فتحي المسكيني: لا معنى لحريةٍ تملك مضمونًا جاهزًا.. والمفكّر الذي يحمل هوية جاهزة هو «داعية» يحرس جثّة

فتحي المسكيني: لا معنى لحريةٍ تملك مضمونًا جاهزًا.. والمفكّر الذي يحمل هوية جاهزة هو «داعية» يحرس جثّة

هو جزء من الجامعة التونسية، مفكر وفيلسوف ومترجم، وأستاذ للتعليم العالي بجامعة تونس. الدكتور فتحي المسكيني، من مواليد بوسالم عام 1961م حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة، معروف بغزارة فكره وإنتاجه، صاحب أعمال مثل: «نقد العقل التأويلي، أو فلسفة الإله الأخير»، 2005م، «الهوية والزمان»، «تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن»، 2001م، «التفكير بعد هايدغر، أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل؟»، 2011م، «فلسفة النوابت»، 1997م، «الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة»، 2011م، «الفيلسوف والإمبراطورية، في تنوير الإنسان الأخير»، «هيغل ونهاية الميتافيزيقا»، 1997م، «الكوجيطو المجروح: أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة»، 2013م، «الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية»، 2013م، «الدين والإمبراطورية: في تنوير الإنسان الأخير». 2015م، «الهجرة إلى الإنسانية»: 2016م، «الإيمان الحر أو ما بعد الملة- مباحث في فلسفة الدين»… وغيرها من المؤلفات.

كما عرف عنه نقله وترجمته لكبريات النصوص الفلسفية التي شكلت منعطفات حاسمة في التاريخ الإنساني، من قبيل ترجمته لـ: «جنيالوجيا الأخلاق»، نيتشه، «الكينونة والزمان»، هايدغر 2012م، «الدين في حدود مجرد العقل، كانط»، 2012م، «المثالية الألمانية» 3 مجلدات، (بالاشتراك مع آخرين)، 2012م، «قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية». تأليف: جوديث بتلر. 2022م، «آلان باديو على لسان آلان باديو». 2022م.

هنا حوار معه حول مشروعه الفكري وترجماته ومشاغله الأخرى.

النفس والذات، الانتماء والهوية

  تقول في مؤلفك «الفيلسوف والإمبراطورية، في تنوير الإنسان الأخير» في الصفحة 201: «إنّ كلّ ما نقوله عن أنفسنا، وكل طرق وعينا بذواتنا، قد أصبح فجأة قضية محلية لا مكان لها في السردية الكبرى للإنسانية الحالية». كيف يمكننا أن نعيد لذواتنا حسها التاريخي، وللتنوير بريقه، في مضمار الإنسانية الكبرى؟

  «ما نقوله عن أنفسنا» هو العنصر السردي أو التراثي ممّا نسمّيه اليوم «هويتنا»: كل تلك المساحة من المعلقات والقرآن إلى ابن خلدون، هي تقع تحت علامة «أنفسنا» أو «مصادر أنفسنا». ونحن غير مخيّرين في أن «نكون» أنفسنا تلك بوصفها مادة تشكيلية للانتماء، إلا أنّها فقدت اليوم كلّ نجاعتها «الأنطولوجية»: إنّ نموذج وجودنا قد تغيّر. لقد صرنا «محدثين» بشكل كولونيالي.

لو عدنا «الآن» إلى «النحن» الخاص بنا سوف نجد أنّ ما نسمّيه «نحن» هو مشروع «ذات» لكنّه لا يزال لا يعرف من معنى لذاته غير «النفس» التراثية، أي هوية الانتماء لا غير؛ ذلك يعني أنّنا لا «نملك» من أنفسنا سوى الجانب «الموضوعي» منها: ما هو «موضوع» أمامنا بوصفنا «نحن»؛ وذلك يعني مجرّد سردية لبناء الهويات، ولكن من دون قدرة على «التذويت». نحن «نخضع» لسلطة لا تزال خارجنا، سلطة لا تساعدنا على أن نحوّل خضوعنا لها إلى ذاتية. سلطة لا تؤمن بنا إلا من خارج مشاريع ذواتنا الجديدة. والسبب الأوّل هو أنّ بناء الذوات يختلف عن وراثة النفوس: إنّ بناء الذات يحتاج إلى مقولة «الفرد»؛ وهي مقولة ظلّت في تراثنا تحت احتكار الأب/الملك/الإله، ولم تكن أبدًا إمكانية وجودية متاحة لأيّ من كان. أمّا النفس فالسردية تذكّرنا دومًا بأنّها «هبة» من العائلة أو من الجماعة أو من الإله.

لقد نجح الغرب في تغيير قبلة ما نسمّيه «الإنسانية الحالية» أي الإنسانية الغربية التي فرضت نموذجها «الذاتي» في كل مكان: كل «غير الغربيين» هم اليوم بصدد «التذوّت» بشكل غربي. لا يعني ذلك أنّ هيمنة السلوك الكولونيالي هو مبرّر أخلاقيًّا؛ بل فقط أنّ نموذج «الذات» الذي استحدثه الأوربيون قد تغلّب على بقية نماذج «النفس» في كل مكان من الأرض. لسنا وحدنا إذن من فقدوا منصة أنفسهم ووجدوا أنفسهم مجبرين على تجديد علاقتهم بأنفسهم، نعني مجبرين على اعتناق مشروع «التذويت» بوصفه أفضل اقتراح أخلاقي بالنسبة إلى الإنسان اليوم، سواء كان «حديثًا» أو «ملقى به في الحداثة».

وربما نحن قادرون على شيء «آخر»: علينا اختراع «موقع تلفّظ» خاص بمن لم يتكلّموا باسمهم الخاص إلى حدّ الآن إلا بوصفهم من «سكّان الماضي». وليس أظلم من سردية تتحدّث عنك بوصفك مجرّد «راسب» هووي عن نمط من الإنسان لم يعد ممكنًا. طبعًا، علينا عندئذ ألا نتراجع عن التساؤل: ما الذي يمنعنا عن ذلك إلى حدّ الآن؟

الحداثة واختراع الذات

  سيطر الالتباس على المنعطفات الفكرية الكبرى للحداثة ومساراتها الإبستمولوجية ودلالتها الفلسفية. في نظر الفيلسوف فتحي المسكيني، ماذا يعني أن نكون حداثيين اليوم؟ وهل من الضروري أن نكون كذلك؟

  في الحقيقة، نحن لسنا مجبرين على «أن نكون حداثيين» بالمعنى الذي طوّره الأوربيون منذ أن نجحوا في بناء هويتهم «الغربية». إنّ اعتناق «رغبة الحداثة» دون وعي نقدي بماضيها الكولونيالي كما فعل جلّ «التنويريين» لدينا من نهاية القرن التاسع عشر، هو في الواقع باثولوجيا كولونيالية.

آن الأوان للتعامل معها على هذا الأساس. وكل ما يسمّى «منعطفات فكرية كبرى للحداثة» هو مجرد ادّعاءات سردية أوربية علينا أن نفضح طابعها «الريفي» أو «المحلي»: لسنا وحدنا من يعاني وطأةَ «المحلّي». إنّ «ترييف أوربا» (حسب تعبير شاع مع المؤرخ الهندي ديبيش شاكرابارتي، أحد روّاد «دراسات التابع»، لكنه في الحقيقة يعود إلى غادمير الذي حدّد له تاريخًا دقيقًا هو 1914م) هو شرط إمكان «توطين الحداثة» في أيّ مكان غير غربي.

والمفارقة هي: كيف نستفيد من أزمة الحداثة الغربية، أي من «الفرق الكولونيالي»؟ في معنى: كيف «يتذوّت» غير الغربي، ليس بوصفه «تابعًا» سعيدًا، يحلم «بحداثة ما بعد كولونيالية»، بل بوصفه «مقاومًا» نجح في فهم درس فوكو: أي في تحويل «الخضوع» إلى تقنية «تذويت»؟ إنّ الهدف المناسب «لنا» يجب ألّا يقف عند السعي إلى «تبيئة» ادّعاءات الحداثة حول نفسها (المثل العليا للتنوير في القرن الثامن عشر) بل يجب أن يتطلّع إلى «اختراعات الذات» دون أي شروط مسبقة حولها. علينا أن نأخذ على محمل الجد مثل هذا الادعاء: إنّ المستقبل ليس غربيًّا؛ بل هو من نوع آخر. ولذلك بدلًا من انتظار المستقبل الذي هو على الأرجح لن يأتي، بل علينا أن نبدأ للتوّ فيما سمّاه ميلان كونديرا في الوصايا المغدورة «البحث عن الحاضر المفقود».

بين اجترار المفاهيم أو خلقها

  يحدد دولوز الفلسفة على أنها إبداع للمفاهيم، لكن ما نلاحظه عند العديد من مثقفي الفكر العربي المعاصر، أنهم يجترون مفاهيم ومواقف غيرهم ممن سبقوهم، هذا مع اقترابهم للجلاد والانسلاخ من الجماهير، وبالتالي لا يجرؤون على التعبير عما يفكرون فيه حقيقة. أيمكن أن نرى مثقفينا ومفكرينا يخلقون لأنفسهم صيغة مستقلة لهم في عالم متغير؟

  ربما علينا أن نميّز بين الفلسفة والثقافة: فما يُلزم المتفلسفة ربما هو شيء لا يهمّ المثقفين. ولذلك ما قاله دولوز عن مهمة الفلسفة، نعني خلق المفاهيم، ليس هو بالضرورة، بل لا ينبغي أن يكون، مهمّة الثقافة. ولماذا نلوم «العديد من مثقفي الفكر العربي المعاصر» على «اجترار المفاهيم» و«المواقف»، أليست هذه هي مهمّتهم بوجه ما؟ في الواقع هذا السؤال يفترض رابطًا غير بديهي أو ضروري بين مطلبين متباينين تمامًا: مطلب «الفيلسوف» ومطلب «المثقف». إنّ دولوز بذلك يستعير طريقة الرياضيين وليس طريقة الفلاسفة؛ لكنّه يعيد صياغة استعارة كانط في جوّ فلسفي برغسوني، متملّكًا جملة قالها برغسون أمام الجمعية الفلسفية الفرنسية سنة 1903م: «يتمثّل التفلسف غالبًا ليس في الاختيار بين المفاهيم، بل في خلقها». نقول ذلك كي نؤكّد أنّ الفيلسوف هو أيضًا «يجترّ» أقوال أسلافه، وإن كان يفضّل أن يفعل ذلك في نطاق استعارة نيتشه عن «الاجترار». قال: «والحق أنّه من أجل أن نتمرّن على القراءة بوصفها فنًّا، إنّما ثمّة قبلُ حاجة ماسّة إلى شيء، هو اليوم قد وقع إغفاله تمامًا -ولذلك ما زال هناك وقت حتى تصبح كتاباتي «قابلة للقراءة»- شيء إزاءه ينبغي على المرء أن يكون أشبه بالبقر وليس، على كل حال، بـ«الإنسان الحديث»؛ أعني الاجترار(das Wiederkäuen)…» في «جنيالوجيا الأخلاق».

ليس على المثقف إذن أن يكون فيلسوفًا، ولا ينبغي له. وما دام هناك أيضًا اجترار فلسفي أصيل، فهو له حصّته أيضًا من الاجترار. كل علاقة بالماضي هي اجترار، مهما كان هذا الماضي جليلًا. لكنّ ما لا ينبغي أن يُغفر للمجترّ هو الخوف من الاقتراب من الحقيقة. الاجترار يمكن أن يعني ترك الحقيقة تأتي إلينا، على عواهنها. لا أحد يختار حقيقته مسبقًا.

ومن خرج لصيد الحقيقة لا يمكن أن يقترب من «الجلاد» وإن كان يمكن أن «ينسلخ عن الجماهير»؛ إذْ صرنا نعرف اليوم أنّه لا توجد «جماهير خالصة»، بل فقط فئات اجتماعية تُنتَج وتُبنَى «حكوميًّا» بتعبير فوكو. ثمّ إنّه لا يوجد تناقض بين «الاستقلال» الفكري والعيش في «عالم متغيّر»، نعني: التغيّر يجب ألّا يكون تبريرًا للتبعيّة. بل بالعكس: لا تريد الحقيقة منا سوى أن نخرج لملاقاتها كما تكون، وليس في سلّم انتظاراتنا التي قد تكون مجرد عوائق تأويلية تحول دون اكتشافها. وهنا علينا ألا نغبط حق «المثقف»: إنّه الآن المواطن النشط الوحيد الذي يخرج يوميًّا لملاقاة الحقيقة. صحيح أنّه غير مجهّز كفاية لها ولا هو مؤهّل حقًّا للاشتباك معها؛ نعني على صعيد «المفاهيم». لكنّ «اليومي» خدعة أنطولوجية معقّدة، وليس من اليسير أن «يتفلسف» أحدهم بلا حياة يومية.

الشعب والمجتمع، الحرية والهوية

  أهديت كتابك «الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة» لشهداء الكرامة في كل مكان، وأضفت: «أولئك الذين قالوا يومًا ما؛ نعم، الحرية قبل الهوية». ونحن نعلم أنه لا وجود لحرية بلا هوية؟

  علينا أن نقول: إنّه من سخرية القدر أنّنا لم نصبح «شعوبًا»، أي لم «نستقل» بأنفسنا «الحديثة» في شكل دول ذات «سيادة»، وفي اللحظة التي تخلّى فيها الغربيون عن الدولة الأمة واستعاضوا فيها عن فكرة «الشعب» بفكرة «المجتمع»، أخذنا نحن نبني «شعوبًا» ليس لها من تبرير داخلي لوجودها سوى جهاز الهوية، وهكذا لم يُفهم الاستقلال إلى حدّ الآن إلا بوصفه جهازًا هوويًّا تحت يدي الحاكم. لقد ابتُزَّت الشعوبُ بالهوية، وبشكل رسمي أُجِّلَتْ معارك «الحرية»، ولا سيّما الحرية الشخصية التي تدلّ على أنّ المحكوم ليس موضوعًا، بل هو «ذات» أي «فرد» أو فاعل سياسي يملك خياراته «الحيوية» الخاصة.

هناك دومًا أجهزة شرعنة جاهزة، مثل خلايا نائمة، تترصّد أيّ فرصة تاريخية كي تعود إلى الخدمة. وهي تعمل كالتالي: اصطياد الخارجين بحثًا عن المستقبل بواسطة شباك الماضي. «الخارجيون» هم أولئك الذين قدّموا الحرية على الهوية، وهي مسألة «أولوية» وليست مسألة «ماهية». الثورة تعليق مؤقت لهوية قائمة. ليس ذلك من أجل عدمية حزينة؛ إذْ ليس ثمّة شعب عدمي. علاوة على أنّ الحرية هي دائمًا بلا مضمون. لا معنى لحرية تملك مضمونًا جاهزًا، هي سوف تكون بذلك مجرد هوية «موازية».

الشعر والرواية والفلسفة

  طالما كتب المسكيني الشعر واحتفى به، وجعله تأمينًا لعلاقتنا بالمقدس، وكما كانت الفلسفة قصيدة مع بارمنيدس، اعتبر نيتشه أن قدره أن يظل شاعرًا، ووضع هايدغر الشاعر والمفكر في كفة واحدة، ولنا مثال المعري، صاحب اللزوميات وشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وعددهم كبير كـهولدرلين وغوته وآخرين.. ما الذي تمنحه لنا القصيدة على غرار النص الفلسفي؟

  يبدو أنّ «حوار الشعراء» مع «التراث» (الميتافيزيقي، الديني، السياسي،… إلخ.) قد انتهى: إنّ الخط الممتدّ من أفلاطون/هوميروس إلى هايدغر/هولدرلين قد استنفد موارده: نعني أنّ معركة «الحقيقة» قد فقدت مفعولها السياسي (سياسة الوجود)، وصارت الأجيال الجديدة بمثال أجيال «ما بعد الحقيقة»، حيث لم يعد الشاعر خطرًا على أيّ واحد من النماذج الأساسية للإنسانية التقليدية (متوالية السياسي/ الفيلسوف/ النبي). لم يعد بمقدور أفلاطون أو هايدغر أن يعلّمنا شيئًا خطيرًا حول اللقاء مع الشعراء: إنّ الصعوبة المزعجة في تأويل الشعر الذي يمتدّ من أفلاطون إلى هايدغر هي تكمن في أنّه كان يعتقد في أعماقه أنّ الشاعر خطر سياسي على الحقيقة (أفلاطون) أو له علاقة مخصوصة بالحقيقة (الرومانسية، نيتشه، هايدغر)؛ والحال أنّ «الشعر» قد كان دائمًا مجرّد «طريقة تعبير» خاصة، ولكن بلا موضوع، ومن ثمّ بلا حقيقة.

إنّ السؤال: «ما الذي تمنحه لنا القصيدة على غرار النص الفلسفي؟» هو في الحقيقة لا يساعدنا على تبيّن طرافة «القصيد» بوصفه شيئًا «بلا مكان»(atopos)  كما قال أفلاطون ذات مرة عن «اللحظة الخاطفة». القصيد بلا مكان في معنى أنّه قول «بلا مفهوم». ولذلك فالقصيد ليس «نصًّا» سواء بالمعنى العربي (أي الكلام الواضح) أو بالمعنى الغربي أي «المدوّنة» أو «النسيج» الدلالي الذي يبني «خطابًا» متماسكًا نحويًّا ومنطقيًّا. لا معنى لقصيد يريد أن يكون نصًّا. بل هو يمنح شيئًا لا يستطيع النص الفلسفي أن يقوله. وهذا ما أزعج أفلاطون كما ألهم هايدغر. ولكن، في الحالتين سواء كرهنا تميّز الشعراء أو وقعنا في حبّ علاقتهم باللغة، الشاعر يبقى «خارجًا». ولذلك هو الوحيد الذي لا يزال يمتلك طريقًا خاصًّا إلى لغته. طريق ربما تردّم تحت النصوص (عصر الأنبياء والفلاسفة والروائيين). واليوم، طُمِرَ تحت الخطابات (عصر القانونيين والعلماء والإداريين). الشاعر هو ذاك الذي لا نجده حيثما نبحث عنه: هو من يمتلك منفذًا مفضّلًا إلى إمكانية اللغة التي لم نستعملها من قبل. وكل «شعب» أو «جمع» من الناس بمجرّد وجوده هو يخترع إمكانية الشاعر دون أن يراه. لكنّ الشاعر ليس موظّفًا لدى أيّ جماعة. وليس له من حل أفضل من أن يحبّ قدره.

  في هذا السياق الأدبي، طالما عدّ هيغل الرواية صورة الإنسان ومرآته، وتطورت مع مرور الأزمنة، وتعددت بين: الرومانسية، والواقعية، والتاريخية والفلسفية. بأي معنى تساهم الرواية في تحقيق نهضة إنسانية كونية، بالخصوص عند المجتمعات المتخلفة؟

  إنّ أوّل خطوة روائية خارج الصفة الحقيقية للناس هو أن نحذّرهم من أنّ «ما يرونه هنا ليس جدّيًّا (…)؛ ولذلك ما يزعج حرّاس المجتمع ليس الخطأ بل «المزاح»، الخطأ ليس خطرًا على الحقيقة، بل هو اعتراف بسلطتها، لكنّ من يمزح يبتكر بديلًا مزعجًا منها. والمزاح الحديث حسب كونديرا هو «نوع خاص من الهزل (…) يجعل كل ما يلمسه غامضًا». (الوصايا المغدورة، الترجمة العربية، ص9). ويعرّف كونديرا الرواية بأنّها «مملكة حيث يُعلَّق فيها الحكم الأخلاقي» (نفسه، ص 11). علينا أن نفهم التعليق هنا بأنّه «تأجيل» فحسب. إنّ «ما بعد الرواية» ممكن دائمًا. لكنّ الشخصية لا تصبح روائية إلا عندما تنجح في اختراع شكل حياتها الخاص، وبالتالي «أخلاقيتها» الخاصة.

لا معنى لأخلاق بعيدة من حياتها. الرواية إذن تلخّص موقف الإنسان «الحديث» الذي أخذ يشعر أنّه يعيش في عالم يبدو أنّ الآلهة قد انسحبوا منه: لقد شعر أنّ عليه أن يبدأ في قصّ حكايته العميقة بنفسه. حتى إنّ عليه أن يعيد بنفسه سرد القصص المقدّسة التي آمن بها واشتقّ منها مفردات روحه. لكنّه ما إن بدأ يفعل ذلك حتى امّحى الخط الفاصل سابقًا بين ما هو مقدّس وما هو دنيوي: إنّ الرواية هي فنّ «التدنيس» الذي اخترعته الأزمنة الحديثة؛ كي تعوّض وظيفة الكتب المقدسة بعد خروجها من الخدمة في أفق الأوربيين. قال كونديرا: «يغدو التدنيس الروائي أسوأ ما يمكن في نطاق يتبعثر فيه الضحك خفية في جوّ الرواية؛ لأنّ الدين والفكاهة متعارضان» (نفسه، ص12). علينا أن نقرأ التدنيس الروائي بوصفه فنًّا جديدًا في المجاز، وليس زندقة.

أمّا «بأي معنى تساهم الرواية في تحقيق نهضة إنسانية كونية، بالخصوص عند المجتمعات المتخلفة»، فإنّ كونديرا يمكن أن يساعدنا، هذه المرة أيضًا، على تبيّن مهمّة الرواية: إنّها ليست فقط اختراعًا أوربيًّا، بل هي ماهية أوربا الجديدة، تلك التي بفضلها خرجت من قرونها الوسطى، وأعطتها شخصية دون بقية الأمم. الآن: ماذا يفعل من يكتب الرواية في أفق ثقافة «غير أوربية»؟ هل هو يريد «أوربة» ثقافته؟ أم يقبل التحدّي الأوربي بأنّ الرواية تمرين «كوني» على حكاية الوجود البشري بعد انحسار الكتب المقدّسة؟ ربما من الصعب أن نجيب عن هذا السؤال طالما نحن نتحدّث عن «مجتمعات متخلفة»، والحال أنّ «التخلف» هو حكم مسبق كولونيالي ناتج مباشرة عن سردية «التقدم» الأوربية. ولكن، عمومًا، هل نحن جاهزون كي نعوّض السردية الدينية الخاصة بنا بالروايات؟ مثلًا: أن يقول أحدهم أنا لم أعد «آدم» أحد، بل فقط «شخصًا» سرديًّا في قصة نفسي.

ما يميز جبران

  كتبت في مؤلفك «فلسفة النوابت» أن أهمية جبران تكمن في كونه لم يقلد الغرب في موضاته الجامعية كما يفعل بعضنا اليوم.. وفي موضع آخر؛ مثلما فكر نيتشه على ضربات المطرقة، فإن جبران جعل التفكير مقبرة نشيطة. ما رأيك في أن نستدعي السؤال نفسه الذي طرحته في هذا الكتاب: لمَ جبران دون سواه؟

  تقريبا، هو من القلائل، ربما إلى جانب نعيمة، الذين كتبوا نصوصًا لا تشعر بأيّ دونيّة كولونيالية، بل هي تحتفظ بكرامة أدبية عميقة. «لماذا جبران دون سواه؟» سؤال سوف أجيب عنه قائلًا: هو من تجرّأ على «تكرار» هكذا تكلّم زرادشت بواسطة جملة من الكتب تذهب من «المجنون» إلى «النبي» إلى «آلهة الأرض». «التكرار» بالمعنى الطريف الذي أشار إليه كيركغارد الذي تساءل يومًا: «هل التكرار ممكن؟ ماذا يعني؟ هل يكسب أو يخسر شيء ما عندما يتكرّر؟». كان يميّز التكرار عن «التذكّر» عند اليونان أي «التكرار الموجّه نحو الخلف»، «لكنّ التكرار الحقيقي هو التذكّر المحمول نحو الأمام». وهو ما ترجمه دولوز في مفهوم رشيق هو «تكرار المستقبل».

كان جبران يتمتّع بمزاج رشيق فقدناه «نحن» أبناء دول الاستقلال: كان جبران «يعاصر» نيتشه ولا «يوثّنه»، حيث إنّ شخصية «الحداثي» أو «التابع» لم تتبلور بعدُ كطريقة تفكير. جيل جبران كان لا يزال يحتفظ بأفق فهمه لنفسه؛ كان لا يزال يظن في نفسه القدرة على منافسة الغربيين روحيًّا ومن ثمّ إبداعيًّا. كان تكراره للغرب شيئًا يشبه «تكرار المستقبل». كان جبران يشعر أنّه نوع روحي لا يزال يحق له أن يكون «زميلًا» ميتافيزيقيًّا للكتّاب الغربيين، ولم يصبح بعدُ «موضوعًا» أي «شيئًا» إبستمولوجيًّا لمعرفتهم أو دارسًا «تابعًا» لإرادة المعرفة التي سيفرضها السلوك الكولونيالي.

ما فقدناه، وكان جبران لا يزال يتمتّع به، هو الحرية الروحية تجاه الغرب: القدرة الأصلية على «معاصرته» من خارج سلوكه الكولونيالي، من دون «تبعية» إبستمولوجية مكرّسة بالمدرسة الرسمية التي تشرف عليها «دولة الاستقلال». لم يكن الإبداع لديه محتاجًا إلى «نقد الغرب»: كان حقًّا روحيًّا أصيلًا. وهذا ما دمّرته المدرسة الحديثة التي عوّلت عليها دولة الاستقلال، حيث كانت مهمّتها الخفية هي محو «الفرق الكولونيالي» بأصباغ مناسبة من إبستمولوجيا الشمال.

الترجمة فلسفة بديلة

  قمت بترجمة النصوص الكبرى في الفلسفة؛ كانط، هايدغر، نيتشه، جوديث بيتلر، ريتشارد رورتي، آلان باديو، هابرماس.. بأي شكل يمكن أن نسلم بتعبيرك في أن الترجمة، هي التمرين الفلسفي الحقيقي، ونمط التفلسف الراهن؟

  ما وقع هو أنّ الحدث الكولونيالي قد جرّد لغتنا من كل ترسانتها الاستعارية التقليدية، وفرض عليها استعمالًا خارجيًّا لبنيتها النحوية، يتمّ من خلاله صبّ المضامين الدلالية للغات الغربية الكبرى في جسم لغتنا، وهو منهوك ومجرّد من قوته التداولية التقليدية كما توطّدت من المعلقات إلى ابن خلدون.

في هذا الصدد علينا أن نضع التفلسف اليوم: إنّه تمرين محض في الترجمة، وذلك سواء كتبنا مباشرة بالعربية أم نقلنا نصوصًا غربية. حتى الشاعر أو الروائي هو يترجم. وذلك لسبب بسيط: أنّ الإبداع ينهل دومًا من مصادر استعارية أصيلة. والحال أنّ كل ترسانة الاستعارات التقليدية للغتنا قد خرجت من الخدمة.

طبعًا، هناك دومًا من يتجاهل هذا الحدث الكولونيالي للغتنا، ويواصل استعمال لغتنا الكلاسيكية في نطاق قوتها التداولية والاستعارية ما قبل ابن خلدون. لكنّ هذا الصنيع لا ينتج غير نصوص «زخرفية» أو «لا-تاريخية» أو منبتّة عن عصرها. هي ترضي غرورنا الحزين لكنّها لا تمارس أيّ فعل تداولي حقيقي على لغتنا الحالية.

ولذلك يبدو لي أنّ الترجمة هي التمرين الفلسفي الحقيقي اليوم، أي التمرين الأوّل الذي سيهيّئ لغتنا كي تفكّر بنفسها، وليس فقط أن «تكرّر» اللغات الأوربية. وهذا راجع إلى سبب قاهر علينا الإقرار به: أنّه لا يمكن إعادة لغتنا الفلسفية الكلاسيكية، لغة الفارابي أو ابن رشد، إلى الخدمة من جديد، من دون أن نعيد هيكلة عالم المعنى الذي ستقوله؛ ذلك أنّ العالم الرمزي الذي كان الفارابي أو ابن رشد يتكلّم في نطاقه قد انسحب بلا رجعة. ليس من السهل أن نستأنف أنفسنا القديمة، بشعرها وفقهها وفلسفتها، دون أن نهيئ لها النحو المناسب.

أفضّل الترجمة عادة لأنّها تعفيك من تخرّصات اليائسين من/ على لقب «الفيلسوف»: أنت تعفي هذا الجمع الكسول من العقول المتعبة من تهمة الفيلسوف، فإذا بهم يفقدون فجأة كلّ الحنق العدمي الذي يصرّفونه تجاه «المتفلسفين» من عند أنفسهم. وينسونك برداءة بريئة، في كل مكان يتخرص أحدهم على «الفيلسوف»، لكن هل «نحن» فعلًا مستعدّون لظهور الفيلسوف مرة أخرى في أفق أنفسنا؟ ومن قال: إنّ ظهور الفيلسوف سيكون خبرًا سارًّا؟ إنّ «المترجم» بديل مؤقت لكنه يفي بالحاجة.

خصم النسوية الحقيقي

  تقول في كتابك «الهجرة إلى الإنسانية»: «لا تتحرر المرأة من الحقد الهووي الذي بنت عليه تاريخها النسوي من دون التحرر من مغناطيس الرجل»؛ انطلاقًا من هذه القولة، كيف ينظر فتحي المسكيني إلى الحركات النسوية العربية اليوم؟

  نلحظ رأسًا أنّ الموضوع الرئيس للحركات النسوية لا يزال بشكل مهووس هو «فضح» الهيمنة الذكورية. إنّ حرص النساء على بناء الذات النسوية على شكل هوية مناضلة وناقدة ومعارضة للنظام الأبوي هو نفسه وقوع غير محسوب في فخّ المؤسسة الرسمية التي «سمحت» (تحت ضغط «إبستمولوجيا الشمال» حيث انتصرت «حقوق الجندر») بأن تقبل ببعض «النقد» النسوي للهيمنة الذكورية، ولكن مع شرط غير مرئي في «العقد النسوي»، ألا وهو ألا تكتب النساء إلا نصوصًا موضوعها الوحيد والأوحد هو نزاع الاعتراف عبر نقد الذكور، أي نقد الآخر الكبير، ولكن دون خروج عن «قيود المجتمع»، وليس «كتابة الذات» الخاصة والحرة حقًّا.

إنّ المؤسّسة نفسها (الجامعات، المجلات، مراكز البحث، وسائل الإعلام، …إلخ) هي التي صارت تدفع النساء إلى «كتابة الذات» في شكل «سيرة ذاتية» بلا «ذات خاصة»؛ لأنّها سيرة سالبة ونقدية محصورة في مهمّة مختومة هي نقد النظام الأبوي باعتباره العدوّ الرسمي للذات. لا يزال «الذكر» هو محور السيرة النسوية، هو يمنحها الموضوع ولكن أيضًا هو من يحدّد المهمّة وأفق الانتظار. وإذا بالسيرة النسوية تتحوّل رغم أنفها إلى تمرين «أنثوي كئيب»، نرجسي لكنّه ارتكاسي.

هناك حقد هووي ضدّ الذكور لا يزال هو العائق الأخلاقي الخفي الذي يمنح كل تفكير نسوي من ابتكار الذات من دون الحاجة إلى «عدو» منهجي. وهذا العدو لا يزال هو «الرجل» إلى حدّ الآن. إذن: تتحرّر النساء حقًّا عندما تبدأ في الانتباه إلى الخصم الحقيقي لهنّ، وهو مفهوم «النساء» نفسه. أبدًا لن يتحرّر المرء إلا من تصوّره عن نفسه.

  ماذا يشغل ويشتغل الدكتور فتحي المسكيني عليه؟

  ما يشغلني «حاليًّا» (في أفق لم يعد هو أفق الملة، لكنه أيضًا ليس أفق ما بعد الحداثة كما يظنّ التغريب المريح) هو بحث حول تاريخ «الكراهية» وعلاقتها بمسألة «الحقيقة». الكراهية تشير إلى جملة الانفعالات الهووية الذي مات عالمها لكنّها لا تزال تعمل كحزن منهجي لكل الجماعات التي فشلت في إدراك عصرها والانتماء إليه بشكل إثباتي. أمّا الحقيقة فهي ادّعاء المعنى الأساسي الذي يستند إليه شعب ما لتبرير شكل حياته حتى الآن؛ وهي تتجسّد غالبًا في شكل «قصة مرجعية».

ولذلك لا معنى لمفكّر يحمل هوية جاهزة عن نفسه أو عمّا يقلقه. وإلا فهو «داعية» أي يحرس جثّة. كل ذاكرة مغلقة هي جثّة. والجثة مهما كانت جليلة هي لا تفكّر. فبمجرّد الشروع في «الكتابة» يفقد الكاتب انتماءه ويمرّ إلى ضفة «أخرى» أي لا وجود لها. قدرُ أيّ مفكّر محض هو أن يتكلّم من مكان لا «وجود» له. وبالعربية: المكان هو احتمال «الكينونة» بوصفها موقعًا لا وجود له.

يظهر المفكّرون من أجل اختراع مكان لا وجود له. وهم وحدهم يمكنهم احتمال هذا العدم الصغير من أجل أن ينبت معنى «الآخر» في أفق ثقافة ما، من أجل ذلك لا يمكن تبرير أيّ تفكير بالحاجة التي يقدّمها لثقافة ما. من يفكّر ليس وفيًّا أو مدينًا لأحد. هو فقط يعمل على اختراع «مخاطب» مناسب يجعل التفكير ممكنًا. مثلًا: قد يحتاج المسلم الأخير إلى أفق ما بعد «الملة» بعد أن فقد عالمه الهووي. لكنّ المفكّر ليس داعية كي يعظه أو يؤمن بدلًا منه؛ هو فقط يمكن أن يمتحن «ما بعد» الملة بوصفه يدعو إلى التفكير.