«آخر البحر» مسرحية جديدة فاضل الجعايبي يواصل مساءلة المجتمع وكشف الخفايا النفسية

«آخر البحر» مسرحية جديدة

فاضل الجعايبي يواصل مساءلة المجتمع وكشف الخفايا النفسية

تواصل مسرحية «آخر البحر» للمخرج التونسي فاضل الجعايبي سلسلة عروضها في قاعة الفن الرابع بتونس العاصمة، وتواصل إثارة الأقلام من حولها، لما تمثله من عمل إشكالي سواء في تجربة المخرج، أو حتى في النص المقتبس عن «ميديا» للشاعر والكاتب الإغريقي يوربيدس الذي أخذها بدوره عن إحدى أساطير اليونان.

التزم الجعايبي جزئيًّا بخيوط حكاية مسرحية «ميديا»، فكانت البطلة عاتقة امرأة أجنبية مثل ميديا، وارتكبت الجرم نفسه بأن قتلت خطيبة طليقها وأباها، والأفظع من كل ذلك إقدامها على قتل أبنائها، وإن كانوا في حالة ميديا ثلاثة ففي «آخر البحر» هما ولدان. كما نجد الخطوط العريضة نفسها للحكاية؛ فكما قتلت ميديا أخاها لتهرب مع الرجل الذي أحبته قتلت عاتقة أخاها أيضًا بمعية حبيبها التونسي حمادي. لكن رغم الالتزام بخيوط الأسطورة فإن «آخر البحر» ذهبت بميديا أبعد في مناخ تونسي وعربي مليء بالمسكوت عنه؛ لتفجر أسئلة أكثر حدة كما سنرى.

استعادة ميديا

يستعيد المخرج التونسي شخصية ميديا الأسطورية المفجعة، عبر بطلة مسرحيته عاتقة المرأة اليمنية التي افتتنت بحب حمادي، أو هي رأت فيه المخلّص من عائلتها وسجنها بحثًا عن وطن أفضل. وحمادي هو واحد من أعوان رجل نافذ، ذهب إلى اليمن بتكليف منه لسرقة مخطوط نادر لا يقدر بثمن، وهناك التقى عاتقة؛ حيث كان المخطوط في مكتبة أبيها، وبتقاربهما يسرقان المخطوط ويفران عبر البحر، بينما يلحق بهما أخ عاتقة فيقتلانه. هذا ما نكتشفه باسترجاع الأحداث، فالاسترجاع هو ما ينشط الحدث الدرامي في المسرحية.

تنطلق المسرحية من مشهد افتتاحي لحمادي يطلب من عاتقة مغادرة تونس وترك ابنيها معه، لم يفلح توسلها في منعه، وهذا ما أطلق أفظع عمليات الانتقام وأكثرها فجائعيّة؛ إذ ترسل معه هدية إلى خطيبته وتكون عبارة عن طرد مفخخ، ما إنْ تفتحه الخطيبة حتى ينفجر ويودي بحياتها هي وأبيها، الذي يدير أعمالًا مشبوهة ويشغّل معه حمادي.

لم يتوقف الانتقام هناك، بل تقدم عاتقة على قتل طفليها، لندخل بعد ذلك في سلسلة تحقيقات وعلاج نفسي، وسيلة استعملها الجعايبي للدخول إلى عتمات النفس البشرية وفضح البنى الاجتماعية الذكورية والقوانين والأعراف والتقاليد. ويبقى من أقوى المشاهد في المسرحية المونولوج الذي تقدمه عاتقة، في صرخة أنثى تقول الحقيقة التي لا أحد يريد سماعها، الحقيقة التي نخافها أو نحن نحجبها خوفًا منها.

لقد سبق وأن قُدمت ميديا في أثواب عديدة في المسرح، نستذكر هنا عمل المخرج سليمان البسام «أي ميديا»، وفي السينما مع المخرج الإيطالي الشهير بيير باولو بازوليني في فِلْم بالعنوان نفسه. وفي كلا العملين كانت شخصية ميديا إشكالية بامتياز، تمنح من يؤديها مساحة لعب شاسعة. ولعل السؤال الذي يطرح هنا: ما هو الجديد في ميديا الجعايبي؟

لقد استغلت التيارات النسوية مسرحية ميديا للتعبير عن أطروحاتها، على اعتبار أن ميديا رمز للمرأة المتمردة على عالم الذكورة، التي تنتصر لجانب المرأة فيها قبل الأم. في المسار نفسه يذهب الجعايبي ليحفر أعمق في البنية النفسية للمرأة، محررًا صوتها وصورتها من حدود الأم والجنس إلى كونها إنسانًا قبل كل شيء، إنسانًا له الحق مثله مثل الرجل في التفكير والمشاركة والحب والعمل وتقرير المصير والحرية والكرامة والحياة، إلخ.

المرأة التي حجبتها المجتمعات على امتداد قرون وما زالت تحجبها، تتركها كإنسان ناقص، تتحكم في حياتها من لباسها إلى جسدها وصوتها ومستقبلها إلى مصيرها حتى نظرتها، كل جزء فيها مكان ينصب فيه الرجال أعلام سلطتهم. ليس ذلك فحسب بل يعاملونها معاملة الشيء الذي ما إنْ تنتهي الغاية منه يُلقى، وهذا ما رفضته عاتقة التي استغلها حمادي، ومن ثم ألقى بها كأي شيء منتهي الصلاحية؛ لذا انفجرت ضده. الجميع كان ضدها من المجتمع حتى السجينات الأخريات والقانون والمجتمع الذي يطالب بالقصاص منها كلهم يطالبون بدمها جزاء جرمها، لكن ببراعة تأخذنا المسرحية إلى الانتصار لها رغم ما اقترفته.

صرخة أنثى

تتحرك الأحداث عبر جلسات التحقيق، حيث المحققة تستنطق عاتقة وزوجها السابق، في محاولة للوقوف على حقيقة الجريمة البشعة، كيف لأم أن تقتل أبناءها؟ تتكرر الجلسات عن طريقة القتل، ونكتشف مع كل رواية طريقة أبشع من السابقة، حتى يتم العثور على جثتي الطفلين بعد أن لفظهما البحر مشوهتين. السؤال عن طريقة القتل المتعمد لفضح العنف القاتل الكامن في الذات البشرية، عنف قد لا يضاهيه فيه أي كائن آخر، ويكفي قادح ما لخروج الوحش من تحت الملابس والأعراف.

وتتواصل جلسات التحقيق مع حمادي، ومنه نسمع روايات أخرى مخالفة تمامًا لما ترويه عاتقة، ونغوص أكثر مع شخصية المحققة المرأة العاقر الوحيدة، التي تثير بدورها قضية أخرى تواجهها النساء العازبات وغير القادرات على الإنجاب، وكأن المرأة التي لا يمكنها الإنجاب هي جسد فاسد يستعمل لمجرد اللذة العابرة.

المحرك الثاني للدراما، التي تقوم على مشاهد مكتملة من بداية المسرحية إلى ذروتها، هو الطبيب النفسي، وهو رجل مثلي، لكنه يخفي ذلك عن المجتمع. يحاول الطبيب مرافقة عاتقة إلى أعماق أفكارها، لفهم سبب جريمتها، وهناك نطالع مشاهد من ماضي المرأة الفتاة، ونفهم طريقة نشأتها، وهي مماثلة لأغلب الفتيات العربيات تقريبًا، ما يجعلهن ضعيفات في مجتمع الذكور الذي يصنع مفهوم المرأة على مقاسه.

يمكننا عَدّ مسرحية «آخر البحر» صرخة أنثى ضد السلطة الذكورية وضد الزيف الذي بُني عليه تاريخ كامل من المجتمعات البشرية، حتى إن من يقول الحقيقة يُعزل وقد يقتل. عاتقة اليمنية الوحيدة، قاتلة ابنيها الوحيدين بطريقة بشعة، ليست مجرد مجرمة حرَّكها الانتقام، إنها امرأة جُرحت في وجودها. وكما نطالع في مرافعات محاميتها النسوية، إنها وإن كانت مخطئة فهي امرأة وإنسان قبل كل وصم آخر. ولعل الجريمة هنا ما هي إلا مساحة لفتح ما هو أعمق من عوالم مكبوتة ومخفية في عتمة الداخل.

عاتقة/ ميديا الجعايبي تحملت بمفردها كل الألم والبشاعة لتفضح زيف المنظومات البشرية، ولا يمكن أن نحكم عليها رغم جرمها المفزع، إننا في النهاية نتعاطف معها، بل نساندها وهي تقف ضد السلطة. والسلطة المقصودة هنا بمفهوم ميشال فوكو الذي يرى أن «العلاقات السلطوية داخل المجتمع خارج العلاقات السياسية والاقتصادية والمعرفية والجنسية، إنما تكون محايثة لها وناتجة منها»، وهو ما نراه جليا عبر العلاقة السلطوية التي تظهر بين حمادي وعاتقة، أو بين حمادي ورئيسه في العمل وهو نفسه والد خطيبته الذي قتل، أو حتى بين عاتقة وابنيها، أو سلطة المحققة على المحقَّق معهم.

سلط مختلفة كلها تظهر جوانب من العجينة السلطوية الكامنة في نفوس البشر، التي تنشأ معهم وتكبر وقد تظهر وقد تختفي، فالمجتمع في النهاية مجموعة من السُّلَط المتقاطعة التي تشكل عبر نسيجها منظومات اجتماعية كابحة للذوات، لكنها قد لا تنفذ إلى أعماق النفوس التي تبقى مليئة بصراخ الكائن المتحرر.

العمل بوعي ودقة

كانت السينوغرافيا المعتمدة متقشفة: طاولة وبضعة كراسي، وخَيمة، وفي الخلفية شاشة كبيرة يعرض عليها مشهد البحر في أوقات وحالات مختلفة، بين الصفاء والهيجان، وبين الصبح والمساء.

علاقة التونسيين بالبحر علاقة مختلفة كليًّا عن غيرهم، البحر يمثل الضفة الأخرى الشمالية، وما وراءه تكمن أحلام حياة أفضل كما يتخيل الحالمون بالهجرة، البحر هو سور مائي بين التونسيين وأحلامهم وطموحاتهم. هكذا يراه الكثيرون منهم، بينما هو أيضًا مقبرة مفتوحة، عليها تطفو جثث الغرقى الحالمين، جثث قد يلفظها إلى الشاطئ، مجهولة ومشوهة، وما اختيار الجعايبي «آخر البحر» عنوانًا إلا استجلاء لذاك المكان الذي تدور قبالته جل أحداث العمل، المكان الحلم الذي يتحول إلى كابوس في لحظة؛ فما وراءه ليست أرض الأحلام.

من ناحية أخرى كان أداء الممثلين مبهرًا؛ محمد شعبان في دور حمادي، وصالحة النصراوي في دور عاتقة، وبخاصة الحركة والصوت والإيقاع التي تحكما فيها بشكل حِرفي، وهو ما جعل الشخصيتين تملآن الخشبة بطاقتهما القوية، وقلّ ما نجد ممثلين بهذا المستوى من الوعي والقدرة على اللعب. وأدى الأدوار في هذا العمل، الذي دام عرضه ما يقارب ثلاث الساعات، إضافة إلى نصراوي وشعبان، كل من ريم عياد (المحققة)، وسهام عقيل (المحامية)، وحمادي البجاوي (الطبيب النفسي).

يبقى أن نشير إلى أن الجعايبي كان دقيقًا للغاية في كل تفصيل من عمله، ورغم المدة الزمنية الطويلة للمسرحية وخلوها من البهرج أو الديكورات أو الحركة الاستعراضية، فإنها تمكنت من شد الجمهور والدخول به إلى أعماق نفسية قد تكون مخيفة، لكنها تثير السؤال؛ إذ لا يخرج من دخل ليشاهد العمل وهو الشخص نفسه بالمسلمات نفسها، عرض يزعزع القناعات ويدفعنا إلى التفكير بعمق، من نحن؟

مساءلة إنسانية

عبر مسرحيته «آخر البحر» يواصل المسرحي التونسي فاضل الجعايبي مشروعه الذي بدأه منذ سبعينيات القرن الماضي مع فرقة المسرح الجديد، في مساءلة المجتمع وكشف الخفايا النفسية والاشتباك مع السلطة لا السياسية فحسب بل الاجتماعية والدينية وغيرها من سُلط تتكاثر في المجتمعات العربية.

فاضل الجعايبي

تجربة الجعايبي طويلة ومتشعبة، ولكنها أخذت منعطفًا أكثر تركيزًا على ما هو نفسي واستثارة الفكر والنقد وكشف البشاعة دون مواربة مع ثلاثيته المسرحية: «العنف» (التي تجمع مرتكبي جرائم بشعة في مصحة نفسية)، و«خوف» (حيث يعلق مجموعة في عاصفة وتبدأ من هناك سلسلة من الجرائم والصدامات)، و«مارتير» (التي تفضح التشدد الديني عبر تفكيك ما يحدث داخل مدرسة مسيحية). ثلاثة أعمال مختلفة، لكنها اشتركت فيما بينها بأنها تستعمل بشاعة الجريمة للدخول إلى ما يحرك النفوس من غايات وهواجس وأحلام مكبوتة وأصوات مختنقة.

لا يخشى المسرحي من دخول تلك المناطق المعتمة، حيث نعيد اكتشاف أنفسنا من جديد وخاصة دون زيف أو كذب. ولعل «آخر البحر» تندرج في المسار نفسه، إلى الحد الذي يمكننا إلحاقها إلى المسرحيات التي سبق ذكرها لتكون رباعية، يعمل فيها المخرج التونسي بأسلوبه نفسه المستقى من التوليف بين ملحمية بريشت ولا معقول بيكيت، لخلق فلسفة خاصة ترى في المسرح أداة سياسية بامتياز.

المخرج التونسي الذي أثر في أجيال من المسرحيين التونسيين، تمكن من ترسيخ تجربة مسرحية فريدة تقحم المسرح في مهام صدامية ضد كل سلطة وكل ثبات، فالمسرح ليس فن تهريج ولا هو فن تسلية سطحية، إنه فن تطهير أولًا، وفن اشتباك فلسفي مع الوجود البشري بالأساس. وأعمال الجعايبي ليست موجهة للمجتمع التونسي فحسب، بل هي مفتوحة على كل المجتمعات البشرية التي لا يتوانى في نقدها بوعي وجرأة.

ولعل أفضل وصف لأعمال الجعايبي ما قدمته الناقدة والممثلة سهام عقيل التي تعتبر مسرحه بمنزلة «الصفعات الجمالية الصارخة والمتفجرة لليقين والثوابت ليهتز عرش المتفرج ضد خموله ونرجسيته التائهة». المسرح كما نراه مع فاضل الجعايبي ليس مجرد ديكورات وأزياء ودراما لشخصيات ما، إنه تكثيف شعري لأسئلة الإنسان الوجودية، إنه وجود حي لتحريك كل ما يركد داخل الذوات.