الحداثة بين سردي «النهاية» و«البداية»
يأتي كتاب «لا شيء قيل من قبل»(1) ليتوج الجهد الذي كرسه المؤلف فيليب فوريست للتعريف بمنجز «النظرية الفرنسية» وأصولها وغاياتها وخلفياتها المعرفية وروافدها(2). يسعى الكتاب عمومًا إلى مناقشة من يزعم أن الحداثة انطفأت جذوتها، وأن الأدب لم تعد له جدوى في حياتنا الراهنة بدعوى أن «كل شيء قد قيل» واستنفد قيمته، ولم يبق للخلف ما يقوله أو يبدعه. وهذا ما حتم على المؤلف -بحسب ما ورد في كلمة ظهر الغلاف- أن ينأى بنفسه عن الصخب الإعلامي والطرح الأكاديمي المتعالي لمساءلة «الكلام الأدبي» وحفزه على التصالح مع نفسه ومع الواقع المتغير، والاستجابة لمتطلبات العصر الراهن (المحدث بعد كل شيء).
ينطلق فيليب فوريست في بداية الكتابة من قول سورن كير كيغارد مفاده أن الجيل الجديد يتعلم من الأجيال الأخرى، لكنه لا يمتثل حرفيًّا للجيل السابق؛ لأنه مضطر إلى البدء من الصفر لإثبات ذاته، والتميز عن السلف. وهذا ما يبين أن التاريخ البشري لا يتوقف على ما مضى فحسب، بل يجب عليه أن يدبِّرَ لحظة الحاضر ويواجهها ويسائلها بحثًا عن أفق جديد ومغاير.
استوحى المؤلف عنوان كتابه من قول شهير لإيزدور دوكاس: «لم يقل أي شيء»، التي تتموضع بين قولين شهيرين لكل من جون دو لابرويير الذي يدافع عن عبارة «كل شيء قد قيل» وفيليب جاكوتي الذي يلحّ على أن «لا شيء قيل من قبل». يعزز لابرويير الطرح الكلاسيكي الذي يقر أن الأدب مضطر إلى تقليد الماضي بوصفه تجسيدًا للجمال الخالد المتمثل في الأشكال الثابتة. وتأتي الأطروحة الحداثية النقيض لدوكاس لإثبات توجه الأدب نحو المستقبل بما له من قدرة على ابتكار جمال متجدد في أشكال متحركة. وتندرج عبارة جاكوتي في إطار التركيب المابعد حداثي الذي يموضع الأدب في حاضر موزع بين الذاكرة المحيلة إلى الماضي والرغبة الملحّة في المستقبل.
تبنى فيليب فوريست طرح دوكاس «لم يقل أي شيء» الذي وإن استوعب تناقضات الحداثة والتباساتها، فهو -مع ذلك- يصر على الرهان والوَعْدِ بغدٍ ممكن.
الحداثة والطليعة
يرى لويس أراغون أن الحداثة لا تستقر على تعريف جامع. فهي «تذوب في الفم إبان تشكلها»، و«تزحزح المفاهيم جميعها». لا يتوقف إشكال الحداثة عند عدم ثبات محتواها. إن الإقرار بأنها تتغير لا يعني أنها غير موجودة. فهي تتبدل بمرور الوقت مستعيرة الأشكال المتتالية والمتصارعة أحيانًا. لكنها تظل بمنطق هذا التعبير ثابتة، وتقتضي التفكير فيها ومساءلتها.
بالرجوع إلى تعريفات الحداثة يتضح أنها لا توجد إذا ما اعتبرناها لحظة زمنية يمكن أن تقْتطعَ من سيرورة الزمن ببدايتها ونهايتها. في حين توجد الحداثة إذا ما اعتبرت توجهًا نحو الجديد النشيط على نحو كوني ومستديم، وبطريقة متغيرة بحسب وظائف العصور والثقافات المعنية. غالبًا ما يرجَع إلى شارل بودلير بصفته أول منظر للحداثة، لكن تصوراته -في مجملها- لا تخلو من التناقض. وهكذا تتحدد الحداثة في نظره بصفتها «الجمال الجديد» و«الرومانسية الممتدة» و«الجمال المتضمن للخالد والثابت»، و«الجمال العابر والمؤقت في لحظة الحاضر» و«جمال اللحظة المتكررة» (التمجيد البطولي للحاضر قي تغيره وديمومته).
اقترنت الحداثة مع شارل بودلير بالطليعة التي استلهم مفهومها من المعجم العسكري ليعنى به نخبة أو جماعة متقدمة على عصرها تنتقد المواضعات الأدبية والفنية والسياسية السائدة، وترهص بقيم وبدائل جديدة. وهي بذلك «تضطلع بثورة مضاعفة (أحيانًا تكون ثورة شاملة باستهداف العادات والأخلاق)، وتحدث قطيعة مع الوعي للتقدم على العصر سواء أتشبثا بعملية الهدم (العدمية) أم سعيا إلى إدراك مثال إعادة البناء (أبحاث حول الشكل، العمل السياسي، الطّوبى)»(3).
التقليد والتجديد
تشيد الحداثة بشعرية الحاضر، وتراهن الطليعة على ضرورة تجديد الفن. وكلاهما يلحّ على مراجعة تمثيل الواقع والطرائق الفنية المعتمدة لتصوير الواقع، وعلى اقتراح بدائل جديدة تستجيب لمتطلبات العصر وانتظاراته. ومن ثم يتضح البون بين «جمالية التقليد» التي يتشبث بأهدابها أتباع التقليدية وبين «جمالية التجديد» التي يدافع عنها أنصار الحداثة.
سارت الركبان بترديد المحاكاة الأرسطية حرصًا على ترسيخ نمط فني وجمالي لتمثيل الواقع. وهكذا نعاين حضور المفهوم بصيغ مختلفة في كثير من المحطات عبر التاريخ. ومن ضمنها: «الفن الشعري» (بيان التقليدية) لبوالو، و«معالجة الجميل» لديدرو، وفي مقدمة فصل من فصول رواية «الأحمر والأسود» لستندال، وفي رواية «الجلد المسحور» لبلزاك، وفي تصورات كوتفرايد وليام لبنيز صاحب القول الشهير «روح الشاعر مرآة العالم». في كل هذه المحطات وغيرها تحضر بشكل أو بآخر عبارة «المرآة المركزية» التي وإن كانت تموه الواقع تعد ثمرة وانعكاسًا له. لا تفي المرآة بنقل الواقع كما هو، بل تعيد تمثيله وتشكيله بالنظر إلى موقف الكاتب من العالم. وهذا ما جسده لافونتين في قوله الموحي: «لست عبدًا عندما أقلد»، وفي قوله المستوحى من عوالم بيتارك وسنيك وهوراس: «الشاعر مثل النحلة التي تصنع عسلها مما تأخذه عن الآخرين»(4).
يراهن أنصار التجديد على عدم إنتاج الواقع بالوسائل والأدوات المستهلكة والمتقادمة، وعلى إعادة قراءة أرسطو بالنظر إلى إيثاره الشعر (الانزياح عن الواقع، والإرهاص بالممكن) على التاريخ (التقيد بما حدث)، وعلى تمييزه بين «احتمال الوقوع» و«حقيقة ما وقع»، وبين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل.
إن التجديد -بحسب بيير برتراند- هو خلق شيء جديد من العدم بفضل الخيال. وهو -في نظر جاك دريدا- اكتشاف ما وجد من قبل. وهكذا يرى فيليب فوريست أن التقليد والتجديد يتبادلان الأدوار فيما بينهما وإن كانا يختلفان ظاهريًّا. كل طرف يستدعي الآخر: التقليد بالنسبة للمحافظين يفرض التجديد، والتجديد في نظر المحدثين يستند إلى التقليد. مع العلم أن «التجديد في تصور المحافظين لا يلتبس بمعنى التجديد عند المحدثين. التقليد كما يتمثله المحدثون لا علاقة له بالتقليد كما يتصوره القدامى»(5).
لا يتلاعب فيليب فوريست بالألفاظ بقلب مواقعها، بل يريد أن يؤكد حقيقة سبق لديدرو أن أدلى بها: «إن التقليد الجيد هو تجديد متواصل». ومجمل القول: إن فوريست لا يدعم أطروحة القطع مع النماذج القديمة، بل يصرّ على تمثلها ومساءلتها وتجديدها؛ سعيًا إلى اكتشاف «الثروات الخفية».
عملت البنيوية على استبعاد «المحاكاة الكلاسيكية»، وتحديد الحداثة بصفتها زمنًا لما بعد التمثيل، ونزوعًا إلى التعامل مع النص بطريقة محايثة احتفاءً بعالمه المغلق، وبشعريته التي تعد الموضوع الحصري للكتابة (ما يصطلح عليه بالنصيَّة (Textualisme)؛ أي النص في ذاته ومن أجل ذاته).
النص والواقع
يميل المؤلف فيليب فوريست إلى الاتجاه الأدبي الذي يدعم التمثل المضاد بصفته وجهًا من وجوه «الحداثة الجمالية» التي تشي بأزمة المحاكاة كما عبر عنها كل من مارسيل بروست: «تكمن الحياة الحقيقية في الأدب»، وبول فاليري: «لا وجود لمعنى حقيقي في النص»، وبول ريكور: «اللغة تتناغم مع ذاتها»، وألان روب غرييه: «ليس للكاتب الحقيقي ما يقوله»، وستيفان ملارميه: «موضوع أعمالي كلها هو الجمال، وما الموضوع الجلي إلا ذريعة للوصول إليه (الجمال)»، وشارل بودلير: «ليس للشعر من هدف غير ذاته». وهذا ما تَعزَّزَ بفضل تناسل مفاهيم من قبيل «الواقعية المضادة» أو «الواقعية العليا» (السوريالية) أو «الواقعية الجديدة» حرصًا على النأي بالنص عن الواقع، وجعله أكثر انغلاقًا على ذاته ومكتفيًا بمؤهلاته الجمالية والفنية التي تسعف على التجديد ومواكبة روح العصر، ومتسمًا بعمقه الداخلي «الذي تتجلى فيه الإنتاجية؛ أي الكتابة التي لا تختزل في معنى أحادي، بل في معنى يتآزر مع الحركة الجماعية (الاندلالية)»(6).
يتضح مما سبق أن موضوع جمالية النص هو الأدب «لاكتشاف ماهيته الخاصة، والتعبير عنها»(7). يجد اتجاه التمثيل المضاد ملاذه في عيِّنة من الأعمال التي تدعم صحة طرحه (روايات غوستاف فلوبير مثلًا)، في حين يجد أنصار التمثيل ضالتهم في أعمال كثيرة من قبيل روايات هنري دو بلزاك الذي كان يستعين بالتوثيق حرصًا على نقل الواقع بأمانة، وتقديم نظرة عامة عن البشر وقيمهم وعاداتهم في مختلف التجارب البشرية (التمثيل الشامل).
ينظر النقد إلى تجربة بلزاك من وجهات نظر متعددة. هناك بلزاك نذير الواقعية والتمثيل الواقعي، وهناك بلزاك كما صوره ألان روب غرييه (بلزاك الحداثي لعدم استقرار عوالمه الروائية، ولعدم توافقها، ولعدم استنفاد معانيها) ورولان بارت في كتابة «س/ز» وإن كان يعرض الواقع فرواياته تتسم بالعمق، وتخفي أسرارًا، وتخلق كائنات في هيئة الملائكة والوحوش. وهناك من يدرج بلزاك في عداد الرومانسية التي أرست دعامات الجمالية الحديثة (فيكتور هيغو، بلزاك، ستيفان مالارميه، فلوبير) ما بين عامي 1830م و1869م، وآثرت الرمز والسامي على المبتذل والمكرور. وفي السياق نفسه، تعامل الشعريون مع أعمال بلزاك وغيرها ليس بصفتها نقلًا للواقع، بل تمثيلًا لمظاهر وهمية بسبب تعذر اللغة على نسخ الواقع (ما يصطلح عليه بـ«وهم الواقع»). «لا يتخلى هذا النوع من المؤلَّفات عن إنتاج تمثيل للعالم (المأساة الجماعية والفردية الكبرى)، بل يَرْهَن التمثيل بالتخييلات التي تشكل الوعي (شعرية النص)، وباستخلاص حقيقة الهاوية التي تصب فيها وتتأتى منها الأشياء كلها (شعرية الواقع)»(8).
وهكذا يتضح أن الجمالية الحديثة تعتبر أن التناغم بين النص والواقع وهمًا، وتوطِّد مفهومًا جديدًا لبيان القطيعة بينهما (اللاتناغم الجذري) بدعوى أن التجربة البشرية تظل دومًا هاربة ومقاومة، وتند عن احتوائها بطريقة شاملة ونهائية بحسب فرنسي بونج Franci Ponge «هذا الكلام يتكلم «ضد الكلام»، وتتموضع جماليته في شكل بديل يحضن جانبًا من الوضع البشري الذي لا يمكن أن يستوعب باللغة العادية»(9).
لا يراهن الطرح المغرق في تعزيز «جمالية النص» على إفراغ الأدب والفن مما يتضمَّنانه من محتويات وأفكار، وعلى تجريد الكتَّاب من مواقفهم حيال الوجود، بل يدافع أصحابه (الطرح) عن وجهة نظر خاصة بهم تميزهم عن المدافعين عن «الانعكاس» و«التمثيل» و«إعادة الإنتاج». وفي هذا الصدد، قال رامبو: «الشاعر هو عَالِمٌ سام»، وزكَّى فردريك شليغل التقارب بين الأدب والفلسفة إلى حد تلاحمهما: «يجب على الفن أن يصبح علمًا، كما يجب على العلم أن يصبح فنًّا. ينبغي للشعر والفلسفة أن يتلاحما»(10). وهذا ما يدعم فكرة أن الأدب ليس لعبًا لفظيًّا، بل هو تعبير عن الحقيقة. كل ما في الأمر أن مناصري طرح «جمالية النص» يحرصون -في توجههم- على التمييز بين التمثيل والتمثيل المضاد، وبين ما وقع وما يجب أن يكون، وبين المعايير الجمالية الثابتة والمعايير الجمالية المتغيرة، وبين اللغة التي تراهن على تكريس الواقع واللغة التي تسعى إلى قلب المواضعات المتوارثة.
أفضى هذا النقاش إلى «تسييس الأدب» من منظرين مختلفين: من يتعامل مع الأدب بصفته رديفًا أو تابعًا لمواقف أيديولوجية، ومن يعده أداة مستقلة لإعادة التفكير في العالم بطرائق مغايرة. وفي هذا السياق، تندرج مؤلفات كان لها دور كبير في إرساء المنزلة الجديدة للأدب في العصر الراهن؛ ومن ضمنها الكتاب الجماعي الذي ألفته جماعة (تل كيل Tel Quel) «نظرية المجموعة»، وأكد أحد المساهمين فيه، فيليب سولرس أن: «الكتابة استمرار للسياسة بوسائل مغايرة»(11)، ثم الكتاب الذي ألفته جوليا كرستيفا «ثورة اللغة الشعرية» محدثة قطيعة مع الممارسة الخطابية التقليدية، ومرهصة بـ«ممارسة خطابية جديدة في تلاؤم مع الممارسة السياسية الجديدة»(12)، وسبق لأندريه بريتون أن أجمل -في قول موحٍ له عام 1935م- طبيعة العلاقة التي تربط الأدبي والسياسي مع احتفاظ كل طرف بدوره ووظيفته في استقلال عن الآخر. «تغيير العالم» بحسب كارل مارس، و«تغيير الحياة» بحسب رامبو: هما -بالنسبة لنا- وجهان لعملة واحدة(13).
نهاية الأدب
حققت مؤلفات فرنسوا ليوتار نقلة نوعية من إبدال الحداثة إلى إبدال ما بعد الحداثة، وأحدثت قطيعة مع مفهوم التمثيل، وأحلّت محلّه مفهوم التصنع. أصبح الواقع فُرجة وتصنعًا؛ لأنه لم يعد له وجود إلا من خلال الصورة. تلاشى ومات لكن دون أن يهتدى إلى جثته (جريمة محكمة). أضحى وهمًا في أذهاننا، يخفي عنا الحقيقة- الوهم التي تتجسد في هيئة «الحلم» بحسب شكسبير أو «الكهف» بحسب أفلاطون.
بانتصار الفرجة توترت الحدود بين مقولات «التحقق» بدعوى صعوبة التمييز بين الحقيقي والمزيف، بل اختلت الموازين بينهما إلى درجة أن المزيف أضحى يشغل مهمة الحقيقة التي فقدت هالتها وأصالتها.
يدعو طرح جون بودريار إلى التفكير في آخر مرحلة من الاستلاب، والقطع مع المعتقدات السابقة التي صاغتها «السرديات الكبرى» على مقاسها، والنأي عن التصورات الغائية التي تعد بعوالم فضلى. من بين العناصر التي قامت عليها ما بعد الحداثة هو التوفيق بين الأضداد (القديم/ الجديد، الأعلى/ الأسفل، الحاضر/ الماضي)؛ سعيًا إلى تكريس موقف تركيبي نجد أنفسنا -في كل المراحل- أمام الصيغة العسكرية التي تقتضي الانسحاب أو الاستخلاف. لا يتحقق الخلف إلا باستثمار الجوانب المنيرة في الماضي، وإعادة صياغتها وتشكيلها وفق متطلبات العصر. وفي هذا السياق ظهرت الطبيعية الجديدة (néo-naturalisme) التي يعتني أصحابها بالبساطة والتلقائية والبوح المباشر والكتابة البيضاء تطلعًا إلى إثارة القضايا النفسية والأيديولوجية التي تشغل الرأي العام اليوم. وفي عدادهم تندرج السير الذاتية التي ألفتها آني إرنو بلغة بسيطة ومباشرة (أسلوب الحد الأدنى) سعيًا إلى إيصال إلى القراء جراحها الرمزية وصدماتها النفسية الناجمة عن وضعها الاجتماعي والثقافي بصفتها «مهاجرة داخلية» أو «محللة اجتماعية».
كثيرة من المؤلفات النقدية بارت عناوينها ومحتوياتها على «نهاية الأدب وأفوله» بدعوى عدم فائدته وفاعليته في الوقت الراهن. لكن يتأكد من التجارب السالفة أن كل نهاية ترهص ببداية جديدة. وهكذا أصبحت النهاية في نظر جاك دريدا «فرمكون» أو سمًّا وترياقًا في الآن نفسه. تموت وتحيا بحسب الظروف والحاجات. لا شيء يطمس بشكل نهائي. فما أصبح في عداد النسيان والموت يبعث من مرقده لحاجة الناس إليه في مقامات جديدة. ومن ثم تبرز بدايات جديدة وأساسية كأن شيئًا لم يقل من قبل وفق ما يوحي به عنوان الكتاب، وكأن الحاضر يعد بمستقبل يخلق من جديد.
بالحداثة لا يتوقف العالم عن التغيير. وهو ما يقتضي منا تغيير تصوراتنا وآرائنا، وأنماط عيشنا، وأشكال حياتنا، وإثبات «بأننا حاضرون في الزمان»(14)، وتأكيد أن الزمن الحديث هو القطيعة مع الذات ونفيها باعتماد النقد البناء. وهو ما يؤكد ملاءمة قول بودلير: «التمجيد البطولي للحاضر» سعيًا إلى فهمه ونقده واقتراح بدائل متطورة. إن الانتماء إلى الحاضر بذهنية الطليعي والحداثي هو بمنزلة «السلبية الشاملة» إزاء الخطابات والأشكال السائدة التي تحتاج إلى المساءلة والنقد تطلعًا إلى مواكبة العصر، وتجديد نسغ الحياة، وتطوير أشكال التعبير وأجناسها، وتحقيق المصالحة بين الأدب والواقع المتغير.
(1) Philippe Forset, Rien n’est dit, Moderne après tout , Seuil,2023.
(2) أستاذ جامعي وباحث ولد في باريس عام 1962م. من مؤلفاته النقدية: فيليب صولرس (1992م)، ألبير كامو (1992م)، تاريخ تل كيل (1995م)، الرواية والواقع وأبحاث أخرى (2007م)، الرواية وضمير المتكلم (2009م). ومن رواياته: الطفلة الخالدة (1997م)، طوال الليل (1999م)، الفيضان، (2016م) النسيان (2018م)،.
(14) Ibid.,p.415.