سمات رئيسة تميز أعمال السنغالي بوبكر بوريس ديوب
خصوصية كتاباته، جعلته كما لو كان يخوض معركة بالكلمات والشخوص، فلا يكاد ينفصل لديه الحس السياسي عن نظيره الأدبي. وتتسم أغلب أعماله بالأصالة وتتخذ من اللغة أداة فاعلة لتأكيد الهوية الإفريقية. بوبكر بوريس ديوب السياسي والأديب، والمفكر السنغالي الفائز بجائزة «نيوستاد» الدولية للآداب لعام 2022م. وهي الجائزة التي يصفها كثيرون بـ«نوبل الأميركية»؛ والتي تمنحها جامعة أوكلاهوما مرة كل عامين عن مجمل أعمال الكُتاب الذين يقع عليهم الاختيار. والواقع، لم يكن «ديوب» أديبًا عاديًّا، حيث عمل بالسياسة والصحافة والسينما؛ إذ يعد صوتًا إفريقيًّا متعدد المواهب. والأهم من ذلك، كونه الكاتب الوحيد الذي كتب أعمالًا أدبية باللغة المحلية السنغالية «لغة الولوف»، وهو الأمر الذي شكّل تفرده الأدبي.
المترجمة
في جولة داخل أعمال الكاتب والأديب السنغالي، بوبكر بوريس ديوب، الفائز بجائزة نيوستاد لعام 2022م، نتبين سنوات تكوينه الأولى، ثم استكشاف أبرز خصائص كتاباته الخيالية، إذ توجد وجهات نظر عدة تزيح النقاب عن السمات الأدبية التي تميز أعماله، فيما تهيمن ثلاث سمات رئيسة، يمكن عدّها الأجدر على فهم تطوره الإبداعي كاتبًا وأديبًا متعدد المواهب وحائزًا على الجوائز المرموقة؛ فهو الصحفي، والكاتب المسرحي، وكاتب السيناريو، وكاتب المقالات، وأستاذ الفلسفة والأدب، والناقد والمترجم والمحرر.
تتمثل السمة الأولى المُميزة لكتابات ديوب الخيالية في تساؤله المستمر عن إمكانيات الأدب، إذ يستخدم تقنيات أدبية تجريبية لاستكشاف أبعاد الأدب وحدوده. أعمال ديوب الأدبية مسكونة أيضًا بإشكالية الذاكرة ومخاطرها بالنسبة للبلدان التي وقعت تحت نير الاستعمار سابقًا؛ وهو سؤال يتوافق مع نهجه المتنوع في التعامل مع الوقت والتاريخ. في المقابل، يظل أهم جانب في كتاباته المعاصرة دأبه على التعريف باللغات الإفريقية. ونظرًا للعدد المحدود من قُراء لغة «الولوف» السنغالية المحلية، فقد راهن ديوب على أن غالبية قُرائه سينتمون إلى المستقبل، بل يرى أن جمهوره لم يأتِ بعد. والواقع أن مَن يستغرق في قراءة نثر «ديوب» باللغة الولوفية، يمكنه فهم ذلك، حيث تتشابك فيه الميزات الثلاث السالف ذكرها؛ فهي ترتبط، بدرجات متفاوتة، بفترة مُلِحة من «البحث عن الثراء الأدبي» التي تشكلت خلالها روح ديوب القتالية ونهجه الأدبي المتطور.
عادةً ما تبدأ روايات ديوب بمؤثرات أدبية تعكس تشبعه بالأدب الأوربي، وبخاصة الأدب الفرنسي في حقبة القرن التاسع عشر، التي زخرت بها مكتبة والده. ثم التقى ديوب «كُتابًا» أفارقة في سنوات شبابه، من أمثال: ليوبولد سيدار سنغور، والشيخ أنتا ديوب، وفرانتز فانون، ومونجو بيتي، وعثمان سيمبين، وديفيد ديوب، وغيرهم. وسرعان ما حفز هؤلاء الكُتاب داخله روحًا متمردة ونضالية. وكان ديوب أيضًا قارئًا نهمًا لأدب أميركا اللاتينية. كما تأثر تأثرًا خاصًّا بـ«إرنستو ساباتو» و «غابرييل غارسيا ماركيز»، وآخرين. وبخلاف أميركا اللاتينية، تأثر أيضًا بأعمال «فيودور دوستوفيسكي» و«فرانز كافكا»، والأهم من ذلك، «جان بول سارتر». وقد جاءت هذه السنوات من العصف الأدبي، في النصف الثاني من القرن العشرين، في الحرب الباردة، وستينيات القرن العشرين، إبان الاستعمار، وظهور نظام عالمي ثلاثي الأقطاب، في ظل مهمة شاقة تمثلت في التحول إلى استقلال جديد، إلى ديمقراطية وليدة في عصر نزاعات الاستقطاب.
في تلك الحقبة، اقترب ديوب من فهم ومحاكاة هذه التأثيرات. وطوال حقبة السبعينيات، تعرف إلى أبطال محليين مناهضين للاستعمار مغمورين، مثل: ألين سيتو دياتا، ونداتي يالا مبوج، وسيديا ليون ديوب، الذين غالبًا ما يظهرون في رواياته، جنبًا إلى جنب، مع القادة الثوريين الأفارقة الذين اغتيلوا في الستينيات والسبعينيات، مثل: باتريس لومومبا، وأميلكار كابرال. في ذلك الوقت، أكسبه «الألم الوجودي» أيضًا لقب «بوريس»، تيمنًا بـ«بوريس سيرغوين»، وهو أحد شخصيات رواية «سارتر» المكونة من ثلاثة مجلدات، وتحمل عنوان «الطريق إلى الحرية». لقد آمن بأنه «يمكن خلق العالم بالكلمات»، حيث شكلت المؤلفات الماركسية والمتعلقة بالوحدة الإفريقية والمناهضة للاستعمار روحه القتالية.
يشرح المؤلف الكاميروني «مونجو بيتي»، في مقدمة رواية ديوب الأولى «زمن تامانجو»، أنه بالنسبة للكُتاب الأفارقة، لم يكن الانخراط في الأدب الملتزم اختيارًا، بل ضرورة حتمية في ذلك الوقت؛ إذ تتحدى كتابات ديوب الفكرة المختزَلة التي تقول: إن الأدب الملتزم يقلل من القيمة الجمالية للعمل. يشيد «بيتي» أيضًا بالبنية الأدبية المركبة التي تبناها ديوب وتقنياته السردية وقرار الكاتب الشاب، آنذاك، بالتحول إلى الداخل بدلًا من الخارج للبحث عن إجابات تفسر أسباب الإخفاق في إنهاء الاستعمار. في هذه الرواية، يقدم ديوب، ما أطلق عليه النقاد أسلوب «بوريسي»، حيث ضُبطت هذه التقنيات الأدبية في مؤلفاته اللاحقة، وأصبحت سمات متكررة في كتاباته الروائية.
إمكانيات الأدب
إذا كنت تقرأ رواية لـ«بوبكر بوريس ديوب»، عليك أن تتوقع أن يناديك أحد الرواة المتعددين بين سطوره؛ ليدفعوك إلى التفكير في العلاقة المشحونة بين الخيال والواقع، أو بين التاريخ والذاكرة. رواياته هي ساحات للتجارب الجمالية مع قفزات زمنية، وقصص مجزأة تتخللها اهتمامات ما وراء القص لدى الرواة، وتأملات حول الماضي الذي يحيك المستقبل بأنامل جريحة. غالبًا ما تُفهَم نصوصه متعددة الألحان على أنها تنتمي إلى فترة ما بعد الحداثة، فهي تطرح على القارئ وجهات نظر متعددة ومتقاطعة في كثير من الأحيان. كما تبدو الهياكل السردية، في كتابة ديوب، مركبة وجامحة في البداية، لكنها تلتزم بمنطق محدد. سبق أن أوضح ديوب أن «الوعي البشري لا يتحرك في خط مستقيم»؛ إذ تنعكس هذه المراحل الزمنية المتشابكة على المهام الميتافيزيقية لشخصياته. العنف والأنظمة الاستبدادية، والاغتراب الثقافي، والهوية، وسياسة الذاكرة، وصورة إفريقيا كما تصورها وسائل الإعلام، والعلاقات الاستعمارية الجديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة أو فرنسا الإفريقية، كل ذلك وأكثر يتشابك في كتاباته.
من أجل استكشاف كل هذه القضايا المعقدة، غالبًا ما يمزج ديوب بين الخيال السياسي والخيال البوليسي؛ إذ يمزج ديوب بين الملاحم والأساطير والحكايات والأمثال، إضافة إلى المجازات والاستعارات، وهو ما يخلق شخصيات تصارع الجنون في أثناء محاولتها استعادة الذكريات المفقودة أو المكبوتة. إنه يستخدم الجنون والمحطات الفرعية كأداة لزعزعة الأحداث ومضاعفة الأصوات السردية. كذلك يستخدم ديوب التقليد الشفهي الإفريقي في رواياته كأداة للتحقق.
تزخر أعمال «ديوب» بالمآسي مع تضمين العديد من الرسائل. فدائمًا ما تحوي قصصه مذكرات أو دفاتر ملحوظات أو رسائل مكتوبة لشخصيات، ربما لن يلتقيها القارئ، في بعض الأحيان. يترك ديوب القارئ يكتشف عالم أبطال الرواية من خلال تتبُع أصوات سردية مختلفة يركض خلفها في لعبة ذهنية تحفيزية يحرص عليها دومًا في أغلب أعماله. كما تشير المرجعية الذاتية لأعمال ديوب إلى ميله الطاغي إلى الطبيعة البنيوية المركبة للنص الأدبي. هذا الجمهور الغائب والقُراء المجهولين لهذه الرسائل والمذكرات والقصص يمثلون إشارة قوية على رهان «ديوب» اللغوي على الكتابة بلغة الولوف لجمهور لم يأت بعد.
وغالبًا ما يمتلئ نثر ديوب بالسخرية. كما يرى أن استخدام الذاكرة في سرد القصص، تمامًا مثله مثل الخيال؛ إذ يعد شكلًا من أشكال الحرية الإبداعية الذي يستطيع الكاتب من خلاله استكشاف الأسئلة التي تطارده والإمعان فيها والانتقاء من بينها. وعلى الرغم من ذلك، وبعد تجربة الإحالة التي قدمها في كتابه عن رواندا، أخذ ديوب استراحة من لعبته الجمالية -وهي لعبة يمارس فيها الخيال والواقع دورًا يشبه لعبة الغميضة- حيث انتقد وصفه السابق للإبادة الجماعية، في روايته التي تحولت فِلْمًا بعنوان «الفارس وظله». لقد كان يعتقد أن الكتابة عن الإبادة الجماعية والحفاظ على «الدقة الواقعية» أمران مهمان لشحذ الذكريات الصامتة لأولئك الذين لقوا حتفهم. حيث يقول عقب مرور عقد على رحلته إلى رواندا: «ذهبت إلى رواندا لكتابة رواية، وجدت التاريخ هو الذي يركض خلفي».
رهانات الذاكرة
الذاكرة هي محور عمل ديوب، حتى قبل وقت طويل من مشروعه الأدبي «رواندا: الكتابة تلبيةً لنداء الذاكرة» الذي بدأه عام 1998م، عندما دعاه كل من الفنانة الإيفوارية «ميمونة كوليبالي» والكاتب التشادي «نوكي دجيدانوم» وكُتّاب آخرين إلى زيارة رواندا في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994م. تمخضت رحلة ديوب إلى روندا عن نشر روايته الشهيرة «كتاب العظام» في عام 2000م، حيث علّمت رواندا ديوب أن «التاريخ يعيد نفسه، وفي أغلب الأحيان يكون أسوأ مما كان عليه».
بدايةً تعلم ديوب حتمية الذاكرة من خلال كتاب «معذبو الأرض» لـ«فرانتز فانون» الذي قرأه خلال سنوات تكوينه الأولى في النوادي الثقافية خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان تضمين «فانون» لقصيدة فوديبا كيتا «الفجر الإفريقي» في إحدى فصول روايته حول الآداب الوطنية، بمنزلة الدافع الذي حرك ديوب نحو كتابة مسرحيته الأولى «أرض ثياروي الحمراء» الصادرة عام 1981م، التي ارتكزت على قصيدة «كيتا» الشهيرة. ثم أعقب المسرحية سيناريو غير منشور بعنوان «ثياروي 44» ألفه ديوب بالمشاركة مع المخرج «بن ديوجاي باي»، حول إعادة النظر في قصة مذبحة المُشاة الأفارقة الذين قاتلوا من أجل فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية؛ لقد قُتل الرجال في ديسمبر 1944م على أيدي القوات الفرنسية في المعسكر الحربي الواقع في ثياروي، إحدى ضواحي داكار، جراء الاحتجاج على فجوة الأجور مقارنة بالضباط البيض، مطالبين بالمدفوعات المتأخرة للخدمات المقدمة في عام 1940م. وعلى شاكلة المثال الذي ضربه ديوب في «مسرحيته» وكتابه عن «رواندا»، يتضح كيف دق ديوب ناقوس الخطر بشأن فقدان الذاكرة التاريخي، وتأثيره في الصدع المتزايد باستمرار بين الأفارقة وماضيهم الاستعماري.
لقد فعل «ديوب» الشيء نفسه في روايته الثانية (Kocc Barma’s grave) التى كتبها بلغة الولوف، وتدور حول حطام سفينة جولا، حيث انقلبت العَبّارة التي تربط مدينة «زيغينكور» في كازامانس بـ«دكار» خلال عاصفة في عام 2002م، ولم ينجُ سوى 64 ناجيًا من بين 1900 راكب. كتب ديوب نصوصًا صحفية وروائية حول المأساة باستخدام تكنيك الرواية لإعطاء صوت للموتى، محاولًا تأبين أولئك الذين استقرت أجسادهم في قاع المحيط. لقد تميز الخط الروائي لأعمال ديوب، بجناسه المثير للذكريات، الذي يصف مدى انخراطه في إشكاليات الذاكرة، حرصًا منه على تذكير القارئ بأنه لا يمكن للمرء المضي قدمًا دون تسوية ديون الماضي. أمّا ديوب، الذي نشأ كاتبًا خلال حقبة إنهاء الاستعمار، فتنطوي رهانات الذاكرة حقًّا على أخطار وجراح غائرة.
وفي رائعته الأدبية «كتاب العظام» يتجاوز «ديوب» واجبات الذاكرة، مُقدِّمًا دعوة ضمنية للنظر في العواقب الوخيمة للنسيان، وهي الرسالة التي طالما وُجِدَت بين سطور مؤلفاته. ويُصنَّف «كتاب العظام»، حتى الآن، كأحد أكثر أعمال ديوب قراءةً وترجمةً. وقد قالت الروائية الأميركية «توني موريسون» على هذه الرواية: إنها «معجزة»، وأدرجتها ضمن أفضل مئة كتاب إفريقي في القرن العشرين من قِبل معرض الكتاب الدولي في زيمبابوي. والواقع، مثّل مشروع «رواندا» تحولًا مهمًّا لديوب، إضافة إلى كونه تناول موضوعًا مهمًّا في تاريخ قارته الأم، فإن الاستغراق في فهم مأساة الإبادة الجماعية في رواندا قد حَوَّلَه من الداخل وأثَّرَ في قرارِهِ البَدْءَ في الكتابة بلغة الولوف.
الرهان اللغوي
يكتب معظم المؤلفين المعاصرين من إفريقيا جنوب الصحراء بلغة أوربية، وهي قضية شغلت الأدب الإفريقي منذ نشأته. وعندما أدرك ديوب مدى تورط فرنسا في الإبادة الجماعية في رواندا، وعلاقة الإبادة الجماعية بالجغرافيا السياسية للغة الفرنسية في المستعمرات الإفريقية السابقة لفرنسا؛ تغيرتْ رغبتُه في تأليف روايات بالفرنسية تغيرًا لا رجعة فيه. وعلى الرغم من أنه لم يتوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية، فإنه قَرَّرَ الكتابة باللغة الولوفية، بناءً على توصية من الشيخ أنتا ديوب في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. والواقع، تتخطى اللغة الولوفية الحدود العرقية في منطقة سينيغامبيا. كما تقاسمتها كل من السنغال وغامبيا، على الرغم من أن لغتيهما الرسميتين؛ الفرنسية والإنجليزية، على التوالي. كما يتحدث أكثر من 80% من السنغاليين الولوف لغةً أولى أو ثانية، بينما يتحدث 32% من سكان الحضر في السنغال الفرنسية بطلاقة.
وفي المقابل، تُعَدُّ الفرنسية هي اللغة الرسمية للحكومة والإدارة، وهي اللغة الرسمية في التعليم والصحافة المطبوعة. وهكذا، فإن لغة الولوف، التي تهيمن على عدد المتحدثين الأكبر، تجري قراءتها وكتابتها (بشكلها الموحد بالحروف اللاتينية) من جانب أقلية صغيرة فقط؛ لذلك اتخذ منهج ديوب في الكتابة بلغة الولوف شكل مشروع متعدد الأوجه تضمن تعليم لغة الولوف وكتابتها وترجمتها ونشرها في المطبوعات وعبر الإنترنت. كما خلقت أعمال ديوب بلغة الولوف محادثات مهمة حول تقاطعات الآداب الإفريقية والعالمية.
واعتمادًا على تجربة ديوب في ترجمة كتاباته الخاصة إلى الفرنسية، لحظ ديوب عدم قابلية الترجمة لما يمكن تسميته «خيال الولوف» الثقافي إلى اللغة الفرنسية. ومن هنا جاءت مقاربته التفسيرية والحرة للترجمة الذاتية. ففي النسخة الفرنسية من روايته «دومي جولو»، يستبدل ديوب بالجمل القصيرة التي كتبها بلغة الولوف فقرات مطولة، محاولًا أن يفكك خلالها الشحنة العاطفية أو الثقافية للتعبير الذي لولا ذلك لن يكون له معنى ذو دلالة لدى القارئ الفرنسي. إن استعادة ديوب للشحنة الثقافية والعاطفية لتعبير مكون من ثلاث كلمات في لغة الولوف وشرحه في صفحتين بالفرنسية هو أحد الأمثلة المتعددة التي من خلالها يعزز فعل الترجمة الذاتية لروايته «دومي جولو» من أهمية رهانه اللغوي.
هناك أيضًا تعبيرات في لغة الولوف لها حيثية معينة. ولكن عند ترجمتها إلى الفرنسية أو الإنجليزية، تفقد العبارة خصوصيتها الجندرية. مثل هذا الاختلاف الدقيق بين نسخة الولوف وترجماتها لا يشير فقط إلى ما يجري فقده في أثناء الترجمة، ولكن الأهم من ذلك الإشارة إلى أهمية التعامل مع الآداب في اللغات غير السائدة بوصفه أحد أشكال الأرشفة لطرائق أخرى حول معرفة العالم وفهم لغاته ولهجاته وثقافاته المختلفة. ومن ثَمّ هي بدائل ضرورية للنماذج اللغوية السائدة. وبحسب ديوب، هذه التعبيرات التي تبدو غير واضحة ضمنيًّا، تعود إلى الطريقة التي تخيل بها الناس العالم وشرحوه لأنفسهم. وبعيدًا من الاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية، فإن عملية الكتابة والترجمة الذاتية لرواية «دومي جولو» إلى الفرنسية مكّنَت ديوب من «قياس المدى المثير للقلق حول الخسارة اللغوية والثقافية» نظرًا لعدم الكتابة باللغة الأم.
والواقع أن أعمال ديوب تنطوي على جوانب فضفاضة. ولا يمكن اختزال النصوص الخيالية الغنية والمركبة التي أنتجها حتى الآن في العناصر الثلاثة التي جرى الكشف عنها بإيجاز في هذه المقالة. وإنما تمثل هذه العناصر الثلاثة: إمكانيات الأدب، ورهانات الذاكرة، والرهان اللغوي، لبنة ضرورية لفهم أعماله وتطوره ككاتب. كما أنها مترابطة بشكل منطقي؛ إذ يرتبط عمل ديوب في اللغة ارتباطًا جوهريًّا بمخاطر الذاكرة. إن أخطار الذاكرة جميعها مرتبطة بالخسارة الأطول أمدًا والأكثر ضررًا للمتخيلات الثقافية واللغات التي تحملها.
رابط الموضوع:
https://www.worldliteraturetoday.org/2023/january/work-boubacar-boris-diop-three-salient-features-fatoumata-seck