«في انتظار ديسمبر» رواية أولى فهد ردة الحارثي يدخل عالم السرد.. مُتَسَلِّحًا بمِدَادِ الشعر والمسرح
يَدْخُلُ الكاتب المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي عالم السرد الروائي برواية قصيرة «نوڤيلا» عنوانها «في انتظار ديسمبر» (الطائف: دار الانتشار العربي) يَتَمَازَجُ فيها عالم الشعر مع المسرح، عبر سرد مونولوجِي الطابع بضمير المتكلم. يتناص عنوان الرواية مع اسم مسرحية الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت (1906- 1989م) الأيقونية «في انتظار غودو». في رواية ردة ينتظر بطل الرواية -مجهول الاسم- قدوم امرأة إلى المكان والموعد المُتفَق عليه، لكنها لا تجيء، وتَتَرَدَّدُ كلمة الانتظار كثيرًا في أجزاء النوڤيلا: «طال انتظاري لها.. تشكل المقعد على شكل جسدي.. طال انتظاري لها فعلًا ولم تأتِ..» ص5. ذلك الانتظار الذي يكابده السارد من دون أن يجد مهربًا منه، انتظار قادم لا يأتي، انتظار قطار تأخر عن وصوله، حتى عندما يلتقي أحد أصدقائه يطلب منه الانتظار ريثما يعود: «يرحل قيس سريعًا بينما أجلس في انتظاره، أجدني مرة أخرى في مقابل الفراغ والصمت والانتظار. أخرج ورقة أكتب فيها بعض ما يمكن أن يفرغ شحنتي» ص8.
وكما تَبْدَأُ الرواية بفعل الانتظار من أول سطورها، كذلك تنتهي به: «في المطار كان كل شيء غارقًا في الصمت، كلمات قليلة كانت كافية لتجعلني في صالة المغادرة، أرحل وحيدًا في انتظار ديسمبر القادم» ص65. ونكتشف في النهاية أن تلك المرأة التي ينتظرها قد ارتبطت بمخرج مسرحي آخر، وأنجبت منه ولدين بعدما سافرت إلى السويد، وهو ما يحيل إلى تشابه انتظار البطل مع انتظار غودو الذي ينتظر الفراغ.
عناصر مسرحية
الشكل الحواري يحضر في أجزاء كثيرة من البنية السردية للنص. ذلك النمط القادم من عالم المسرح الذي عاش فيه المؤلف أغلب حياته الإبداعية؛ إذ أَلّف أكثر من خمسين نصًّا مسرحيًّا منذ 1989م حتى الآن. لا تكاد تخلو أي من لوحات النوڤيلا من الحوارية في صورتها المسرحية كعلامة بارزة فيها، وتأتي فصولها في صورة مشابهة للمشاهد في النصوص المسرحية. ويظهر في أحداث النوڤيلا عالم الكاتب المسرحي الحقيقي من خلال زيارته للمسارح التونسية، التي تدور فيها الأحداث، مثل: المسرح البلدي الذي يشاهد فيه مسرحية «جنون»، للمخرج التونسي فاضل الجعايبي (1945م)، وتدافع الناس لمشاهدة عرض مسرحي في قاعة الفن الرابع. حتى الشخوص الذين يرتبط بهم المتكلم قادمة من عالم المسرح: حبيبته أحلام تعمل مع فرقة مسرحية، وصديقه المدعو عزيز هو مدير لجمعية مسرحية في تونس.
كما يحضر السارد في هيئة المؤلف الحقيقية، ككاتب مسرحي، يراجع نصوصه ويدققها كما في الواقع: «انطلقت أكمل مسرحيتي الأخيرة، راجعتُ تفاصيل كثيرة فيها، كنتُ دقيقًا على غير العادة» ص49. يتناقش مع حبيبته حول طابع نصوصه المسرحية، تخبره أن الشاعرية تقتل نصوصه المسرحية وتحيلها إلى نص شعري، فيعترض على ذلك النقد قائلًا: «الشاعرية في الحوار ستضفي جمالًا على النص، لا يمكن أن أكتب حوار اليوميات، إنه هَشٌّ على المسرح، يسقط سريعًا ويندلق ولا يترك أثرًا»، بينما ترى محاورته أنه يغطي على ضعف بناء نصه دراميًّا بشاعرية الحوار. ص11.
إحالات إلى الشعر والشعراء
الشاعرية التي تميز أسلوب فهد ردة الحارثي لا في نصه المسرحي فقط، وإنما تمتد إلى نصه السردي «في انتظار ديسمبر»؛ فهو يعتمد على الصور الشاعرية في بناء جمله السردية حتى إن بعضها يكون موزونًا عَرُوضيًّا، مثل قوله: «لم يعد في الوقت وقت كي أعود، لم يعد في القلب طعم للنضال» ص6. كما تتغلغل في ثنايا الرواية القصيرة كثير من العبارات التي تحيل إلى قصائد كبار الشعراء العرب، القدماء والمعاصرين، فنلمح روح محمود درويش وهو ينتظر حبيبته، فيقول المتكلم في النوڤيلا: «طال انتظاري لها فعلًا، ولم تأتِ، ربما تأتي، قد تأتي، لن تأتي»، فيما يقول درويش: «لم تأتِ. قُلْتُ: ولنْ… إذًا سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي». وفي جانب آخر من الرواية يحيلنا إلى قصيدة هي لا تحبك أنت: «هي لا تحبك أنت يعجبها مجازك أنت شاعرها وهذا كل ما في الأمر»، عندما يعرف السارد أن حبيبته لا تحبه لذاته: «إنها لا تحبك أنت، إنها تحب غرورها، هي دومًا تميل لمن هو بعيد منها؛ لكنه عندما يقترب منها تحرقه مثل الفراشات» ص55.
ويتناص حديث السارد عن الحمى التي سكنت عظامه مع قصيدة للمتنبي. يقول السارد: «حين زارتني في جدة لم أتمكن من الحراك، تركتها تتلذذ بتعذيبي حتى الفجر، ثم زرت طبيبًا قضى عليها شكليًّا وتركها تسكنُ داخلي زمنًا…، ظَلَّتْ تتبعني في أي مكانٍ أذهبُ إليه، وكأنها اسْتَمْتَعَتْ بما كنتُ أَسْتَمْتِعُ، فطاب لها المقام، أصبح بيني وبينها تعايش سلمي، إنها حسَّاسَة جدًّا وناعمة لذلك تثور كلما أغضبها موقف لا يحتمل» ص9. أنسنة الحمى في هذا المقطع السردي وتشبيهها بالحبيبة التي تقيم بين العظام وفشل الطبيب في علاجها يَنضَحُ بروح قصيدة المتنبي التي يصف فيها الحُمَّى بالزائرة: «وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياء/ فَليسَ تَزورُ إلا في الظَّلامِ» وترفض إلا أن تَبِيتَ في عظامه: «بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا/ فَعافَتها وَباتَت في عِظامي» وإن حاول أن يطردها تبكي وتوسعه بأنواع السقام. وكما فشل الطبيب في تشخيص ومعرفة سبب حُمَّى المتنبي فشل كذلك طبيب السارد في علاج سببها الحقيقي: «يقول لي الطبيب أكلت شيئًا/ وداؤكَ في شَرابِكَ والطعامِ/ وما في طبه أني جَوادٌ/ أَضَرَّ بِجِسمِهِ طولُ الجِمامِ».
ويوظف فهد ردة الحارثي كذلك مقطعًا من قصيدة بدر شاكر السَّيَّاب (1926: 1964م) «أنشودة المطر»، عندما يمضي السارد مع صديقته تحت المطر فيقول: «استحضرت كل قصائد المطر ورددت قصيدة السَّيَّاب: عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ/ أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ/ وترقص الأضواء… كالأقمار في نهَرْ/ يرجّه المِجداف وهْنًا ساعة السَّحَر كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ..».
ويُحِيلُ حديث السارد عن المنتصف «كل شيء يبدو في المنتصف، الآن نصف الليل، نصف العمر، نصف المسافة، نصف جائع، نصف قلق، نصف متفائل، وأكتشف أننا في نصف ديسمبر، نحن في المنتصف، إذن في العودة خيبة وفي التقدم خيبة» إلى تحذير مطران خليل مطران (1872: 1949) من الوقوف في المنتصف في سرديته الشهيرة: «لا تجالس أنصاف العشاق…، النصف هو أن تصل وألّا تصل، أن تعمل وألّا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت». ينبع المقطعان من المشكاة ذاتها في كراهية المنتصف.
ويتردد في ثنايا السرد أسماء شعراء مثل: الحارث بن حلِّزة اليَشْكُرِي، شاعر بادية العراق (ت: 580م) أحد شعراء المُعَلَّقَاتِ، وكذلك الصعاليك. ويجعل أحد شخصيات الرواية شاعرًا يُدْعَى قيسًا، يرسمه بشكل أسطوري فيَظَلُّ دون أكل لأيام فيها يَكَتُبُ قصائده وبعدها يسكنه الجوع ليوم أو يومين، فيكون كل ما يصل إليه صالحًا للأكل، يتوقف عن الكتابة ويتفرغ لقراءة شعره لكل من يراه حتى العابرين على الأرصفة.
لم يأتِ اسم قيس بشكل عبثي؛ فهو يحيل إلى واحد من أشهر شعراء الحب العذريّ في الأدب العربي قيس بن الملوح والملقب بمجنون ليلى (645-688م)، ما يتوافق مع مضمون الرواية التي تدور في فَلَكِ عذابات الحب والمحبين والهجر والألم. فالطابع الرومانسي يطغى على أحداث الرواية عن عاشق يبوح بما يعانيه من ويلات الحب، عن سير العشاق في الشتاء تحت زَخَّات المطر، وسماع فيروز، شرب القهوة، وبكاء المحبين الذي خلدته المعلقات العربية في مَطالعها. والضعف الذي يُورِثُ الحُمَّى والشعور الدائم بالحزن والفقد، ويكثر ذِكر الشعور بالوحدة في ثنايا النص؛ فهي أكثر الأحاسيس التي وصف الساردُ بها نفسه، فتتكرر عبارات مثل: «بقيت أنا وحيدًا.. وحيدًا أجالس نفسي.. كنتُ وحيدًا.. وحدتي تفضحني.. أسكن إلى غرفتي وحيدًا…» إلخ. تلك الوحدة التي لا يتخلص منها حتى بقربه من الحبيب، بل تزاد أحيانًا بحضوره وكأنه يتمثل قول محيي الدين بن عربي (1165-1240م) «كل شوق يسكن باللقاء لا يُعول عليه».
وفي الأخير يتبقى القول بأن هذا العمل السردي حمل ما تحمله كثير من بدايات كُتاب الرواية في أعمالهم الأولى التي تحضر فيها ذاتهم الحقيقية أكثر من التخييل: فبطل رواية «زينب» (1913م) يحمل سمات مؤلفها محمد حسين هيكل (1888- 1956م)، وبطل رواية «عودة الروح» (1933م) محسن، يحمل سمات توفيق الحكيم (1898- 1987م) الحقيقية، وهذه الرواية القصيرة كذلك تحمل كثيرًا من عالم مؤلفها الحقيقي: يتشارك المؤلف مع السارد في عالم المسرح، كما أنهما من المملكة العربية السعودية، ويتشاركان عبارات المزاح مع أصدقائه من البلدان الأخرى التي يسمعها منهم مثل قولهم: «مكر البدوي» أو ندائهم له بالصحراوي.. ما يكشف عن اعتزاز المؤلف بهويته، حتى في النقد الذي يوجه إلى بعض كتاباته يورده كما هو ويفنده كما يفنده في الواقع.