التلوث الكلي… كيف نظر إميل سيوران إلى التاريخ واليوتوبيا
كان لا بد، ذات يوم، أن تتوقف مسيرة الألف عام من الفلسفات والنظم والعقائد و«مفاهيم الوجود»، ويعود الفكر الإنساني إلى العراء المفقود والعنف الخام والتناقض النقي الكامن في كل ما هو موجود.
سيترتب على التاريخ، الذي لم يقيض له أن يُكتب حتى الآن عن هذه السيرورة الضرورية والمخيفة، أن يروي قصة ميلاد وتطور ليس نظرية جديدة، أخرى، بل سردية ما فوق نظرية عن فشل جميع النظريات، عن حالة الصفاء التي بزغت لأول مرة، وإن بطريقة غامضة، في أزمنة وأمكنة مختلفة في الماضي من دون أن تحقق مداها واستمراريتها إلا حين بلغ الفكر حده الأقصى في سعيه للحاق بقاطرة التقدم السريعة والمأساوية والتراكم المذهل للتجارب التاريخية.
الاستغلال التاريخي للأرض في «ليل الأشياء البشرية»، الذي رثاه ليوباردي في تأملاته وأناشيده، في القرن التاسع عشر، يعد عاملًا حاسمًا في اليقظة المبهرة للضمير التي ميزت، أي اليقظة، الحضارة الغربية في القرنين الأخيرين، ليس بوصفها مرحلة عابرة، بل باعتبارها واقعًا سائدًا.
يعتبر مثل هذا الأمر، إن عدنا مرة أخرى إلى ليوباردي، الشاهد والضحية الأكثر نقاء وعبقرية لتلك الظاهرة، يقظة حتمية للعيون وانتقالًا حاسمًا من عمى الوهم نحو الحقيقة، حقيقة سلبية بكل تأكيد، يعلوها الغبار ولا شيء فيها سوى الهباء. لقد بدأت الحداثة مع هذا الكشف الدرامي بالضبط: الحقيقة تقتل الحياة، والنسيان وحده يمهد السبيل لذلك.
كتب ليوباردي في «شذرة عن الانتحار» ما يلي: «الخطة التي تضعها الطبيعة فيما يتعلق بالحياة البشرية تكمن في القانون العظيم للإلهاء والوهم والنسيان. كلما ضعف هذا القانون مضى العالم أكثر نحو الهلاك». غير أن الصفاء هو، لسوء الحظ، بمنزلة الحلقة التي لا يمكن الخروج منها ما إنْ يَطَؤُها المرء بقدميه، وهناك أعداد لا حصر لها من الأعمال، وبكل أشكال التعبير، على الأقل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وما بعد، مما تحمل أكتافها، بهذا الشكل أو ذاك، صليب هذا الوحي المدمر، الملهم والملعون، المحرر والمقيد، في آنٍ معًا. لا يمكننا السير قدمًا في طريق الوعي من دون أن نقوض، في الوقت ذاته، الوجود نفسه، كما لا يمكن الوصول إلى الجوهر من دون الوقوع في شرك ما هو ضروري. لا يمكن الانعتاق من دون الاصطدام بالركود والخواء.
ما يميز سيوران
سيوران هو المفكر الوحيد في عصرنا الذي، برفضه كل التصانيف والصيغ في كتاباته، عبر عن جوهر الشرط الإنساني للفرد المتحرر من الوهم بالكامل، المتأرجح بين الحكمة والتراجيديا والمهزلة. ولأن هذا كان معنى وجوده فمن الجلي أنه لم يستطع ولم يرد، بأي شكل، أن يكون «فيلسوفًا أصليًّا»: ليست ثمة فلسفة، بل لا أصالة، من دون قدر معين من السذاجة، وهي نعمة ونقمة في آن معًا، لم يعرفهما مؤلف مثله، بلغ نهاية العالم الغربي وطمح لأن يكون نبيًّا لنهاية التاريخ ولكل ما هو تاريخي.
من الطبيعي، والحال هذه، أن يكون عمله العظيم «مقال في الانحلال»، الذي يعد وصفًا للمستحيل وما لا يمكن بلوغه، بمنزلة مراكمة، وليس خلقًا، للمعرفة، والذي يستمد إلهامه لا من أفلاطون أو كانط أو هيغل أو ماركس أو هايدغر أو نيتشه (لو استثنينا الجانب السيكولوجي منه)، بل من بوذا وكوهوليت، والقدماء من الساخرين والمشككين والغنوصيين، وتاسيتوس وماكيافيلي وسويفت ومدام دو دوفان وباسكال، والأخلاقيين الفرنسيين، والشعراء والكتاب الذين كانوا فنانين عظماء مثل شكسبير وبودلير وليوباردي ودوستويفسكي، وأخيرًا كل المنشقين عن النظام العام والأعراف والثوابت الوجودية والاجتماعية، من الهراطقة والانتحاريين والمتصوفة والمشردين. إلا أن الميزة الأساسية لمؤلفات سيوران تكمن فيما يلي: قدرتها على حشد عناصر متباينة من الصفاء الشاسع وجمعها لتشكل صورة معبرة عن الكثافة العالية والشفافية المبهرة في آن معًا، وذلك بفضل ابتكاره للغة، يبدو أنها اختفت الآن، تنهض على صهر هذه الأشياء داخل أسلوب يعتمد على قطوف المأثورات وثمار التأملات ورواسب المظاهر. ثمة ذلك الاستحواذ الفوري والساحر على ما هو جوهري وهو ما يضفي على كتاباته القوة والجاذبية النابعتين من علاقة خلاقة مع الحياة والأشياء بعيدًا من ضلال الأفكار.
كان سيوران ميتافيزيقيًّا ومحللًا نفسيًّا عنيدًا وكاتبًا فذًّا، وقد كرس نفسه للغوص في أعماق مجموعة حاسمة من الحقائق التي لا يمكن دحضها ولا تأكيدها في الوقت نفسه: الابتذالات، الأدلة المدمرة للتوازن، الكليشيهات التي «تفقد المرء صوابه»، إن أردنا أن نستخدم أحد التعابير الصارخة التي يلجأ إليها والتي تلمع كومضات باهرة في كتاباته الرؤيوية والحاذقة. إنه مهاجر روماني، جاء إلى باريس، سليل نبلاء بقلب بلقاني مبهور، في الوقت نفسه، بكل التيارات الانحطاطية، بحنين بربري غض. كل هذا دفع به إلى كل ما هو قصي ومنحه القدرة على الجمع بين اللامبالاة والحدة والرقة والتشنج والدقة والانفلات والتنقل بين التناقضات وملامسة النهايات والمآزق التي لا يمكن اختزالها، أي كل ما يصل إليه العقل الواقعي.
في الانحلال والثورة الرجعية
إن نحن حاولنا التمعن في كتاباته، على الأقل «الرئيسة» منها: «مقال في الانحلال»، «إغراء الوجود»، «تاريخ اليوتوبيا»، «السقوط في الزمن»، «الوجود السيئ»، «مأزق الولادة»، «التباعد»، سنجد صعوبة في تعيين الأجمل أو الأغنى من بينها؛ لأنها، وبالرغم من تنوع المواضيع وأشكال الخطاب فيها، مسكونة، بالقدر نفسه من الكثافة، بهاجس درامي يشكل، بالنسبة له، الهوس العظيم الوحيد. قد يكون في وسعنا القول: إن «مقال في الانحلال» يتميز بنبرة شعرية مباشرة وراسخة: من الأكيد، على أي حال، أن هذا الكتاب الخالد، وهو كتابه الأول باللغة الفرنسية (1949م) يتضمن خلاصات الكتب التي سينشرها لاحقًا، وهو، أي الكتاب، يعد أيضًا، الخلفية وحجر الأساس لتأملاته السياسية التي ستظهر بشكل واضح ودقيق، (من بعد «مقايسات المرارة»، التي هي مجموعة من الأمثال المتنوعة 1952م)، في بعض صفحات «إغراء الوجود» (1956م) أو على وجه الخصوص في المقدمة الحاذقة والشائقة، لـ«مختارات من نصوص جوزيف دي ميستر» (1957م)، التي نشرت لاحقًا كنص مستقل بعنوان: «بحث في الفكر الرجعي».
هنا، وبتحليله للأفكار العظيمة والحية لهذا المفكر السافيوري، ينتهز سيوران الفرصة للإشارة إلى الفضاء السياسي لتأثيرات المبدأ الشيطاني القائل: إن «كل تقدم ينطوي على تراجع، وكل صعود يحمل في داخله سقوطًا»، وإن «ثمة قوة خفية (…) تدفع كل حركة إلى إنكار نفسها وخيانة إلهامها الأصلي، والتمرغ في الفساد الذي ما ينفك يتعمق يومًا بعد يوم».
وهكذا فإن الثورة تحاول أن تميز نفسها عن الرجعية التي تحاربها وتشجبها، طالما أنها لم تزل مجرد فرضية أو فكرة مجردة: «إن الملموس، الذي ينهض لحسن الحظ كي يقوض راحة بال مفاهيمنا وفرضياتنا، يعلمنا أن الثورة الناجحة والناجزة التي تتحول إلى عكس ما كان متوقعًا من غليانها وولادتها، تكف عن أن تكون ثورة وأنها تقلد، وليس لها سوى أن تقلد، شكل وبنية حتى وظيفة النظام الذي ثارت عليه، وكلما مضت أبعد في سيرورتها (وهي لا تستطيع أن تفعل سوى ذلك)؛ قوضت مبادئها وهيبتها. وهكذا تصبح قوة رجعية بطريقتها الخاصة، أي أنها لن تحارب من أجل استعادة الماضي بل من أجل الحفاظ على الحاضر ولن يساعدها في البقاء شيء أكثر من اتباع الطرائق والأساليب التي كان يتبعها النظام الذي قامت من أجل إلغائه. وهكذا فإنها، ومن أجل ضمان استمرارية الإنجازات التي تحققها، تتخلى عن الرؤى والأحلام التي كانت تتباهى بها، وتستمد عناصر ديناميتها منها.
إن اللحظة الثورية حقًّا هي تلك التي تسبق الثورة، أي اللحظة التي تنخرط النفوس فيها، وتمارس نوعًا من عبادة المستقبل والخراب في آن معًا. ما دامت الثورة مجرد احتمال، فإنها تتجاوز ثوابت التاريخ ووقائعه وتفلت، إن صح التعبير، من قبضته، ولكنها ما إن تتحول إلى واقع حتى تعود القهقرى إلى ما كان الأمر عليه قبلها وتتكيف معه من جديد وتطيل عمر الماضي وبذلك تسلك طريقه، أي طريق الماضي. هي تنجح لأنها تلجأ إلى اتباع الأساليب الرجعية التي كانت تشجبها من قبل. يمكننا القول: إنه حتى الفوضوي يخبئ في أعماقه شخصًا رجعيًّا ينتظر اللحظة المناسبة، لحظة الاستيلاء على السلطة، حين تتحول الفوضى إلى قوة أمر واقع وتفرض مشاكل لا تستطيع أي يوتوبيا أن تجد، أو تقترح، حلولًا فعلية بعيدًا من الغنائية والمسخرة».
ظهر كتاب «تاريخ ويوتوبيا» عام 1960م (ولكن أول مقالين منه كانا قد نشرا عام 1957م غداة الثورة المجرية)، وهو يتطرق بشكل واسع وتفصيلي إلى مواضيع علم النفس وديناميكية السلطة، التي بقيتْ دومًا، رغم المقاربات المبكرة لماكيافيلي ورغم الوقائع على أرض الواقع، مغلفةً بالغموض ومرهونة للآمال والتوقعات، أي لسوء الفهم.
لقد بقي سيوران متحررًا من كل هذا، والفضل في ذلك يعود إلى مقاربته للأشياء بعيدًا من نوازع الأيديولوجيا واللعب بالأفكار، أي بعيدًا من وجهة نظر مسبقة، وهذا يعني، من دون شك، أنه كان يضع نفسه خارج كل شيء، ويرفض التنعم برفاهية الخرافات الإنسانية ورفض اتخاذ أي خيار. ولكن هل ثمة سبيل آخر لشرح ووصف وتقييم هذا العالم المصاب بالتلوث الكلي، أي عالم السياسة والتاريخ، من دون تشويهه؟
مديح القوة والشك الصارم
يضم الكتاب ست مقالات هي، في نهاية الأمر، مراجعات للتناقضات المذهلة التي يصطدم بها التفكير الأخلاقي والسياسي عند كل خطوة، وذلك لأن قانونًا منحرفًا وصارمًا، مدونًا في طبيعة الوجود ذاتها، أراد للروح أن تقترن بالمرض، والضمير بالعقم، والحضارة بالانحطاط، والحكمة والتوازن بالجنون، والصحة بالهمجية، والخصوبة بالغباء، والمستقبل بالغريزة، والفاعلية بالاختلال والخرف. الحرية فضيحة عارمة. لا يمكن العيش من دونها، ولكن حين نصل إليها فإننا نخسر الحياة والقوة، والاستمرارية والمستقبل: «تزدهر الحرية في الفراغ، إنها تتطلب ذلك وترضخ له. الشرط الذي يحددها هو نفسه الذي يلغيها. هي تفتقر إلى الأساس الذي تستند إليه: كلما اكتملت كلما أصبحت أقل استقرارًا؛ لأن كل شيء يهددها بالتقويض بما في ذلك المبدأ الذي انبثقت منه. والإنسان غير مؤهل لتحملها ولا يستحقها لدرجة أن المنافع التي تمنحه إياها هي ذاتها التي تسحقه وينتهي به الأمر إلى الاختناق تحت ثقلها إلى الحد الذي يفضل فيه أهوال الرعب الذي سبقها على ما يتمخض عنها. فضلًا عن هذا فإنها تظهر بفضل نظام يقترب من نهايته في اللحظة التي تنهار فيها إحدى الطبقات: مثالب الأرستقراطية هي التي مهدت الطريق للانحراف في القرن الثامن عشر ومثالب البرجوازية اليوم تدفعنا للاستسلام لنزواتنا. الحريات لا تزدهر إلا في جسم اجتماعي مريض: التسامح والعجز مترادفان».
وهكذا، مقارنةً بالعجز والتخبط والمخاوف المدمرة للذات في الديمقراطيات الغربية التي بلغت درجة من الرقي والتحضر والتقدم مما «لا يمكن التغلب عليها ما لم تسلك هي طريق الانحدار»، فإن الحظ يظهر تفوقه فيما يتعلق بالسير المندفع للإمبراطورية الروسية المهيأة لصعود حتمي لسبب بسيط، هو أنها استطاعت أن تتحرر، لقرون عدة، من استنزاف التاريخ لها، وأن تتمتع برعاية وحماية السلطة الأوتوقراطية، وتحافظ بالتالي على كيان منفصل ومظلم ومقموع استطاعت أن تراكم فيه احتياطات هائلة من الطاقات والهذيانات وأن تغذي حلم «الخلاص»، أي أن تغزو وتسيطر على العالم، وهو الحلم الذي ظل يراود أذهان القيصرية والأرثوذكسية والسلطة السوفييتية على السواء.
إن روسيا «بنفوسها التي ترعرعت في السهوب والمضايق تملك الصورة الفريدة للمدى الشاسع والحيز الضيق معًا، الضخامة والضآلة، أي، باختصار، الشمال. ولكنه شمال خاص. شمال لا تحيط به مقارباتنا، الشمال الذي يغفو ويطفح بالأمل، في ليل زاخر بالانفجارات، وفجر تحتفظ به الذاكرة طويلًا. إن القيامة تليق بها وتكسبها روعة. هذه كانت عادتها وكذلك أذواقها، وهي تسير في أثرهما اليوم أكثر وأكثر. لقد غيرت، بكل وضوح، إيقاع سيرها من أجل ذلك. «إلى أين تحثين الخطى، يا روسيا؟»، هكذا تساءل غوغول، الذي أدرك الهيجان الراقد تحت السكون الظاهري. الآن نحن نعرف إلى أين تحث روسيا الخطى. نعرف أنها، على غرار الأمم التي تحمل قدرًا إمبراطوريًّا، تتحرك لحل مشاكل الأخرين بدلًا من مشاكلها. إلى أي حد يمكننا القول: إن سيرنا في طريق الزمن يعتمد على ما ستقرره وتفعله روسيا: مستقبلنا بين يديها.
هذا ما خلص إليه سيوران، بعد أن خاب أمله في الشيوعية والديمقراطيات الغربية على السواء، واستطاع، أكثر من أي شخص آخر، أن يستوعب تماثلاتها وتناقضاتها، هو الذي تأرجح بين مديح القوة والشك الصارم والفطنة التراجيدية التي ترى في مجرد التنفس ميلًا إلى التطرف والكارثة. وهو عبر عن فكرته هذه قبل خمس وعشرين سنة حين كانت روسيا في أعين الجميع، في أوربا والعالم كله، نقطة جذب إما لإيمان كامل أو لإدانة شاملة، بالقدر نفسه من الحماس لأن الأمرين كانا ينبعان من أيديولوجيا صافية وعمياء.
سيادة العنف وشهوة السلطة
الأحداث التي جرت، مذ ذاك حتى الآن، أكدت بطريقة مذهلة وباضطراد مستمر صحة هذا التشخيص. فليس من المقبول (هو يصر على الأمر في كل مؤلفاته استنادًا إلى التماثلات التاريخية المتكررة)، سواء بالنسبة إلى أي حضارة أو مجتمع، مثلما هو الحال لدى الفرد، التحرر من أوهام حصانة الأساطير والأيقونات التي تضمن تماسكها واستمراريتها.
وقد جرى تأكيد مثل هذا الأمر فيما يتعلق بالعنصر السلافي من جانب هيرزن، في القرن الماضي، وهو ما يدركه سيوران «أليس السلافيون هم الألمان القدماء في العالم الذي يختفي؟»، ومن جانب نيتشه «السلطة المقسمة بين الأنغلوساكسونيين والسلاف مثل وقوع اليونان تحت سلطة روما». الأمل الضئيل الوحيد المتبقي للأوربيين هو أن تنتقل عدوى ديمقراطيتهم إلى الروس، فينجذبوا إليها ويفتتنوا بوهج شفقها: في هذه الحالة «سوف يتحضرون رغمًا عن غرائزهم وسيعرفون أنهم، هم أيضًا، ناقلون للحرية».
لولا أن السحر الغامض الذي كان من شأن روسيا أن تبهر به، ليس الشيوعيين الغربيين، لا بالتأكيد، بل مراقبًا حصيفًا مثل سيوران، قد تبدد بالكامل الآن: في ظل الانحطاط المتسارع للعالم كفت الغريزة نفسها عن أن تشكل وعدًا، والهمجية بدورها فقدت آخر ظل من ظلال العظمة والبهاء. تبقى الحقيقة العارية في أن حركة التاريخ، بدءًا من أبسط حدث، إنما تمد جذورها في قوة غاشمة لا ترتوي: معاينة الديناميات السياسية سواء في الأنظمة المستبدة أو كاريكاتيراتها في الأنظمة الليبرالية والديمقراطية تكشف عن أمر واحد وهو أنها، أي هذه الأنظمة، لا تختلف فيما بينها سوى في درجة شدة شهيتها لالتهام العالم، والتي سوف تقود هذا الكوكب، في مستقبل قريب أو بعيد، إلى ظلام طغياني شامل بحيث يكون الطغيان السائد في وقتنا هذا، ولا سيما الهتلري منه، مجرد رسوم أو تخطيطات أولية. العنف (وليس التفاهم) هو الذي سوف يوحد القارات، وهو، باعتماده على معين رهيب ولا سابق له، أي العلم، سيكون، كما كان على الدوام، كما ذكر كاتب سفر التكوين، الطريق إلى «استعبادنا وليس تحريرنا».
من جانب آخر، لا يمكن استئصال شهوة السلطة من السياسة وبشكل أعم، التاريخ؛ لأنها، أي هذه الشهوة، كامنة في جوهر الحركة، إنها نتيجة مباشرة للخطيئة الأصلية وتحطم المطلق، فالهروب منها يعني الهروب من الوجود نفسه، والتخلي عن التفرد وعن أي إمكانية للكينونة أو الصيرورة، في أي سياق وبأي طريقة، سواء تعلق الأمر بالبشر أم بالأشياء.
إن السلطة، في تجسدها الطبيعي، والكريه، أي الاستبداد السياسي والروحي، هي الميدان المفضل لتحليل النزعة الشيطانية التي تحدد كل مسار إنساني، بما فيه الأرقى، بما في ذلك تقوى القديسين، وذاك الانحراف الرقيق، «الرذيلة ذات القلب الطيب». ليس في وسعنا الاستمرار في الحياة والعمل والإنتاج من دون الاعتماد على قوة وخصوبة الشر: «إن القيام بأدنى خطوة إلى الأمام يتطلب حدًّا أدنى من الدناءة، التي نحتاج إليها أيضًا للبقاء على قيد الحياة. يجب ألا يتخلى أحد عن احتياطاته من الوضاعة إن أراد الاستمرار في العيش». هذا ما نقرؤه في «أوديسة الحقد».
كل الفعاليات والسلوكيات والإنجازات، بمختلف أشكالها، في العالم، تنبثق من القاع السفلي للأنا، من المشاعر المنحطة، من ردود الأفعال الدنيئة، ولا سيما الحسد والانتقام، وهو الأمر الذي عده سيوران ليس أساسًا نفسيًّا وسياسيًّا وحسب؛ بل مبدأ كونيًّا قائلًا: إنه من دون الرغبة في توكيد الذات، التي تعبر عنها تلك التجليات بشكل مباشر «لن تكون ثمة وقائع، بل لن يكون هناك عالم: الرب نفسه، باعتباره خالقًا، لا يستثنى من هذه الحمى، الذي لا يشكل الشيطان، سيد الزمان، سوى وجهه المرئي».
الفعل، بوصفه كذلك، هو النزوع إلى رفض العصر الذهبي الذي صورته اليوتوبيات القديمة في الماضي وستضخه اليوتوبيات الحديثة في المستقبل.
الدخول في حلقة مفرغة
إن السعي إلى تحقيق السعادة على الأرض، من خلال الفعل والجمع بين حلم الجنة ولعنة الضرورة، ينطوي على تناقض رهيب، ومع ذلك فإن هذا التناقض ذاته هو الذي ينسج ثوب أقدارنا حيث لا يمكن الفصل بين الأمل والرعب والتقدم والانحطاط واليوتوبيا والقيامة.
إن كان ثمة خلاص فهو لن يأتي بالتأكيد من العالم التاريخي، أي «مملكة الذل الديناميكي»، بل من إعادة اكتشاف «المبدأ الخالد للطبيعة»، من الإدراك الداخلي «للحاضر الأبدي المتفوق على الكينونة والأبدية نفسها» الذي لن يكون الرب سوى نسخة مكررة زائدة منه.
نزول سيوران إلى دوامة الفعل، الخاضع للمعاينة والتوصيف من منظور ينبثق من علم الجسد والغنوصية في آن معًا (وهما، على الأرجح، المفتاحان الوحيدان اللذان يتيحان الخوض في الظواهر)، ينتهي به إلى هذا العلم المعزول والسلبي، الذي هو علم الأخرويات أو المصير النهائي للبشرية، متحررًا في الوقت نفسه من جحيم التاريخ والجنة المزيفة لليوتوبيا واللاهوت. وإنه لذو دلالة كبيرة في أنه، أي ذاك النزول، يتأتى من روح تأبى الزهد بل تقبل من دون تردد تحدي الفعل وحتميته.
هكذا يمكننا القول: ليس ثمة قراءات أو تحاليل أو تفسيرات منطقية لنمط من التفكير يعجز، على الرغم من بلاغته وتفوقه في التعبير عن نفسه، في أن يعرف التطورات والطاقات والإيجابيات والاتجاهات المتعددة؛ وذلك لأن مسيرته تقوم في اتباع الشيء ونقيضه في أي ظاهرة، وفي الكشف عن التعقيد الكامن في التضادات وتعرية الازدواجية القابعة داخل الأشياء، وهو الأمر الذي يقود، في نهاية الأمر، إلى الدخول في حلقة مفرغة وبالتالي في حيرة مطلقة.
الحال أن المقاربة المعرفية والأسلوبية للموضوع من جانب سيوران تشبه الصاعقة التي تترك الناقد والقارئ العادي في ذهول. فالنظرة التي تكاد تبلغ حد الكمال فيما يتعلق بمقاربة العبث، وهي النظرة التي أعاد تشكيلها وتفعيلها بكل أوجهها وانعكاساتها، لا تظهر، على الأقل في الوقت الراهن، أي غموض أو تردد. وهي تصح في كل كتبه، ولا سيما في «تاريخ ويوتوبيا».
كتب سيوران هي مرايا نقية تعكس المجد والكارثة معًا، وهو الأمر الذي تقوم به الكتب الحقيقية؛ يستنير بها كل شخص، ولكن لا أحد يستطيع الاستفادة منها.
المصدر: MARIO ANDREA RIGONI: IN COMPAGNIA DI CIORAN.a cura di Federica Marabini. Via Negrelli, 6 – 35141 Padova Tel. 049-8717891 www.ilnotesmagico.it [email protected]