التعلّم من الأرواح

التعلّم من الأرواح

في ذلك المكان، حيث قضيتُ أولى سنوات حياتي، كان ثمّة بيتٌ مهجورٌ لا يريدُ الأطفال اللعب أمامه، أما البالغون فكانوا كلّما يمرون به في الليل يعجّلون خطاهم من دون أن يعلموا سببًا لذلك. لا أحد كان يعرف في الحقيقة ما الذي قد جرى داخل هذا البيت، ولم يكن يتحدّث أحدٌ عن الأمر أيضًا؛ بيد أنّ الجميع كان يشعر، كلٌّ بطريقته الخاصّة، أنّ ما قد جرى فيه ليس أمرًا حسنًا.

لعل بعضكم قد مرّ في تجربة مشابهة في وقت ما: رجفان بسيط، اضطراب يبدو بلا سبب مُترافق مع شعورٍ غريب بأنّك لستَ وحدك. هكذا، كما لو أنّ غياب أحدٍ أو شيءٍ منقضٍ يكتسي على حين غرّة ملامحًا تُحَسُّ بوضوح، لكن من دون أن تُرى. ربّما لم يكن مكانًا، بل ذكرى أو حلمًا متكرّرًا جعلكَ تعيش هذا الشعور. هكذا، كأنّ الموتى ما برحوا هناك؛ كما لو أنّهم يريدون منّا أن نفهمَ أمرًا معيّنًا.

لكلٍّ منا أرواحه وأمواته. أحيانًا نزورهم، لكنّهم، في الغالب، هم من يزوروننا؛ إذ ثمّة استمراريةٌ لحياةِ الموتى في ذاكرة الأحياء. وهذا ليس أمرًا بالغ الغموض. لكن ثمّة حياةٌ لاحقةٌ(1) (Nachleben) أبعد من ذلك، ثمّة عودةٌ شبحيّة لا تستند إلى الذاكرة أو إلى أيّ أثرٍ آخر. إذن، فما الحياة اللاحقة الشبحيّة؟ ولمَ يعود بعضُ الموتى بهيئة أشباح؟ إلام يلمّحون؟ وماذا يمكننا أن نتعلّم من ذلك؟

عودةُ المُبعَدِ

تجد الفلسفة صعوبةً في أخذ مثل هذه الأسئلة على محمل الجدّ. صحيحٌ أنّها، ككل العلوم الذهنيّة، تُجري نوعًا من الحوار مع الموتى، لكنّها ترفض أن ترى نفسها علمًا للأرواح. فبمجرّد الانتقال من صيغة المفرد إلى الجمع(2)، ومحاولة القيام بفلسفة للأرواح بدلًا من الروح، تُبدي حدود هذا التخصّص حساسيةً وكأنّه أُفرِطَ في مدِّها. لم يكن عصر الأنوار بدايةً لِعَدّ الفلاسفة والعلماء أنّ مهمّتهم الأساسيّة تكمن في اصطياد الأرواح؛ فالفلاسفة، تبعًا لمهنتهم الكلاسيكيّة، هم صائدو أرواح، وغاية عملهم هي خلق الشفافية وجعل التفسير ممكنًا. حيث تُعرض الوقائع في جملٍ خبريّة وتُوضَع الظواهر في مفاهيم يمكن السيطرة عليها. وكلّ ما يتعذّر تناوله بهذه الطريقة غير مرحّب به عندها. وتبعًا لذلك، استُبْعِدَ كل ما هو شبحي، بلا هوادة، من ذلك المجال الذي يمكن عدّه موضوعًا للبحث الفلسفي.

أمّا الأرواح نفسها فلا تولي أيّة أهميّة لذلك؛ فهي تواظبُ غزوها للحاضرِ من دون أن تؤثّر فيها هذه المناورات. بل كيف يمكن اعتراض درب كائن اسمه ليس إلا بمنزلة مرادفٍ لـ«عودة المُبعَدِ/المنسيّ/ المطرودِ الحتميّة»؟ فلا عجب أن يخشى الأحياءُ قربها. ولا عجب أن تكون الأرواح مصدر إزعاج. فهي تمنحنا شعورًا بأن شيئًا ما ليس على ما يُرام، مُثيرةً إحساسًا بالشؤم والاضطراب. وليس ثمّة حاجة للإيمان بوجود الأرواح؛ كي نعترفَ أن كلّ حكاية عن الأرواح هي في الوقت عينه إخطارٌ بخللٍ ما. الأرواح مُدرَكات تقتحمُ على نحو غير متوقّعٍ النظام القائم، لتُنبِّه الأحياءَ إلى أن شيئًا من داخل هذا النظام قد فَسدَ. إنّها (الأرواح)، ميتةٌ من دون أن تكون قد ماتت فعليًّا، ليست حاضرة تمامًا ولا منقضية تمامًا، تُشيرُ إلى شيءٍ معيّن، في الحياة الفردية أو المجتمعيّة، لم يُتغلَّبْ عليه. يمكن لهذا الشيء أن يكون دَينًا رمزيًّا أو أخلاقيًّا لم يُسَد، حزنًا مُعوِّقًا، حوارًا أخيرًا لم يحدث، جريمة بلا عقاب أو ظلمًا لم يُعرفُ بعدُ على أنّه كذلك.

في قصص وأفلام الرعب الخياليّة التي تنتجها الصناعة الترفيهية المعاصرة، تُقدِمُ الأرواحُ، كما هو معلوم، على أفعالٍ خرقاء ونمطيّة نسبيًّا؛ قاصدةً ذلك النوع البسيط من أثر الصدمة، كأن تُغلِق الأبواب بقوّة، أو أن تُوقِعَ الأشياء أرضًا، أو أن تُطبِّل على الجدران كالأطفال. على حين أنّها، في الواقع، عادة ما تقدّمُ مطالبها بشكل أشدّ تكتمًا؛ إذ تقفُ خلال النهار، هكذا من دون أن نلحظها، على الحافات المائعة لإدراكنا، أو تستقر سرًّا في ذكرياتنا أو تتسلّل في الليل إلى أحلامنا. يصحُّ على جميع الظواهر الشبحية أنها تظهر بشكل عاطفي في المقام الأول، كمزاج مُشوَّش أو شعور غامض. وإن كانت الأرواح علامات للاضطراب، فإن الانفعال هو الوسيلة الأولية التي يتبدّى من خلالها هذا الاضطراب.

ثمّة انفعالٌ كامن خلف كلّ روحٍ: عدم راحة كامنة، ارتباك لا يمكن تفسيره، إصغاءٌ مُتخوّفٌ ورجفان، هاجسٌ رقيقٌ حول ذنبٍ أو حزنٍ منسي منذ زمن. تحثّنا الأرواح على أخذ مثل هذه المشاعر المزعجة على محمل الجد والبحث عن جذورها. وبمجرد أن يتلاشى أوّل فزعٍ تُسبِّبهُ لنا الأرواحُ، يتولّى ظهورها حافزًا مُتواصلًا لنوع من العملِ التأويلي. ويكون ذلك، بتفسير الإشارات وقراءة ما بين السطور والانتباه إلى ما لم يُقَل في كلمة
أو عبارة معينة؛ لذلك بوسعنا أن نتعلّم من الأرواح طرح الأسئلة الصحيحة.

إبهامٌ مُنتِج

كلمات مثل روحي، شبحي وغير ميّت، هي شَفَراتٌ لحقيقة أن الماضي بالكادِ ينقضي بصورةٍ تامّة. وذا يتوافق أيضًا مع حقيقة أن الأرواح تظهر على نحو خاص هناك، حيث يتعلّق الأمر بالحياة اللاحقة لفظائع ماضية وتجارب ظلم جماعي. حذّر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، على سبيل المثال، عندما دُعي إلى إسرائيل في عام 2020 للاحتفال بالذكرى 75 لتحرير أوشفيتز، من أن «الأرواح الشريرة ذاتها تظهر اليوم بأشكال جديدة»؛ إذ كان قد حصل، قبل ذلك ببضعة أشهر، هجوم إرهابي يميني على كنيس يهودي في مدينة هاله. لا تزال «شواه»(3) إلى يومنا هذا تُجابَه بأيديولوجيا الاشتراكية القومية، هذه التي لا يمكن قتلها. والأمر عينه يصحُّ على الحياة اللاحقة لأرواحِ الاستعمار كما للعبودية على الجانب الآخر من الأطلسي. مفكّرات مثل سعيدية هارتمان وكريستينا شارب تُبرزن في كتاباتهنّ كيف أنّ العنف الاستعماري المرتكب ضد السود وغير البيض ما برحَ مُستمرًّا، على نحو خفيّ، حتى وقتتنا الراهن. وبالاستناد إلى ذلك، يتبدى أنّه ليس من قبيل المصادفة أن تلعب روحٌ الدور الرئيس الخفي في واحدة من أهم الروايات حول العبودية، «محبوبة» لـ توني موريسون. لكن ليس كل ميت يعودُ بهيئة روح؛ فالعاملُ الحاسم والجوهري لتحقّق ذلك هو «ما لم يُخلَّص».

كوينتين ميلاسو

الفيلسوف الفرنسي كوينتين ميلاسو، الأقل شهرة عن مساهماته الأخرى في مثل هذه الموضوعات، كتب مقالًا افتتحه بالسؤال التالي: «ما الشبح؟» وكان جوابه: «ميتٌ لا نفلحُ في الحزن من أجله، يضطهدنا ويرفض العبور إلى الضفة الأخرى؛ إلى هناك، حيث يرافقنا المتوفّون على بعد مسافة كافية لنعيش حياتنا من دون نسيانهم، ولكن أيضًا من دون أن نموت موتهم؛ من دون أن نكون أسرى لحظاتهم الأخيرة». وبذلك يبدو أنّ إجابة هذا السؤال قد تمّت. لكن ميلاسو يصرّ ويسأل مباشرً مرة ثانية، كما لو أنه نفسه لم يرض عن الإجابة التي قدّمها: «ما الشبح الذي يصبح شبحًا بشكل جوهريّ، شبحًا بامتياز؟» في إجابته الثانية يتّضح المقصود بعبارة «ما لم يُخلَّص»: «الأشباح الجوهرية هي حالات الموت الرهيبة: الموت المبكر، الموت البغيض، موت الأطفال، موت الآباء الذين يعرفون أن أطفالهم محكوم عليهم بالموت نفسه، وثمة حالات أخرى أيضًا. (…) الأشباح الجوهرية هي الموتى الذين يرفضون دومًا العبور إلى ضفتهم، المنسلّون بعناد من أكفانهم ليُعلموا الأحياء أنهم، بالعكس من كل يقين، ما زالوا محتفظين بمكانهم بينهم؛ بأن نهايتهم لا تحمل أيّ معنى ولا تبلغ أيّ اكتمال. كما أنها ليست بالضرورة ظلالًا تصرخ من أجل الانتقام، بل ظلال تصرخ بما يتجاوز كل انتقام».

من الأرواح يمكننا أن نتعلم أن مفاهيم مثل: الحياة والموت، الحضور والغياب، الحاضر والماضي، لا تمثّل دائمًا مقولاتٍ قابلة للفصل تمامًا. إنها تجسيدات غير مادية لما يتملص من تصنيفات واضحة. إن مسألة الأرواح أو الأشباح، وفقًا للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، هي «مسألة الحياة والموت خارج إطار التضاد بين مقولتي الحياة والموت»؛ إنها مسألة «إمكانية الرؤية غير الحسيّة لغير المرئي»، التي تعرضها الأرواح علينا. والانشغال بها يعني مواجهة ذلك الجانب من التاريخ الحقيقي، المُنصرِف عن الخطاب: الموتى الذين لا أسماء لهم، الأصوات التي نُسِيَت، المساحات الفارغة في الأرشيف، وكلّ وجود فردي خلف تلك الأعداد المجهولة للموتى. شخصية الشبح تمكّننا من معالجة الأبعاد الكامنة للماضي، تلك المستعصية على المنطق التمثيلي للتأريخ التقليدي. أن تكون العبودية وراء المحيط الأطلسي كتكوين تاريخي ينتمي إلى الماضي، فذلك لا يعني أن تاريخها قد انتهى. فإرثها ما فتئ مؤثرًا، ولا يتوقّف عن تشويه الحاضر. ما ينطبق على الحياة اللاحقة للاستعمار، ينطبق، بالمثل، على جميع الخيالات وحالات اللاتزامن(4) الشبحيّة، التي تغزو الحاضر الحديث.

مقبرة الوعود المنكوثة

روبرت هاريسون

لكن لماذا تحديدًا الأرواح تعود؟ ما أصل العناد الذي ترفض به الاعتراف بالحدود الأخيرة والعبور إلى الضفة المقدرة لها؟ في وسعِ التاريخ الثقافي أن يوجّهنا نحو إجابةٍ ما. في «معظم ثقافات العالم»، يكتب روبرت هاريسون، «الموتى هم مُطارِدون يُذكّرون الأحياء (…) بذنبهم تجاه أسلافهم ويدعونهم للوفاء بالتزاماتهم. (…) إنهم يزعجون نومنا، يستعمرون مزاجنا، يهمسون في الظلام، ويتسللون إلى خيالنا، ويحثّوننا على مواصلةِ عملِهم لأجل الذين لم يولدوا بعد». من الصحيح أيضًا أن الأرواح تأتي من الماضي؛ لكن رغباتها تحوز معنى ملموسًا للحاضر والمستقبل. وصف بول ريكور التاريخ بأنه «مقبرة وعود منكوثة. وأعتقد أن الأرواح موجودة لتذكيرنا -نحن الأحياء- بتلك الوعود الخائبة والمَخُونة. يقينًا، ينطوي ذلك على احتجاجٍ ضد فعلِ النسيان وشكلٍ من أشكال الحداد. ولكن ليس هذا فقط: فحين تُذكّرنا الأرواح بالوعود التي أُخلِفَت في وقتٍ مضى، إنما، وقبل كلِّ شيء؛ لأنها تريدنا أن نملأها بحياة جديدة. إنها تُطالبنا بإنهاء ما لم ينتهِ، ليبدأ شيء جديد.

ولعلّ أهمّ ما يمكننا تعلّمه من الأرواح، هو: أننا مَدِينون ليس فقط لأولئك الذين أتوا من قبلنا، ولكن أيضًا لأولئك الذين سيحيون من بعدنا. فمثلما يتعايش الأطفال، في كثير من الأحيان، مع أجدادهم بصورةٍ أفضل من آبائهم، هناك أيضًا رابطة خاصة بين الموتى والذين لم يُولدوا بعد. لا أستطيع إخباركم بما حدث في منزل طفولتي. لكن من يدري؟ ربما، في يوم من الأيام، أخبر أحفادي.


المصدر: https://www.philomag.de/artikel/von-geistern-lernen?amp


حوامش:

(1) Nachleben: كلمة ألمانيّة مركّبة، معناها الاصطلاحي هو الحياة بعد الموت، «الحياة الآخرة».

(2) مفردة Geist الألمانيّة مركّبة دلاليًّا، إحدى دلالاتها هي «الروح»، ومن هنا المصطلح الألماني المركّب Geisteswissenschaft بمعنى علم الروح، ويُقصد به مختلف العلوم الإنسانيّة. أمّا مفردة Geister فهي جمع Geist وتعني أرواح؛ بربطها بمفردة علم أي Wissenschaft، نحصل على مصطلح مركّب هو Geisterwissenschaft أي علم الأرواح. (المترجم)

(3) اللفظ العبريّ للهولوكوست. (المترجم)

(4) Ungleichzeitigkeit وبالإنجليزية Non-simultaneity. وقد تكون هذه فرصة مناسبة للاطلاع على مفهوم «اللاتزامن» عند إرنست بلوخ، أو تذكّره (المترجم).