سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية

سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية

ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في دول عربية وأجنبية، وأقام عشرات المعارض الفردية. لوحاته موزعة في العديد من الدول. حائز على جوائز عدة. وهو عاش وترعرع في حلب، ثم غادرها إلى دمشق شابًّا موهوبًا. درس في كلية الفنون الجميلة وتخرج منها، ولكنّ مدينته الأم بقيت في وجدانه، فعاد إليها بعد تخرجه. شكلت نشأته وحياته في تلك المدينة، وعيه التشكيلي والثقافي والإنساني، كيف لا وهي تحتل مكانةً ثقافيةً وحضاريةً في سوريا والعالم العربي.

تأثير حلب والمقهى

هو ككل المثقفين من أبناء حلب، ارتبط بها ارتباطًا وثيقًا من الصعب فصل عراه. تكونت أولى معارفه في مدارسها ومعاهدها، وأثرى تجربته الفنية في مقاهيها ومنتدياتها الأدبية. بدأ بالمطالعة والمشاهدة والرسم في سن مبكرة، مشاهدًا ومتفاعلًا ومنتجًا.. حتى بات، مع مرور السنين وتراكم التجربة، جزءًا مهمًّا من ذاكرة وثقافة المدينة، واحتلّ مكانته بين صفوف الرواد وأصبح له أسلوبه وبصمته وموضوعاته الغنية بالإنسان والمقهى والبحر وحياة الناس وحياة الفراشات.

سألته في إحدى جلساتنا مع الأصدقاء في بيروت عن علاقته بالمقهى، كيف بدأت وتطورت؟ فأجابني: «في مطلع السبعينيات عاد الفنان الرائد لؤي كيالي إلى حلب من رحلته الدراسية في روما، وعاود نشاطه في المدينة حيث كان يلتقي أصدقاءه، وأنا منهم، في مقهى القصر. من ثم توسعت الدائرة باعتبار أن ثقافة ارتياد المقهى في ذلك الوقت كانت منتشرة في أغلب المدن العربية، فقد كان مركزًا ثقافيًّا يضم الفنانين والأدباء والشعراء والممثلين بحواراتٍ دائمة، وسجالاتٍ فكرية حول الفن والرواية والقصيدة وما يدور حولنا من أحداث. جمعنا المقهى الذي اختلف مفهومه في هذا الزمن. بالنسبة لي أصبح جزءًا من حياتي لهذا السبب وثقته في لوحاتي، فأنا شخص أعيش بمفردي، وارتيادي بانتظام للمقهى يتيح لي أن أعيش بين الناس، فتنطبع حياة الناس فيه بمخيلتي وأرسمها بأسلوبي ورؤيتي».

لقد خلق هذا الفنان أبطال لوحاته على النموذج نفسه، ألبسهم ثيابًا رسمية ولكنهم حفاةً، لسبب ما، أو أن هذا كان جزءًا من الحالة الدراماتيكية للوحة، حتى تفرّد بشخصياته المختلفة بشكلها وحركتها وبطيرانها أحيانًا.. فصنع له بصمةً وهويةً فنية واضحةً تحمل توقيعه. في دبي التقينا ودعاني مع مجموعة من الفنانين لحضور محاضرة وتكريم له في إحدى المؤسسات الثقافية. حضرت واستمعت.. قدم فيها مقاربات لعدد من المواضيع منها: أزمة الحرية والتعبير، والصورة والتنميط والدلالة والمصداقية، وأزمة الخصوصية والتقليد، والإبداع؛ هل هو رهان أم حاجة؟ لافتًا إلى علاقة الإبداع بالإنسان الذي هو محور مركزي للوحاته.

سألته عن المفاهيم الجاهزة المتداولة في عالم الفن. وكانت إجابته تتمحور حول ضرورة تفحّص هذه المفاهيم من جديد وعدم الاعتماد على ما هو جاهز من المقولات، فهل يعد سعد يكن مجدّدًا في عالم الفن المعاصر؟

نعم، لقد حلّق هذا الفنان المخضرم في فضاءاتٍ لونية رحبة، وتجاوزت موضوعاته كلّ الحدود التقليدية، محافظًا على خصوصيته وفرادة أسلوبه. فكانت إحدى تجلياته طريقة رسمه للبحر. لقد كان بحره ثائرًا على الدوام، غير نمطي، متحولًا، رماديًّا، ثم أبيض يشوبه الأزرق كعيون الحسناوات.

مايسترو الفن التشكيلي

إحدى تجليات خصوصيته من ناحية الفكرة والطرح الفني، تمثلت في رسمه لأم كلثوم على المسرح بجداريةٍ تخطف الأنظار تحمل بصمته وهويته الفنية في رسم الأشخاص. أيضًا جدارية أخرى للموسيقار العراقي صلحي الوادي وللمطرب الكبير محمد عبده وللشيخ صبري مدلل؛ حيث رسم أوركسترا بعناصرها كلها. في الواقع هو من قادها بريشته وحركته وألوانه الحارة؛ حتى أصبح لقب (المايسترو) مسبوقًا باسمه.

هذا المايسترو العذب صاحب الموهبة الفذة، الغني بعالمه وتهويمات روحه، استطاع أن يعبر عن كل هذا في معرض «الفراشة» الذي أقامه في بيروت في 2013م، حيث حاول أن يرسم ما لا يرى، وكانت الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، بطلة المشهد التشكيلي ووراءها تختبئ الفاجعة السورية، فقدانه لمحبوبته حلب، حبه، غربته واغترابه، شغفه، وخيباته التي كانت جزءًا غير ناقص من تجربته الفنية والإنسانية.

يختلف مفهوم سعد يكن للعزلة عن بقية الفنانين الذين جسدوا عزلتهم في لوحاتهم، كالفنان الأميركي إدوار هوبر الذي لا يظهر في لوحاته تجمعات بشرية ولكن أفراد في عالم مسطح دون حكاية سردية واضحة، أو كالفنان الإيطالي جورجيو دي كريكو؛ إذ رسم العزلة من خلال كائنات هجينة برؤوسٍ مطأطئة وجلساتٍ منكسرة، وكغيرهم كثير ممن رسموا العزلة المنفصلة عن العالم الخارجي، بينما ابتكر سعد يكن عزلةً من نوعٍ آخر؛ فجعل شخوصه تجلس بعضها قريب من بعض مكانيًّا، يستأنس بعضها ببعض، ولكن لكل منهم عزلته التي لا يشاركها مع أحد إلا بالفضاء العام. ربما هذا هو تجسيده لعزلته الاختيارية التي صنعها هذا الفنان العبقري بشروطه؛ إذ استطاع من خلالها أن يضع المسافة الآمنة بينه وبين المحيط، دون أن يكون وحيدًا.

بعد اطلاعي على عدد كبيرٍ من أعماله وإنتاجه الغزير والمتنوع، أستطيع القول: إنّ سعد يكن عالم فني تشكيلي ساحر، مدهش وغني، فيه حكايات كثيرة بطلها الإنسان الذي عبر به عن أوجاع الأمم والأوطان وعن الجمال والحب والحرب والمقهى والفراشات، متكئًا على مخزونٍ لوني فيه من التوافق والإقناع والنضج الذي يظهر في كل مرحلة من مراحل تجربته الواسعة. نجح في تجاوز بعده القسري عن حلب، وانتمى لمملكته الجديدة التي بناها في بيروت؛ حيث كان رهانه على فنه مخلصًا وفاتحًا أبواب الأمل.

وكصديقة قريبة من هذا المبدع العظيم أستطيع القول: إنه خليط من الثبات؛ بحكم التجربة الحياتية الغنية، ومن الرقة والعذوبة؛ بحكم أنه مفطور على الفن والإحساس العالي بقيمة الجمال، ومن القسوة أحيانًا؛ بحكم التوازن، ومن الكرم؛ بحكم أن هذه الصفة يعيشها في يومياته. حتى على مستوى الحرب السورية فهو ابن بارّ بمدينته حلب وله أيادٍ بيضاء في الأعمال الخيرية في حلب خاصةً وسوريا عامةً.