تجديد الشعرية العربية… البُعد الفلسفي

تجديد الشعرية العربية… البُعد الفلسفي

تجارب كثيرة ومتنوّعة شهدها الشعر العربي في حياتنا المعاصرة، وهي تجارب متفاوتة على المستويين (الفني والجمالي). غير أنّ الملاحَظ أنّ نسبة غير قليلة من هذه التجارب تتحرَّك في الفضاء الفنّي المتداوَل، ولا تخترق هذا الفضاء باتّجاه ما هو ساحر ومبتكَر. من جهة أخرى نلاحظ أن مجموعات أخرى من الشعراء تعتمد في قصائدها على الكتابة التقريرية المباشرة، حيث تصبح القصيدة هنا شبيهة بالخُطبة. ولذلك فأصحاب هذا الاتجاه من الشعراء غالبًا ما يلجؤون إلى تضمين هذه القصائد بالشعارات الرنّانة، التي يعتقدون أنّهم يكسبون بواسطتها تأييد الجمهور.

العلاقة بين الشعر والفلسفة

للخروج من هذه الأوضاع المربكة التي يعانيها الشِّعر، ثمّة وسيلة مهمّة لتطوير الشعرية العربية الحديثة، إلى الحدّ الذي يُمكِنُ أن تُحدث فيها تَغَيُّرًا نوعيًّا، بحيث يصبح هناك ثقل معياري للقصيدة، يمدّها بطاقة كبيرة لا تنضب، ويجعلها قابلة للحياة في المستقبل. هذه الوسيلة التي نحن بصددها، تقوم على تعميق العلاقة بين الشعر والفلسفة.

العلاقة بين الشعر والفلسفة هي علاقة قديمة، تمتدّ منذ الحضارات البشرية الأولى حتى أيّامنا هذه. وقد اتّضحت هذه العلاقة بينهما أكثر ما اتّضحت في الحقبة الإغريقية، حيث قام الجدل حولها بين الفيلسوفين الكبيرين: أفلاطون وأرسطو. في البداية رفض أفلاطون وجود هذه العلاقة، وقام بطرد الشعراء من مدينته الفاضلة. وقد علّل أفلاطون فِعلتَهُ تلك بكون الشِّعر مجرّد محاكاة للواقع، وأنّ هذه المحاكاة تقوم على تهويمات الخيال، التي تتسبّب بالاحتكام إلى قطبي اللذة والألم، بدل المنطق والقانون، ممّا يجعل الشعر آخر الأمر مضادًّا للحقيقة كما يستنتج. أمّا الفلسفة كما يراها أفلاطون، فهي تقوم على الجدل الذي يعتمد على القانون والمبادئ العقلية طريقًا للوصول إلى الحقيقة. بالنسبة إلى أرسطو فقد وقف وقفةً مغايرة ممّا طرحه أفلاطون؛ إذ اعتبر أنّ المحاكاة التي يقوم بها الشعر بعيدة من نسخ الواقع. وقد ربطها أرسطو بالخيال الذي يقوم على الخلق والابتكار. من هنا فالمحاكاة هي عبارة عن حوار عميق مع الطبيعة، يصل الشاعر بواسطتها، إلى آفاق رحبة في معرفة الحياة والوجود.

الفلسفة في الشعر العربي

على المستوى العربي، فقد ارتبط الشّعر العربي القديم ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة. ربّما كانت الطبيعة الصحراوية المفتوحة على الأمداء، والتنقل المستمرّ، والغزوات التي تخلّف القتل والدمار، سببًا كافيًا للتأمل والشكوى والشعور بالعبث الذي يحيط بالحياة. من هنا ولدت قصيدة الشاعر الجاهلي محمّلة بالأسئلة الوجودية، والآلام الفادحة. هذا هو الشاعر امرؤ القيس يقول:

«أرانا موضعينَ لأمر غيبٍ.     ونُسحَرُ بالطعامِ وبالشرابِ

عصافيرٌ وذبّانٌ ودودٌ.   وأجرأُ من مُجَلَّحَةِ الذِّئابِ

فبعضُ اللومِ عاذلتي فإنّي.   ستكفيني التّجاربُ وانتسابي

إلى عِرقِ الثَّرى وشَجَتْ عروقي.   وهذا الموتُ يسلبني شبابي»

فهذه الرؤية التي تقدّمها القصيدة للحياة، هي محض رؤية وجوديّة. وهي بمنزلة كشف خطير أعلن عنه الشاعر في مرحلة قديمة من عمر البشرية.

وهذا هو الشاعر المخضرم (تميم بن مقبل) الذي يقول:

«ما أطيبَ العيشَ لو أنّ الفتى حجرٌ/

تنبو الحوادثُ عنُه وهوَ ملمومُ».

حيث إنّ وجوده في الحياة كحجر، ينقذه من مصائب الحياة/ وعلى رأس هذه المصائب الموت. ومثل تميم يتعذّب الشاعر المخضرم الآخر، (النَّمر بن تولب) الذي يصيح بأعلى صوته قائلًا:

«ألا يا ليتني حجرٌ بوادٍ/  أقام وليتَ أمّي لم تلدني».

تجارب شعرية مهمّة ظلّت تتوارد بعد ذلك، في العصرين الأموي والعبّاسي، وتُشرِعُ رؤاها الفلسفية في أرض الشعر، إلى أن امتزج الشعر بالفلسفة لدى شاعر، شكّلت تجربته حالةً متميِّزة في تاريخ الشعرية العربية، وهو الشاعر أبو العلاء المعرِّي. لقد كان المعري واسع الاطلاع في عدد من الحقول المعرفية، كالعلوم والفلسفات والأديان، وقد تنقّل بين عددٍ من المدن المعروفة بعلمائها ومكتباتها في ذلك الوقت، مثل حلب وأنطاكية وطرابلس وبغداد، فنهل من علمها وكتبها الشيء الكثير. إضافةً إلى ثقافته، فقد كانت إصابته بالعمى من العوامل التي وسّعت رؤيته الروحية للعالم. من قصائد المعري التي يمكن أن تضيء منهجه الشعري الفلسفي، القصيدة التي يرثي بها صديقه أبا حمزة الفقيه، والتي يقول فيها:

«غيرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي/ نَوْحُ باكٍ ولا ترنُّمُ شادِ

/ وشبيهٌ صوتُ النَّعِيّ إذا قيـــــــــ/ـــس بصوتِ البشيرِ في كلّ نادِ

/ أبكتْ تلكم الحمامةُ أم غنَّــــــــــ/ـــتْ على فرعِ غُصنها الميّادِ

/ صاحِ هذي قبورنا تملآُ الرَّحْبَ/ فأين القبورُ من عهدِ عادِ

/ خفِّف الوَطْءَ ما أظنُّ أديم الـــــــــ/ـــأرضِ إلّا من هذه الأجسادِ».

إذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث، فإنّنا سنجد محاولةً جديدة لتلقيح الشعر بالفلسفة. لقد أدخل روّاد الحداثة الشعرية، الكثير من الرؤى الفلسفية في نتاجهم الشعري، وكان الشاعر بدر شاكر السّيّاب من أوائل الذين طعّموا الشعر بالفلسفة. ومن قصائده التي أبدعها في هذا المجال: (حفّار القبور، المومس العمياء، ومدينة السندباد). لقد انفتح هؤلاء الرّوّاد على أرض الأسطورة، كأرض غنيّة بالجماليات والوقائع المثيرة والأبطال الغرائبيين.

لكنّ الذي حدث فيما بعد أن الأجيال الشعرية التالية قد تخفّفت من هذا الحمل، وكانت الحُجّة عندهم هي أنّ الكتابة الشعرية العربية أصبحت مستوطنة بالأساطير الغريبة خصوصًا الإغريقية، ومنها أسطورة عوليس وبنيلوب على سبيل المثال، الواردة في ملحمة الأوديسة للشاعر اليوناني القديم (هوميروس). لقد نهل من هذه الأسطورة عدد كبير من الشعراء العرب في عقدي الخمسينيات والستينيات، وضمّنوها في قصائدهم.

ذوبان المادة الفلسفية في ماء الشعر

الآن، ولتوضيح العلاقة بين الشعر والفلسفة، نتوقّف عند مجموعة من الأسئلة: كيف نطعّم الشعر بالفلسفة؟ ما طبيعة المادّة الفلسفيّة التي يُمكن أن نُشيعها في القصيدة؟ ما طبيعة الشاعر الذي يكتب القصيدة ذات البعد الفلسفي؟

بالنسبة إلى السؤال الأوّل (كيف نطعّم الشعر بالفلسفة)؟ فالأمر هنا لا يقوم على حشو القصيدة بالمقولات الفلسفية الجاهزة، أو على استيعاب تلك المقولات بصِيَغِها الأوّليّة. الفلسفة تدخل الشعر كرؤية، كصدى أو كظلال من خلال البنية الشعرية التي تعتمد على التخييل. ومن الشروط الأساسية التي ينبغي تطبيقها، هو أن تكون الحمولة الفلسفية قد ذابت على آخرها في ماء الشعر. إنّ عدم ذوبان المادّة الفلسفية كاملة يشكّل معضلة ما، وخللًا كبيرًا في بنية القصيدة. أمّا الإجابة عن السؤال الثاني: (ما طبيعة المادّة الفلسفيّة التي يمكن أن نُشيعها في القصيدة)؟ فهي تتضمّن الرؤى الفلسفية بمعانيها المتعدّدة: ما هو معروف منها، وما هو جديد ومكتشف. هنا، لا يقوم الشاعر بتقديم عبارات بعينها تشرح للقارئ وتلقِّنه المادة السابقة، وإنّما يقوم القارئ نفسه بعد قراءة النّصّ بتكوين فكرة عن هذه المادّة، من خلال الإيحاء الذي تلقّاه. ليجدها -أي المادّة الفلسفية- تتسرّب إلى روحه وتثيره. من هنا يمكن اعتبار القراءة بمنزلة كتابة أخرى للنصّ، يقدّمها القارئ.

في الإجابة عن السؤال الثالث: (ما طبيعة الشاعر الذي يكتب القصيدة ذات البعد الفلسفي)؟ نقول: هو الشاعر الرائي صاحب الموهبة من جهة، والمثقّف أيضًا. الموهبة مهمّة في هذا المجال، ولكنّ الثقافة تكمل دور الموهبة. نعود إلى الموهبة لنؤكّد أنها أساسية؛ لكون الشاعر يستطيع من خلالها، أن يحسّ بالأشياء ويراها من زاوية نظر محدّدة ومغايرة، لا تتوافر لدى الآخرين. في الحياة ثمّة مشاهد يومية تبدو عاديّة، يمرّ عليها الناس ولا تجذب نظرهم. حين يمرّ الشاعر عليها يكتشف فيها كنزًا عظيمًا من الجمال، فيذهب بعد ذلك ويجلس في معتزله ليكتب. ليس شرطًا على الشاعر هنا أن يكون فيلسوفًا لينقل المادة الفلسفية إلى النصّ. إنه راءٍ من طراز خاص يتأمّل الوجود، ويطلق الأسئلة. لا ليصل إلى إجابات محدّدة ويستريح، ولكن ليصل إلى ذروة النشوة والتجلّي، فثمّة معراج شعري هنا يقيمه الشاعر، شبيه بالمعراج الصوفي.