«عشرة أسابيع بجوار النهر» لعبدالله الوصالي… حكاية ميرا في المدينة الصفراء

«عشرة أسابيع بجوار النهر» لعبدالله الوصالي… حكاية ميرا في المدينة الصفراء

لم يكن في أقصى كوابيس الفتاة الصغيرة (ميرا)، الأميركية المُنحدرة من أصول عربية التي تبتدر توًّا مسيرتها الدراسية في جامعة أيوا، أنّ بداية الطريق ستكون بهذه القسوة؛ إذ ستخوض في صراع مع خمسة كُتاب عرب، دُعُوا إلى برنامج الكتابة الإبداعية في هذه الجامعة برفقة كاتب إسرائيلي، وكُتاب آخرين من أنحاء مختلفة في العالم.

هكذا تقودنا رواية «عشرة أسابيع بجوار النهر» للروائي السعودي عبدالله الوصالي، في هذا الطريق الوعر وطرق أخرى أكثر تعقيدًا، في حكايات تتناسل بعذوبة وانتقالات غير عجولة بين غرفة ميرا في السكن الداخلي بأيوا، ومنزل أسرتها في شيكاغو، حيث والدها وحبيبها «مايكل»، وبين شوارع المدينة الصفراء وحرمها الجامعي، بعد أن تعرّفت إلى مجموعة الكُتاب القادمين للمشاركة في البرنامج، نتتبّع رحلاتهم وتناقضاتهم وحواراتهم، واختلافاتهم الشخصية والمذهبية والسياسية، وتَشكُّل ونشوء العلاقات بينهم، وتقاربهم ونفورهم، واتحادهم واختلافهم وحميميتهم. إضافة إلى جلساتهم مع «الدكتور أدريان» أستاذ اللغات السامية ومشرفها في برنامج الترجمة.

نص متعدد المستويات

في تقنية كتابته يتأرجح النصُّ المكتوب في 280 صفحة -مقسمة في واحد وثلاثين فصلًا إضافة إلى مقدمة وخاتمة- ما بين تقنيات سردية عدة: فهناك المذكرات التي تسير في خط أفقي من دون قفزات كبيرة وحبكات معقدة من جهة، وبين الرواية التي تجمع عددًا من الشخوص والقضايا من جهة ثانية، حيث بدخول جَدّةِ ميرا في بداية الرواية إلى البيت يَحدث تغيّر في حياتها، ليعود تأثير الجَدّة في الأحداث بنهاية الرواية ليكمل دائرية الحكاية. كما أنك تجد نصًّا شعريًّا جميلًا سَكب فيه الكاتب عُصارة تجربته اللغوية، فمعظم مقاطع النص مكتوبة بشاعرية عالية ولغة رفيعة وتكثيف راقٍ تجعلك تعيد قراءة بعض المقاطع أكثر من مرة، وهناك أيضًا نص يتخذ خلفية مسرحية تتنقّل فيه الشخوص على مسرح واحد وتمارس أدورًا مختلفة مع تغيّر طفيف على الخلفية.

عبدالله الوصالي

يمكن أن يُؤول القارئ النصَّ على أنه مذكرات شخصية لفتاة تعمل مُترجمة تصارع في اختيار نصوصٍ من لغتها الأم في تجربتها الأولى، مع مُشرفها. ولنقرأ في صفحة 14 من الرواية: «الأمر لا يتعلّق بوهمية الشخوص، فهي واقعية جدًّا، بل بما كنت أفكر فيه خلال تلك الفترة وما وقع أثناءها من أحداث وتفاصيل. ومع ذلك فلا شك في وجود نواة صلبة من الحقيقة تقف عليها كل هذه المدوّنة، نواة هي روح تلك الأسابيع القليلة التي تنبعث لي كلّما قرأت ما كتبت».

ويمكن أيضًا قراءة النص بوصفه نصًّا سياسيًّا من الدرجة الأولى، وذلك لاستعراضه للربيع العربي في فورته الأولى، ثم القضايا التي تدور في الدول التي أتى منها الكُتاب، أبطال القصة: (محمود-مصر، مرتضى-العراق، شادية-السودان، مرهف-السعودية، سلمى-سوريا)، وقضية الصراع العربي الفلسطيني وقضايا أخرى جاء ذكرها في أثناء سرد قصة سلمى. ويمكن عدّ النص نصًّا مكانيًّا بالدرجة الأولى يؤرخ للمدينة الصفراء، ولنقرأ في صفحة 32 من الرواية: «بتّ أسمي مدينة أيوا المدينة الصفراء بسبب طغيان اللون الأصفر على كلّ شيء تقريبًا، اللون الذي اتخذته الولاية شعارًا لها مع اللون الأسود. ولأني أعتقد أن اللون الأسود ليس في الحقيقة لونًا وإنما هو غياب للألوان، اعتبرت أن اللون الأصفر هو الذي يعلن عن حضوره».

تتساوى البطولة بين الشخصيات إلى حد كبير وينفرد المكان بالبطولة المطلقة؛ فـ«ميرا» على الرغم من أنها السارد الوحيد للقصة فإنها كانت لا تصنع أحداثًا بالقدر الكبير، إضافة إلى بروز المكان بشكل لافت في سطوره، ويكاد كل حدث يظهر جديدًا يُمهَّد له بوصف المكان وصفًا كثيفًا.

ويمكن تأويل النص على أنه من أدب الرحلات فالوصف الدقيق للمدينة والجامعة، بما فيها أسماء المتاحف والقاعات والمطاعم والمقاهي والشواطئ، وتاريخ المكان وحالة الطقس يمكن أن تمنحك حضورًا كبيرًا وإن لم تزرْه. ويمكن عدّ النص نصًّا توثيقيًّا إذ يمكن الرجوع إليه مصدرًا لمعرفة عوالم برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة أيوا، وبداية تأثير منصات التواصل الاجتماعي في الحياة اليومية. نجد الكاتب يذكر بوضوح أن هناك رسالة جاءت على الواتساب أو الماسنجر أو على الفيسبوك، وهي أشياء قد لا نجدها في كتابات اليوم قياسًا على زمن أحداث الرواية في العام 2014م.

خرجت من «عشرة أسابيع بجوار النهر» مُرهقًا، فعلى الرغم أزيز مكيف الهواء في غرفتي فإنني كنت متعرّقًا، فقد أحالتني هذه الرواية إلى عوالم عشتها سابقًا في ظروف تشبه ما عاشته ميرا، ظروف الحنين للأماكن والرفقة والسواحل، التعرّف إلى الغرباء والاندماج في مجتمعات سريعًا، والانعتاق منها بالسرعة ذاتها. فتحت ذهني على الصراعات التي يعيشها الكُتاب بعضهم مع بعض، رغم الصورة الوردية التي يضعها المُتلقّون عن حياتهم، والمثالية التي يتصوّرونها عن تصرّفاتهم الشخصية وحيواتهم الخاصّة. قفزت إلى ذهني تساؤلات تخص جدوى برامج الكتابة المغلقة وتأثيرها في المشاركين فيها، وعن برنامج الكتابة بأيوا الذي يتواصل تنظيمه كل عام، منذ ذلك الحين وإلى الآن، وأخرى تخص مصاير الشخصيات وتحوّلاتهم الثقافية والفكرية والسياسية، وأخرى أشد إلحاحًا تخص المدينة الصفراء التي أحببتها.