أبـي، صانعُ السعادة

أبـي، صانعُ السعادة

صار أبي يغفُل عن يدي الممدودةِ نحوه للتحية. أحاولُ أن أُمسكَ يده لأقبلها كما دأبتُ على أن أفعل منذ صغري، لكنه لا ينتبه. بلهفة يخطفُ حفيدَه ـ ابني من بين يديَّ ليقبله ويُلاعبَه قليلًا، إلى أن يُشبع بعضًا من شوقه، حينذاك فقط يلتفتُ نحوي. أضحك في سري، مُستمتعًا بهذه اللحظة الرائعة، ومُعاينًا كيف يُخرج ابني الصغيرُ الذي صار بالكاد يلثغُ بحروفه الأولى ويرتبُ أنصافَ كلمات؛ يُخرج أبي عن تحفظه، ويجعله يفرجُ عن مشاعره الأبوية أمامنا، هو من عهدناه كتُومًا مؤثرًا للصمت، يُفصحُ عن مشاعره بكلماتٍ قليلة وحركاتٍ أقلَّ.

– ١ –

أكون منهمكًا في العمل، جالسًا في المقهى أهدهد أحلامي المؤجلة كي لا تشيخ، غارقًا في تفاصيل كتاب، أو أمشي في الشارع مندسًّا وسط الحشود، عندما تقفز الصورة فجأة إلى ذهني دون سابق إنذار.. تدهَمُني وتحضر كاملةَ التفاصيل بألوانها، أصواتها وروائحها أيضًا: أراني برفقة أبي. أجلس فوق المقعد الأمامي للدراجة الهوائية، فيما يسوق أبي بمهل وحذر. أسمع صوت لُهاثه الخفيف، وأشم رائحة عرقه المميزة، وأنظر بدهشة إلى يديه المشعرتين البارزتي العروق، وهو يمدُّهما مُمسكًا بالمقود.

فيما يتولى هو القيادة بهدوء، وبِغير قليلٍ من المهارة أيضًا، أنصرفُ أنا إلى تأمل الأماكن والناس من حولي بفضول واستمتاع، شاعرًا بالأمان. قد نكون قاصدَيْن المدرسةَ التي يرافقني إليها أحيانًا، أو خارجَيْن في جولة حرة بالمدينة، أو أرافقه إلى لقاء صديق له يملك متجرًا صغيرًا في أحد أحياء مراكش القديمة.

تأتيني الصورة ذاتُها في كل مرة، تُؤثثها التفاصيل عينُها، فتقدح زنادَ ذاكرتي وتحرك فيضَ مشاعري نحو هذا الرجل الذي أتمنى أن أملك مثلَ رصيده من الأبوة الحانية لأسبغَها على ابني- حفيدِه الذي أوشك أن يُقنعني بصحَّة المثلِ السائر: أعزُّ مِن الابن.

– ٢ –

كُلما اجتمعنا في إحدى جلساتنا العائلية الخاصة التي صارت أقل مع مرور الوقت، رحتُ أنظر بحنقٍ إلى ذلك الجهازِ اللعين التي يبقى مشتغلًا بلا توقف: التلفاز. يتراءى لي مثلَ ضيفٍ ثقيل يفسدُ الجلساتِ، ويبرَعُ في جعلها أقلَّ دفئًا. يتحدث بالنيابة عنا، نُصغي إلى أكاذيبه وتفاهاتِه الكثيرة عوضًا من أن نصغيَ إلى
بعضنا الآخر.

اليوم، كأنما قرأ ما يدورُ في ذهني أَخمدَ أبي أنفاسَ الصندوق وهو يلجُ البهو ليجالسنا.

قالت له أمي فجأة: لو سمحتَ لحسن بالانخراط في فريق المدينة إبَّان طفولته لرُبَّما صار الآن لاعبًا مشهورًا، وجنى كثيرًا من المال.. لماذا منعتَه آنذاك؟

يبتسم أبي تلك الابتسامةَ ذاتَها التي فيها ما يشبه اعتذارًا خجولًا، ويصمتُ طويلًا كأنه لن يردَّ. وفي النهاية يقول:

– كنت أخاف أن تشغلَه الكرةُ عن الدراسة.

حقًّا كانت لي يسرى ماهرة، وكنت أداعبُ الكرةَ بغير قليلٍ من البراعة، وحظيتُ بشهرة في الأحياء المجاورة. ربَّما لم أكن لأذهبَ بعيدًا في لعبِ كرة القدم، لكنَّ ذكرى رائعة لا تبرحُ ذهني كلما استعدتُ شغفي باللعبة أو تحدثتُ عنها مع الأصدقاء.

كنا نلعب الكرةَ في ملعبٍ قريب من الحي. وكنت أنتعلُ صندلًا بلاستيكيًّا ممزقًا يعوق حركتي. وبينما كنت مستغرقًا في اللعب، سمعت أبي على مقربة من الملعب يناديني ويشير إليَّ، فركضت نحوه. سحب من خارج الدراجة كيسًا؛ فتحه وأخرج منه حذاءً رياضيًّا وبذلة رياضية كاملة كان قد اشتراها لي للتو. ارتديتُها بفرح غامر وأنا أستعجل العودة إلى الملعب. جمع أبي البذلة القديمة والصندل البلاستيكي في الكيس وغادر إلى البيت، فيما عدت راكضًا إلى الملعب. لا بد أني شعرت نحو أبي بعميق الامتنان آنذاك، ولا بد أيضًا أني شكرته بتلك الطريقة التي تعودت أن أعبر بها عن شكري وامتناني: تقبيل اليد. لا شك أني فعلت ذلك، لكن الامتنان الحقيقي الأكبر هو ما أشعر به نحوه الآن، بعد أن كبرت.

– ٣ –

أبي جعل مني رجلًا كَلِفًا بالأشجار!

تحفل حديقة حياتي، حقًّا، بأشجار متنوعة، رسخت جذورها في تربة ذاكرتي، وأحمل لبعضها كثيرًا من الامتنان والحب، لكن الشجرة التي جعلت مني عاشقًا كبيرًا للأشجار كانت شجرة نارنج، وكان أبي هو من قادني إليها. وإني لأجد متعة حقيقية ومتجددة في كل مرة أروي فيها حكايتي مع تلك الشجرة.

وأنا بعدُ طفل أرسلني والدي لأتبضعَ من محل البقالة، بعد أن سلمني قطعة نقد ورقية من فئة الـ 50 درهمًا. كان الشارع مظلمًا بلا إنارة عمومية، فيما تهب ريح خفيفة. وبينما كنت ماشيًا انقضت أصابع الريح في غفلة مني وخطفَت من يدي الورقة المالية وطارت بها بعيدًا. ذعرت ورحتُ أبحثُ عن الورقة المالية باندفاع عشوائي وسط الظلمة، وأنا ألوم نفسي بقسوة على غفلتي، وأفكر في توبيخ أبي القاسي، وكيف سيعتبرني غيرَ جدير بالمسؤولية. وبينما كنت مغمورًا بحيرتي وغضبي من نفسي، رأيت شُجيرة نارنج شبه ميتة على مقربة مني، فقلتُ: ماذا لو تركت الورقة المالية الخضراء كل هذا الفراغ وآثرت أن تلتصق بجذع هذه الشجيرة، رأفةً بطفل يخشى اللوم والتقريع، ويخشى أكثر أن يُعتبرَ غير جدير بالمسؤولية؟! اقتربت من الشجيرة بأملٍ خائف، لأجدَ الورقة العزيزة ملتفة حول الجُذيع الصغير وهي ترفرف. انقضضْت عليها بفرح غامر و«كرمشتها» بين أصابعي.

بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة وجدتني أكتب قصة أسميتها «شجرة النارنج»، شخصيتها الأساسية هي هذه الشجرة التي كانت شجرة رئيسة في بستان طفولتي. وفي لحظة تجلٍّ انقدحَت تلك الذكرى البعيدة في ذاكرتي، وأحسست بأني لم أكتب هذه القصة إلا امتنانًا لتلك الشجيرة التي صانَت برعم كرامتي الصغيرَ بداخلي. فلِذكرى تلك الشجيرة ينحني طفل ما زال بداخلي لم ولن يكبر أبدًا!

– ٤ –

مُمتطيًا صهوةَ المقعد الأمامي للدراجة، شاعرًا بالأمان كنت أستمتع بقراءة اللافتات والكتابات على الواجهات والجدران، فيما أبي يقود الدراجة بمهل يناسبني على نحو مثالي. على تلك الصهوة اختبرت أول ما تعلمته على مقاعد الدراسة، وأبي ينتشي بذلك وأرى الفخر يُطلُّ من عينيه، كلَّما استنطقتُ لافتةً أو جهرتُ أمامه بفحوى إعلان. وفيما بعدُ صرت أجدُ لذةً خاصة في تصيُّدِ الأخطاء الفادحة في بعض اللافتات والإعلانات، مما كان يثيرُ سخريتي وغيرتي أحيانًا، وكثيرًا ما تمنيت لو أمد يدي إلى هذه اللافتة أو تلك لأُميطَ الأذى عن تلك اللغةِ التي صرتُ أعشقها.

«صانعُ الأسنان» (مع رسم رديء لضرس يكفي الأُمِّيين شرَّ الأبجدية) «صانعُ الأقفال والمفاتيح». «صانع الـ…»؟  تذكرتُ مثل هذه اللافتات التي كانت تأسرني في تلك الطفولة البعيدة، فجاءني للتو العنوانُ الذي أبحثُ عنه لما كتبتُه آنفًا. أجل لقد كان أبي صانعَ سعادةٍ بحق: سعادةِ الطفلِ الذي كنتُه آنذاك والرَّجل الذي عليه أنا الآن!

أبي.. شكرًا لك.. شكرًا وامتنانًا بحجم الحياة!