«سبع ليالٍ وثمانية أيام» لسعيد بنسعيد العلوي… استفزاز الفكر بأسئلة وجودية
نبه ميشيل فوكو إلى أهمية عدم إغفال أي إشارة في الخطاب، فالإشارات شفرات لا بد من فك ألغازها، للوصول إلى النص. غلاف الرواية لوحة لهنري إدمونكروس، تمتد على قماشها أرض بلون أخضر غامق يشوبه الرمادي، في أعلى الغلاف سماء تناثرت عليها النجوم واخترقها نور، لعله نور الفجر القادم بعد السحر، لون الأرض ملتبس، ولون السماء إشراقات لعلها الأمل. العنوان: «سبع ليالٍ وثمانية أيام»، عتبة مفتوحة على احتمالات كثيرة، وفي ثنايا الذاكرة ما ورد في القرآن عن عقاب قوم عاد؛ ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾.
الطبيعة هنا تسخر لمهمة العقاب وتأتي في شكل طوفان، أو ريح صرصر، زلازل أو طير أبابيل، والعلاقة معلقة بمتن الرواية حتى نتبين صواب أو خطأ التأويل. وتبرز العلاقة بالزمن التي طالما طالعتنا في عناوين كتابات روائية وسير ذاتية كثيرة منذ «ألف ليلة وليلة».
عتبة أخرى لا بد من الوقوف عندها، النص المقتطف من كتاب ابن بطوطة «تحفة النظار في غرائب الأمصار، وعجائب الأسفار» تنفي الفقرة علاقة العنوان بالآية من سورة الحاقة، فالنص يصف معاناة ابن بطوطة (الفردية)؛ فقد أوى في محنته إلى قرية للكفار عامرة، حرمه أهلها الماء والطعام، وجردوه من كل ما يملك وأصبحت الطبيعة أرأف يستجديها قطرة ماء ليحيا.
كتب غولدمان: إن رؤية العالم ليست واقعة فردية؛ لأن الفرد المبدع لا يخلق بنية فكرية متناغمة من تلقاء نفسه، ولكن يبلورها بشكل واضح ويرتقي بها درجة عالية من الانسجام، حتى ترقى إلى مستوى الإبداع الخيالي.
قد ينطبق ذلك على ما اتجهت إليه الرواية العربية خلال العقد الثاني واستمرارًا في العقد الثالث من هذا القرن إلى ما وصف بالتخييل التاريخي، تستحضر فيه سيرة أشخاص أو تسرد أحداثًا مفصلية في التاريخ، ولعل الاضطرابات التي يشهدها العصر قد جعلت المثقف يبحث في التاريخ عن جذور الأزمات والنكبات، أو يتساءل عن ضياع ذلك التراث الحضاري بأسمائه الكبيرة التي كان لها دور في قيام النهضة الأوربية، وخلافًا للروايات التاريخية الكلاسيكية التي وقفت عند المراحل المضيئة في ذلك التاريخ وأسطرة شخصيات بعينها، نجد أن التخييل التاريخي في الرواية الحديثة، وقد استفاد من بحوث الأنثروبولوجيا وكشوفات الأركيولوجيا، عمد إلى البحث عميقًا في التأثيرات النفسية وفي التفاصيل الصغيرة الغائبة في سرديات التاريخ، وبالتالي طرحت من جديد الأسئلة الوجودية الحارقة التي يتصدرها السؤال من نحن؟ ومن الآخر؟
ليس معنى هذا أنني أصنف رواية «سبع ليال وثمانية أيام» (الصادرة عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء) ضمن هذا الاتجاه، وإن لم تكن بعيدة منه تمامًا؛ لأنها تطرح بدورها سؤال الهوية وكل الأسئلة الفرعية له. معاناة ابن بطوطة في النص الافتتاحي للرواية من كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وتقلب أحواله في رحلة دامت ما يقرب من ثلاثة عقود، وتلخيص تجربته التي اعتبرت رائدة فيما يعرف بأدب الرحلة في النص الختامي على ظهر الغلاف؛ جعله ذاتًا من ذوات الرواية. حياة تتجاور رغم بعد المسافة الزمنية مع حيوات أخرى، تلتقي معه وحوله وبدورها تعيش فيما بينها حيوات متجاورة شكلًا غير أنها متقاطعة مضمونًا، سواء كان موطنها جنوب المتوسط أو شماله، أو قدمت من فج عميق، أو عالم كان في ظهر الغيب وطفا ذات رحلة على سطح المحيط (أميركا).
يتحرر السرد من حدود الأسبوع، ويمتطي جناحي ذلك الطائر الأسطوري يطوي المسافات والأزمان ويحمل معه على جناحيه شخوصًا وحكايات. نخطو في اتجاه اليوم الأول، أو الباب الأول الذي أشرعه السارد على مدينة تعلو هضابًا «طنجة العالية» وتنحدر نزولًا إلى البحر، ورجل غريب المحيا، والاسم يصعد غير مبالٍ بالنداء، وبين اليقظة والنوم وانزياحات حلم يستجديه الرجل قطرة ماء، قبل أن نعرف اسمه من النداء كانت بشرته السوداء علامة جانبني الصواب في تبينها فقد خلتها تحيل إلى الوطن إفريقيا، وتبادر إلى ذهني عطيل في مسرحية شكسبير وتلك العلاقة الاستشراقية المبكرة بين الغرب ديدمونة والشرق عطيل، غير أن الاسم يحيل إلى شرق أبعد، إلى وطن بلا حدود لملمت أطرافه رحلة ابن بطوطة.
الغريب دلشاد أو القلب الفارح اسم ثنائي يطلق على الرجل والمرأة ابتداءً من بلاد فارس حتى عمق آسيا، وحضر الاسم في عنوان رواية الكاتبة العمانية بشرى خلفان «دلشاد.. سيرة الجوع والشبع»، كذلك دلشاد في النص حيثما ولى وجهه يجد عطشانَ ينتظر إبريقه. يفصل دلشاد في أمر الحيرة في شخصه؛ فهذا السواد هو المداد الذي نقش على الورق كتابة «سواد العينين يحف بهما البياض» (ص: 11)، وفي همس بين الأنين والضحكة المكتومة نعثر على السر المكنون في ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب. دلشاد إذن كتاب أي «خطاب» لغة، تشكيل، موسيقا، إشارات وعلامات…
وكما حضر دلشاد في اليوم الأول حضرت طنجة سليلة الآلهة، ومهبط قلوب الفنانين والمبدعين القادمين من كل أطراف الدنيا، طنجة التي شهدت الولادة الأولى لابن بطوطة وسوف تشهد له ولادة أخرى في الرواية، وبين الولادتين حلم يحلق به على جناح طائر عظيم حتى أقصى الشرق، ويعرج ناحية الجنوب صوب الوطن الأكبر إفريقيا. يتحول الحلم إلى خريطة رحلة في تفسير شيخ الزاوية المرشدي، وسيرة رحلة في كتاب ابن بطوطة.
ونتساءل: لماذا رحل ابن بطوطة في زمن حكم فيه «بنو مرين» المغرب من أقصاه حتى حدود مصر؟ لعله اقتنع بالقول الذي شاع عند أهل الصوفية، وقد كان من المريدين: «الفقير كالماء إذا طال مكثه في موضع واحد تَغيَّرَ وأَنْتَنَ». والسياحة مشتقة من الفعل ساحَ، وهو من صفات الماء الحاضر كثيمة محورية في الرواية.
عودة ابن بطوطة
تتوزع فصول الرواية بين ليالٍ وأيام، تتخللها أسماء شخوص أو ذوات اجتمعت احتفاء بمرور سبعة قرون على وفاة ابن بطوطة. العناوين التمييزية للشخوص هي: طاهر التلمساني، عثمان الشرادي، إيزابيلا فاريا. اختارها السارد ليمرر من خلال حكاياتها علاقتها بابن بطوطة وعلاقتها بالسفر حبًّا، كرهًا، دهشة، حيرة، اكتشافًا، إثبات وجود أو صحيفة أمجاد تتنازعها وجهات نظر ومراكز قوى. ويصبح الهدف أهدافًا تخضع لقيم العولمة تلبس قناع الحق في ملكية ابن بطوطة. ولأن الغرب حاضر فلا بد أن يحضر معه دليله الاستشراق بكل ما له وما عليه. وبعيدًا من التخييل التاريخي، قريبًا من التخييل الروائي، يعود ابن بطوطة إلى طنجة بعد رحلته الطويلة إلى الشرق، لعل دلشاد الذي بحث عنه هناك كان أقرب إليه هنا، تراوده ذكريات المتع التي نالها ومباهج الحياة التي نعم بها، عرف الحب والعشق وأيام السعد والهناء في حضرة الأمراء والكبراء، واكتوى بنار الفرقة والهجران.
يحضر ابن بطوطة في الندوة بصفة ملاحظ تتلى على مسامعه نسخ مختلفة لكتابه، مزيدة، منقحة، محرفة، يجتر مرارة الخيبة، فيترك المجلس وقد امتلأ غمًّا وكدرًا. ويأتي اليوم السادس الذي يوافق الجمعة في تقويم الأسبوع، ماذا لو كتب ابن بطوطة فصلًا آخر يضيفه إلى تحفته، ألم يكن الهدف الأول لرحلته دينيًّا فليقصد المسجد مع المصلين، وجد الإمام شاهرًا سيف الكراهية والعنف، يوزع التهم ويقيم محكمة التفتيش.
يمزق ابن بطوطة هذه الصفحة، ويمضي. اسمه المتناثر فوق المتاجر الصغيرة وعناوين لبعض الأزقة يصيبه بخيبة أخرى، فبعد مجالسة القضاة والفقهاء وأعلى سلطة في الأمصار التي حط بها الرحال، يصبح شخصًا مبتذلًا كل هذا الابتذال. يفتح صفحة جديدة فلعل في مكان آخر يعثر على المراد، يقصد الطائر المعدني ليرحل إلى شرق البلاد، التي تراجعت حدودها حتى الزاوية البوشميسية، يلبي نداء المنادي للقاء القطب الرباني رضوان المشتهر بأبي الغوث، عجيبة أخرى من عجائب الأسفار تحل فيها الطائرة محل الطائر، والسيارة رباعية الدفع بدل الناقة والفرس، غير أن العجائب لا تتغير؛ فللشيخ كما يروى بقرة حلوب تذكر بما روي عن بقرة إبراهيم عليه السلام التي كان يحلبها ويسقي بلبنها الواقفين ببابه.
غير أن العجيبة التي هددت هذه الورقة بمصير سابقتها هو الترف الذي يناقض صفة الفقير السائح، الملتحف جبته الصوفية، التائه بحثًا عن قطرة ماء تروي عطش الروح، ونور يهديه إلى سدرة المنتهى. تحولت الطقوس الروحية إلى طقوس ولائمية يدير نشيدها متعهد الحفلات، وخطب أقرب إلى الحذلقة اللغوية، في تناقض غريب بين اللباس الأوربي الذي ارتداه الخطيب وحثه في خطابه على إلغاء العقل. وهدايا تتقاطر من كل حدب وصوب على مقام أبي الغوث.
أيقونية الأسماء
طاهر التلمساني: طاهر اسم فاعل للطهر، وتحاول هذه الذات إثباته في إعلاء صارخ من شأنها، وشأن التراث بديلها الموضوعي. الطهر قناع تختفي وراءه المصلحة الشخصية.
عثمان الشرادي: اسم أيقوني آخر فهل يحيل إلى التاريخ الديني أو إلى تاريخ المغرب؛ فأحد مؤسسي الدولة المرينية هو عثمان بن عبدالحق. أما الشرادي فاسم مشتق من الشرود وصيغة مبالغة له، وهو شكل من أشكال التيه، الذي عاشه ويعيشه عثمان في زمن الأزمة.
إيزابيلا فاريا: لاسم إيزابيلا بعد أيقوني. قد يحيل إلى إيزابيلا القشتالية، عنوان نكبة الأندلس، وإيزابيلا فاريا هل هي حفيدة إيزابيلا القشتالية، أم حفيدة هرقل، تكفر عن خطيئة فصل قارتين، وتحاول رتق ذلك الشق. ابن بطوطة: اسم له بعد أيقوني في التاريخ والأدب وفي الرواية هو رمز للمثقف المهووس بالسفر بمعناه الحقيقي والرمزي بحثًا عن أجوبة للأسئلة الحارقة والمقلقة. سونية: في قاموس المعاني: اسم علم مؤنث يوناني، وهو الصيغة الروسية لصوفيا، بمعنى المعرفة والحكمة. جيفرسون: هل هو جيفرسون ديفيس، أو توماس جيفرسون. أم هما معًا، جيفرسون الجنوبي المشارك في الحرب الأهلية إبقاء على نظام العبودية، أو الثاني علم من أعلام الديمقراطية.
السفير مولاي التقي: أيقونة أخرى، شخصية نمطية لصورة الشرق أو المغرب الفُلكلورية كما يراها الغرب.
الإبداع وإعادة تشكيل العالم
عنون شوبنهاور أهم كتبه «العالم إرادة وتمثلًا»، وقبله سئل البسطامي وهو في حضرة التجلي عما يريد فأجاب: «أريد ألا أريد»، والإرادة في الحالتين شعور الإنسان بكونه قادرًا على إعادة تشكيل العالم. في هذه الرواية تجتمع كل عناصر الإبداع، تناص يتجاوز نصوص كتاب ابن بطوطة المكتوبة الواردة في الرواية بالخط المضغوط، إلى فنون الكتابة التراثية والنصوص الدينية الصوفية، تنساب كلها في سرد يتحف النظار بلوحات تشكيلية، ويبهر المشاهد بمشاهد مسرحية، وصور سينمائية، ويستفز الفكر بأسئلة وجودية، ويقف التاريخ أمامه حائرًا متسائلًا: هل يعيد مراجعة رقوقه؟