي كالزجاج،

تتقافز مياهك فيما نقدم

حاملين إلى مزارك الغابي

نذورًا أبخس مما أنت أهل له:

أعناب وأزاهير – يا باندوسيوم-

وأكاليل الزعفران، ونبيذ معتَّق.

وغدًا، سنجلب أضحيتنا:

جَدي منازع، مقرَّح الصدغين

بقرون نبتت قبل أوانها.

غدًا، سيذهب هدرًا

ثغاؤه الفتيُّ، حين يلطِّخ

دمه الخاثر جليدك المتلألئ، ويصهره.

يا نجمة الشِّعرى اليمانية، يا شعلة الجفاف،

نار الصيف تخرج من إسار نعمتك

عذراء غير منتهكة في الغابات

حيث تنطلقين كل يوم، تؤازرين

الثور العتيَّ، وفي أثره،

ينطلق القطيع مفارقًا صون الراعي.

أمام كل ينبوع،

وكل عين تتدفق بالأسطورة،

سأخلِّدك في مديح وفيض سرمدي:

بهذه المياه التي تنزل خطَّالةً على الأرض، أحتفي.

بهذه الصخور النديَّة التي تطوقك، أحتفي.

وبهذا البلُّوط الأخضر، أحتفي.

خارج التاريخ

قصية وحوشية أبدًا، تلك النجوم

إيماءات حديدية لشتاء أيرلندي،

قد انبعث ضياؤها

لآلاف السنين قبل انبعاث ألمنا.

كانت، ولمَّا تزل خارج تاريخنا، بمعزل عنا.

وها هنا:

مشهد تعلمتَ فيه

أنك فانٍ كباقي البشر،

ووقت بين يديك لتتخيَّر بينها.

وقد اخترتُ:

من أسطورة في التاريخ قدِمتُ

لأكون طرفًا في فتنة عتمتُها

تأتيني الآن فقط من الحقول،

من الأنهار، من طرق حاشدة،

كما السماوات، بالموتى.

بطيئًا يموتون

فيما نركع بجانبهم نهمس في آذانهم

لكننا نأتي بعد الفوات. بعد الفوات دائمًا.

رسم امرأة على ورقة شجر

لقية لدى بائع الهدايا والتحف.

ناصعة كضوء الشتاء،

امرأة رُسمت على ورقة شجر.

خطوط رفيعة على سطح معروق

بإطار يدويِّ الصنع.

ليس وجهي. ولستُ من رسمها.

ورقة تسقط في حديقة.

القمر يؤسي اعتلال نسغها.

جوهر الصيف يباس على ضوء النجوم.

ثمة امرأة منقوشة هناك.

ليس موتًا.

وإنما توقف مروِّع للحياة.

أبتغي قصيدةً

بوسعي الشيخوخة فيها؛ قصيدةً بوسعي الموت فيها.

أبتغي أن آخذ

هذا الوجه المتخشب،

كما لو آخذ عصفورًا من خلف القضبان،

وأعيده إلى جوهر الهواء،

جوهر الفوات-

لعل ذلك الخريف

الذي كان ذات مرة

نظرةً فاحصةً لنجمة،

وتجهمًا على وجه بستاني،

وتدرجًا برونزيًّا للمسافة،

لعل ذلك الخريف يغدو،

من الآن فصاعدًا،

صوفانًا هشًّا تحت القدمين، عظام الخد، العينين

وفمًا يصرخ؛ أنْ دعني.

دعني أموت.

حزن صالح للسكنى

في الماضي

كنت طفلةً في بلد أجنبي:

أيرلندية في إنجلترا.

هناك تعلمتُ

لغةً ثانيةً

أفدت منها علمًا-

لغة مشتركة لأرض مفقودة-

لغة هجينة فيها

ما لم يكن قبْلًا.

أفق لا متناهٍ. قصيّ أبدًا

وممتنع. شغف نقيض

صوب الكمال.

تلك هي اللغة:

حزن صالح للسكنى. لحن في القول

لما عهدنا وتعودنا

من تعاف للجِراح، كجرحِ الفقد إيَّاه،

إذ يوجع

بما يكفي ليظل أثرُه ندبةً

ويشفى بما يكفي ليصبح وطنًا.

أطلانطس — سوناتة ضائعة

كثيرًا ما تساءلتُ كيف قُدِّر بحق السماء

لمدينة بأكملها -بأقواسها، وأعمدتها، وأروقتها،

ناهيك عن مركباتها ودوابِّها وكل شيء فيها-

أن ترسب، ذات يوم بعيد، في الأعماق؟

أقصد، قلت في قرارة نفسي، العالم صغير حينذاك.

لا بد أن مدينةً عظيمةً مثلها تُفتقد؟

وها أنا أفتقد مدينتنا القديمة –

الفلفل الأبيض، الحلوى البيضاء، وأنا وأنت نلتقي

في ضوء كوَّة. وسماوات خفيضة نعود إلى البيت تحتها.

لعل ما حدث بالفعل هو هذا:

بحث الحكاؤون الأولون، بلا جدوى، عن مفردة

دلالتها: أن ما مضى قد مضى وإلى الأبد

لكن خذلتهم اللغة وقتذاك ولم تسعفهم قط.

وهكذا، ووفقًا لأفضل الأعراف

من حيث تحدُّرنا، أطلقوا على حزنهم اسمًا

ومن ثم أغرقوه.

الشعراء

مثلهم مثل الكائنات كلِّها، وقد خُلقوا

من أجل الرفش والديدان،

ابتحثوا في عقولهم الفانية فوجدوا

الأنماط والأشكال

وبأيديهم العارية استخرجوا من الكلمات الصلدة

صورةً استأمنوها السر.

وفي الغربة: تحوِّم أرواحهم مثل كبرياء الأسود

يستميتون، مثل السباع المزدانة بالجواهر،

في كوكبة الأسد،

يرتعون بين الجوزاء والمريخ،

يرحلون للصيد، دونما راحة، بين الأجرام الشاخصة،

ويظفرون: فالشمس الصميمة لا تخطو

صوب غيابها كل يوم،

إلا لتستضيف قمرًا ساكنًا،

وتظل حتى انبلاج الصبح،

الربَّة الغائبة للظلام.

فراشات الليل

ليلة هواؤها برائحة عشب مقطوع.

ثمر التفاح على الأغصان يهترئ. والصيف بلا ريب

مكان مفقود بين ما نأمل وما نتذكر.

لهو صيف من العث.

لحظة حقيقتها بصحبة الظلام تأتي.

تكشف عن نفسها عند النوافذ

والعتبات. رميات مصوَّبة. ومضات واهنة.

قد طالعتُ كتبًا ملأى بالأساطير عنها:

عث برشاقة الأشباح في جموع راقصة ساعة الغلس.

أسرابها المتوادَّة. وكيف ينقاد بعضها عاليًا

نحو القمر.

النوافذ الخلفية مشرعة.

وليلة النصف من يوليو تضيء ما حولنا.

أقف بجانب السياج.

مرةً أخرى، ها هي قرب إبريز النافذة –

ترفرف خلف شجيرات الخزامى، بارتفاع ذراع من الأرض،

غرسات شاغلها حزنها فلا تنذر فراشات الليل

من سقوط مباغت

وأن الضوء حين يجتذبها،

فإنما صوب احتراقها المدوِّي فجاءةً حوله.

سوف تفنى-

وأفنى- على الحافة، لحظة يكون الضوء الخاطف

عين ما تفزع منه الطبيعة وتصبو إليه:

تلك صورة بارعة وطبق الأصل.

ومصباح المطبخ إذ يستدعيها

يُسقِط على الأرض ظلًّا لطفلتي يحجب ظلي.

صورة داخلية لبيت أيرلندي

تجلس عاكفةً على غزلها. امرأة واجمة.

إلى الخلف منها رجل واقف عند الباب.

هناك دائمًا: خلفية، وواجهة

هذا كلُّ ما نعرفه. لم يختارا أن يكونا هنا.

السنة 1890. الحبر قد جفَّ منذ زمن.

واللوحة عنوانها: «صورة داخلية لبيت أيرلندي».

السنة 1890. وقبل جفاف الحبر

أُقصي بارنيل، والكروم احترقت حيثما

شقَّ النقيبان -مونلايت، وبويكات- طريقهما.

في يدها عجلة الغزل. والنول في يده.

تلتفع بشال، في حين يقف بجانب منظر طبيعي

ربما لنهر، ربما لتلال، ربما لمزرعة

تنفتح على أفق لأغنية مائية وغابة

يتعذر عليهما بلوغها: لا شيء يخصُّهما سوى ذلك

الإيقاع وهذا الحيف وقنوط خيطان

نُسجت في أشكال مطرزة ومنظور مائل

تلتقطه العين في الفسحة بين يده

ويدها المسنودة على البكرة، لتؤكد

هذا الأمر ليس إلا: ثمة طرف قريب وآخر بعيد

تشتغل على أحدهما. فيما هو يغزل الآخر.

وحالنا لا يزال يتعيَّن تبيانه

فيما نحدِّق في الخيطانِ حتى تكاد تتلاشى حياتهما

وكل ما نراه -كل ما

نريد أن نرى- أماكن في الصورة عفا عنها الضوء،

مثل اتجاه التعريق في الخشب، والعقدة المحكمة

للخيط أعلى النول، وباب ينفتح على

على عشيَّة لن يتنعما بها أبدًا.

  

خرز الجَمَشْت

عندما أخرجها

من صندوقي الخشبي، فهذه الخرزات

بلون زهور البنفسج في الظل. ومن ثم يغمق لونها

في أسفل النحر حيثما

تبدأ الدموع.

والآن أزيِّن عنقي بنفائس قديمة

من البلُّور: سمة لتدبير دنيوي.

بريق غامض

تخلُّق في باطن أرض حيث لا شمس هناك

وإنما محض حكايات عن طفلة مفقودة وأم تفاوض

ملكًا مقطب الجبين. محاجَّة ومساومات:

ما الذي تأخذه منه، وما الذي تتخلى عنه.

الفتاة رهينة حبسه في فصل العتمة،

وطليقة في موسم البنفسج والتبرعم؛ تلك هي مفردات

التسوية. وهذا الخرز، وقد اختلس من موضع كذلك،

ليس بشيء إن لم يمنحنا

الحكمة الشافية للتسويات،

للبقاء. وعندما أزدانُ به

فكما لو أن بشرتي قد استقت

بلسمًا من الضوء؛ شيئًا من علاجات الأوَّلين.

حصا البان، ربما،

أو شيح أقحوان وضعوه جانبًا

لتهدئة الحمَّى؛ ووصفوه ذات مرة لراحة طفلة

تتقلب على أجنابها، وحبات العرق تمسك

وميضًا من قنديل السهر وتقبض عليه.

طفلة تصرخ في نومها:

«انتظريني. لا تتركيني هنا».

ولن تتذكر ذلك أبدًا.

لن تتذكر ذلك أبدًا.

فن كتابة الرسائل، كيف أضعناه!

وقتها كان التناسب بين الكتابة اليدوية وضوء النهار

كالذي بين حياكة الدانتيل ونعمة البصر.

كانت الورقة رهيفةً، وكأن حافاتها تجرح الهواء،

واليد نارًا والصفحة جمرةً تتقد.

كل شيء انقضى

ما خلا الفسحة ذاتها بين أصابعهم

ممدودة إلى ورق رسائل استبقوه جانبًا

ذخرًا للَّيالي الطوال عقب الرحيل،

يستقصون خبر من تركوا وراءهم،

ودائمًا، حتى عندما يسقط ظلُّهم على الصفحة

ويدركون أن الجواب ليس بقريب-

دائمًا ما يأدون الحركات ذاتها:

انحناءتهم في البدء، فإذا بالقلم

يستحيل عصا يجوسون بها في الحقول

فيما يتلاشون عميقًا في الذاكرة. ثم تسليمهم بالأمر،

بجرَّة قلم أكثر طوعًا تستعيد

العشب والزهور الشائكة، وعجلة دراجة

صدئة: طوق حديديّ يجرح العشب،

والأسيجة تتغطى بعشبة الزعرور مرةً أخرى،

في الوقت المواتي لابتهالات شهر مايو

حين تُتلى في هواء عليل، في طريق يؤدِّي

إلى آخر، ثم آخر ينفتح

على طريق سريع ذي أربعة مسارات، لينتهي في

بلدة جديدة على حافة مدينة

لن يروها أبدًا. وإذا قلنا:

إن فنًّا يتلاشى

عندما لا يعود يستنطق الحزن،

فتعالَ وتأمَّلْ كيف خسرناه:

بتكديسنا الرسائل في العِلِّية،

ونزولنا إلى الطوابق السفلى كي لا نسمع

الحقول في الليل تتقلب على الجمر

وتمسي جزءًا من الذاكرة

ومن ثم تعود، آن الفجر حبرًا صرفًا؛

ما فعلنا كي لا نسمعهم

وهم يهمسون بسؤال وحيد يحفظونه

عن ظهر قلب،

تعلَّموه من رسائل الهواء والأماكن القصيَّة،

السؤال: ألا تزال الأماكن هناك؟