كيفية التعامل مع المواد المصورة في البحث التاريخي
المواد التاريخية هي أساس البحث التاريخي. بين مختلف المواد التاريخية، تُعَدّ الصور فئة خاصة ولها بعض القيود. أولًا وقبل كل شيء، هي ليست مثل المواد المكتوبة التي يمكن أن تنقُل نية المؤلف مباشرةً، ولا مثل المواد الفيزيائية التي يمكن أن توفر تحليلًا عامًّا لحرفية وتقنية الأعمال. ثانيًا، للصور طابع ذاتي. فاللوحات والمباني والصور وما إلى ذلك، جميعها مُنَظَّمة مِن الفنانين، تصميمها وخلفياتها ووضعيات الشخصيات جميعها مُصَمَّمة بطريقة اصطناعية وتحتاج إلى الكشف عنها. إضافة إلى ذلك، رعاة الأعمال الفنية لديهم أهدافهم وتفضيلاتهم الخاصة.
السؤال: إلى أي مدى يمكن استخدام المؤرخين الصورَ كمواد تاريخية في البحث المعاصر؟ وكيف يجب استخدامها؟ وكيف يمكن استخلاص الأدلة التاريخية من الصور؟
عانى بيتر بورك هذا السؤالَ لمدة طويلة. وهو يعتقد أنه يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط:
أولًا، يمكن أن توفر الأعمال الفنية الواقعية دليلًا حول جوانب معينة من الواقع الاجتماعي، وهي جوانب عادة ما تُتجاهَل في النصوص. يمكن أن توفر دليلًا، على الأقل، عن أماكن وأوقات معينة، مثل أنشطة الصيد للمصريين القدماء.
ثانيًا، الأعمال الفنية غالبًا ما تفتقر إلى الواقعية؛ فهي لا تعكس فقط الحقائق الاجتماعية، بل تحرفها أيضًا. يخاطر المؤرخون الذين لا يأخذون في الحسبان الدوافع المختلفة للرسامين أو المصورين (ناهيك عن الدوافع لرعاة الفنانين وعملائهم) بالوقوع في أخطاء خطيرة.
ثالثًا، عملية تحريف الواقع نفسها أصبحت ظاهرة يدرسها كثيرون من المؤرخين. توفر الصور المادية أو السطحية دليلًا ممتازًا لـ«الصور» المعنوية أو المجازية للذات أو الآخرين(1).
لذلك، فإن الصورة هي نوع من المواد التاريخية غير الموثوقة وتمثّل صورة محرّفة، إلى حد ما. ومع ذلك، فإنها توفر دليلًا موثوقًا على مستوى آخر لتعويض هذا العيب، ويمكن للمؤرخين تحويل العقبات إلى ميزات.
نظرية بحث الأيقونات
دراسة الصور تطورت إلى تخصص في القرن العشرين، هو: علم الأيقونات. أَسّسه عالم التاريخ الفني والثقافي المشهور آبي واربورغ. وبالتالي تأسست «مدرسة واربورغ العالمية» المشهورة. في هذه المدرسة، قدم نظرية إيرفين بانوفسكي في علم الأيقونات تفسيرًا كاملًا، وعزز علم الأيقونات من طريقة بحث مساعدة إلى تخصص مستقل وناضج. حدد طبيعة علم الأيقونات بأنها تفسير شامل وثقافي وعلمي للمعنى الرمزي لنمط العمل الفني(1).
وتفسير أعمال الفن عن طريق الأيقونات يجب تقسيمه إلى ثلاثة مستويات: تفسير المعنى الطبيعي للصورة، اكتشاف وتفسير المعنى التقليدي للصور الفنية، تفسير المعنى الجوهري أو المحتوى للعمل. ناقش بانوفسكي الاختلاف بين علم الأيقونات (إقونولوجي) وعلم إقونوغرافي في الطبعة المنقحة من «دراسات في الأيقونات». وقال:
تأتي كلمة «-غرافي» في مصطلح « إقونوغرافي» من الفعل اليوناني «غرافين» الذي يعني «كتابة»، وتشير إلى طريقة وصفية وإحصائية. فإقونوغرافي تعني وصف وتصنيف الصور، وتوفير الأساس الضروري للشرح الأعمق، ولكنها في حد ذاتها لا تحاول تقديم تفسير لهذا الشرح. إنها تجمع الأدلة وتصنفها، ولكنها لا تعد نفسها ملزمة أو مؤهلة لاستكشاف أسباب وأهمية هذه الأدلة.
أما مصطلح الأيقونات (إقونولوجي) فيشير إلى طريقة التفسير التي لا تستخدم إقونوغرافي بشكل منفصل، ولكنها تجمعها مع الأساليب التاريخية والنفسية والنقدية وغيرها. «-غرافي» تعني نوعًا من الوصف، بينما «-لوجي» هي نوع من التفسير، الذي يأتي من «لوغوس» ويعني التفكير والعقل. لذلك، في رأي بانوفسكي، تُعَدّ الأيقونات (إقونولوجي) نوعًا من إقونوغرافي لها وظيفة تفسيرية. ويجب ألا يقتصر دورها على الدراسات الإحصائية في المرحلة الأولية، بل ينبغي أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من البحث الفني(3).
يعتقد بانوفسكي أن تفسير الأعمال الفنية يمكن تقسيمه إلى ثلاثة مستويات. في المستوى الأول، يكون موضوع التفسير هو الموضوع الطبيعي، الذي يسميه وصف الإقونوغرافي الأولي. للوصول إلى تفسير صحيح في هذا المستوى، يجب على المترجم أن يمتلك خبرة عملية، أي معرفة بالكائن والحدث، التي يشاركها الناس في دائرة ثقافية معينة. ومع ذلك، يجب التحكم في ملاحظاته بفهم صحيح لتاريخ الأسلوب، أي فهم صحيح لطرق تمثيل الكائنات والأحداث باستخدام أشكال مختلفة في ظروف تاريخية مختلفة. يتناول المستوى الثاني من التفسير، الذي يسمى تحليل الإقونوغرافي، الموضوعات التقليدية، التي تشكل عالم الصور والقصص والرموز. المعرفة اللازمة للمترجم هي المعرفة الأدبية، التي تجعله على دراية بالموضوعات والمفاهيم المحددة. يجري التحكم في ملحوظات المترجم بالعوامل التالية: التحكم في طرق استخدام الكائنات والأحداث للتعبير عن موضوعات ومفاهيم محددة في ظروف تاريخية مختلفة. يتناول المستوى الثالث من التفسير، الذي يسمى الإقونوغرافي بمعنى أعمق أو تحليل الأيقونات، المعنى الداخلي أو المحتوى للأعمال الفنية. المعرفة اللازمة للمترجم في هذا المستوى هي فهم الاتجاهات الأساسية للنفس البشرية، والتحكم في تفسيره هو فهم طرق التعبير عن الاتجاهات الأساسية للنفس البشرية من خلال موضوعات ومفاهيم محددة في ظروف تاريخية مختلفة.
أهمية التجربة والمعرفة
عند استخدام أساليب الأيقونات لتفسير الثقافة، تحتاج أولًا إلى وجود المعرفة الأساسية المسبقة، ولهذا السبب تكون الأيقونات أكثر تطلبًا من الإقونوغرافي. «تشمل تحليل الإقونوغرافي الصور والقصص والمعاني، وليس الموضوعات؛ لذا، فإضافة إلى اكتساب التعرف إلى الأحداث والأشياء بناءً على التجربة الفعلية، يُطلب أيضًا المزيد من المعرفة كمتطلب أساسي. في هذا التحليل، يجري تحقيق التعرف إلى موضوعات مختلفة محددة مسجلة في النصوص الأصلية من خلال القراءة المقصودة واكتساب المهارة في التقاليد الشفهية والمفاهيم.(4) وهذا يعني أن مستخدمي الأيقونات يجب أن يكونوا ملمين إلى حد كبير بالمواضيع الموجودة في النصوص الأصلية من أجل تفسير الأيقونات بشكل صحيح.
إضافة إلى إتقان المواضيع والمفاهيم المحددة من خلال المصادر الأدبية. ومن الضروري أيضًا إتقان الترتيبات والعمليات التقنية التي تمكننا من اختيار وتمثيل العناصر التي تشكل إبداع وتفسير الصور والقصص والتأملات؛ حتى تعطي معنى للترتيبات والعمليات التقنية. يتطلب فهم تلك المبادئ الأساسية مهارة فكرية مشابهة لمهارة الطبيب الذي يقوم بالتشخيص «الحدس التوليدي»، ومن الأسهل على الهاوي الموهوب تطوير هذه الوظيفة من العالم المثقف.
ولا يمكننا تفسير الماضي بشكل عميق استنادًا إلى المواد المتاحة، وهو ما يعني إعادة تفسير الصور الكلاسيكية. كانت استعادة العناصر الكلاسيكية والمواضيع في الأعمال الفنية خلال عصر النهضة جانبًا مهمًّا جدًّا؛ لذلك، هناك عدد كبير من الأعمال التي تمثل آلهة وثنية وأساطير كلاسيكية، والعديد من الأحداث التاريخية في اليونان وروما.
عَدّ بانوفسكي الأعمالَ الأكثر شيوعًا والأخطر هي تلك التي لم تعبر عن روح النهضة من خلال إحياء الأنماط الكلاسيكية داخل إطار كلاسيكي، بل حاولت بدلًا من ذلك إنشاء رابط بصري بين التاريخ الوثني والواقع المسيحي، للتعبير عن مزيج من المشاعر. أُعطِيَت هذه الصور محتوى رمزيًّا جديدًا، علمانيًّا وليس كلاسيكيًّا، أو استُخدمت لخدمة أو تباين الأفكار المسيحية.
وطريقة معالجة هذه الصور هي طريقة إعادة تفسير الصور الكلاسيكية التي استُخدمت على نطاق واسع. من جهة، أُعِيد تفسير الصور الكلاسيكية بشكل مدرك، ومن ناحية أخرى، دُمج التقليد الكلاسيكي المستحيل مع تقليد القرون الوسطى المتبقي بشكل طبيعي أو تلقائي جدًّا، وهو ما أدى إلى ظهور «عدم المثالية»، أو النمط النهضوي. على الرغم من أن بعض الصور تظهر بمظهر كلاسيكي، فإنها تحمل معنى لا يوجد في النماذج الكلاسيكية.
أما بانوفسكي، فيرى أن مهمة باحث الأيقونات هي التعامل مع العمل الفني على أنه، من جهة، عرض لشيء آخر يتجلّى فيما بين عشرات الأعراض الأخرى، ومن جهة أخرى، تُفَسَّر السمات البنائية والرمزية العامة للعمل الفني كدليل ملموس على هذه «الأشياء الأخرى». وأشار بانوفسكي إلى أنّ هذه «القيم الرمزية» ليست فقط صعبة عادةً في اكتشافها بواسطة الفنان نفسه، بل غالبًا ما تتعارض مع ما يرغب الفنان نفسه في التعبير عنه بوعي.
نظرية الأيقونات لبانوفسكي كان لها تأثير كبير في الأبحاث في مجالات أخرى، وجرى استيعابها وتحويلها أو استجوابها. أشاد مايكل بودرو ببانوفسكي بشدة، عادًّا إياه ممثلًا للمرحلة الثالثة من التقليد التاريخي الحرج، الذي أعاد فحص مسألة كيفية الحصول على رؤية موثوقة للماضي في الوقت الحاضر. واعتقد أن المبادئ العامة للتجريبية في واربورغ أو نظرية هيغل النفسية أَخفقتْ في إقامة هذا الرأي الموثوق به. اتبع بانوفسكي خطة هيغل لتتبع التشابهات في العقلانية الاستدلالية في الفن البصري، وركز على ثلاث مسائل لم يناقشها هيغل سوى بشكل عام، أو لم ينظر إليها على الإطلاق. هذه المسائل الثلاث هي: العلاقة بين النموذج البصري المنهجي واستكشاف التفاصيل التاريخية، العلاقة بين المفاهيم النظرية العامة وأساس الأعمال الفردية، والعلاقة بين الصور والمفاهيم.
في رأي بيتر بيرك، كانت الطرق المحددة لتفسير الصور المقترحة، في بداية القرن العشرين، تعاني عيوبًا في بعض الجوانب، وتبعث على اللامبالاة والغموض في جوانب أخرى. يتمحور النقاش عادةً على تقدير تنوع الصور، ناهيك عن تنوع الأسئلة التاريخية التي قد يمكن أن تساعد الصور في الإجابة عنها. يحتاج المؤرخون إلى الأيقونات، ولكنهم يجب أن يتخلصوا منها أيضًا. يحتاجون إلى ممارسة الأيقونات بطريقة أكثر نظامية، قد ينطوي ذلك على استخدام علم النفس التحليلي والهيكلية، وبخاصة نظرية الاستقبال. في الواقع، يجب أن تخدم مواد الصور الباحثين التاريخيين، يجب أن يعدّ تحليل الأسلوب والتفسير الثقافي للأيقونات جزءًا من عمل النقد المادي التاريخي والتفسير التاريخي.
(1) نماذج لمبان مصممة عن طريق الذكاء الاصطناعي
https://www.latwist.immo/le-monde-virtuel-dhassan-ragab/
(2) مشروع منتجع سياحي من تصميم شركة زها حديد عن طريق استخدام الذكاء الاصطناعي
https://www.dezeen.com/2023/04/26/zaha-hadid-architects-patrik-schumacher-ai-dalle-midjourney/
(3) نموذج لمبنى مصمم عن طريق الذكاء الاصطناعي
https://amazingarchitecture.com/news/ai-architecture-competition-2022-winners-announced
(4) الذكاء الاصطناعي في مواجهة العمارة: منفعة أم ضرر يجب تجنبه؟
https://futurearchitectureplatform.org/news/28/ai-architecture-intelligence/