الإنسان الأخلاقي، في حاجة إلى اعتراف يصون الهوية
مفهوم الوجه وعلاقته بالهوية
لا يقتصر النظر إلى الوجه على مظهره الفيزيقي الذي ترشح عنه الإيماءات والنظرات والتقاسيم، بل ينصرف إلى بُعده الماورائي المجرد الذي يعكس حلول اللامتناهي في المتناهي. وبذلك يكون التعريف الفينومينولوجي لهوية الوجه قاصرًا ومغرقًا في السلبية؛ لأنه يكتفي فقط بالصورة المعيونة للوجه التي لا تتكشف عنها أسراره الداخلية؛ فيما هو صورة ناطقة عن الأنا في كليتها ومعانيها العميقة التي تجعل وجودي في خدمة وجود الآخر، كما تجعل هوية الآخر في خدمة هويتي.
وهنا تحضر أخلاقيات الوجه التي عبرنا عنها بالتواجه، الذي يخرج التواصل من دائرته الأنانية الضيقة إلى فضاء أرحب يرشح بمعاني الغيرية ويحقق شروط الإنسية المبنية على المخالقة والتعاطف؛ لهذا يغدو مفهوم الهوية الثابتة والذات المنعزلة عن غيرية الآخر مفاهيم خارجة عن إطار الهوية الكونية التي تجعل ملامح الآخر لا تتحدد إلا في علاقتها المحايثة للآخر باعتباره ذاتًا لا موضوعًا، روحًا لا جسدًا. وبذلك تصبح العلاقة بين الأنا والأنت علاقة إيتيقية متكافئة؛ بل تصبح الغيرية شرطًا لإثبات الإنية انطلاقًا من الوجه الذي يتجاوز نظرتنا الحسية إليه بوصفه مجرد ملامح فيزيقية(1)، إلى اعتباره يتحدد خارج نطاق علاقة الذات بالموضوع.
من ربقة الاعتراف إلى أنس التعارف
لتحقيق هذا العبور المفهومي، كان لا بد من صوغ نموذج تواجهي جديد يتجاوز عقلانية هابرماس التي تنتصر ضمنيًّا للقادر على انتزاع الاعتراف بعد مواجهة غير متكافئة أخلاقيا، لتعيد توليد الفردانية والإنية، وهو نموذج يتخطى أيضًا القصور الذي يعتري أخلاقيات ليفيناس الموغلة في الاعتراف المجحف على حساب التعارف المتأسس على المخالقة.
إن المبادئ الأخلاقية التي اقترحها هابرماس تجعل من عملية التفاوض ذات بعد تداولي يعترف بجميع الأطراف الفاعلة في سيرورة الحوار، كما يقر كل واحد، في دورة النقاش هذه، بالمحصلات والنتائج التي تلزم جميع الأفراد بمآلاتها التي تقبلها الجماعة وتقر بمعاييرها إقرار تسليم؛ لأنها محل إجماع وتوافق. لكننا، ههنا، لا نعدم النقد الذي وجه إلى هابرماس في مفهومه للفضاء العمومي ذي الخلفية البرجوازية الليبرالية، مكرسًا في ذلك نزعته الإقصائية للفضاء العمومي المضاد والممانع، بلغة أوسكار نغت(2)؛ وهو فضاء يمثل لا شك الأصوات المبحوحة التي تنادي بالتخلص من ربقة القيود التي تفرضها عقلانية هابرماس.
إن الانتقال إلى النموذج المرغوب الذي يتقوم بأخلاقيات التواجه لا المواجهة وبأدبيات التعارف لا الاعتراف، يجد مسوغاته في انبناء الأول على الصراع الحتمي والمفضي إلى محو الآخر، ووسمه بالعجز عن الاندماج في بوتقة الكونية، وفي تعلق الثاني بشرط المخالقة الذي هو المعادل الموضوعي للفطرة الإنسانية السوية؛ إنه اختلاف في التكوين الأخلاقي لكليهما، بين مفهوم يتولد عنه التنافر والتباعد وآخر يتخلق من نسغه الائتلاف والتشارك. بهذا الفهم الأقوم يمكننا الخروج من مأزق الهوية وانشطار الذوات للتحليق في فضاء العيش المشترك والقطع مع ذئبية الإنسان الساعي إلى السيطرة والإخضاع اعترافًا لا تعارفًا، وإقصاء لا إشراكًا، وانفصالًا لا استقلالًا.
إنه مأزق سالب للهوية الإنية مهما غلف بمفاهيم الديمقراطية والحرية والمساواة التي تظل سابحة في إدراك محدود؛ لأن نقد العقل الأداتي المرتكز على التصور التقني في العصر الحديث لم يقو على إخراج الإنسان من نزعته الليبرالية المتوحشة على الرغم من الاستعاضة عنه بالعقل التواصلي الذي يضبط الممارسة التواصلية وينزع عنها صفة الأداتية، ويبيئها داخل المجال العام أو داخل نسق اجتماعي موسوم بالحركية والتوثب والصراع البيني المنتج. وسرعان ما انكشف زيف العقل التواصلي بعد تجريده من نزاهته الأخلاقية وسقوطه في مغبة السياسة القائمة على ازدواجية المعايير وتجزيء مفهوم الكرامة الإنسانية التي تنتصر لعرق على حساب عرق آخر(3)، وتبين ولاءه المفضوح للمركزية الغربية في «حوارها» مع الآخر أو «اعترافها» به اعتراف القوي بالضعيف بعد أن يجرده من وجوده وهويته ويذيبه في نسقه الأخلاقي المتهافت، فتفقد الحياة معناها، ولا سبيل إلى استعادة المعنى الهارب إلا بامتلاك القيم، وفق تعبير فرانكل، للتخفيف من متاعب بحث الإنسان عن المعنى(4).
إن النزعة الفوقية للفلسفة الأخلاقية الغربية، ممثلة بهابرماس، تجعل من الصعب تجاوز النظرة الصدامية التي تغلف باعتراف يؤدي في النهاية إلى توسيع مآزق الهويات المحلية الخاضعة لجبروت الهوية الكونية؛ مما ينجر عنه انفراط العلاقة بين الإنية والغيرية وسقوطها في المحو والاستلاب. ولذلك فهو تواصل ميال للتعقيل والتعقيد، وفق تعبير شارل تايلور الذي يدعو إلى العيش في إطار من الأخلاقيات المتباينة وإنْ وحدها دليل أخلاقي معيار، وفق تراتبية في الخير لتحقيق الهوية الأخلاقية الأصيلة والمتمايزة عن الهويات الأخرى(5)؛ فأن تعترف بالآخر يعني ضمنيًّا تغذية الأنا في طموحها نحو السلب وفي رغبتها في صهر الآخر ضمن النسق المتعالي للأنا بمبادئه وقيمه الأخلاقية.
الهويات والوجود المستقل
كان لا بد من إعادة صياغة فلسفة الاعتراف بعد أن افتقدت لمقومات النجاعة التواصلية، وتعويضها بفلسفة التعارف التي تبقي على الشرط الأخلاقي، وتجعل التواجه مبنيًّا على التذاوت والحفاظ على مسافة التفاوض بما يكفل للهويات وجودها المستقل عن الهوية الكونية السالبة، وبما يضمن تحقيق الاجتماع الإنساني المبني على الأخوة الإنسانية التي مؤداها المحبة، والعدل، والتسامح، والتكافل، والتساوي في الحقوق والواجبات، والعبور من القوة التهديدية إلى القوة التكاملية المبنية على قاعدة الوحدة الإنسانية في ظل التنوع والتعدد الذي هو مدعاة للاختلاف، ومن ثم التعارف بين من هو مختلف؛ لأنه لا تعارف في نطاق التماثل والتطابق (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات 13]، تعارفًا حضاريًّا يتقوم بالسلم والتكريم والتشارك والتدافع والتثاقف للوصول إلى حياة بشرية ذات معنى يتوسع فيها مفهوم الأخلاق ليتحول إلى أنطولوجيا أخلاقية وفق تعبير شارل تايلور، وينزع عنه التقعيد الذي يكبل الأخلاق بدليل محنط، ويجعلها خاضعة لسلطة العقل الخالص في حل عن أي إحساس(6). فالكرامة العقلانية سرعان ما تعبر عن تهافتها عندما تخاصم الهويات الأخرى وتتجنى على التعدد الثقافي رغم ما تحاول تثبيته من أخلاق معيارية.
لهذا اقترح ريكور فكرة المحبة تجسيدًا لمفهوم التعارف الذي يعادل مفهوم السلم وينأى عن فكرة الصراع من أجل البقاء(7)، وقد سايره في ذلك أكسل هونيت الذي ربط الاعتراف بثلاثة أنماط: «هكذا تحفز تجربة الحب الثقة في الذات، وتجربة الاعتراف القانوني احترام الذات، وتجربة التضامن تقدير الذات»(8). ومنه ننتقل من حالة الاستفراغ الثقافي للذات إلى حالة الامتلاء عبر التشارك الديمقراطي في تدبير الفضاء العام وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ولا يمكن خلق تواجه ثقافي متناغم إلا بإعمال شرط المخالقة في تماهٍ مع الخاصية الأخلاقية، بتعبير طه عبدالرحمن(9)، التي تزداد بها إنسانية الإنسان على المستوى التعاملي، إلى جانب الخاصية العقلانية ذات الارتباط بما هو تواصلي. وهذا التهذيب الذي ينطوي على التأدب هو مدعاة الحفاظ على الخيط الناظم للتواصل، الذي يسمح بتبادل الانتفاع، ورفض التمركز حول الذات حتى نبقي على الهدف والعلاقة معًا (رابح/ رابح). أما التخلق، «فمقتضاه أن يأتي المتكلم بفعل القول على الوجه الذي يبرز به دلالته البعيدة، فضلًا عن اعتبار دلالته القريبة ويقوي أسباب الانتفاع الآجل به، فضلًا عن اعتبار الانتفاع العاجل به»(10).
وهذا الضرب من التهذيب يجعل عملية التواصل قائمة على التفاعل الذي مؤداه جلب الخير ودرء الشر؛ وهو منتهى الإنسانية التي تزيد من اعتبار الآخر على اعتبار الذات، وهو، أيضًا، جوهر العلاقة التخاطبية/ الفاعلة، المبنية على الذات المتعاملة التي تتناسل منها الذات المتأدبة والذات المتخلقة المتوسلة بالفطرة والإحسان، بعيدًا من التقنينات المعيارية وانحشارًا في وعي أخلاقي يسم الحياة بالمعنى الحقيقي الذي يتأسس على القيم بوصفها أخلاقًا هادية تصنع الإنسان الائتماني وتجدد روحه التي طالها الصدأ وتبوئه رتبته الإحسانية بما هي مرتبة لا يبلغها إلا من حصل فعل التزكية وتشرب القيم بوصفها معانيَ نؤتمن عليها كما نؤتمن على الودائع السرية(11)؛ إنها ارتداد إلى الفطرة الإنسانية السوية وأوبة إلى التربية الروحية والوجدانية.
يقول طه عبد الرحمن: «ولا يخفى على ذي لب أن القيم هي المعاني الروحية التي أعطيت للإنسان لكي يتمكن من العروج بروحه إلى عالم الملكوت»(12)؛ إذ لا يمكن العبور إلى عالم المطلق إلا بركوب مطية القيم التي هي السبيل إلى معانقة عالم الملكوت بوصفه تجلّيًا روحيًّا يتسامى عن عالم الأغيار. ولما كان ذلك كذلك، تحقق مفهوم المخالقة الذي يؤثر في ماهية الإنسان ويجعلها تضيق وتتسع وفقًا لفعل التخلق والتزكية.
إن الإنسان الأخلاقي المكرم بالقيم هو المعول عليه في انتشال البشرية من نزعتها الذئبية للوصول إلى مرتبة الإحسان وتحقيق المخالقة التي لا تتعارض مع الفطرة السوية، وهو المسؤول عن الانتقال من معيارية الاعتراف وتقنيناتها العقلانية إلى أخلاقيات التعارف الائتماني بسموها الروحي الذي تقوده المحبة والتعاطف.