شخص ذو ثلاثة أنهار

شخص ذو ثلاثة أنهار

الحياة والزمن هما الشيئان الأكثر تشابكًا في الوجود، تمامًا مثلما هو تشابك الكرمة والأشجار، دائمًا ما يصعب على المرء التمييز بين اختلاط الجذع والأوراق. وبطبيعة الحال، وبحلول الخريف، تذبل الأوراق وتتساقط، ويتوالى الذبول المصحوب بالموت، فيصير من السهل علينا تمييز فروع وجذوع الأشجار من غطاء الكرمة المتشابك.

لقد وصلت إلى خريف العمر الذابل، الذي يعقب انقضاء ظهيرته، وبأقل القليل من التفكير، يمكنني أن أرى ذبول الحياة وذويها؛ ذلك الذي يكشف عنه يَبَاس الأغصان والأوراق، بعدما كانت مزدهرة في السابق؛ حتى إنني اعتقدت أن طلب «يوي ران» أن أكتب شيئًا ما عن الكاتب ورؤيته للموت والزمن، يمثل بالنسبة لي جانبًا مُحبطًا من جوانب الحياة. بينما يكمن السبب في ضرورة أن أكتب، في احترامي لها وللكتابة كذلك.

ثمة سبب آخر، تمثل في عودة صديقي يوان تيان من اليابان، الذي أخبرني في رسالة لطيفة أشعرتني بالإثارة، أن السيد شونتارو تانيكاوا قال في حديث له مؤخرًا عن الحياة والعمر: «الحياة بالنسبة لي، هي انتظار الموت بوجه تعلوه ابتسامة، ما تبقى من عُمر». فالشاعر والمترجم الموهوب، المفعم بالحيوية يوان تيان، دائمًا ما يقدم لي بعض الهدايا عندما يعود كل عام. أعتقد أن الرسالة التي نقلها إليّ هذه المرة، هي الهدية الأثمن من بين كل ما لدي.

في شَرَكِ الموت والمرض

يعد الثلاثي الياباني «كنزابورو أوي»، و«شونتارو تانيكاوا» و«هاروكي موراكامي» هم الأيقونة الأكثر لفتًا للنظر في الأدب الآسيوي؛ بل في الأدب العالمي، ويعد الشاعر شونتارو تانيكاوا هو الأطول عمرًا من بين ثلاثتهم، ومن ثم، يمكنه قول الكلمات المذكورة آنفًا؛ بسبب طول عمره، وأعماله، وكذلك ثقته واستبطانه المتعلق بحياة أعماله من بعده.

لذا بالنسبة للكاتب، كما يتراءى لي، وفيما يتعلق بالزمن، والموت والحياة، يمكننا أن نعلق على الأمر انطلاقًا من ثلاثة محاور: أولها، هو عمره الطبيعي، وثانيها، هو حياة أعماله، وثالثها، خط الزمن الذي أبدعه في أعماله.

بالنسبة لعمر الإنسان، ذلك ما يملكه الجميع، سواء أطال أو قصر. ولأن قصر العمر وطوله لا يستويان، فثمة من هم بعمر المئة، ويمكنهم التجول بالشارع، وثمة من تنقضي أعمارهم مبكرًا، فيمرون بالحياة مرور وميض الشهاب. وهو ما يدفع الغالبية العظمى ممن يتأرجحون ما بين طول العمر وقصره، للشعور بعدم العدالة التي تتعامل بها السماء حيال الحياة البشرية اليائسة. إن أعظم فساد يكتنف غريزة الحياة البشرية المتنامية، هو توق الجميع للحياة، والتعطش لها، وجراء تضخم هذا الشعور، تتولد الرغبة غير المحدودة في الحياة، والذعر الذي يفوق الوصف من الموت.

شونتارو تانيكاوا

أنا واحد من الأمثلة الأكثر نموذجية؛ المنتمي لهذه الأغلبية الساحقة. فبينما أكون ببكين، يكون الذهاب إلى جبل باباو، هو أكثر ما أخشاه. ولما أعود إلى مسقط رأسي، تكون رؤية المسنين والمرضى المصابين بالشلل، وهم جالسون بمدخل القرية تحت أشعة الشمس، هي أكثر ما أخشاه. قبل عشر سنوات، توفي زميل لي بورم في المخ، ذهب جميع الزملاء ببكين تقريبًا إلى جبل باباو لتوديعه، بينما كنت الوحيد الذي لم يتجرأ على الذهاب إلى هناك، وبالتالي، لقاؤه للمرة الأخيرة.

لكن نتيجة لذلك، ذهب الجميع، وبعدما تلاشى شعورهم بالحزن، عادوا يواصلون الحياة والعمل كما السابق، بينما لازَمَني صداع شديد كل يوم، أشعرني بتضخم الجمجمة، لتشتد وطأته لاحقًا، فتكاد رأسي تنفجر، ومن ثم، ساورتني الشكوك، بشأن إصابتي بورم في المخ، ولمدة نصف عام، انقطعت عن الكتابة والعمل، وداومت على طلب العون من الأهل والأصدقاء خاصة، علاوة على الذهاب للمستشفيات، والبحث عن المتخصصين، لفحص الأعصاب القحفية، والأوعية الدموية الدماغية، وكل ما يرتبط بها من أجراء أخرى داخل الدماغ.

أُجرِيَ تصوير أنواع الأشعة السينية الدقيقة كافة، كالأشعة المقطعية، وأشعة الرنين المغناطيسي. لا يتورع المتخصصون والمستشفيات عن سلبك أموالك، فما إنْ يروا عشبة صغيرة حتى يرجحوا أنها قد تتحول إلى شجرة سامة، فلا يتوقفون عن السير بك من نزلة البرد التقليدية صوب السرطان المُرتقب مستقبلًا. وأخيرًا، التقيتُ أخصائي أورام المخ بمستشفى بكين، الذي كان قد تجاوز الثمانين من عمره، ولما انتهى من مطالعة ومقارنة صور الأشعة كافة، سألني بصوت خفيض: «هل تتحمل نفقات علاجك أم ثمة جهة تتكفل بها؟». قلت: «كلها على نفقتي الخاصة». قال لي بابتسامة ساخرة، ما تعانيه من صداع وشعور بالتضخم ناتج عن تضخم الفقرات العنقية، عد إلى البيت، ودلكها وفقًا لداء الفقار العنقي.

لأكن صريحًا، غالبًا ما أقع في شرك الموت، من دون أن أرغب في التفكير بطريقة تُمنطق وجود الحياة البشرية واقعيًّا. إن تحاشي التفكير في هذه المعضلة، يشبه تمامًا هوس الكاتب «شي تيه شنغ» بتفسيرها. على سبيل المثال، كانت الكتابة في بداية مسيرتي، سبيلًا أَلِجُ من خلاله المدينة، لأتمكن من الفرار من الاشتغال بالفلاحة، وتحسين حياتي نوعًا ما، ومن ثم، جعل مسار حياتي مختلفًا تمامًا عن حياة أبويّ. وفي وقت لاحق، وبعدما ولجت المدينة من بوابة الكتابة، صرت أطمح في أن أصبح كاتبًا مشهورًا، وأن أُكوّن عائلة، بحيث تختلف حياتي عن حياة الأشخاص من حولي. وبعدما وصلت إلى منتصف العمر، اكتشفت أن السعي خلف هذه الرغبات، لا قيمة له حال مقارنته بالموت، تمامًا مثل مقارنة قطرة واحدة من المياه ببحر كامل، تلألؤ القطرة في مقابل جفاف البحر.

لأكون صريحًا، لم أستطع حتى اليوم تجاوز الذعر من الموت، وكلما أفكر في الموت؛ تلك الكلمة، يعتصر قلبي نوع من الألم المُغِمّ، ويصيبني شعور بالذعر من عدم وصول الدم إلى المخ.

انتظار الموت بوجه مبتسم

قبل عامين أو ثلاثة أعوام، توفي عضو رابطة كتاب بكين السيد «لين جين لان» جراء المرض، لم أجد سببًا يحول بيني وبين الذهاب إلى جبل باباو لتوديعه، وبعد عودتي أصبت بالأرق والضيق لثلاث ليالٍ متتاليات. شعرت بالندم، ما كان ينبغي علي الذهاب إلى ذلك المكان، الذي لا تخلو أرجاؤه من حفلات التأبين، علاوة على الورد الأسود والأبيض.

والآن لا أفهم سبب رغبتي في مواصلة الكتابة، غير أنني أقول للآخرين: «الكتابة إثبات لكوني لا أزال على قيد الحياة؛ وأنعم بصحة جيدة». لا أعرف مقدار ما تنطوي عليه هذه العبارة من ممازحة، أو مدى ما تحمله من دقة، غير أنني أرغب في قول ذلك فحسب؛ ذلك أنني لا يمكنني القول: «أنا أكتب فرارًا من الموت، ومقاومة له». سيُشعرني ذلك القول بالجدية الشديدة، بل بالأحرى سيكون أداءً استعراضيًّا. لكن عندما يرتبط الموت بالكتابة، وترتبط حياة المرء بالأدب، لا يمكنني حقًّا أن أجد بيانًا أكثر ملاءمة وأكثر دقة ومصداقية بالنسبة لي وللآخرين.

غالبًا ما أتناول في كتاباتي تناقضات ومفارقات معينة. أكتب خشية من الموت، وفرارًا من بين براثنه؛ لذا أكتب عن الموت مرارًا. لقد قلت: إنني كتبت رواية «الزمن العابر» لمقاومة الموت، وفي حقيقة الأمر يمكن القول: إنني كتبتها، لتكون تنهيدة طويلة، أنفس فيها عن ذعري من الموت.

تبنت رواية «الزمن العابر» نمط النص «المقلوب»، غير المسبوق في الروايات الصينية الحديثة. يتناول الفصل الأول موت بطل الرواية سي ما لان، بينما يتناول الفصل الثاني تجربته النضالية رئيسًا للقرية، أما الفصل الثالث فيحكي عن كيف تمكن الشاب سي ما لان من شغل منصب رئيس القرية، في حين، يسرد الفصل الرابع كيف صار قائدًا بين أقرانه، ليخبر الفصل الخامس أخيرًا بطفولته ومولده. يتخلل الأحداث قصص رؤساء القرية السابقين وشخصيات أخرى ذات صلة بهم.

وفي رواية «أنا وجيل أبي»، ثمة كثير من الأحاديث البسيطة المتعلقة بالموت، وذلك في واقع الأمر، يمثل صرخة مدوية تعبر عن هلعي من الموت.

في هذه الرواية، استهللت الكتابة بمرحلة طفولتي، وأعدت الناس إلى تلك الحقبة المليئة بالفقر والجوع بالقرن المنصرم؛ إذ رويت الحياة الشاقة العسيرة التي عاشها أبي، وعمي الأكبر والعم الرابع في قرية نائية، وكذلك حكيت عن تجربة نشأتي القاسية.

لا أعرف متى، ولا في أي سن، قد أتمكن من تجاوز هلعي من الموت، بينما السيد شونتارو تانيكاوا الذي أعرفه جيدًا، قال وهو في الثمانين من العمر تقريبًا: «الحياة بالنسبة لي، هي انتظار الموت بوجه تعلوه ابتسامة، ما تبقى من عُمر». تلك العبارة أشعرتني بقشعريرة لا تخلو من دفء. تعد تنهيدة، تعبر عن الشعور حيال الحياة البشرية، والموت المرتقب مستقبلًا، آمل أن تكون بصيصًا من ضوء يَرَاعة، أو شعاعًا من ضوء شمعة، يُنير تلك المناطق والأركان المظلمة، التي تتخلل حياتي، وموتي خلال أيامي القادمة، فتمدني بالشجاعة لمواجهة الموت مباشرة، مثلما أمد بصري محدقًا بشجرة تنتصب أمام نافذتي، وقد استحالت ذابلة بعد ازدهار.

فلو اعتبرنا أن حياة البشر بمنزلة نهر يبدأ في التدفق ذات يوم، فسينحسر حتمًا ذات يوم آخر، بينما، ينبثق عن هذا النهر رافد آخر، ذلك بالنسبة للكُتاب، والشعراء، والرسامين، والفنانين، ومن على شاكلتهم من أشخاص. يمثل ذلك الرافد، مدة بقاء الأعمال التي أبدعتها كاتبًا، بينما كنت على قيد الحياة.

حاجة الكاتب للبقاء

عاش تشاو شيوه تشين بضعة وأربعين عامًا، بينما كُتبت رواية «حلم المقصورة الحمراء» منذ ما يقرب من 250 عامًا، لتبدو اليوم، وكأنما قد دخلت لتوها ريعان الشباب. ليس ثمة من يمكنه إحياء تشاو شيوه تشين، لتدب الحياة من جديد بعظامه البالية، كما لا يمكن لأحد، أن يضع حدًّا لحياة «حلم المقصورة الحمراء»، فتستحيل رمادًا يخلفه احتراق الأوراق.

انتهت حياة كافكا عن عمر يناهز الحادي والأربعين عامًا، بينما امتدت حياة عَمَلَيْهِ: «القلعة» و«المسخ»، فطالت في امتداد الزمان. لم يكونوا قطعًا ليعرفوا، وهم على قيد الحياة، أن أعمالهم ستعيش طويلًا، بخلاف تولستوي، الذي كان مليئًا بالثقة في كتاباته وأعماله. لا يعني ذلك، أن رسامًا لا يتصور أن أعماله قد تعيش لمئة عام لا يحلم بأن تعيش أعماله للأبد.

ثمة سبب وراء رغبة الكاتب في مواصلة الكتابة، لتتدفق من دون توقف، فباستثناء الحاجة للبقاء، يمكن تناول الأمر من أساسه بالقول: إن ثمة إيمانًا يقطنه بقدرته، أو ربما بمواتاة الحظ له؛ ليبدع أعمالًا جيدة وعظيمة. ولولا خشيتي من تهكم الآخرين، لاعترفت صراحةً بأن لدي مثل تلك الأمنية الجامحة، التي تتوق لمواتاة الحظ. لكنني أعلم أيضًا، أن الأمور غالبًا ما تأتي مغايرة لأمنيات المرء، فتتضاعف الجهود سُدى، بحيث، تصير أشبه ما يكون، بعداء المسافات الطويلة، فتداوم على الركض طوال حياتك، ولما تصل للموت تجد خطواتك تخلف الجميع.

فاندفاعك القوي، يثبت أن قدميك ما زالتا تتمتعان بالقوة، وأنك قد تتوانى في الركض خلال مسافة طويلة، بينما، لا تملك خيار التراجع والاستسلام. هذا كل ما في الأمر، ففي أفضل الأحوال، ستكون ذلك «العَدَّاءُ الأخير» الذي أشاد به لو شيون.

لست أنا الكاتب الأغزر إنتاجًا أو الأقل من بين الكتاب الصينيين، كما أنني لست أفضل من يكتبون، ولا أسوأهم. بل أنا واحد ممن لا تتوقف أقدامهم عن الركض بمضمار السباق. فذاك الذي وصل أقصى المقدمة، وبعدما تقدم به العمر، أمكنه الوقوف على ربوة عالية، يلفه سكون مهيب، في مواجهة غروب الشمس، ليناجي نفسه بتريث وتُؤدة، فيقول: «الحياة بالنسبة لي، هي انتظار الموت بوجه تعلوه ابتسامة، ما تبقى من عُمْر»؛ ذلك لأن أمثاله يمكنهم رؤية الحياة المزدهرة والممتدة لأعمالهم، والتحقق منها، بينما ما يمكنني رؤيته والتحقق منه، هو مستقبل غير ممكن.

ناهيك عن أن العصر لم يعد عصر القراءة. الأكثر من ذلك، أن ثمة من صرح بأن: «الرواية قد قضت نحبها!» وبالنسبة لي، لا أطمح مُغاليًا في أن تتصف أعمالي بقوة، تمنحها حياة مديدة، بل آمل فحسب، أن يمنحني عملي السابق قوة للكتابة، تكون ذخرًا للعمل التالي، فتمنحني شعورًا وأنا على قيد الحياة، بما قد تحمله الكتابة من معنى للوجود.

عصرنا اليوم ليس هو عصر الأدب والقراءة، ولا عصر الشعر، في حين، تجاوزت عدد طبعات كل عمل من أعمال تانيكاوا باليابان الثلاثين ألف نسخة. وطبعت مختارات أعماله الشعرية، أكثر من خمسين طبعة، فيما يربو على الثمانين ألف نسخة، ففي المرحلة العمرية من سن العشرين إلى سن التاسعة والسبعين، كان يبيعها طوال الوقت، على مدار ستين عامًا. وبهذه الطريقة، لا يمكننا المزايدة بشأن الشعراء، حيث إن «نيرودا» و«آي تشينغ» لا يزالان على قيد الحياة، ومن ثم، فلا يسعنا إلا الإعجاب في صمت، بافتتان اليابانيين حاليًّا بقراءة شاعر بعينه. فهذا الشاعر قادر بشدة على مواجهة المستقبل، متخذًا موقف «انتظار الموت بوجه تعلوه ابتسامة».

ومع ذلك، فإن إخلاصنا الدائم للكتابة، لا يمكن أن يُستبدَل به إلا مقولة بول كوتشاكين الشهيرة: «عندما الْتَفَتَ ملقيًا نظرة على الماضي، لم يعتره الندم على سنواته الضائعة». مثل هذا القول المهيب، هو أيضًا خيار لا مفر منه في الكتابة. فبقاء الأعمال، يمكنه فحسب، تفسير الطريقة التي نعيش بها. أن آمل في كتابة تحفة تتناقلها الأجيال؛ لهو أمل صعب المنال في الواقع، حيث يشبه تمني تشييد المباني مستقبلًا، بطوب وبلاط قوامه الهواء. لكن، وعلى الرغم من إدراك ذلك، فإنني ما زلت راغبًا في مواصلة القتال والكتابة، على نهج دون كيخوته، واعتبار ذلك سبيلًا، يبرهن على وجودي بالحياة، من دون السعي بالتأكيد لكتابة تحفة تتناقلها الأجيال.

أطمح من وراء كل هذه الجهود فحسب، إلى ألا يحدث ضرر يُثبط عزيمتي حال كتابة العمل القادم. هذا هو عهدي الوحيد حيال الكتابة، وحياة أعمالي، في الوقت الراهن. أن أسعى جاهدًا أن أكون عدَّاءً، لا يغادر مضمار السباق، ذلك هو أملي المتواضع إزاء الكتابة، الذي يسبق رغبتي في التغلب على رهبة الموت بداخلي.

إيقاع الزمن وتقلبه

كان بورخيس يلقي محاضرة ذات مرة بالولايات المتحدة الأميركية، فقال له طالب: «أرى أن هاملت شخصية غير واقعية، ولا يمكن تصديقها». قال بورخيس لذلك الطالب: «هاملت أكثر واقعية منك ومني، فذات يوم، لن يكون لكلينا وجود، بينما سيظل هاملت حتمًا على قيد الحياة».

تدور هذه الحادثة حول واقع الشخصيات وحيواتها، كما توضح فكرة ديمومة الأعمال. لكن من ناحية أخرى، تناقش الأعمال والزمن الذي يتخللها. يستمد الكاتب من نهر حياته، نهر الحياة المنبثق بأعماله، ومن الأخير، يستمد نهر الزمن الإبداعي وبقاؤه.

لا يمكن للعمل أن يكون دون الزمن. فالقصة في الواقع هي هيكل زمني أكثر تعقيدًا. بعبارة أخرى، يمثل الزمن شريان الحياة للقصة، تلك التي تنسج بنيان الرواية. فلا يمكن للقصة التخلي عن الظهير الزمني، لتحظى بالحضور الأدبي؛ فالزمن يتجلى في شكل القصة، ومن ثم، يبدو في حيزه الأدبي، ويعد هذا أحد امتيازات الرواية.

بعد القرن العشرين، جعل النقاد الزمن شيئًا جافًّا ومُحددًا في بنيان الرواية؛ ذلك لخدمة نقاشاتهم وخطاباتهم، ومن ثم قدموه للقراء على هيئة مومياوات، يتلو بعضها بعضًا. يبدو أن وجود الزمن ولد من أجل تقنية الكتابة؛ وعلى ما يبدو، فإن أول ما ينبغي مراعاته في بنية العمل العظيم، هو شكل الوجود الزمني منذ الشروع في الكتابة، سواء أكان خطًّا واحدًا أو خطوطًا متعددة، وسواء أكان خطًّا منحنيًا أو مستقيمًا، وسواء أعاد ليتصل بعدما انقطع، أو إنه متشابك على نحو طبيعي. باختصار، يُنَحَّى الزمنُ كتقنية منفصلة، بعيدًا من القصة، والشخصيات، والأحداث والتفاصيل، بل يُوضَع ويُعَلَّق مستقلًا. يحتاج الزمن لأن يكون واضحًا جليًّا، بينما قد تغير ليصبح أكثر التباسًا، وهو ما يؤثر سلبًا في فهم القراء واستيعابهم.

لكن، ما أرغب في الاجتهاد من أجله، هو الرغبة والمحاولة المعاكسة، المتمثلة في العودة بالزمن ليصبح أصل الكتابة والحياة، ومن ثم، يصير جسد الرواية في الأعمال الأدبية؛ أي أن يغدو لحم الرواية ودمها، وبالتالي، لا يمكن فصله عن حبكتها. أعتقد أن تنسيق الزمن داخل هيكل الرواية، يمكن أن يجعلها أكثر وضوحًا.

وبعد ترتيب الخط الزمني، يُقطَع، ليعود ويتصل مرة أخرى، وهو ما يثير اهتمام النقاد. بينما ما زلت آمل أن يستحيل خط الزمن الغامض الملتبس بالرواية، ليغدو قادرًا على التنفس، ونابضًا بالحياة، يمكن الإحساس به، في حين، لا يمكن اقتطاعه بسهولة، لعرضه والتعليق عليه. لقد اعتبرت الزمن بمنزلة بنية الرواية. بينما يعود التغيير المستمر في بنية وشكل كتابات بعينها، لسيطرة الخط الزمني على بنياتها، في حين تُثري البنية القصة، وتُرسخ أساسها، ومن ثم، تُضفي على الزمن لمسة من الحيوية النابعة من داخل القصة، مثلما هو الحال في رواية «هاملت».

مصير الإنسان في واقع الأمر، يمثله إيقاع الزمن وتقلبه، وليس تباين الأحداث المفاجئة والطارئة. لا يمكننا إغفال معنى الزمن بالنسبة للقدر والحياة في إطار الرواية. يتحكم الزمن في الرواية تحكمًا أساسيًّا، ولن يتجاهل وجود الزمن في بنية الرواية، سوى أولئك الكتاب الجريئين غير المبالين. إن تنسيق الحضور الزمني في الرواية يكمن في الواقع، في استخلاص الخطوط العريضة من حيز الأحداث المتشابكة. وبوجود الخطوط العريضة، ستصبح الأحداث المتشابكة أشياء حياتية ذات مغزى، بينما بغياب الخطوط العريضة، ستغدو الأحداث المتشابكة كومة من النفايات والفوضى، ليس إلا. فكتاباتي ليست كما يعتقد الجميع؛ يجب أن تبدأ من المحتوى، بحيث يكون التساؤل الخاص بـ«ماذا أكتب؟»، هو مصدر الكتابة. على العكس من ذلك، يعد التساؤل بـ«كيف أكتب؟»، هو أكبر عائق لي، وهو مفتتح الكتابة لدي. لكن فيما يتعلق بـ«كيف أكتب؟»، تبقى البنية، هي الأصعب على الإطلاق من الناحية الإبداعية.

وفي ظل هذا الأصعب على الإطلاق، يمكن القول: إن إعادة تنظيم الزمن هو مفتتح البنية؛ لذا أقول: إن «الزمن هو البنية، وهو حياة الرواية كذلك». لقد استخدمت الزمن، ليصبح الدعامة في أعمالي، واعتمدت على حياة أعمالي، لإثراء مفهوم وشكل وجودي بالحياة. ومن ناحية أخرى، فإن الكتابة في ظل هذا الوجود، تسمح بمنح الأعمال القدرة على البقاء والتنفس في أثناء الكتابة، في حين، يصير الزمن الإبداعي، هو حياة القصة.

تلك ثلاثة أنهار تتعلق بالزمن والموت من منظور كاتب. ينبثق عن زمن حياة الكاتب، زمن بقاء أعماله؛ بينما يتفاعل الزمن الإبداعي الذي يتخلل هذه الأعمال؛ بعدما يكتسب حياته، مع زمن بقائها على قيد الحياة؛ فتغدو حياة هذه الأعمال هي ما يدفع كاتبًا في نهاية المطاف، وبعدما ولت سنونه، لأنْ يقفَ على ربوة شاهقة، في مواجهة غروب الشمس؛ ليناجي نفسه، ويقول: «الحياة بالنسبة لي، هي انتظار الموت بوجه تعلوه ابتسامة، ما تبقى من عُمْر».


المصدر: https://mp.weixin.qq.com/s/g_0SFAGOUlDZJTIx n_15YQ