ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟

ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟

تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ إعادة توحيد ألمانيا في 3 أكتوبر 1990م أحد أكثر الأحداث سرورًا في ألمانيا وغرب أوربا. لكن هل هذا ما يراه اليوم الألمان الشرقيون بعد ثلث قرن من وحدة ألمانيا؟ وكيف يتذكرون التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية التي شهدوها بعدها؟ وكيف يختلفون عن الألمان الغربيين في الرؤية؟

في أحدث الدراسات الأوربية حول هذا الموضوع، «ألمانيا الشرقية بعد ألمانيا الشرقية. قصص الألمان الشرقيين»، المنشورة في فرنسا بمناسبة الذكرى الثلاثين للوحدة، تحاول الباحثتان الفرنسيتان-الألمانيتان آنييس آرب وإليزا غودين- شتاينمان، فهم ما تبقى من تجربة ألمانيا الشرقية حتى اليوم، وما الذكرى التي يحتفظ بها عنها من عاشوا فيها، وهل ما تزال آثار إلغائها ملموسة؟

المثير في هذا العمل هو أنه إلى جانب تقييمات الخبراء يتضمن عرضًا مباشرًا لذكريات العديد من سكان ألمانيا الشرقية ويعطي تقييمات مختلفة للحياة فيها. وتتميز هذه الدراسة أيضًا، بالابتعاد من الصورة السائدة بعد الوحدة لألمانيا الشرقية بأنها دكتاتورية قاسية وهيئة أمنية، وعوضًا عن ذلك فهي تتبنى نظرة أكثر اعتدالًا لهذه الدولة وتطرح سؤالًا عما يمكن أن يستفاد من تجربتها في عصر مراجعة توجهات وقيم ديمقراطيات السوق.

 

خسائر ألمانيا الشرقية بعد الوحدة

أول ما تشير إليه الباحثتان هو الاختلاف الكبير في صورة الوحدة بين الألمان الغربيين، الذين يرونها ثورة سلمية سعيدة غير مسبوقة في ألمانيا، والألمان الشرقيين الذين يرونها تغييرًا جذريًّا، وأحيانًا ضمًّا عدوانيًّا لدولتهم من جانب ألمانيا الغربية، وذلك رغم أن معظمهم صوتوا لصالح الوحدة، ولكن بالنسبة لهم تجربة الوحدة لم تكن دومًا إيجابية، والوضع في ألمانيا الشرقية لم يكن دومًا سلبيًّا.

وعند قراءة العديد من المقابلات التي تعبر عن الأسف بشأن كيفية توحيد البلاد وعدم إعطاء «المسار الثالث» فرصة، يتولد إحساس بمدى حدة عملية تفكيك البلاد، وفي الواقع، المسار الثالث نوقش مناقشة جدية عام 1989م، حتى ممن شاركوا بنشاط في المظاهرات الاحتجاجية كحركة «المنتدى الجديد»، وكانت إعادة بناء ألمانيا الشرقية المطروحة تريد الحفاظ على الاشتراكية، وترفض النموذج الرأسمالي الألماني الغربي.

لكن ما جرى بالفعل لم يكن توحيدًا، بل ضمًّا لألمانيا الشرقية من ألمانيا الغربية. وقد قرر هلموت كول ليس إنشاء دولة موحدة جديدة بدستور جديد، بل توحيد البلدين توحيدًا سريعًا باستخدام المادة في دستور ألمانيا الغربية التي تسمح بإدراج أراضٍ جديدة ضمنها، ولم تُدخِل ألمانيا الشرقية معها أي شيء من خصوصياتها إلى دولة الوحدة، على الرغم من أن العديد من مواد دستورها كان يستحق مصيرًا أفضل من التجاهل؛ مثل: قانون الجنسية، وتشريعات حقوق المرأة، والحق في السكن وفي العمل، التي كانت ضمانات قانونية في ألمانيا الشرقية، لكن الوحدة لم تحافظ عليها.

حينها، وافق الألمان الشرقيون على خطة كول، ولكن بعد سبع سنوات انتقده المثقفون الألمان، واتهموه بشن «حرب باردة ضد الدولة الاجتماعية»، واصفين السنوات التي تلت الوحدة بأنها «مرحلة عصر جليدي»، ونتيجة لذلك فقدت ألمانيا الشرقية كثيرًا من سكانها، حيث غادرها قرابة مليوني شخص بين عامي 1990-2003م، وربع السكان بين عامي 1991-2017م، وكان بين المهاجرين المهمين خريجو الجامعات الباحثين عن وظائف، والنساء اللاتي لم تعد كثيرات منهن، مما أدى إلى تخلخل النسب الجنسية في المناطق الشرقية.

وإضافة إلى ذلك، فقد عانى شرق ألمانيا معاناة شديدة من البطالة التي لم يعتد الناس على وجودها هناك، وانخفضت فرص العمل فيها إلى النصف منذ نهاية عام 1989م حتى نهاية عام 1992م. وفي بداية عام 1993م أصبح هناك نحو 200 ألف شخص بلا مأوى، واضطر العديد من الألمان الشرقيين أكثر من مرة لبدء كل شيء من الصفر، وتركوا عائلاتهم للبحث عن عمل في الغرب، وغالبًا ما كان هذا العمل مهينًا. وهكذا اهتزت جميع معايير القيم فجأة، وهذا ما أدى إلى تداعيات نفسية مروعة، كالإدمان على الكحول والعجز والاكتئاب الذي يدمر العائلات، وقد زادت حالات الانتحار، وتراجعت معدلات الولادة. وفي عام 1994م بلغ معدل الولادة في شرق ألمانيا (الذي كان يعلو كثيرًا قبل عام 1989م على نظيره في الغرب الألماني) 0.77 طفل لكل امرأة، ولم تشهد أي دولة في العالم معدلًا منخفضًا كهذا.

استبداد اقتصاد السوق

ترتبط هذه التغييرات المريعة إلى حد كبير بالهيئة المشهورة بسوء السمعة «ترويهاند» (Treuhand)، التي تأسست في 1 مارس 1990م لإدارة عملية انتقال جميع المؤسسات العامة في ألمانيا الشرقية إلى اقتصاد السوق، وخصخصتها بأسرع ما يمكن وفقًا لشعار «الخصخصة السريعة هي أفضل علاج»، وتحت هذا الشعار، باعت ترويهاند 8.5 آلاف مؤسسة ألمانية شرقية إلى مستثمرين خاصين من غرب ألمانيا في معظم الأحيان، وقد أدى عدم وجود تدابير قانونية وسياسية مناسبة لضمان بقاء بعض الصناعات والمؤسسات الثقافية الألمانية الشرقية إلى حصول الشركات الغربية على حرية كاملة لفرض قانونها الذي كان قانون الأقوى.

نُقِلَت الأصول من الشرق إلى الغرب في البلاد بشكل ضخم، ونقلت ترويهاند 80% من الملكية الصناعية إلى الألمان الغربيين، الذين صاروا الآن يمتلكون نحو ثلاثة أرباع أراضي وعقارات ألمانيا الشرقية. وبرأي الصحافي أوتو كيلر فترويهاند لم تخدم إلا مصالح رأس المال الألماني الغربي، وقد كان هدف تصفية الشركات الألمانية الشرقية غالبًا هو تدمير المنافسين المحتملين. وقد أدت عمليات الخصخصة هذه إلى تقليص هائل في فرص العمل في الشرق، وشهدت ألمانيا الشرقية في أوائل التسعينيات احتجاجات ضد ترويهاند تتهمها بـ«القتل الرحيم النشط» لفرص العمل في ألمانيا الشرقية.

وفي عام 1992م، كتب الكاتب الألماني الشرقي الشهير غونتر غراس: «استبدلت ألمانيا بجدار برلين فجوةً اجتماعية»، وصار المواطنون السابقون في ألمانيا الشرقية يشعرون بشدة بتجاهل تجربتهم الخاصة وعدم حصولهم على حقوقهم، وهذا ما تعزز على مر السنوات التي تلت الوحدة؛ بسبب ضعف تمثيل الألمان الشرقيين في الطبقات الحاكمة في ألمانيا الموحدة، بقطاعاتها السياسية والاقتصادية والإعلامية، وهذا ما يرتبط بالنواقص القانونية لعملية الاندماج السريعة.

وبدوره، تعرض التراث الثقافي الألماني الشرقي أيضًا لتقليل القيمة والمصادرة بشكل مشابه، وفي التسعينيات، كانت البحوث عامةً حول ألمانيا الشرقية تُجْرِيها معاهدُ البحث الغربية، التي توحدها رؤية أنّ المجتمع الألماني الشرقي كان خاضعًا لجهاز الدولة الشمولي القمعي. وبدورهم، تعرض الباحثون الألمانيون الشرقيون لعمليات فصل بالجملة، وكانوا يلاقون صعوبات كبيرة في التعبير عن آرائهم ونشر أعمالهم، فقد جرى تثبيت معايير متعصبة في المجتمع العلمي بسرعة، واختزلت صورة الجمهورية الشرقية في منظومة أمنية، وشُبِّهَت الدكتاتورية الاشتراكية بالنازية.

وفي رأي الباحثتين المذكورتين آنفًا، أنّ المقارنة بين ألمانيا الغربية كـ«مجتمع حرية» وألمانيا الشرقية كـ«مجتمع قمع» سطحية، وأن دور جهاز أمن الدولة مبالغ فيه، وهو فعليًّا كان أضعف مما يعتقد في الوقت الحاضر، وأن تقسيم الألمان الشرقيين إلى «قامعين» و«مقموعين» منافٍ للحقيقة، وفعليًّا كان هناك خيارات كثيرة بين المعارضة الراديكالية للنظام وبين قبوله قبولًا تامًّا ونهائيًّا.

وبعد بضع سنوات من الوحدة، صار كثير من الألمان الشرقيين يشعرون بالخيبة العميقة بشأن «مكاسب الحرية»، فقال المخرج الألماني الشرقي فرانك كاستورف عام 1997م: إنه يعتقد أن الألمان الشرقيين كانوا في الاستبداد الجمعي أكثر حرية مما هم في المجتمع الحديث، وأنهم الآن يشعرون بالسطحية، وليس بالحرية. وقالت الكاتبتان أنجيليكا غريبنر وسكارليت كليمت، المهمشتين سابقًا في ألمانيا الشرقية: إن النظام الجديد قمعي كالنظام القديم، وقد استبدل بالاستبداد السياسي فيه استبداد المال، والرقابة القوية بقيت موجودة، والعوامل السياسية هي الحاسمة في الحصول على الدعم المادي للفنون والبحوث العلمية، والغربيون لا يفهمون كم هي حريتهم ضئيلة، وهم يقدمون كل شيء لإرضاء أرباب العمل.

أما ضحايا القمع السياسي في ألمانيا الشرقية، فقد خابت آمالهم بالحصول على العدالة في ألمانيا الغربية في كثير من الأحيان؛ بسبب الشكليات القانونية الباردة والمنعزلة.

شرعنة الوحدة

وبعد ثلث قرن من سقوط الشيوعية، لا تزال الصناديق الخاصة الكبيرة تدعم الأبحاث التي تفرض فيها عملية المطابقة بين الدكتاتوريتين الألمانيتين النازية والاشتراكية في القرن العشرين، التي تهدف إلى تشويه صورة ألمانيا الشرقية وشرعنة الوحدة بالشكل الذي حدثت فيه، وشرعنة نموذج المجتمع الذي أرسته.

وعلاوة على ذلك، فالعديد من الألمان الشرقيين -الذين نشؤوا على احترام بطولة المقاومة الشيوعية ضد الدكتاتورية الهتلرية، وجهود الشيوعيين الذين أنشؤوا جمهورية ألمانيا الشرقية، وكانوا يحلمون بأن يظهروا للعالم أن ألمانيا ليست فقط بلد الكارثة النازية، وإنما هي بلد الاشتراكية، وأول مجتمع غير طبقي في غرب أوربا- يشعرون بالأسى لاختفاء عدد كبير من النصب واللوحات التذكارية والتماثيل من الأماكن العامة بعد الوحدة، وقد ظهرت في مكانها لوحات تكرم «ضحايا الفاشية والدكتاتورية»، وتساوي بين الاشتراكية والنازية.

اليوم يَجمع الألمانَ الشرقيين، حتى أولئك الذين يرون منهم أن زوال جمهورية ألمانيا الشرقية أمر إيجابي، شعورٌ بخسارة لا تعوض، وقد شرحه المؤرخ الألماني الشرقي غيرت ديتريخ بالقول: إن كلمة «جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة» هو كلمة مثيرة للسخرية مثل كلمة «جدي السابق» عن «جدي المتوفى»، ويكفي أن نتحدث عن الأقارب المتوفين والبلاد المتوفية بصيغة الماضي.

إن الإحباط والغضب من التجريم السائد في الخطاب العام للماضي الألماني الشرقي، والمطالبة بالمزيد من النزاهة والموضوعية في وصف تاريخ البلاد، توضح الحجم الهام للتصويت لحزب «البديل» اليميني المتطرف في شرق ألمانيا. وفي رأي الباحثين فهذا الدعم لهذا الحزب «المضاد للنظام» لا يرتبط بالعادات الموروثة من جمهورية ألمانيا الشرقية كما يعتقد بعضٌ، ولكنه بالنسبة للألمان الشرقيين أسلوب للرد على الإساءة والظلم اللذين تعرضا إليهما بعد الوحدة.

وبعكس ذلك، يمكن للنظرة المدققة لتاريخ جمهورية ألمانيا الشرقية، والاهتمام الأوسع بتجربتها، واعتبار مجتمعها ليس دكتاتورية وحسب، بل نموذجًا اجتماعيًّا بديلًا لديه حسناته، أن تخفف شعور الألمان الشرقيين بالإهانة، وبعد ثلاثين عامًا، برأي آنيس آرب وإليزا غودين-شتاينمان، حان الوقت لندرك أن التجربة الجماعية لجمهورية ألمانيا الشرقية ليست كلها عديمة الجدوى.

تقول الكاتبة الألمانية الشرقية ساسكيا هيلموند: «خلال فترة الأزمة العميقة في نظام السوق الحرة، يمكن أن يكون من الضروري طلب خبرات ومهارات الأشخاص الذين عاشوا في مجتمعات مختلفة، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية، وإذا كنتم تستمعون بعناية، فسيخبركم الألمان الشرقيون عن أولوية الروابط الاجتماعية، وكيف يمكن العيش بسعادة دون استهلاك، وسيذكرونكم بمدى أهمية الدولة التي تراقب الاقتصاد بدرجة معينة، وتخطط وتستثمر وفقًا لاحتياجات السكان».

وهذا هو الوقت لفهم ما يمكن أن نأخذه من الماضي إلى المستقبل، والعمل في الحاضر مسلحين بهذه المعرفة.


المصدر: https://globalaffairs.ru/articles/gdr-posle-gdr