الحقيقة وسلطة الاختلاف.. التصوف بوصفه إجابة عن السؤال الإسلامي

الحقيقة وسلطة الاختلاف.. التصوف بوصفه إجابة عن السؤال الإسلامي

الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه واحد من سلسلة كتب الباحث عبدالحكيم أجهر التي جالت في نصوص تراثية متعددة ومتداخلة. سعى صاحبها إلى التعمق فيها واستنطاقها، وجعلها أرضية للتدريب العقلي والتفكير النقدي، والتأمل في تأسيساتها، وكذا طرق إجاباتها المتنوعة. فالباحث ليس من أولئك الذين يسعون إلى ليّ النص التراثي ليتناغم مع الحداثة، أو استبعاده بالمرة وإحداث قطيعة معه؛ بدعوى عدم صلاحيته في راهننا، وكذا ليس مدافعًا أعمى عن التراث برمته، فغايته من ذلك إثبات أصالة الفكر الإسلامي من ناحية، وإمكانية تقديم إجابات في اللحظة المعاصرة؛ منطلقة من السؤال الأول للمسلمين وهو سؤال الله من ناحية أخرى.

ما إنْ تُنهِي كتابًا من كتب الباحث أجهر إلا وتتولد لديك كثير من الأسئلة. أكثر ما تشدك المعلومات الواردة في مؤلفاته. ويعد كتاب «الحقيقة وسلطة الاختلاف، التصوف بوصفه إجابة أخرى عن السؤال الإسلامي» (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء) من هذا النوع الذي يبهرك بعملية الاستقراء لنصوص أعلام التصوف، وتتبع تطورها عبر التاريخ، وتقديم مسالك إجاباتها عن السؤال المركزي أو ما سماه الأستاذ أجهر «منطقة المحايثة بين الله والعالم».

الخطاب الصوفي والتنوير الأوربي

عرض الباحث عبدالحكيم أجهر في مؤلفه؛ المراحل التي قطعها ما أسماه خطاب الذات؛ أي الخطاب الصوفي، وكشف مغامراته عبر تثويره لنصوص صوفية وتقليب النظر فيها، محاولًا وضع هذا الخطاب على سكة جديدة لا تحصره في زاوية الخطاب الذي ينطوي محتواه على الإيمان الذليل والحزن والفقر؛ بل الكشف عن تطوره وتاريخيته والخيط الناظم لتحولاته.

قبل أن يعرض الباحث مراحل خطاب الذات، وقبل أن يحدد مفهومه لهذا الخطاب، توقف عند ملامحه العامة التي تتمثل في كونه إجابة أخرى عن سؤال الله أو رؤية بطريقة أخرى للعالم، واشتغال بالقلق الإنساني، والسعي لتهدئته. استطرد الأستاذ أجهر كثيرًا في حديثه عن خطاب الذات ومصادره النظرية، وقضيته المركزية ليعرض لنا في نهاية مطافه، وتحديدًا في الفصل الثاني، ماهيته: «إن ما نسميه (خطاب الذات) هو ذلك النشاط الذي أخذ شكل الممارسة السلوكية، ومن ثم الكتابة النظرية التي ركزت جهدها على النظر إلى الله وفهمه بأدوات وطرائق لا تتفق مع بقية الخطابات برغم اشتراكها معها في السؤال نفسه.» (أجهر 2019م، ص53).

لم يفوت الباحث أجهر الفرصة وهو بصدد أن يدلف إلى موضوعه؛ الحديث عن التنوير الأوربي وعلاقته بالخطاب الصوفي؛ إذ توقف عند عقلانية «كانط» التي تتناقص والخطاب الصوفي. رام، في نظري -أستاذنا أجهر- من إدراج المبحث السالف الذكر، أن يبين أن كانط كانت تعوزه معلومات كثيرة حول خطاب الذات عند المسلمين، وخصوصًا المنجز الفكري لمحيي الدين بن عربي، بخلاف بعض الفلاسفة الغربيين المعاصرين له، الذين كانت لهم مواقف منصفة من التصوف.

ينتقد الأستاذ أجهر فكرة المدرسة في التراث، وتوزيع المفكرين على مدارس بعينها، والقول بأن هؤلاء ينتمون لهذه المدرسة والآخرون لتلك المدرسة، ويقترح تصنيفًا آخر لتاريخ الفكر الإسلامي، يستند إلى التشكيك في تماسك نظريات هذه المدارس وبنائها المعرفي، بحيث من خلال دراسة تاريخ الفكر الإسلامي، يتضح أن المفاهيم الكبرى التي يقوم عليها العالم، تخضع للتطور.

تحولات خطاب الذات

انتقل الباحث أجهر في الفصل الثاني إلى الحديث عن تاريخية خطاب الذات وقضاياه المؤسسة منطلقًا من سؤال مفاده: لماذا نجد أعلام التصوف الكبار مختلفين جدًّا؟ ما الشيء الذي يجعل أعلام التصوف الكبار مختلفين؟ ما الهم المشترك الذي يجمعهم؟

سيأتي، أستاذنا أجهر، في هذا الفصل الثاني وما بعده، على ذكر التحولات الفكرية لكل مرحلة من مراحل خطاب الذات، وسيتوقف عند كل مرحلة وما ولّدته من مفاهيم، ومن صياغات نظرية. ويمكن أن نجملها فيما يلي مع ربط كل مرحلة بأعلامها: فالمرحلة الأولى، الوجدانية، تمثلها رابعة العدوية إلى جانب ذي النون المصري، وأبي سليمان الداراني. والمرحلة الثانية، وهي مرحلة التردد والحيرة، ويمثلها الحلاج والبسطامي والشبلي، أما المرحلة الثالثة، مرحلة النضج مع ابن عربي، فأصبح العالم كله أسماء إلهية، سواء وردت في النص الديني أو لم ترد فيه؛ فالعالم نص مفتوح يتكلم عن الله. والمرحلة الرابعة، مرحلة الطرق الصوفية؛ إذ تحول التصوف إلى نوع من الخطاب الذي يخضع لإجراءات وممارسات من نوع خاص، وتحول إلى مؤسسة ولم يعد مقتصرًا على النص المكتوب فحسب.

يريد أستاذنا أن يصل بنا من وراء طرح السؤال الآنف، إلى أن كل مرحلة من المراحل التي مر منها خطاب الذات أجابت عن السؤال حسب ممكناتها. ولذلك، نجد في الفصلين الثالث والرابع عرضًا لنموذج من التطور على سبيل المثال؛ من مرحلة إخضاع الجسد أو إلغائه، أو حصر الهم الإنساني بالله فقط، إلى مرحلة إعادة ترتيب الرغبات وجعلها رغبة واحدة هو حب الله أو الإخلاص لله أو الاستقامة، إلى مرحلة المعرفة؛ أي جعل الله ينكشف في التجربة. وهذه المراحل هي التي جسدها أعلام التصوف عبر التاريخ، حيث تناولها الباحث بتفصيل، ووضح دواعي تلك الاختيارات والمواقف، التي عدّها نوعًا من الإجابات المتناقضة عن سؤال واحد؛ مفاده: كيف يكون الله منزهًا مطلقًا ومستحضرًا في ذواتنا في الوقت نفسه؟ أو ما الشيء الذي يريد الفرد استحضاره منه؟

خطاب القوة وخطاب الذات

يفتتح -أستاذنا أجهر- الفصل الخامس الموسوم بالمرحلة التداولية؛ السند النصي والتصوف الإجرائي، بالحديث عن علاقة خطاب الذات الصوفي بخطاب القوة الكلامي، وتأثيرات هذا الأخير في خطاب الذات من خلال مصطلحات؛ القِدَم، الحدوث، والذات والصفات…

يعيد -أستاذنا أجهر- تذكيرنا بأن خطاب القوة (علم الكلام) وخطاب الذات (التصوف) يشتركان في السؤال نفسه، فمنطقة المحايثة لدى كل خطاب تختلف عن الآخر، نجدها في الخطاب الكلامي تتجلى في فاعلية الله وقدرته وإرادته، وهي التي يفسر بها وجود العالم ونشاطه وعلاقة موجوداته ببعضها. أما منطقة المحايثة في خطاب الذات تتجلى في التنزيه الإلهي ومحاولة تنزيه الذات الإنسانية لتفسير علاقة الله بنا.

تحدث الباحث أجهر بتفصيل عن كتابات من قبيل «اللُّمع في التصوف» و«طبقات الصوفية» و«الرسالة» التي وفرت السند النصي القرآني والنبوي (الحديث) للمراحل السابقة للتصوف، وخففت من اغترابه، وجعلت له مكانة شرعية في الدائرة الإسلامية. توجت هذه الحقبة من خطاب الذات -حسب باحثنا- إلى تشارك الخطابين الصوفي والكلامي في الدخول في المرحلة المدرسية التي تقصي التجربة الحرة في فهم الله.

بيد أن هذه المرحلة اتسمت بظهور استثناء يتعلق الأمر بشخصية محمد عبدالجبار النفري (ت: 354هـ) الذي عاد إلى مرحلة التجربة الفردية الوجدانية الحرة في فهم الله. حيث دشن النفري إذن ثلاثة تمردات؛ أولها تمرد على السلطة، بتأويل آخر للإسلام، وثانيها تمرد على سلطة الشيخ، وثالثها تمرد على تجربة التصوف المدرسي.

ابن عربي وتلامذته

أفرد -أستاذنا أجهر- الفصل السادس لمحيي الدين بن عربي (ت: 638هـ)، الملقب بالشيخ الأكبر، حيث خصص له مساحة مهمة من حجم الكتاب، وعَدّ مرحلة ابن عربي ثورةً كبيرة في خطاب الذات؛ لما اتسمت به من نضج نظري على ما سبقه، ولما اتصفت به من الاتساق المفاهيمي. توقف – أستاذنا
أجهر- بشكل مستفيض عند الركائز التي أرساها ابن عربي، ومنها مفهوم الكثرة؛ أي الكثرة بشكل عام، الكثرة في العالم مهما كانت؛ لكنها كثرة نسب وإضافات وليست كثرة مادية. وكذا مفهوم الأعيان الثابتة، وله عند ابن عربي مفردات، فهي معلومات الله، وهي الممكنات، وهي تعينات أسماء الله، وهي الكنز الإلهي الخفي، وهي تجلي الله لذاته وبذاته. وكذا فكرة وحدة الوجود وعلاقتها بالاتحاد أو ما يسمى بالحلول التي أُسيءَ فهم معناها، وخضعت لتأويلات واستبدالات فيما بعد؛ ليخلص إلى أن نص الشيخ الأكبر، ابن عربي، هو نص اعتراف صريح بالعالم، فهو رجل يفكر في العالم، ويتجلى ذلك في تسامحه وتساهله مع أشكال التفاسير الأخرى للعالم والإقرار بنسبيتها وقصورها عن فهم الحقيقة النهائية للعالم.

أنهى أستاذنا أجهر رحلته في المتن الأكبر بالحديث عما بعده وتحديدًا الإشارة إلى أحد تلامذته وربيبه صدر الدين القونوي، نسبة إلى قونيا، وكذا شخصيات متقاربة زمنيًّا، دارت في فلك نظرية ابن عربي. يتعلق الأمر بمؤيد الدين الجندي والتلمساني وابن سبعين الأندلسي، وجميعهم سعوا للتوفيق بين التصوف والفلسفة خصوصًا الفلسفة المشائية. ثم توقف كذلك عند جلال الدين الرومي البلخي (ت: 672هـ) الذي عبر بعمق عن خلاصة التصوف الفارسي، بينما مثل ابن عربي خلاصة التصوف الأندلسي؛ وأشار إلى النقاش الذي جرى بين الباحثين حول أوجه التشابه والاختلاف بينهما.

الطرق الصوفية والصوفية الجديدة

انتقل الباحث أجهر في الفصل السابع للحديث عن الطرق الصوفية وانزياحات في منطقة المحايثة، حيث ركز في البداءة على الفكرة المركزية في كل الطرق الصوفية التي تتمثل في فكرة الولي، أو شيخ الطريقة في علاقته مع مريديه، ولم تتحول الطرق الصوفية إلى الشكل المنظم الشبيه بمؤسسة دينية إلا في القرنين السادس والسابع الهجريين، حيث ستصبح لهذه الطرق رموزها ولباسها وأمكنتها. مما مثل جوهر التحول في خطاب الذات، وشكل انزياحًا نحو الجماعة التي يرعاها الشيخ؛ بوصفها سلطة قادرة على أن تنجز من الكرامات ما يفوق طاقة البشر، وبذلك صار الشيخ في تجربة الطرق الصوفية هو الواسطة نحو الله.

وفي الفصل ذاته ينتقل للحديث عن الصوفية الجديدة، حيث بدأت حركة مراجعة التصوف التي سماها المفكر والعالم الباكستاني فضل الرحمن بالصوفية الجديدة التي ظهرت ملامح تشكلها في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. قامت هذه الصوفية الجديدة بإصلاح نفسها من خلال الاستعانة بالعقيدة الإسلامية القويمة، التي ركزت على الفاعلية الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وتجسد هذا المفهوم الجديد للتصوف في الطريقة السنوسية في الشمال الإفريقي والطريقة المحمدية في الهند. لم يستطع التصوف الجديد بكل رواده -بحسب الباحث أجهر- تجاوز التأسيس الكبير الذي قام به ابن عربي، مفاده: منطقة المحايثة القائمة على الاتصال الوجودي بين الطرفين (الله والعالم) فالعالم عند المتصوفين الجدد عاد إلى وضعية مماثلة لمراحله الأولى قبل ابن عربي؛ إضافة إلى ذلك لم يستطيعوا إيجاد حل للعلاقة بين الوحدة والكثرة، بل ركزوا على السلوك والأخلاق، وتجنبوا سؤال المحايثة مع العالم.

نماذج للتفكير النقدي

وختامًا يأخذك هذا الكتاب إلى عوالم الخطاب الصوفي أو خطاب الذات وتحولاته وتموجاته، فكل مرحلة أو لحظة تكشف لك عن إجابة معينة عن السؤال المركزي والوجودي، ألا وهي منطقة المحايثة بين الله والعالم، وقد بدا واضحًا من خلال فصول الكتاب تقديرًا كبيرًا لمرحلة ابن عربي التي عدّها الباحث قمة النضح على المستوى النظري. حرص أستاذنا أجهر، في هذا الكتاب، على حشد آراء ومواقف كثيرة ومتعارضة، ليس من أجل أن يستعرض الباحث إحاطته بالنص التراثي وإشكالياته النظرية، وهو كذلك، وهو من هو فيه، لكن بجعل هذه الشخصيات التي عرضها لنا نماذج للمسلم المعاصر ليتدرب على التفكير النقدي من خلال إجاباتهم المتعددة وما تنطوي عليه من غنى وتنوع؛ التي ليست بالضرورة صالحة لنا، ولكن لجعلها منطلقًا لاستئناف النقد، وصياغة أسئلة تنطلق من الحقل التداولي العربي والإسلامي.