الترجمة.. خيانة أم اجتهاد؟

الترجمة.. خيانة أم اجتهاد؟

قد يظن بعض من هم خارج ميدان الترجمة أن ترجمة النص تقتصر على استخدام القاموس والبحث المنهجي عن كلمات هذا النص. في الواقع، الترجمة تتجاوز ذلك. إن الترجمة تتطلب معرفة شاملة باللغة الهدف، وفهمًا عميقًا لسياقها الثقافي، كما ينبغي ملاحظة أن طريقة التفكير في كل منطقة في العالم تتأثر بالظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية، ولذلك يجب فهم الحقائق الثقافية المختلفة قبل البدء في الترجمة. المترجم الماهر لا يحتاج فقط إلى معرفة متقدمة وعميقة بلغات عمله، بل يحتاج أيضًا إلى أن يكون على دراية بمستويات أعمق أهمية لبنية النص.

أن تضع نفسك مكان الآخرين

ليس هناك طريقة محددة يمكن من خلالها ترجمة نص ما بدقة تبلغ مئة بالمئة من لغة إلى أخرى. ويرى العديد من العلماء أن الترجمة في حد ذاتها هي المدينة الفاضلة، وأن ترجمة النص بأمانة مطلقة أمر بعيد المنال. لقد عرّف خوسيه أورتيغا غاسيت الترجمة بأنها عمل غير ممكن، وقال إن أطرًا عقلية وثقافات مختلفة جدًّا تتعايش في العالم، بمعنى: أن الناس يختلفون في طريقة تعبيرهم عن الحدث أو الشعور نفسه تبعًا لاختلاف العقلية والثقافة السائدة في البيئة. بالنسبة له، لم يكن البشر مستعدين لوضع أنفسهم «مكان الآخرين»، أي أن ما يهمهم هو صياغة المشاعر لمن يشترك معهم في الثقافة وليس لأولئك البعيدين المختلفين. ومن خلال عدم فهم الحقائق الثقافية للآخرين تصبح اللغات الأجنبية أيضًا غير قابلة للوصول.

ومع ذلك، لا يمكننا أن نكون متطرفين إلى هذا الحد. إن الترجمة الدقيقة التي تتكيف مع احتياجات النص ومحاوريه تتطلب مستوى عاليًا من المعرفة، ليس على المستوى اللغوي فقط، بل على المستوى الإنساني والثقافي والسياقي أيضًا. ذكرت ماريانا فرينك ويستهايم أنه على الرغم من عدم وجود ترجمات مثالية، فإن هناك ترجمات جيدة جدًّا، ومن أجل تحقيقها يجب على المترجم تطوير مستوى عالٍ من الفهم المشترك للثقافة والالتزام والأمانة الكاملين بالنص للوصول إلى هذا الهدف. إن الترجمة الجيدة تتطلب مهارات وإتقانًا كبيرًا للثقافة والمفاهيم، بالإضافة إلى سليقة معينة.

ممارسة الترجمة هي مصدر للشبهة، حيث تتضمن الترجمة تفسيرات، وبالتالي يمكن أن تولد ردود أفعال أخلاقية أو أدبية أو فنية أو تدقيقية. ومع ذلك، على الرغم من أن الشفافية والدقة ربما يكونان هدفين بعيدي المنال بالنسبة للمترجم، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أنه بفضل الترجمة، أنشئت اتصالات على مستوى عالمي، وكسرت الحواجز الثقافية، وهو الأمر الذي يجعل من الفهم المشترك بين مختلف الثقافات متاحًا.

يعد إتقان المعاني الدلالية والضمنية أمرًا ضروريًّا لفهم الرسالة الأصلية بالكامل. هذه هي الإمكانية الوحيدة لتحقيق خطاب مشابه، أو على الأقل قابل للمقارنة قدر الإمكان. يعرف المترجم المحترف أنه يجب عليه إعادة إنتاج كل هذه المعاني (سواء الدلالية أو الضمنية) دون الاستفادة من اللغة المصدر. إن وظيفته على وجه التحديد هي إعادة إنتاج المعاني في اللغة الهدف. هذه هي المهمة الأهم التي يمكن أن تصنع الفرق بين الترجمة والخيانة.

أصل الخيانة

«traduttore, traditore» هو تعبير إيطالي يشير إلى عدم الدقة في عملية الترجمة، ويمكن ترجمة هذا المفهوم إلى الإنجليزية بما يعني «مترجم، خائن» «translator, traitor».

تشير الدراسات إلى أنه لا أحد يعرف حقًّا من صاغ تلك العبارة نفسها، وأن هذا القول المأثور المثير للاهتمام أتى من إيطاليا في القرن الرابع عشر. وعندما ألف دانتي أليغييري عمله «الكوميديا الإلهية»، اكتسب لاحقًا شهرة بكونه أحد أعظم الأعمال الأدبية المكتوبة على الإطلاق. ومن المؤكد أنه يعد أول عمل عظيم مكتوب باللغة الإيطالية (على عكس اللاتينية، التقليد في ذلك الوقت). وعندما بدأت الترجمات الفرنسية بالانتشار، لم يكن الإيطاليون سعداء؛ إذ شعروا أن المترجمين الفرنسيين لم يستطيعوا التقاط الروح الأصلية للقصيدة. من الواضح أن العمل المترجم لم يتمكن من التقاط مشاعر وصور النسخة الإيطالية. ليس هذا فحسب، بل كانت دقة بعض الترجمات واختيار الكلمات أقل من المتوقع. ونتيجة للمنافسة الثقافية التي احتدمت في هذه الحقبة بين فرنسا وإيطاليا، وجّه الإيطاليون غضبهم من هذا الاستخفاف الملحوظ إلى المترجمين الذين أفسدوا تحفة أدبهم المحبوبة، وهكذا، وُلدت عبارة «المترجم خائن».

خوسيه أورتيغا إي جاسيت

الترجمة الحرفية لهذه العبارة ليست مفيدة في نقل ما يعنيه القول المأثور في الواقع؛ وذلك لأن هذا القول عبارة عن تلاعب بالكلمات التي تفقد معناها عند ترجمتها بدقة إلى لغة أخرى. ومن الملائم أن فقدان المعنى في الترجمة يوضح تمامًا تعريف العبارة نفسها. ويشير هذا المصطلح الإيطالي إلى المفهوم القائل: إن «الترجمة هي دائمًا خيانة للمعنى الحقيقي للأصل». في الواقع، لا يمكن لأي ترجمة أن تنقل العمق الكامل للمعنى والعاطفة والسياق مثلما هو في العمل الأصلي. وعندما لا يكون لكلمة أو عبارة في لغة ما ترجمة مباشرة، أو لا يكون لها أي معنى في اللغة الهدف، يحدث ما يسمى بالفجوة المعجمية، حيث يضطر المترجم إلى الاجتهاد لتعبئة الفراغ، وربما لا ينجح، فيبدو الضعف بين الأصل ونص الترجمة.

إن جزءًا من سبب افتقار الأعمال المترجمة إلى سياق النص الأصلي ومعناه يأتي من حقيقة أنه يتعين على المترجمين في كثير من الأحيان ملء هذه الفجوات المعجمية بأنفسهم. قد يعني هذا استخدام كلمة أو عبارة مشابهة تعني تقريبًا الشيء نفسه، ولكن بها اختلافات طفيفة، أو قد يعني ذلك إجراء تعديلات على اختيارات الكلمات لتغيير معنى النص نفسه قليلًا حتى تناسب الترجمة، وفي كلتا الحالتين، فإن من يقرأ النص الأصلي بجوار النص المترجم سيلحظ بالتأكيد الفرق في المعنى.

خيانة الترجمة هي مصطلح يُستخدم لوصف حالة عدم القدرة على نقل المعاني الأصلية للنص من لغة إلى أخرى بدقة وصحة جيدة. عندما يقال: إن الترجمة «خانت» المعنى الأصلي، فإنه يشير إلى أن هناك فقدانًا أو تغييرًا في المفاهيم، أو الإحساس، أو الأسلوب الأصلي للنص.

في معنى الخيانة وطرق تفاديها

في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية أو العكس، هناك كثير من التحديات التي يمكن أن تؤدي إلى خيانة الترجمة، مثل الاختلافات الثقافية واللغوية بين اللغتين. على سبيل المثال، العديد من العبارات والمصطلحات في الإنجليزية لها معانٍ عميقة وثقافية محددة قد لا تكون موجودة بالشكل نفسه في اللغة العربية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الدقة أو الإحساس بالنص الأصلي.

أحيانًا، يحاول المترجمون تعويض الاختلافات الثقافية واللغوية بتعديل النص أو إضافة معلومات لتوضيح المعنى، وهذا قد يؤدي إلى تغيير المفهوم الأصلي للنص. كما أن الاختلافات في بنية الجمل والأساليب اللغوية بين اللغتين يمكن أن تؤدي أيضًا إلى صعوبات في نقل الأفكار بدقة.

لتفادي خيانة الترجمة، يحتاج المترجم إلى فهم عميق لكلتا اللغتين والثقافتين، والقدرة على التعبير عن المعاني بشكل دقيق ومفهوم. كما أن استخدام السياق والمعرفة الثقافية الواسعة يمكن أن يساعد في تقليل فرص الخطأ في الترجمة.

إذا كان هناك تفسير أو إيضاح للنص الأصلي يعتبر ضروريًّا، فقد يكون من الأفضل إضافة ملحوظات توضيحية في الترجمة بدلًا من تعديل النص تعديلًا كبيرًا، حيث يمكن لتلك الملحوظات أن تساعد القارئ على فهم السياق فهمًا أفضل دون تشويه المعنى الأصلي للنص.

إن خيانة الترجمة ليست دائمًا مقصودة، ولكنها قد تحدث نتيجة لتعقيدات وتحديات اللغات والثقافات المختلفة. إن استخدام أفضل الممارسات والمهارات اللغوية والثقافية يمكن أن يساعد في تقديم ترجمة دقيقة وصحيحة بأقصى قدر ممكن، لهذا يتوجب على المترجم أن يكون أمينًا في نقله للنص دون أن يضعف أثره أو ينقص من روعته. ولذلك يقول محمد فريد أبو حديد في مقدمة ترجمته لمسرحية مكبث لويليام شكسبير: «إني أرى أن ترجمات الآثار الأدبية الكبرى إلى اللغة العربية ينبغي أن تضيف إلى التراث الأدبي العربي مشاركة أدبية جديدة جديرة بأن تبقى لذاتها، وأن تقرأ لذاتها كإنتاج أدبي عربي، فإذا لم تحقق الترجمة هذه الإضافة فهي لا تتعدى أن تكون فقط تعريفًا بالأثر الأدبي الأجنبي، أو تسجيلًا له، وهنا نجد الفرق عظيمًا بين أن تكون الترجمة قطعة من الأدب العربي وبين كونها تعريفًا بالأثر الأدبي مع بقائه بالوقت نفسه أجنبيًّا».

خيانة الترجمة مشكلة تواجه العديد من القراء والمتحدثين بلغات مختلفة حول العالم؛ فالترجمة المناسبة والدقيقة أساسية لفهم الثقافات المختلفة وتبادل المعرفة بين الشعوب. ومع ذلك، فإن خطأ الترجمة يؤدي إلى خسارة كبيرة في التواصل وفهم المحتوى. تفسير «الخيانة في الترجمة» يشير إلى حالات عديدة تحدث في أثناء نقل النصوص من لغة إلى أخرى، حيث يحدث تحريف أو تغيير في المعنى الأصلي للنص تغييرًا مقصودًا أو غير مقصود. هذا التحريف قد يكون ناتجًا عن صعوبة فهم السياق الثقافي أو اللغوي للكلمات أو العبارات المستخدمة في النص الأصلي.

أحد أبرز أشكال خيانة الترجمة هو تغير المعنى الأصلي للكلمات أو العبارات. قد يؤدي ذلك إلى سوء فهم رسائل مهمّة، سواء في المجالات الأدبية أو السياسية أو حتى التجارية. على سبيل المثال، قد يستخدم مصطلح «إرهاب» في إحدى الثقافات بشكل ساخر، في حين يستخدم في ثقافات أخرى لإظهار جديّته وخطورته. إذا تغير معنى هذا المصطـلح في الترجمة، فإنه يُفقِد النص الأصلي معناه، ويؤثر في فهم المتلقي. إضافة إلى ذلك، قد يتسبب خطأ الترجمة في تشويش النص، أو إضافة معلومات غير صحيحة؛ وهذا يؤدي إلى انتقال أفكار خاطئة وغير دقيقة للقراء، وهو ما يؤثر سلبًا في صورة المؤلف أو المتحدث الأصلي. إضافة إلى ذلك، قد تظهر بعض الأخطاء في استخدام قواعد النحو والصرف في الترجمات، وهذا يسبب لغطًا لدى المتلقي ويجبره على إعادة قراءة الجمل بشكل مستمر لفهم المعاني.

مهمة ليست سهلة

معظم المترجمين على دراية بتجاربهم الشخصية والصعوبات التي يواجهونها فيما يتعلق بمعايير الجودة والرداءة. هناك بالفعل نصوص مترجمة غير مفهومة للمتحدث الأصلي، وترجمات محرفة للنص الأصلي، وأخطاء فادحة سواء في النقل أو في ترجمات النصوص أو الخطابات اليومية. في هذا السياق، المترجمون هم من يظهر في صورة الأشرار، كما يصبحون أهدافًا سهلة عند توجيه أصابع الاتهام. في نهاية المطاف، تتمحور الترجمة في الحقيقة حول مجرد أخذ كلمات من لغة وإيجاد ما يعادلها في اللغة الهدف. إذن ما مدى حقيقة صعوبة الأمر؟

بالنسبة للمبتدئين، الترجمة ليست مهمة سهلة، وتتضمن أكثر بكثير من مجرد نقل الكلمات إلى لغة أخرى. فهي تتطلب البحث، والفهم الشامل لكل من اللغة الأصلية واللغة المستهدفة، والمعرفة الثقافية، والتدريب المحدد حول الموضوع الذي تترجمه. حتى ذلك الحين، لا تزال هناك مشكلات متأصلة في اللغة نفسها، التي تخضع للعديد من التفسيرات والأخطاء الصارخة. هناك فقط بعض العبارات المرتبطة بالسياق الثقافي لدرجة يستحيل معها تقديم ترجمة معادلة للنص الذي يحمل المعنى نفسه أيضًا.

إذن ما وظيفة المترجم بالضبط عندما يواجه هذه التعبيرات الصعبة؟ هل من الأفضل ترجمتها حرفيًّا حتى لا «تخون» النص، مع المخاطرة بترجمة ذات جودة أقل؟ أم إنه من الأفضل العثور على البديل الأقرب الذي يكون منطقيًّا في اللغة الهدف، على الرغم من أن النسخة المترجمة قد تكون أخطاؤها طفيفة؟ قد يقول معظم المترجمين: إن مهمتهم هي إيصال الفكرة نفسها بشكل فعال بحيث تكون منطقية للجمهور المستهدف أو لقارئ لغة النص المترجم، ولكن هل يعني ذلك أننا محكوم علينا بالنقد المستمر؟ وبغض النظر عن الاتهامات والانتقادات، تبقى الترجمة مهمة تتطلب التفاني والاستماع والفهم، كما تبقى مهمتها الأسمى هي فرصة تغيير العالم من خلال خلق الاتصالات وتوسيع الآفاق، وعلى حد تعبير غوته: «قل ما يمكنك قوله عن عدم كفاية الترجمة، ومع ذلك فإن العمل سيكون وسيظل دائمًا أحد أثقل وأثمن المهام في الاهتمامات العامة للعالم».

على المستوى الشخصي، وفي أثناء العمل على كتابي «Furtive Glimpses: Flash Fiction from the Arab World» واجهتني نصوص قصصية عدة تطلبت التدخل بخيانة طفيفة لملاءمتها مع سياقها حتى يفهمها القارئ الأجنبي. بالطبع اضطرتني هذه المواقف لأخذ الإذن من الكاتب الأصلي حتى لا يفاجأ بهذه التغييرات التي أدخلت على ترجمة نصه. كما أن هناك بعض النصوص التي يكون للمترجم حق التصرف فيها بالترجمة لتتماشى مع سياق الترجمة. بعض النصوص اضطرتني إلى إعادة ترميمها في أثناء عملية الترجمة.

بشكل عام، فإن خيانة الترجمة تعد جزءًا من التحديات التي نواجهها في عالمنا المتصف بالتنوع؛ لذا يجب على المترجمين أن يكونوا حذرين ودقيقين في عملهم، وأن يسعوا جاهدين للحفاظ على دقة المعاني الأصلية والتواصل الفعال بين الثقافات.