المعيارية: العدالة الناقصة
تروي الصحفية البريطانية أفوا هارسك في مقالة لها، في جريدة الغارديان، تجربتها في جامعة أُكسفورد البريطانية، وعن حجم التمييز الذي واجهته؛ لكونها من أصول إفريقية. تقول: إنها في أثناء دراستها لدرجة البكالوريوس شعرت بعزلة شديدة في بيئة جامعية يهيمن عليها أصحاب البشرة البيضاء، وإنها في أثناء إقامتها في المدينة شكّك كثير من الناس في كونها تلتحق بجامعة كأُكسفورد لا تقبل إلا أبناء النخبة في بريطانيا. وأبدت الكاتبة امتعاضها من عجز المؤسسات التعليمية عن تحقيق عدالة في توزيع أحقية القبول، وهو ما أدى إلى نقص في تمثيل الأقليات، ما يجعل حضورهم مستغربًا في الجامعة.
وفي إطار متصل أجرت الصحيفة نفسها تحقيقًا مفصَّلًا عن تقرير لوزير تعليم سابق في الحكومة البريطانية، اتهم فيه جامعات النخب، وعلى رأسها أكسفورد وكمبردج، بالعجز عن تحقيق توزيع عادل لمقاعد القبول، ويتهم الجامعتين بجعل فرص الطلاب البيض للحصول على مقاعد دراسية أعلى مرتيْنِ من طلاب الأقليات.
وهذا يطرح تساؤلًا مهمًّا عن مدى قدرة جامعات النخب في بريطانيا لتكون أكثر شمولية للأقليات في حق الالتحاق بمقاعدها الدراسية. يبرر هذه الحالة الرئيس السابق لحزب العمال البريطاني المثير للجدل جرمي كوربن- في مقابلة بثتها قناة BBC الرابعة- بأن المشكلة تكمن في وجود ما يسميه ممارسات عنصرية ممنهجة في المجتمع البريطاني، التي تخفيها منظومة من القواعد والتشريعات الخاصة التي تضع معايير تحدد أحقية الأفراد بالخدمات. هذه المعيارية، بالنسبة لكوربن، هي المصدر الأساسي للحالة الإقصائية للفئات الأقل تمثيلًا في جامعات النخب.
عنصرية مضمرة
كنت أناقش هذه القضية مع أحد الأكاديميين البريطانيين، مجادلًا بأن مثل هذه الادعاءات غير دقيقة. وكان ردّه صادمًا لي. عارضني الصديق بأن المسار المعتاد للنخب السياسية وكثير من أبناء الطبقة فوق المتوسطة في بريطانيا هو أن يلتحق أبناؤهم بمدرسة إيتون كوليدج أو هارو أو أي من نظيراتهما في بريطانيا. هذه المدارس خاصة لا يلتحق بها إلا أبناء الأثرياء، وغالبًا ما ينتهي المطاف بهؤلاء الطلاب إلى أن يلتحقوا بجامعات النخب: كأكسفورد أو كمبردج أو دورم أو سانت أندرو، وأكثر المسارات إثارة للجدل هو التحاق هؤلاء لدراسة برنامج البكالوريوس في الفلسفة والسياسة والاقتصاد بجامعة أكسفورد أو ما يعرف بـ(PPE)، وهو المسار المعتاد لكبار الساسة البريطانيين، وتحديدًا أعضاء حزب المحافظين؛ مثل: بوريس جونسون، وديفيد كاميرون، وغيرهما كثير.
يجادل صديقي، ونحن نجلس ببهو معهد التعليم بجامعة لندن، بأن هذه العنصرية مضمرة أمام عيوننا الآن، فبينما نحن جالسون كان البهو ممتلئًا بالأكاديميين، ومعظمهم، إن لم يكن جُلّهم، من ذوي البشرة البيضاء، بينما يقف على المدخل اثنان من حراس الأمن من أصول إفريقية، وتقوم بأعمال النظافة عاملة يكشف لون بشرتها أنها من أصول إفريقية.
أضاف الزميل أن الملونين في الجامعة لا تجدهم إلا في مثل هذه الأعمال، وهذا دليل على عجز كبير في النظام المعياري في تحقيق ما أسماه بالعدالة الشاملة في الفرص؛ إذ يعجز النظام عن تجاوز القواعد التنظيمية في المساواة بين الأقران غير المتساوين في التجربة الاجتماعية والمتساوين في القاعدة التنظيمية، التي تُقاس بقيمة رياضية، كنتائج اختبارات معيارية للقبول أو غيرها. ويرى أنه من الضروري على نظام التعليم البريطاني أن يتجاوز المعيارية في التنظيم، وأن يتبع نظامًا أكثر شمولية في توزيع الفرص، يتجاوز نتائج الاختبارات، ويحاول أن يفهم التفاوت الاجتماعي الذي قد يحرم بعضًا من الوصول إلى مبتغاهم. وقبل أن أعرض مآلات المعيارية، ووجهها غير العادل وبعض صورها بالمجتمع العربي؛ لعلّي أبدأ بعرض تاريخي يبين جذور المعيارية في العصر الحديث، وكيف نمت وأنتجت أشكالًا مختلفة من القواعد التنظيمية للتجمعات البشرية.
قوننة النظم الاجتماعية
يجادل توماس ديف أستاذ تاريخ التشريع والمعرفة المعيارية في معهد ماكس بلانك في ألمانيا بأن الحالة التي قادت البشرية لإنتاج المعرفة المعيارية تكمن في الرغبة المُلحّة لاتخاذ القرار، فوجود قواعد تنظيمية تعمل كبنية تحتية للقرارات التي يتخذها الفاعلون في الإطار الاجتماعي تكون أكثر «شرعية»، وتوفر ملاذًا آمنًا لصانعي القرار بحجة شرعية ما يقومون به إن خضعت لقواعد تنظيمية معيارية. وكعادة النظرية المعرفية؛ يُسقط الباحثون على الحالة التطورية لتاريخ التشريع كونه نابعًا من جذور المعرفة الدينية، فيرون في المعارف الدينية نموذجًا أساسيًّا للمعيارية التي تهدف إلى قوننة النظم الاجتماعية.
تطور هذا المنهج المعياري لاحقًا في المدة الأكثر علمنة، ويتجلى هذا التطور في التوسع بتشريع العلاقات في النسق الاجتماعي، كما في القوانين والتشريعات المدنية في العصر الحديث. وبذلك تُشكّل الحالة التشريعية اللبنة الأولى والأكثر تأثيرًا في التجمع البشري، فمن خلال شعارات الحوكمة والعدالة مُورست تشريعات حولت فيها كثير من علاقات الإنتاج أو الممارسات الاجتماعية والمادية والسياسية، فصارت مقعدة ضمن أحكام تحاول ضبط إيقاع تلك العمليات؛ ما يؤصل تحكيم المعيارية في الكثير من الممارسات المجتمعية.
ولعل المعيارية أصبحت أكثر تجذرًا لدرجة أن معيار التنمية والتطور المؤسسي يُقاس بالتوسع في الحوكمة؛ ما يُحوّل المعرفة المعيارية إلى حالة تشريعية مزمنة لاصقت التجمعات البشرية، واستشرت في هيكل التنظيم الاجتماعي والثقافي، ولتتحول المعيارية إلى ممارسة أصيلة لتحقيق أشكال من العدالة الاجتماعية.
نقد المعيارية
يكثر الحديث عن المآلات التي تنتج عن التوسع في المعيارية والحوكمة، بل قد يسخط عليها بعض، كالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يرى فيها حالة من ممارسة التسلط وإعادة إنتاج القوة بين أيدي النخب الاجتماعية. بل إن فوكو اشتهر بنقده الواسع للمعايير كونها تاريخية متحولة، تسعى القوى الفاعلة في المجال السياسي إلى تثبيتها. فقيم كالجنون والتمدن والعقلانية، ما هي إلا صور تاريخية لما تَعنيه هذه القيم؛ إذ يعاد إنتاجها في المجال الاجتماعي بشكل مطرد ما يجعلها أكثر ثبوتًا. لكن هذا النقد لا يعني عدم الحاجة إلى الحوكمة، بل، كما أسلفت في هذا المقال في المعيارية، هو سلاح ساحر يُمكّن من تشكيل مساحات واسعة لاتخاذ القرار.
وتجدر الإشارة إلى أن الحركة النقدية المتوحشة لدى فوكو وأتباعه قد تجعل منا متجمدين في مكاننا من دون القدرة على المُضيّ إلى الأمام. ولن أحاول أن أتقمص طريقًا ثالثًا بين المعيارية ونقدها، كما في المدرسة الاجتماعية الأنغلو أميركية، التي تجلت ببروز أنثويو قدن حين تواءمت أفكاره مع حكومات الوسط في أميركا في مدة رئاسة بيل كلينتون وبريطانيا في حكومة توني بلير، ولكن في الوسط يكمن المخرج لمأزق النقد اللاذع للمعيارية والحاجة للتنظيم.
قبل استجلاب بعض النماذج الناجحة في التنظيم ومغالبة المعيارية؛ أود أن أستدعي بعض الصور الاجتماعية التي تدل على وجود إشكال هيكلي في التنظيم الاجتماعي في المجتمع العربي، وكيف أن مثل هذا التنظيم من الممكن أن يعيد إنتاج التفاوت. واحدة من هذه الإشكاليات تكمن في تكدس أبناء طبقة اجتماعية ما في إطار مهني معين، فمثلًا غالبية الرياضيين هم من أصحاب لون بشرة معينة في الخليج أو تتركز مهن كحراسة الأمن أو غيرها من المهن التي لا تتطلب تميزًا تعليميًّا بين أبناء فئة اجتماعية أو أبناء مناطق معينة.
وغياب هذه الفئات أو قلتهم في المهن التي تتطلب تعليمًا عاليًا، قد يعزو بعضٌ هذا الأمر إلى الفروقات الفردية. ولكنّ هنالك أنماطًا خفيةً تخلق حالة أكثر تعقيدًا من التفاوت؛ فالأبناء الذين يتربون في بيئات محدودة ماليًّا أو لآباء أقل تعليمًا يكونون أكثر عُرضة لعدم الحصول على الدعم الكافي للتوافق مع متطلبات التميز والارتقاء المجتمعي. بمعنى أدق مثل هؤلاء قد لا يحصلون على الفرص نفسها التي يحصل عليها أبناء فئات اجتماعية أكثر وصولًا إلى الخدمات؛ سواء بسبب الفروقات المادية أو المعرفية. لذلك نجد أبناء الأطباء والمهندسين أو المدرسين أكثر قدرة على اتباع مسارات مشابهة لآبائهم، أو بمعنى أصح؛ تجد كثيرًا من المهن تصبح وكأنها مواريث يُورثها الآباء للأبناء، وهذا لا يعني بالضرورة وجود فساد في تطبيق القوانين والمعايير فحسب؛ بل يدل أيضًا على عدم مقدرة المعايير على قراءة التجارب الاجتماعية لخلق فرص مكافِئة بين الجميع وردم التفاوت.
ربما ركزت كثيرًا على الفرص التعليمية في هذا المقال؛ وذلك لكونه يوضّح أوجه المعيارية غير العادلة، وأيضًا لقناعتي الشخصية بأن التعليم هو البوابة الحقيقية والأمثل لتحقيق الارتقاء المجتمعي بين أفراد المجتمع. وللتغلب على المعيارية نجد مثلًا بعض الدول كفنلندا تعمل على تحسين البرامج التعليمية في المناطق الأكثر فقرًا؛ عن طريق التوسع في برامج الدعم اللاصَفّيّة. أيضًا نجد في مؤسسات التعليم العالي في بريطانيا وأميركا مثالًا جيدًا عن طريق تخصيص مقاعد للطلاب من الفئات الأقل تمثيلًا في المجتمع، والتأكد أن الجامعات تحقق تمثيلًا واسعًا لكل الفئات في جميع التخصصات. في مثل هذه التشريعات تقرأ مفاهيم التفاوت على أنها سرديات تتجاوز القيم العددية للاختبارات المعيارية، وتحاول فيها المؤسسات المجتمعية أن تفكك حالة الحرمان لتؤصل عدالة اجتماعية أكثر تمثيلًا للواقع الاجتماعي، تقوم فيها هذا المؤسسات بمغالبة المعيارية لأجل مفهوم جديد للعدالة.