«ذاكرة بلا صور» لعزة سمهود تراجيديا الحياة ومأساة رحلة البحث عن الخلاص

«ذاكرة بلا صور» لعزة سمهود

تراجيديا الحياة ومأساة رحلة البحث عن الخلاص

رواية «ذاكرة بلا صور» للكاتبة الليبية عزة سمهود، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الرشيد، الإمارات العربية المتحدة، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع، هي رواية ذات منزع واقعي رمزي. تستند إلى رؤية سردية مبنية على بعد مأساوي من خلال بنية سردية قائمة على تقنيات التقطيع والتشذير لبنية الأحداث والأزمنة والأمكنة، من دون أن تجنح كلية نحو التجريد؛ لارتباط أحداثها وواقعها بالهجرة السرية والحلم
بالفردوس؛ أوربا.

التشخيص التخييلي وتراجيديا الواقع

يمتد العالم الحكائي لأحداث الرواية ليشمل مسارًا تاريخيًّا لصور الواقع الاجتماعي للدول الإفريقية جنوب الصحراء (نيجيريا) في حقبة تاريخية تمتد إلى اليوم. يتساوق هذا الامتداد مع ذاكرة السارد. ويؤطرها من ناحية تنضيد الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة. وذلك من خلال صوت السارد الرئيس للأحداث/ الشخصية المحورية (شخصية آبيا) التي تتمثل حياتها في مسار مأساة اجتماعية من ناحية العلاقة بالواقع الذي تهيمن عليه الصراع والحروب الأهلية والقتل. يقول السارد (شخصية آبيا) في الصفحة 4: «علينا مغادرة مايدو غوري، فالأخبار تقول: إنَّ الهجوم القادم عليها، ولا بد أن ننقذ محاصيلنا قبل نهبها».

عزة سمهود

يضرب هذا الصراع عميقًا في الذات والنفس والوجدان والجسد الإفريقي، من خلال انعكاس شفاف لصور هذا الواقع في التمثلات التخييلية للنص الحكائي. كما تتجاور لغة السرد التعييني المباشر مع لغة الوصف الرمزي الذي يجرد السرد التعييني من الدلالة المباشرة ويمنحه عمقًا وكثافة رمزية. تنهض بنية هذا النص السردي على التشخيص المحاكاتي من خلال العلاقة بين النص والمرجع الواقعي عبر علاقة انعكاسية مرآوية؛ إذ إن الشخوص، مثلما الأحداث، قابلة للتمثل على مستوى الواقع الاجتماعي المأساوي الذي هيمن عليه الحلم والاغتراب والمأساة. بدءًا من الفصل الأول للرواية المعنون بـ«البوغا» وهو لقب يطلقه السكان المحليون على تاجر البشر، سواء كان مُشتريًا أم بائعًا. لكن حين يقع الإنسان في أيدي هؤلاء التجار، يبصم على وجوده الواقعي والاجتماعي ببصمة الأحلام المهدورة، والمأساة المنتظرة. تجلى ذلك في جل فصول الرواية: الفصل الأول/ البوغا (ص:2)، الفصل الثاني/ يوم حلقوا شعري (ص:17)، الفصل الثالث/ باب الجحيم (ص: 42)، الفصل الرابع/ سجن إعبيدة (ص: 49)، الفصل الخامس/ اللجوء (ص: 57). تلتقي هذه الفصول في قول السارد في المقطع الأخير: «وسأتكلم عن تلك الصور التي ظلت تتوهَّج في ذاكرة الفتيات حتى احترقت وانطفأت أعمارهن»، ص: 77.

مرايا الذات الإنسانية المقهورة

ينطلق السرد الروائي في الرواية من بؤرة مركزية تتمثل في الصراعات القبلية والقتل والخراب والترحيل: «حين خرجنا من الدغل تفرقنا للبحث عن ناجين في أزايا، وحمدتُ الله أنَّ أمي إيفيلين باولو خرجتْ فور الاجتياح بابنتي ماريان اتجاه مايدو غوري» ص 2. فمنذ الوهلة الأولى يلج السارد عالمًا يزخر بصور الموت، لتمتد إلى بؤرة ثانية مجسدة في محاولة الشخصيات (آبيا، البنت مارينا، الأم إيفيلن، الخالة كاتي) الإفلات من هذه المأساة التي تتمثل رمزيًّا في شخصية آبيا التي تسير في مصيرها نحو معاناة التهجير والضياع. وعلى نحو مركزي أيضًا، تهيمن على النص ثيمة التفكك القبلي/ المجتمعي متمثلة في رمزية الأرض، حين تجري مقاومة بؤس الواقع وشبح تفكك الأسرة/ المجتمع بكل تحدٍّ وصمود. تنضاف إليها الشخصية المحورية (شخصية آبيا) التي توزعت مواقفها بين الحلم بواقع بديل وحلم بحياة ثانية مغايرة، وهو حل لم يكن موفقًا؛ لأن حاضر حياتها وذاكرتها المحاصرة بهذه الصور المأساوية، لا تستطيع الانعتاق من الإخفاقات المتصلة بها.

ينضاف إلى تراتبية موضوعات الإخفاق هاته، موضوعتان تستحضرهما، وتحولهما إلى سلوك انتهازي وإفراز لعقد مرضية لإنتاج الانتكاسات والهزيمة، وردود الأفعال السلبية التي تعد هروبًا مضادًّا إلى ما هو أسوأ من أشكال الإخفاقات السابقة (داخل القبيلة). هذا النسيج الشخوصي منحته الروائية، نسقًا رمزيًّا، أنتج متخيلًا للمرايا المتعاكسة؛ إذ بإمكان متلقي الرواية، قراءة وتأويل إخفاقات شخصية آبيا والشخصيات المرافقة لها في الرحلة الخلاصية (شخصية آمندا، شخصية فيكتورا، شخصية فايا، شخصية جلوريا)، وهي منعكسة في مرآة المأساة. لهذا، فإن أشكال الانعكاس المرآوي للشخوص الواردة في الرواية، خلقت نوعًا من التقنية السردية الخاصة في بنائها، ومنحت الرواية بنية درامية مؤثرة، ونقلت النص من التشخيص الواقعي المباشر، إلى التشخيص الفني الرمزي.

رحلة البحث عن الخلاص

جسدت ذاكرة السارد/ شخصية آبيا، كثيرًا من صور المعاناة والموت المادي والرمزي التي تزخر بها الرواية، من خلال شخصيات تغترب عبر رحلتها الخلاصية، ونزعتها الهروبية من عالم مأساوي تنهار فيه القيم الإنسانية، كما تحكمه عصابات التهريب. يقول السارد في الصفحة 11: «هزت إحداهن رأسها نفيًا ثم قالت: عن طريق إزقيل، أرشدنا ابن عمي كومو إلى الوسيط إزقيل، ليقوم بتمريرنا». تتكرر صور التهريب على طول المسار السردي للرواية، وترتبط هذه الصور بمشاهد التعذيب في أثناء هذه الرحلة الخلاصية. تجلى ذلك في حلق الرؤوس: «تسمرتُ مكاني فلكزتني العجوز على جنبي، ودفعتني نحو الكرسي» ص:22، ومشاهد ختان، وصولًا إلى سجون المهربين (سجن إعبيدة، ص: 49، سجن شتراوس، ص: 68). ثم إلى الكنيسة بوصفها الخلاص من هذه الرحلة المأساوية. يقول السارد في ص: 72،73: «توقف السائق وهو يشير للمبنى المفتوح، نزلتُ بسرعة وركضتُ نحو مدخل الكنيسة الكبير». يشي هذا المقطع السردي الأخير من الرواية بمنحى رمزي لهذه الرحلة الخلاصية التي هيمن عليها السقوط والهزيمة، وهو ما يجعلها رواية تؤشر إلى مأزق وعي شقي في قراءة العلاقة بين الواقع والسلطة (بشتى أصنافها). تعكس رواية «ذاكرة بلا صور» لعزة سمهود، واقعًا ممسوخًا فقد فيه الإنسان ما تبقى من أصالته وجوهره الإنساني.