القدس مدينته وروحه وحياته محمود شقير.. ثلاثة وثمانون عامًا ولم يسأمْ تكاليف الأدب والثقافة

القدس مدينته وروحه وحياته

محمود شقير.. ثلاثة وثمانون عامًا ولم يسأمْ تكاليف الأدب والثقافة

يدخل محمود شقير الكاتب والروائي الفلسطيني المعروف عامه الثالث والثمانين وهو بكامل بهائه الأدبي وعطائه الثقافي. هو البدوي الأصيل ابن عشيرة «الشقيرات» من عرب السواحرة، الذي ظلت القدس تسكنه نصًّا وروحًا قبل أن يسكنها؛ إذ سلبت عقله وفكره، وخطفت قلبه فارتبط بها، منذ أبصرها أول مرة، وكان في الخامسة من عمره، حين كان يصطحبه والده معه لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك. ظهرت المدينة في معظم كتبه ومؤلفاته، ليس بشكل مقصود، بل بشكل طبيعي، ولا سيما كتاب «قالت لنا القدس» الذي تضمن نصوصًا وشهادات ويوميات لها علاقة بواقع القدس الديمغرافي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وكتاب «القدس وحدها هناك»، وهو مجموعة قصص قصيرة جدًّا صدرت عن دار نوفل في بيروت عام 2010م، بناها بحيث يستطيع القارئ قراءة كل قصة على حدة، وقراءة جميع القصص كأنها رواية، عبر العودة إلى الوراء للحديث عن المدينة وشوارعها وأسواقها وخاناتها المشهورة، وقد تُرجم إلى اللغتين الإنجليزية والسويدية. وقد وجد شقير في كتابة القصص القصيرة جدًّا فرصة كبيرة للإبداع والتجديد.

أما في كتاب «ظل آخر للمدينة» الذي كتبه بعد عودته من المنفى فيقول شقير: إن الفضل فيه يعود للشاعر الكبير الراحل محمود درويش الذي طلب منه أن يكتب فصلًا عن القدس لنشره في مجلة الكرمل، وفيه تحدث عن الطفولة والشباب والواقع المؤلم الذي آلت إليه المدينة المقدسة، التي ولد فيها وعاش وتعلم وبنى كل علاقاته، فكان ابنها البار الذي ما انفك يعمل على نقل هذه المدينة إلى وعي العالم على اعتبار أنها مدينة فلسطينية بامتياز.

القدس بين المحبة الكبيرة والحزن الكبير

حين يتحدث شقير عن القدس تلمس محبة كبيرة لها، وحزنًا كبيرًا عليها، لما آلت إليه. يقول: هي مدينتي، وروحي وحياتي، أول مظاهرة شاركت فيها كانت في القدس، وأول كتاب اشتريته كان منها، وثاني اجتماع حزبي لي كان فيها، الآن أراها وأحزن، فهي مهددة بالتهويد والأسرلة، يعملون لتحويلها إلى مدينة يهودية، يتم التضييق على الناس، وهناك مخاطر كثيرة، وضرائب تفرض على الناس، وهناك تغيير في المشهد، وهدم بيوت، وتغيير عمراني، ففي الجانب الغربي يوجد قطار سريع، وعمارات وشوارع وبنية تحتية متطورة، وفي القدس الشرقية واقع مختلف كليًّا. المدينة تتعرض لمخاطر حقيقية واعتداء. وللأسف نحن الفلسطينيين نسهم في إضعاف المدينة، فقد كانت في حقبة سابقة شعلة ثقافة، ومركزًا حضاريًّا، ومركزًا للسياح، وكلٌّ يأتيها من أنحاء العالم. هي مدينة منفتحة ومتطورة ومتعددة، وأهلها المسلمون والمسيحيون يعيشون في تفاهم وتوافق، فيما بعد أصبحت قرية كبيرة، روح المحافظة والجمود فيها أكثر مما ينبغي، لم تعد تشعر فيها أنك في المدينة. كان فيها قبل الاحتلال أربع صحف يومية، وثلاث دور سينما تعرض حفلتين كل يوم، كانت سوقًا لفلسطين ومحجًّا لهم. الآن المدينة تضمر بسبب روح المحافظة، وبسبب إجراءات الاحتلال التهويدية، فهم يمنعون الناس من الوصول إليها إلا بصعوبة، وهذا يؤثر في الوجود البشري، والمستوى الثقافي والمعيشي، للأسف فيها ثمانون بؤرة استيطانية في البلدة القديمة وحدها. هذا واقع مؤلم. إن التغني بالمدينة والعواطف الزائدة كل ذلك لا يجدي، يجب وضع خطط مدروسة للرد على الاستيطان، فالاحتجاج وحده لا يكفي، لا بد من عمل منظم، يقف في مواجهة السياسة الصهيونية.

أيقونة الكُتاب والمثقفين

شقير الذي وُلد في جبل المكبر في القدس، عام 1941م، يُعتبر أيقونة الكتاب والمثقفين الفلسطينيين، وأحد أهم الأسماء الأدبية والثقافية الوازنة، صاحب شخصية هادئة رزينة، يحظى بمحبة واحترام كبيرين في مختلف الأوساط، تدرج في العديد من المناصب سياسيًّا وثقافيًّا، وهو الشيوعي الملتزم منذ عام 1965 حتى اليوم، ووصل إلى عضو لجنة مركزية في الحزب حتى عام 1998 فيما تقاعد من وزارة الثقافة بدرجة وكيل مساعد، ونأى بنفسه بعد ذلك عن الحكومة واتحاد الكتاب، حين كان يستحق بجدارة منصب وزير الثقافة، وهو الحائز على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع 2011م، والحاصل على جائزة القدس للثقافة والإبداع 2015م، واختيرت روايته «مديح لنساء العائلة» ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورة 2016م، وحصل على جائزة دولة فلسطين في الآداب عام 2019م، وهو الكاتب الشمولي الذي لديه ما يزيد على ثمانين كتابًا وإصدارًا؛ بين قصة قصيرة، وسيرة ذاتية وغيرية، وأدب رحلات، وروايات، وقصص للفتيان والفتيات، وقصص للأطفال، وما زال قادرًا على العطاء، ولم يسأم تكاليف الكتابة والأدب.

تأثير المدرسة والمعلمين في شخصيته

كان للمدرسة تأثير كبير في شخصية محمود شقير، فقد تأثر بأستاذه المصري محمود حسين معلم اللغة العربية وكان يحب حصته، فهو مرح وصاحب نكتة، وكذلك المعلم أحمد الطيب الفلسطيني من أصل مغربي، الذي لا يتكلم إلا اللغة الفصيحة، تأثر به، فكتب على رف الكتب في بيته: كم أتمنى أن أصبح أديبًا ملمًّا باللغة العربية وآدابها.

تعرف شقير إلى الثقافة العربية من خلال المجلات المصرية والمطبوعات الصادرة من بيروت التي كانت تصل إلى القدس مثل مجلة «الآداب البيروتية» التي رَأَسَ تحريرها الدكتور سهيل إدريس، ثم أعجبه كتاب «في الثقافة المصرية» للمثقف الماركسي الناقد محمود أمين العالم والدكتور عبدالعظيم أنيس، وما تضمنه من نقد للتيارات البرجوازية في الثقافة، وكيف يكتب اليساريون قصة ملتزمة. ونظرًا لأصوله البدوية، بقيت تقاليد العشيرة ثابتة وموجودة في ذهن شقير وانعكست في أعماله الأدبية، فأبوه وأمه وأعمامه نقلوا له تراث البداوة فتأثر به، وظهر في رواية «فرس العائلة» وكذلك رواية «مديح لنساء العائلة».

حكاية «خبز الآخرين»

كتاب «خبز الآخرين» هو الإصدار الأول لمحمود شقير، الذي يعتز به كثيرًا لأنه قدمه إلى القراء والنقاد، حين كان في سجون الاحتلال الصهيوني، حيث قامت دار «صلاح الدين» بجمع قصصه التي نُشرت في مجلة «الأفق الجديد» وأصدرتها في هذا الكتاب عام 1975م، فيما كتب مقدمته الشاعر والأديب المعروف توفيق زياد. وقد طُبع هذا الكتاب مرات عدة في الأرض المحتلة وتُدُووِلَ على نطاق واسع، وبخاصة لدى طلبة الجامعات. وهذه القصص تعالج صدمة الفلسطينيين بسقوط ما تبقى من فلسطين في قبضة الاحتلال الصهيوني، كما تصور في الوقت نفسه تكون البذور الأولى للمقاومة في رحم المجتمع الفلسطيني.

الانطلاقة عبر «الأفق الجديد» من خلال «ليل ولصوص»

واكب شقير الحركة الثقافية منذ ستينيات القرن العشرين، وبدأ بكتابة المقالات والخواطر والقصص، ويرسلها للصحف دون أن تنشر له شيئًا، حتى تأسست مجلة «الأفق الجديد» المقدسية، فنشرت له قصة «ليل ولصوص»، ومنذ ذلك الوقت اعتبر نفسه كاتبًا. ثم صار يكتب في جريدة «الجهاد». وعمل محررًا ثقافيًّا في أكثر من منبر أدبي فلسطيني وأردني، ونشر قصصه في مجلات أدبية عربية عدة. كما قدم للمسرح أربعة أعمال، وكتب حوارًا لستة من المسلسلات التلفزيونية العربية، أولها مسلسل «عبدالرحمن الكواكبي» الذي أخرجه صلاح أبو هنود، ومنها مسلسل عن الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان. ترجمت قصصه إلى أكثر من عشر لغات، وصدرت مختارات من أعماله في لغات عدة حول العالم، كما كان أدبه موضوعًا لرسائل أكاديمية عدة في فلسطين والعالم العربي وأوربا. كرَّمَتْه أهم المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس، وصدرت أعماله في أكثر من طبعة بالعالم العربي.

الكتابة للأطفال والفتيان في مواجهة الأدب الصهيوني

بدأ الكتابة للأطفال والفتيان وعنهم، منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، في مواجهة ما يكتبه الأدباء الإسرائيليون لأطفالهم حيث استفزته عنصريتهم وتحريضهم، فأراد تحصين الجيل الفلسطيني والعربي، فبدأ ينشر في مجلة «أسامة» السورية التي كان يرأس تحريرها الكاتب زكريا تامر، فكتب عن أطفال حقيقيين استشهدوا، مثل: علي عفانة، وجمال الزين، وعن ابنته أمينة التي مزق أحد جنود الاحتلال دميتها على الجسر «المعبر» الرابط بين فلسطين والأردن وتسيطر عليه سلطات الاحتلال. وفي هذا المجال لفتت انتباهه الكتابات العالمية للأطفال وبخاصة الأدب السويدي، حيث تأثر بالكتاب العالميين وطريقتهم في الكتابة بعيدًا من الوعظ والإرشاد المباشر ومن دون التقيد بالقيود التربوية الصارمة التي تؤدي إلى خلق طفل خنوع ومطيع.

طقوس الكتابة والقراءة

وعلى الرغم من أن شقير الثمانيني يعاني آلامَ العمود الفقري، فإنه يواظب على طقوس القراءة في الأدب والنقد وعلم الاجتماع والسياسة، وهو مُغرم بأدب أميركا اللاتينية، والأدب الياباني، ولا يُخفي تأثره بنجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وكاتب القصة العالمي أنطون تشيخوف. وفي مجال الكتابة يرى أن أهم طقس إليه هو أن يكتب يوميًّا، في سياق مداومة ثابتة على الكتابة، إما نصًّا جديدًا، أو مراجعة نص قديم وتعديله وتطويره، يُؤنسه ويُسعفه في ذلك حاسوبه، الذي يرى أنه ساعده كثيرًا على الكتابة.

ويعكف شقير منذ عام 1996م على تسجيل يومياته بواقع مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، على طريقة الكاتب الفلسطيني التربوي خليل السكاكيني صاحب اليوميات الشهيرة، ومُقتديًا به، ومن خلال هذا اللون من الكتابة، يدوّن شقير أبرز الأشياء والمواقف والأحداث التي يمر بها، وقد وثق ذلك في كتاب سماه «مديح لمرايا البلاد».

وحين تُعجزه الحركة، وتمنعه ظروف الإغلاق والحصار الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني على القدس وحاراتها، كأني بشقير الذي يُكنى «أبا خالد»، يقف على أقصى مرتفع من جبل المكبر «مسقط رأسه»، ليطل على شارع صلاح الدين أو باب العامود أو حارة السعدية أو حي القطمون أو خان الزيت، مُستذكرًا الخليفة العادل عمر بن الخطاب حين وقف عليه مكبرًا فاتحًا للمدينة المقدسة، ولعلي بعينيه تدمعان أسى وحسرة على ما آلت إليه من اغتراب واستلاب وتهويد، مارًّا به شريط الذكريات السندبادية، طفلًا ثم فتى وشابًّا نفاه الاحتلال من بلاده ليستقر في بيروت، ثم ينتقل إلى الأردن، ثم الجزائر، ثم براغ، إلى أن عاد مع مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م.

آخر إصداراته: «غسان كنفاني إلى الأبد»

أواخر عام 2022م، أصدر شقير روايته الأخيرة للفتيان التي حملت اسم «غسان كنفاني إلى الأبد»؛ وقدم لها وزير الثقافة الفلسطينية الدكتور عاطف أبو سيف. وهي من الروايات التوثيقية للأدب الفلسطيني المقاوم، في عرض السيرة الذاتية للمبدع غسان كنفاني، وفي الوقت نفسه عرض السيرة الذاتية للأديب شقير نفسه؛ موضحًا سيرورة علاقته الشخصية مع غسان كنفاني؛ في مراحل مختلفة من حياتهما، منذ عام 1965م في بيروت، حتى اغتياله عام 1972م. أي رواية سيرتين في رواية واحدة.

تقول الكاتبة رفيقة عثمان: في هذه الرواية يُكمل الأديب شقير مسيرة المبدع غسان في أهدافه؛ بكتابة الرواية بطريقة مشوقة؛ لسرد الرواية الفلسطينية من خلال سيرة المُبدع غسان كنفاني، وعرض بعض أحداث قصصه الوطنية.

واحد من أعلام السرد الأساسيين

رأى الناقد فخري صالح أن ما أنجزه شقير، في القصة القصيرة أولًا، ثم في الرواية والكتابة للأطفال، يجعله واحدًا من الأعلام الأساسيين في السرد الفلسطيني. ويشير إلى «انعطافة حادة في تجربة شقير في تسعينيات القرن الماضي، حيث يطرح جانبًا الطابع التعليمي، الذي طبع بعض قصصه، ويفلت من أسر الرؤية الأيديولوجية الماركسية، التي قيّدت تعبيره القصصي ومنعته من رسم شخصياته بريشة أكثر خفة، أكثرَ حيوية وإنسانية، ما يباعد بينها وبين الرؤية التخطيطية، المدرسية، القالبية، التي تجعلها نمطية تعبر عن سطوح الأشياء والعوالم، لا عن الأعماق والحقائق المركبة والمعقدة التي تستعصي على التأويل والشرح».

من التجريب والتجديد إلى التأثير في الآخرين

الناقد الدكتور عادل الأسطة يرى أن شقيرًا واحد من أبرز كتاب القصة القصيرة الذين أخلصوا لهذا الفن، وكادوا يقصرون جل جهدهم للكتابة فيه وتطويره وإبرازه ليحتل مكانة يلتفت إليها، كما كان يلتفت إلى الشعر وأصبح يلتفت إلى الرواية. ويرى أنه من أوائل القصاصين الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى التجريب، فظهر لديهم أسلوب تقطيع القصة إلى مقاطع، وكتبوا بلغة شفافة فيها قدر عالٍ من التكثيف، لغة تقترب أحيانًا من لغة الشعر، وبذلك فقد أثر شقير في العديد من الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ولا سيما بعد صدور مجموعته «الولد الفلسطيني».

المضحك المبكي بلغة سلسة طيعة

وعدته الأكاديمية الفلسطينية عايدة فحماوي واحدًا من أهم الكتاب العرب الذين طوروا رؤية منجزهم الأدبي، واستطاعوا أن يسيروا أشواطًا نوعية في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا. وهو كذلك، كاتب ملتحم بالواقع الفلسطيني بعيدًا من الشعارات والمباشرة، عبر التزامه بنقد الواقع ومحاولة فهمه من زواياه وتفاصيله الأكثر عمقًا، وتقديم الجميل والأقل جمالًا فيه، بحميمية من يحب وينتمي، وبعقلية من رأى، وبمهارة قاصّ متمكن من أدواته وحريص على إمتاع قارئه؛ فيأخذ القارئ معه بخفة عبر دهاليز النصوص، بلغة سلسة طيعة، وأحيانًا مطعمة بالمحكية الفلسطينية، ينقل القارئ من الفانتازيا إلى الواقع، ومن الواقع إلى الفانتازيا من دون أن يُشعره أن الأمر مُقحم، بل يصدقه ويعيش معه في العالمين، فيُضحكه شقير حينًا ويبكيه حينًا، لكنه في كل ذلك يجعله يستمتع بما يقرأ، ويفكر أبعد من حدود النص الصغير الذي يعكس عالمًا مصغرًا عن فلسطين اليوم والآن.