الإغوانا
لمحت في المحمية، مرارًا، سحالي الإغوانا الضخمة وهي تتشمس فوق صخور ملساء على جانب النهر. لم تكن تلك الزواحف جميلة المنظر، بيد أن ألوانها النضرة تسلب الفؤاد. تشع أجسامها نورًا كالذي ينعكس من زجاج الكنائس المخضب أو كالذي يتلألأ من كنوز الأحجار الكريمة. يتشتت في الفضاء من ورائها عند الاقتراب منها وميض أرجواني تغشاه زرقة كأنه ذيل نيزك دري عابر.
دورة تشع منها ألوان الحياة
أطلقت النار على الإغوانا يومًا. ظننت أن بمقدوري صنع أشياء زاهية من جلدها. حدث أمر غريب حينها ترك بصمة في خاطري. أثناء سيري لأغتنم صيدي الساكن على الصخرة -في تلك الخطوات المعدودة- تلاشى لون السحلية متسارعًا حتى توارى بالكامل مخلفًا جرمًا شاحب اللون ملمسه مصمت كالطوب. أدركت عندها أن ذاك الرونق كان مبعثُه دمًا ينضح حيوية في ذلك الكائن ويتدفق في دورة تشعُّ منها ألوان الحياة. أما الآن، بعد أن أُطفِئ اللهب وغادرت الروح الجسد تحولت السحلية إلى جماد كالصخرة التي تحتها.
تزورني ذكرى الإغوانا التي قتلتها في تلك المحمية من آنٍ لآخر. مثل ذاك اليوم في ميرو، حين شاهدت فتاة محلية ترتدي سوارًا على يدها. سوارًا جلديًّا عرضُه إنشانِ مزركش كله بفصوص صغيرة متدرجة الألوان؛ منها الأخضر والسماوي واللازوردي. كان بحق سوارًا حيًّا، خلتُه يتنفس من معصم الفتاة؛ لذا أردته لي فأمرت خادمي فَرَحًا على الحال بشرائه من الفتاة. ما إن استقر السوار على ذراعي حتى أفرج عن شبحه. غدا ربطة يد رخيصة محلية الصنع وتافهة. أدركت ثانية أن ثنائي البريق التركوازي والمعصم الداكن المتشبع بمليح السمرة هو ما منح الحياة للسوار. تسمرت في ميرو أتأمل يدي الشاحبة وشبح السوار عليها. بدا لي الأمر كظلم وقع على شيء نبيل أو كحقيقة تم كبتها قهرًا. تذكرت، والألم يعتصرني، مقولة على لسان بطل في كتاب قرأته وأنا طفلة: «دَحرتُ كل شيء قام أمامي، ولا أجد حولي الآن سوى القبور».
في أرض الغربة هناك كائنات غريبة تعج حياةً ورونقًا. على الغرباء عن الأرض تقدير ما إذا كانت روح هذه الأشياء ستبقى إن سُلب منها نسق محيطها. ولمن استوطنوا إفريقيا من غير أهلها أقول: لأجل سلامة عيونكم وقلوبكم أنصحكم: لا تسول لكم أنفسكم أن تسلبوا الإغوانا حياتها.
الزرافات في طريقها إلى هامبورغ
أقمت في مومباسا في ضيافة والي الساحل علي بن سالم، وهو شيخ عربي شهم ومضياف. مومباسا تشبه رسمة طفل صغير طُلِب منه تَخيُّل الجنة. أذرع البحر فيها تحتضن الجزيرة لتهب لها موانئها الخلابة. يتشكل سطحها من شعب مرجانية ناصعة البياض تتخللها أشجار المانجو الضخمة وأشجار الباوباب المذهلة. بَحرُها فاقع الزرقة مثل لون زهرة الذرة، يلوح في أفقه غيمُ المحيط الهندي المتموج وهو يومض برقًا خافتًا رغم سكينة الطقس من حوله. شوارع مومباسا الضيقة مرصوصة بأحجار أقحوانية من المرجان، تنتهي بك في أعلى التلة عند قلعة تليدة تقف شاهدة على تاريخ دموي بين العرب والبرتغاليين عمره ثلاث مئة عام، يزينها بوابات ونوافذ ذهبية تشربت أشعة الشمس عبر الزمن فأبلجت لونًا أصفر وهاج. حدائق المدينة تتغنج بزهور رهيفة القوام فاقعة اللون من الأكاسيا الحمراء. شمس مومباسا حارقة وأرضها ملحية جرداء تصلح للرقص، يجوبها نسيم من الشرق مالح الفوح مشبع من عبق المحيط. لكن هِبَة أشجار المانجو الضخمة متشابكة الفروع والأغصان منحت الأهالي ملاذا يستظلون فيه ويقيمون أسواقهم ولقاءاتهم تحت حماه.
ينتصب منزل علي بن سالم شامخًا على زاوية ينعطف عندها البحر وتحفه بيوت الضيافة البيضاء من كل جانب. يهبط منه درج من الأحجار الطبيعية إلى ضفاف المحيط. تكتنز صالة الشيخ مقتنياتٍ نفيسةً من نحاسياتٍ عربيةٍ وعاجٍ ولوحاتٍ وكراسيّ مخمليةٍ وفونوغراف عتيق. أحد هذه المقتنيات كان طقم صينية شاي أنيقة بداخل صندوق يكسوه الحرير مهداة من ملكة إنجلترا وبلاطها الملكي لسليل سلطان زنجبار وكريمة شاه فارس بمناسبة قرانهما.
«أكانا سعيدين؟» سألت الشيخ.
«مطلقًا»، أجاب بسرعة واستطرد: «جَلَبت خيولها معها، على الزورق نفسه الذي حمل جهازها، لم يتحمل الأهالي منظر امرأة تمتطي الخيل، اختارت الأميرة حصانها على زوجها فعادت أدراجها إلى فارس».
في ميناء مومباسا، طفت باخرة ألمانية صدئة تهم بالإياب إلى ديارها. عاينتها وأنا عائدة إلى الجزيرة على زورق الشيخ، يجدف بي عماله السواحليون. قام على ظهر الباخرة قفص خشبي طويل، بزغ من فتحة في أعلاه رأسا زرافتين. «قدموا من مستعمرة شرق إفريقيا البرتغالية وهم في طريقهم إلى حديقة حيوانات هامبورغ» هكذا أخبرني خادمي فرح. لَوّحت الزرافات برؤوسها الهزيلة وكأنها تعبر عن دهشة من طارئ أحل بها. دَهشتُها مفهومة فعلًا، فها هي ترى البحر اللامتناهي لأول مرة وتقبع في صندوق لا يسع غير الوقوف. ها هو العالم ينكمش فجأة ويحيط بها ويغلق السبل من حولها.
هل تعلم، يا ترى، الانحلال الذي ينتظرها بعد رسو السفينة؟ تلك الوحوش الحالمة الأبية، المتجولة في السافانا بخفة وحرية، أتملك أن تفهم معنى الأسر؟ أتملك خيالًا عن لذعة البرد وتكدس الأدخنة وانتشار العث في مكان ممل لا يستجد به شيء مطلقًا؟
غدًا يحاوطها الدهماء ذوو الملابس الغامقة نتنة الرائحة؛ ليمتعوا نواظرهم ويشبعوا غرائزهم بتفوقهم العقلي على عالم البهائم. غدًا يضحكون وهم يشيرون إلى رقابها الطويلة النحيلة وهي بلباقة وصبر ترمقهم من فوق السور بعيونها الحالمة الوديعة. سيستوحش أولادهم ويبكون في البداية، ثم ستنفرج سرائرهم بعدما يطعمون الخبز للزرافة بنجاح، بعدئذ تنفتح أنفس الآباء والأمهات ويرتاحون للوحوش اللطيفة التي رفهت عن صغارهم.
خلال السنين الممتدة أمامها، هل ستحلم الزرافات بموطنها الضائع؟ «أين هم الآن، أين اختفوا؟ تلك المروج والحشائش أين أضحت؟ أين الأشجار الطويلة والأنهار الجارية والجبال الزرقاء؟ ذلك النسيم المليح الهابط من أعالي التلال، هل غادر وأدبر عنا؟ أين باقي الزرافات التي كانت تؤنسنا وتشاركنا حياتنا، لماذا هجرونا وتركونا هنا؟ لا بد أنها في ذلك الموطن حيث يكتمل القمر عند الليل، لا أظنهم يعودون أبدًا».
ستَفزّ الزرافات من حلمها لتجد نفسها في حظائر ضيقة وعفنة تفوح منها رائحة التبن والجعة الفائضة من القمائم.
وداعًا، وداعًا، أتمنى لكم الموت قبل وصولكم، حتى لا تُبتَذل تلكم الرؤوس الشامخة الرقيقة التي تسمو في سماء مومباسا الزرقاء وتُلوّح رقابها ببراءة واستغراب؛ قبل أن يضيق بها الحال للتعبير عن الأسى والوحدة في مكان قصي لا يفهم من فيه روح إفريقيا. أما نحن، فلن يتسنى لنا طلب العفو والغفران حتى يجيء اليوم الذي يبغي فيه كائن علينا كما بغينا على الزرافات النبيلة.
هامش: النص من كتاب بعنوان «Out of Africa» (راحلة من إفريقيا) لكارين بلكسين، وهو في رأيي أروع أبواب الكتاب؛ إذ تقفز بلكسين بخفة فكرية وبراعة أدبية بين ثيمات منوعة لأحداث يومية في غاية البساطة حصلت لها في إفريقيا، تستنبط منها الكاتبة معاني أصيلة في غاية العمق.