«الحياة لحْنٌ شجِيّ»… معاوية نور في أكثر حالات روحه إشراقًا

«الحياة لحْنٌ شجِيّ»… معاوية نور في أكثر حالات روحه إشراقًا

وُلد معاوية محمد نور، الناقدُ الأدبي والمفكر، وأحد رواد النهضة الأدبية العربية الحديثة، عام 1909م. تلقّى تعليمه الأوليَّ في مدرسة أمدرمان الابتدائية، وبعد تفوّقٍ مشهود، أُدرجَ اسمُه ضمن المختارين للدراسة في كلية غردون المرموقة. وفي سنواته الغردونية تلك، بدأت ميوله الأدبية تظهر وتتضخم، وكانت سعة اطّلاعه وثقافته أمرا مدهشا ولافتا للنظر. بعد إتمامه الدراسةَ الثانوية، اختير لدراسة الطب في كلية كتشنر الطبية، التي ستتيح لدارسيها مكانة رفيعة في المجتمع، خاصة بعد قمع الإنجليز الباطش لتحركات عام 1924م. لكن معاوية الذي ملأ الأدبُ عليه حياتَه، لم يستسلم لذلك الإغراء القويّ، فهَجَر دراسة الطب، واتّجهَ إلى عوالم الآداب والفنون، والاستغراقِ في قراءة الكتب العربية والإنجليزية.

سيصفه لاحقا إدوارد عطية، أستاذُه وأحد مصادرنا الثمينة عن حياة معاوية، بأنه أولُ سودانيٍّ يتصل اتصالا حقيقيا بروح الغرب، وسيسترسل في وصف تلك الغربة النفسية التي وجد معاويةُ نفسَه فيها، وهو يتنسّم آدابَ العالم حواليه، فيما بلاده تئنّ في قبضة الأمية. لاذ معاوية بالقاهرة هاربا، وكان جريمةً هذا الهروب، إذ لم يكن مسموحا بذلك لأسباب سياسية. وسريعًا أُعتقِلَ النابغة الهارب ذو العشرين عاما، وأعيد إلى أمدرمان. غير أنّ عزمه لم يتبدد، مرة أخرى طالَب بالسماح له بدراسة الأدب الإنجليزي، ولأنهم لم يقووا على الوقوف أمام هذه الرغبة الطاغية، كان له ما أراد. وما كان للحكومة الإنجليزية أن تمانع، فمعاوية هذه المرة اعتلى السفينةَ ذاهبا إلى لبنان، حيث بيروت ذات الصيت الجاذب.

عندما أسس دانيال بليس عام 1823م الكليةَ البروتستانتية السورية، والتي ستصير فيما بعد الجامعةَ الأمريكية في بيروت، لم يكن يعلم أن مؤسسته هذه، ستصير صرحًا تتفاعل فيه أفكار خطيرة، كان لها دور عظيم في التاريخ السياسي العربي المعاصر. فمن أروقتها انطلق مفكرون وناشطون كان لهم دورٌ بالغ الأهمية في تاريخ بلدانهم الحديث، ومنهم معاوية نور، الذي درَس فيها الآداب، مفْصلَ العقديْن الثالث والرابع من القرن العشرين. ونشر خلال تلك السنوات القليلة، مقالاتِه الذائعةَ في الفكر والأدب. وسرعان ما أصبح اسمًا لامعًا، وحظيت آراؤه الجريئة ذات النزعات التقدميّة بقبولٍ وتقدير من كبار الأدباء والمثقفين. ولا شك أن الجو الفكري الثقافي هناك، كان ملائمًا لطموحات معاوية، كما لا شك في انخراطه ضمن «جمعية العروة الوثقى» التي تأسست جمعيةً ثقافيةً طلابية عام 1919م، وقد حوَت مثقفين كانت أوطانُهم آنذاك تغلي؛ تريد التحرر. وتُعدّ هذه الجمعية نواةً لحركة القوميين العرب، وربما كان اشتغالُها «الزائد» في السياسة سببًا في قيام مجلس شيوخ الجامعة عام 1954م بحلّها، مخلِّفةً آثارا عظيمة، منها أعدادٌ من صحيفة «العروة الوثقى»، التي نشر معاوية على صفحاتِها في منتصف مارس عام 1930، هذا المقالَ الذي نقدِّم له..

تأتي أهمية هذا المقال الذي لا يتعدّى تسعمئة كلمة، من نواحٍ عدة. منها إثارتُه استفساراتٍ كثيرة، تتعلق بوصول التراث الكامل الذي كتبه معاوية إلى أيادينا، إذ يمكننا أن نفترض أنّ مقالات أخرى بالعربية أو بالإنجليزية ما زالت بعيدة من الأضواء، وتتطلب جهدًا جماعيًّا للعثور عليها. وأيضًا يظهِر هذا المقالُ الحالةَ النفسية لمعاوية في أثناء دراسته في بيروت، إذ نجدُ أنه كان سعيدًا ومبتهجًا، ولنا أن نتخيله، طالبًا شغوفًا بالمعرفة، في واحدة من كبريات الصروح الأكاديمية في المشرق العربي، وهو يدْرس المواضيعَ التي يحبها، محاطًا بأساتذة وأصدقاء مثقفين، ولذا جاء إنتاجه الأدبي والفكري غزيرًا ذلك الأوان، خصوصًا عاميْ 1930-1931.

وهي مقالات لا بد أنها تطلّبت بحثًا متأنّيًا في بطون الكتب، وروحًا متفائلة، روحًا كالتي تكتبُ هنا «الحياة لحن شجي». هذا المقال الصغير المنشور بخط يد معاوية، يُظهرِ معاويةَ في أكثر حالات روحه إشراقًا، مليئًا بالحياة، وداعيًا الناس للإقبال على الحياة، كاتبًا بلغة شعرية صوفية. يفعل هذا معاوية نفسُه الذي ستتخذ حياته لاحقًا في القاهرة وأمدرمان منحى مأساويًّا، وسيفارق هذا اللحنَ الشجيَّ وهو لم يكمل عامه الحادي والثلاثين بعد. إذا قارنّا هذا المقالَ مع مقالات أخرى لمعاوية، فلا يمكننا ادّعاءُ أهمية معرفية كبرى لهذا المقال، ولكنه مهم في الوقت ذاته، لتاريخ نشره، ولمكان نشره، ولموقفه الفكري، وحمولته النفسية، وهي أشياء نزعم أنها تهم دارسي معاوية نور.

تذكرتُ وأنا أراقب خطَّ معاوية، مقالتَه التي نشرها بعد ستة أشهر من هذا المقال، أعني مقالَته: «شخصية غاندي من خطه». يقول فيها إن «أولئك العلماء الذين يولون خطَّ الإنسان عنايتهم الكبرى في تعرُّف الشخصية، هم أقربُ الناس إلى الصواب». و«حتى مَن يستطيع تزوير خط يده، فهناك خطوط من شخصيته ستكون واضحة لا تخفى». وأردتُ تطبيق هذا على خط يده، كما فعل هو بخط غاندي وساروجيني نايدو، فرأيت معاويةَ من خلال خطه، كثيرَ التفكير، «يشطب» كلماتٍ ويعيد كتابتها أكثر من مرة، يكتبها أعلى السطر أو أسفلَه. ثم هو مندفِعٌ مسرع، تزدحم الكلمات في رأسه، يده تحاول اللحاق بأفكاره، ولذا خطُّه يُقرأ بصعوبةٍ نوعا ما. وهو بعد هذا أنيق، مُعتنى به، ومعاوية كذلك، وصِف كثيرا بأناقة ملبسه ومظهره. إجمالًا، خطُّه خطُّ شخص متحمّس، سريع الحركة، متوقد الذهن.

تبقى أن أقول إنني لم أفعل شيئًا لهذا المقال، سوى قيامي بنقله من خط يد معاوية، إلى حروف الآلة الكاتبة الحديثة ليُعاد نشره. ولأن المقال نُشر حين نُشر بغير تدقيق ومراجعة، فقد تدخلتُ أحيانًا لضبط آخر الكلمات بحركات الإعراب.

شكري الخالص للصديق الشاعر حاتم الكناني لمدّي بمخطوطة المقال. والشكر كذلك للسيد رافائيل كورماك مصدَر هذه الصفحات.

نصّ المقال

«الحياة لحنٌ شجيّ. الحياةُ جمال. الحياةُ أنوار. الحياة قوة. الحياة لحن شجيّ. الحياة لحن شجيٌّ يختلف قوةً وضعفًا، وبكاءً وفرحًا، وتفنُّنًا وإبداعًا. الحياةُ لحن شجيّ. الحياة لحن شجي. ولو سمعْته نغمةً حزينة باكية، وأخرى ضاحكةً مستبشرة، وغيرها سطحيةً جوفاء، وتلك عميقةً بعيدة الغور، وهذه فيها ظلالٌ وألوان، وغيرها فارغةً لا ظلال فيها ولا ألوان. هذه هي الحياة، تختلف باختلاف العازفين، وتتلوَّن بأميال الموسيقيين وتُحكم بذوق السامعين. هذه هي موسيقى الحياة، التي تفوق كلَّ موسيقا وكلَّ نغم، هذه هي الموسيقى التي نعملها كما نريد، فنلوّنها بعواطفنا وأميالنا ونزعاتنا، وذلك في استطاعتنا إلى أمد بعيد.. فأين أنتَ يا صاح من هؤلاء؟

فهل أنت ناظرٌ للحياة تلك النظرةَ السطحية الفارغة، التي ربما تغيرها أتفهُ الأشياء، وعوارضُ الحالات، فلا ترى في الحياة قصدًا ولا غناءً، ولا إبداعًا أو ثراءً. أم أنت ذلك الرجلُ الذي ينظر فلا يرى غيرَ الظلمة والحلكة والأنواء، ولا يسمع إلا أنينَ الشكوى وتمردَ الضعفاء، ولا يرى في هذه الحياة سوى الآلام، وصور الشقاء، أين أنت يا صاح من هؤلاء، أو أنتَ إنسان قد تفتّحت نفسُه، ووعى قلبُه، وتألق فكرُه، فصار يرى الحياة كما يجب أن نرى الحياة، زاهيةَ الألوان، مختلفةَ الأنغام، جليلةً في كلتا حالتيْها من سرورٍ وآلام.

أنتَ ترى الحياة فتعرف أنها عميقة المعنى، بعيدة الغرض، جميلة في المعنى والمبنى، ترى الحزنَ فتعرف أنّ بدون حزنٍ ليس هنالك من سرور أو صفاء، وترى القبح فتعرف أنه لولا هذا القبح لما كان هناك ثمّت من جمالٍ أو روَاء. وترى الظلم فتعرف أن لولا الظلم لما كان هنالك ما يُسمى عدْلًا أو حريةً أو قضاء، وترى الفقر والتعاسة فتعرف أنه لولا هذا الفقر والشقاء، لما كان هنالك ثَمَّ سعادة أو غناء أو ثراء، وترى الشتاء زمهرير برده، فتعرف أن لولا هذا الشتاء لما كان هناك دفءٌ أو ربيع أو سناء. وتستمع من بعد هذا كله إلى الموسيقا الباكية، وإلى أنين المحزونين، فترى في ذلك جمالًا، وتعرف أن لولاها لما كان هناك موسيقا طرِبَة، ولولاها لما كان ما يسمَّى أفراح المسرورين. وترى مجانين الناس فتعرف أن لولاهم لما كان هنالك عقلاء، وترى كلَّ شيء مظلِماً محزِناً فتعرف أن لولا هذا الظلام، ولولا هذه الأحزان، لما كان هنالك نور، ولا كان هنالك سرور ولا كان ثمة حياة.

    هذا رجلٌ شأنه ليرى في كل هذه الأحزان جمالًا آخر يضيفه، جمالًا حزينا، يضيفه إلى الجمال الباسم، وإنه لينظر إلى كل شيء فلا ينظر هذه النظرةَ الغبراء. ثم هو يرى الحياة في جميع أجوائها وأثوابها فيعدّها جميلةً، ذلك لأنها الحياة، أين أنت يا صاح من هؤلاء؟

    أوَدُّ أنْ تكون من الأخِيرين، فتسعدُ وتعرفُ ماهية الحياة، فالذين يحكمون على الحياة إنما يحكمون على أنفسهم، والذين يقولون إن الحياةَ ظلامٌ وتعاسة وشقاء، فإنما ينتحرون ولو أنهم موجودون بين الأحياء. وخبّرْني كيف يحكم الطفلُ على والدته بأنها أرذل الوالدات وأقبحهن، حينما لا يكون هنالك من والدةٍ خلافها، ولا ابنٍ خلافه في هذا العالم، هي الأم الوحيدة وهو الابن الوحيد، فكيف يقارن بينها وبين أمهاتٍ ليس لهن من وجود، ألا إن ذلك لَهُوَ العبث بعينه الذي لا عبث وراءه لعابث، واللهْو الأكبر الذي ليس وراءه من لهْو. فهي أمُّه بخيرها وشرها، وهي أمه أرضتْه أو لم ترضِه، وهي الأم التي يستطيع أن يقول عنها إنها جميلة، ولا يستطيع أن يقول عنها رديئة، لأن لا أُم غيرها، غير أنه يستطيع أن يقول إنها لا ترضيه، ولو أنه بذلك يحكم على نفسه بالشقاء الذي هو ليس في حاجة إليه.

    ولي مع أولئك النفر- الذين يحكمون على الحياة ويقولون إنها أرذل حياةٍ- سؤالٌ: أوَهل رأوا حياةً غيرها حتى يحكموا؟ وكيف يحكم الإنسان على شيءٍ فرْدٍ لا ثانيَ له ولا شبيه؟ هذه مسألة منطقية أولية، لا تحتاج إلى قيل وقال. أفَليْس الأصوب أن أعدّ الشيء الوحيد الذي لم أرَ غيره جميلًا؟ على الأقل جميلًا في هذه الفردية، وجميلًا بحقيقةِ وجوده، وكل ما عداه عدم. جميلًا لأنه هو ولا شيء غيره، ولأني غير حرّ في أن أغيّر فيه أو أبدِّل.. وهو موجود سواء أسُررتُ به أو لم أُسَر، أيٌّ أصحُّ وأي أعقل؟، الرافضُ للذي لا بد منه، أو القابل للحياة مستبشرًا لأنها الحياة؟ هذا هو شأننا مع الحياة، نولَد غير مختارين «سلّمْنا»، ونترك هذا العالم غير مختارين «سَلّمنا» فأي أشد فهمًا وأيهم الأصح؟ ذلك الذي يختار في مدّته التي لم يخترها الجمالَ أو ذلك الذي يختار الرفضَ في مدته التي لم يخترها فيبقى ويظل شقيًّا؛ لأنه يرفض شيئًا لا بد من قبوله، وينتقص شيئا ليس غيره من كمال. فلا تشاؤم ولا تفاؤل هناك، إنما جنونٌ وحمق، وهناك صحة وعقل، وأعيذ القارئ أن يكون أحمقَ أو مجنونًا.

    فلْنتقبل الحياة، ولنتقبلْها مستبشرين متفائلين، ضاحكين كضحكها، متجهّمين كتجهّمها، محزونين كحزنها، متألمين كألمها. ولكن بعد هذا كله متفائلين كتفاؤلِها، وعميقين كعمقها، حيِّين كحياتها، عارفين أنّ وراء كل هذه الظواهر جمالًا وحياةً وحقًّا، جمالًا لأن لا جمال في غير حياة، وحقًّا لأن لا حق في غير حياة، وحياة لأن لا حياة في غير حياة. كتَبَ روبرت براوننج  قصيدتَه «رابّي بن أزرا»، يرى فيها أن ليس الشبابُ وحده زمنَ الحياة والتفاؤل والعمل، ولكنْ في الرجولة والشيخوخة جمالٌ وقوة وحياة، ليس دون قوة الشباب وجماله. ولقد قال حقا، ودلَّ على معرفةٍ بسُنة الحياة وتقاليدها.

    والشباب والربيعُ.. هذا أوانُ الربيع يا صاح. الربيع بأنواره، الربيع بأزاهيره، الربيع بأطياره، الربيع بشمسه الوضّاءة، الربيع بلياليه القمراء، يصبُّ شِعرًا هادئًا وسكونًا رزينًا، وتألقًا ونورًا. الربيع في تفتُّق الأزهار، الربيعُ في زقزقة الأطيار، الربيعُ في كل شيء نامٍ، وفي كل شيء غير نامٍ. هو بهجة الأنظار، ولذة الحواس، وشعور الغبطة والسعادة في النفوس والأرواح. كل هذه الأشياء لا ترضيك! ولا تفعم نفسَك لذةً وانشراحًا وتفاؤلًا وعملًا! وتجعلك أفهَم لمعنى الحياة، ووجود الأحياء. فلْتستمتع بنظرك، وسمعك، وحسك، ولمسك، وشمك، ولْتفهم بعقلك، ولْتخفق بقلبك، ولْتستبشر وتغتبط بروحك من كل هذه الموائد التي تعرضها عليك الحياة في غير تمنٍّ ولا جزاء.

معاوية محمد نور

15/3/1930م.