أعداء الفلاسفة
«ليس هدفنا المُضيّ قُدمًا إلى بانوراما الأفكار المضادّة للثورة، ولكن دراسة كيفيّة اندلاع الثورة في الخطاب المُعادي للفلسفة والإقدام على إعادة تأويلٍ للماضي».
معاداة الفلسفة
[ص 393] منذ قيام ثورة عام 1789م، كان من باب أولى أن يُعطى إعدام الملك عام 1793م قوّة جديدة لخصوم الفلاسفة. ألا يكون أتباع فولتير والروسويون (les Rousseau) المسؤولين الرئيسيين عن هذا الحدث الوحشيّ، والمسؤولين عن هذا الانقطاع الجذري في التاريخ، وهذا الانهيار لمجتمع بأكمله وهو القائم على السلطة الشرعيّة؟
بمعنى ما، وبالنسبة إلى معاديي الثورة والمدافعين الراديكاليين عن السلطة الملكيّة والأرثوذكسيّة الدينيّة، فإنّ الثورة ستراجع أساسها، الصلب، من خلال التحفظات التي لم يتوقفوا عن توجيهها إلى السلطات المدنيّة والكنسيّة والمجتمع كلّه ضدّ نشر الكتابات المعادية للدّين و(ضدّ) تعميم الرّوح النقديّة، في ظلّ النظام القديم. وبهذا ستكون المأساة الثوريّة دليلًا قويًّا على الضرر الذي يمكن أن تُخفيه الطباعة، حيث تمكّنت الكتابة الفلسفيّة من تلويث المجتمع وتقويض أُسسه وإغراقه في الفوضى السياسيّة والاجتماعيّة؛ إذ يُثير إدراج مُناهضة الفلسفة في الخطاب المُضادّ للثورة أسئلة مُتعدّدة، وأساسًا تلك الأسئلة ذات الصلة بالتراث والحداثة.
هل يجب أن نرصُد في كتابات منظري ما بعد الثورة مخاطر الإلحاد وتيه العقل الفردي وعودة ظهور الأماكن العامّة، البالية الآن، لمّا يعزل هذا العقل نفسه عن تقليد عُمُره لألف عام، أم إنّ صدمة الثورة تُولّد خطابًا جديدًا؟
إنّها مُشكلة مُعقّدة يجب طرحها بدءًا من الاضطرابات الأوّلية التي أثارتها الثورة لدى المُفكّرين الأكثر ارتباطًا بالملوك. فضلًا عن تميّز العديد من أعداء الثورة، وبعمق، بمشهد العنف الثوري، والمُتمظهر أساسًا في ظاهرة إعدام الملك. ولن نُكرّر تاريخ هذه الصدمة، هذا الفعل غير المسبوق الذي يمثل في نظرهم قتل الأب.
دعونا نلاحظ، فقط، أنّ الحدث، في البداية، غير قابل للاختزال إلى المقولات المفاهيميّة لمناهضة الفلسفة والثورة المضادّة. أمّا جوزيف دي مايستر، فإنّ هذا العنف، الذي أُقِرَّ وعُرِضَ، هو أولًا وقبل كلّ شيء لا يمكن تفسيره ولا يمكن تصوّره، بل غير منطقيّ على ما يبدو؛ إذ كيف يمكن للكائنات الشريرة، وهي أخطر مذنب في الكون، أن تنتصر على الكون، وتجد حلفاء حتى على عروش أوربا؟
لكنّ الانعكاس الديالكتيكي يُمثّل الثورة كحدث قابل للتفسير، تمامًا، بل حتى ضروريّ؛ لأنّه الدليل الأكثر وضوحًا على العناية الإلهيّة. وتثبت استحالة اختزال الحدث الخارق للمعتاد والاستثنائي؛ ذلك أنّه يراوغ ويخادع مُمثليه، ثم يُنظر إلى الثورة على أنّها قوّة خارقة بالنسبة إلى الإنسان، تنفجر في التاريخ لمعاقبة المُذنبين والمُنحطّين من الناس، بمُقتضى التصوّر الديني؛ ليصبحوا بشرًا (أسوياء). بحيث ترتفع الثورة فوق الحاضر والعرضي، فيتبدّد الغموض، ويصبح الحدث مقروءًا تمامًا.
بمعنى ما، تطفو مأساة التاريخ من جديد لتدمير أخطاء القرن بقسوة: ألا وهي الإيمان السعيد بالتقدّم، والسعي وراء السعادة، الذي أسّس التفاؤل الفلسفي، والذي لا يقع إنكاره فحسب، بل يجري الاستهزاء به والموافقة عليه من خلال حدث التضحية الذي لا يكفُّ عن تذكير الناس بوجود الشرّ.
فليس هدفنا المُضي قُدمًا إلى بانوراما الأفكار المضادّة للثورة، ولكن دراسة كيفية اندلاع الثورة في الخطاب المُعادي للفلسفة والإقدام على إعادة تأويلٍ للماضي. [ص 395]
في هذا الصدد، وَرثَت مواقف بعض وآخرين أمثال: بيرك، ومايستر، وبونالد مجموعة أدوات مفاهيميّة، أُعيدَ تنشيطها بسرعة في التاريخ الحديث: على نحو الدعوة إلى مسألة المثقف، وموضوع الانحطاط، وتطوّر نقد المجتمع الاجتماعي. وقد تمكّن نقد «العقد الاجتماعي»، الذي نظّر إليه روسو على نطاق أوسع، من كسر الرابط الذي أصبح يجمع بين السياسة والدين، فبرز من جديدٍ، بجلاءٍ أكثرَ، من خلال التشكيك في حقوق الإنسان والديمقراطية والعلمانية المنتصرة، حيث يسمح الثقل الناتج عن معرفة الثورة للخطاب المناهض للفلسفة بأن يُعزّز موقعه، أحيانًا، ضدّ التحجّر في عقيدة أو أيديولوجيا.
إنّ الحدث الثوري يجعل نقد الفلسفة أكثر راديكالية، وبالتالي يُساهم في تعزيز مجال دراسة «التنوير» من أجل الطعن في مبادئه المفسدة في الآن نفسه. هذا المشروع الشامل والموحّد، كما قلنا، كان يعمل بالفعل في السنوات التي سبقت الثورة حتى في الماضي البعيد.
علاوة على ذلك، فإنّ رفض سريان تاريخ علماني، وخالٍ من أيّ صلة بالتعالي، لا يعبّر عن الرغبة الوحيدة في العودة إلى الماضي. لقد أظهر جيرار جونجوبر ذلك جيدًا: 2فنقد الفلسفة هو، أيضًا، وبشكل متناقض، جزء من إشكالية تنشأ ممّا يُسمّى تقليديًّا «التنوير».
ولانتقاد هذه الأشياء، من الضروري أن نفترض في الواقع، وضوحًا كاملًا للماضي، والانخراط في تأويل يكون فيه كلّ شيء حاملًا لمعنى، وجعل مجال التاريخ أكثر استقلالية، والتسليم بتمثُّل ما للمجتمع، الذي يسمح للمفكرين مثل بونالد بتأسيس علم حقيقيٍّ للاجتماع.
ونشير، أيضًا، لدحض التشريعات الثوريّة إلى ثغرة تتبعها مونتسكيو في تلك القوانين الثابتة للمجتمع؛ فنحن نخضع باستمرار للقوانين، من خلال تكريس أنفسنا لعمل كامل من العقل النقديّ. هذه هي، أيضًا، مفارقة وربّما مأزق الفكر «الرجعي»: فهو يرفض العقلانية النقديّة في كتلة واحدة، بما هي السلطة الضارّة التي تستنكرها، لكنّها هي نفسها تستخدم أدوات مفاهيميّة، صاغها الخصم في جزئها الأكبر!
من ناحية أخرى، فإنّ الرفض الماستري للتاريخ العلماني، هو الاستحالة المُعلنة من فئة من الناس للسيطرة على مصيرهم، فهم يُقاومون، بضعف مُثير للاستغراب، كلّ تدخّل في الأحداث السياسيّة الراهنة. [ص.396]
نظريّة المؤامرة:
أولًا- في قيادة الفلاسفة للمؤامرة
ردّ العديد من أتباع الثورة المضادّة الراديكاليّة الثورة إلى مؤامرة طويلة الأمد، دبّرها الفلاسفة، الذين استعانوا بالماسونيين وأحيانًا اليانسينيين أو البروتستانت للإطاحة بالنظام الملكي. ومن ثمّ ستكون هي الطائفة الحقيقيّة المسؤولة عن كلّ الفظائع التي ارتكبت خلال حركة الإرهاب تلك (الثورة). وفي الآن ذاته، وجد إعدام لويس السادس عشر تفسيرًا بسيطًا وحصريًّا.
لا تزال الصدمة قائمة، لكنّ الوضوح المُضيء في التفسير يُطمئن الخيال من خلال إلقاء مرهم على ألمٍ لا يمكن إبراؤه؛ إنّه الأَجَل النهائي لعمليّة زعزعة الاستقرار التي جرى إعدادها بعناية؛ إذ يُشير الحدث إلى ضرورة مُلِحّة تَحُلّ مَحلَّ الفرص الزائفة للتاريخ: «في هذه الثورة الفرنسيّة، كلّ شيء، وصولًا إلى أكثر جرائمها فظاعة، تمّ التخطيط له، والتفكير فيه، وجمع عناصره، واستخلاص نتائجه، وإصدار أحكام بشأنه»، هذا ما خطّه باروال، رائد نظرية المؤامرة.
لم تظهر الفكرة فجأة في ذهن هذا اليسوعي السابق الذي اختار المنفى في عام 1792م. وكانت مجلّة فريرون الشهيرة التي تحمل اسم «السنة الأدبيّة»، قد ذكرت بالفعل في عام 1773م وجود «اتحاد من الفلاسفة المزعومين والأرواح -الطيّبة، الضعفاء جدًّا في ذواتهم- الذين أصبحوا أقوياء جدًّا من خلال الرّباط الذي يصل بعضهم ببعض». من دون الحديث صراحة عن مؤامرة، وعن خصوم الفلاسفة، وعن الموسوعة على وجه الخصوص؛ (لكأنّه) التواطؤ بين مُذيعي المعصية الحديثة.
كان مرسوم التسامح لعام 1787م الذي يمنح الحقوق المدنيّة للبروتستانت قد غذّى بالفعل الشكوك حول وجود مخابرات سرّية بين الفلاسفة والمُصلحين لزعزعة قوّة ضعيفة ملوّثة بأفكار جديدة. كان الكالفينيون أعداء كلّ سلطة، يُعلنون، منذ القرن السادس عشر، عن تلك الأرواح المُتمرّدة للفلاسفة. إنّهم أولئك المُتشبّعون بالأفكار الجمهوريّة الذين كانوا يُحاولون تنصيب حكومة شعبيّة! [ص.397]
دعمًا لأطروحته، يستند الأب بونود إلى مونتسكيو، مُستخدمًا مُفردات فولتير، لوصم «التشنّجات» التي ينغمس فيها المتعصّبون البروتستانتيون في سلسلة جبال سيفين وفيفاري، المنطقة التاريخيّة في الجنوب الفرنسي؛ فقد أدّى عشية الثورة الوجود المتزايد للجمعيات السرّية والدوائر المُتخفيّة فضلًا عن ظهور السحر والتنوير، إلى خلق مناخ من الغموض أفضى إلى ظهور الشائعات، وغذّى خطابًا يُندّد بسلطة الظلّ المُوجّهة ضدّ المؤسّسات.
إنّ طائفة المتنوّرين في بافيار، التي أسّسها وايشوبت، والتي تُعلن عن الرجال الأحرار وعن المساواة، تُقلق المُدافعين عن العقيدة الدينيّة والسلطات العامّة. لكنّ الأفكار التي ولدت من الهجرة، بصفة أخصّ، هي التي تُغذي أطروحة المؤامرة. ويبدو من المستحسن مُراعاة الوضع المادّي والمعنوي للمهاجرين لتحليل هذا الموقف الفكريّ.
يُشجّع البُعد المفاجئ عن مكان المنشأ، البيئة المعيشيّة، وغالبًا عن نمط الوجود، على التفكير النقديّ وكذلك التجاوزات الرومانسيّة. ففي عام 1792م، عزّز الاغتيال الماسوني لملك السويد جوستاف الثالث، فكرة المؤامرة عندما كان يستعدّ للتدخل ضدّ الثورة الفرنسيّة. ويجعل بعض الملتزمين، فعليًّا، بالنظريات المحافظة تأويلهم راديكاليًّا؛ إذ كان موصولًا في الماضي القريب، بالبحث الشغوف عن أسباب المصائب الحالية [ص 398]. ومنذ عام 1789، حمّلَ باروال في مؤلّفه «الوطني الحقيقي» الفلاسفة مسؤوليّة الاضطرابات الثوريّة، ولكنّه في مذكراته «لخدمة تاريخ اليعاقبة» (jacobinisme — 1797-1799) أَوْلَى أهمّيةً غيرَ مسبوقةٍ لأطروحة المؤامرة.
ثانيًا- في تشريح إستراتيجية المؤامرة
يعتمد التحليل على الحاضر، باعتباره الشرّ المطلق، ليصعد بعد ذلك إلى سلسلة طويلة من الأضرار المسؤولة عن هذا الوضع. فيظهر التدهور الكامل للمجتمع المدني كنتيجة قصوى للشقوق الجزئية والمتصاعدة التي تثيرها خطابات التدنيس والانحراف.
من بين جميع الطوائف التي ازدهرت في السنوات الأخيرة من النظام القديم، تولى أحدهم السلطة أثناء الثورة: «تحت الاسم الكارثي «يعقوب»، فظهرت طائفة في الأيام الأولى للثورة الفرنسية، تعلن أنّ الناس جميعهم أحرار ومتساوون؛ وباسم هذه المساواة وهذه الحرية المشوّشة تُداس المذابح والعروش تحت الأقدام؛ باسم هذه المساواة نفسها وهذه الحرّية ذاتها تدعو جميع الشعوب إلى كوارث التمرّد وأهوال الفوضى».
وإذا كان مشروع عدم تنظيم المجتمع الفرنسي متجذرًا في الماضي، فلن يتوقف عند الحاضر الثوري؛ فطبيعتها ذاتها تقودها إلى الانتشار إلى بلدان أخرى. ومع ذلك، فإنّ الفكرة الأساسية لباروال، وغيره من مُفكري الثورة المضادّة، هي أنّ النظريات النقديّة، مُرتبة في نظام مغلق وينشرها رجال مصمّمون، يتحكّمون تمامًا في دوائر المعلومات، وتُشكّل تلك النظريات تخمّرًا جذريًّا للتخريب، لا رجعة فيه، والتحكّم فيه مُحال.
على هذه القاعدة التأسيسيّة يجري تطعيم تمثُّل المؤامرة عبر ثلاثة مراجع مترابطة: الفلاسفة الذين تآمروا على المسيحيّة، والماسونيون في تمرّدهم على عروش الملوك، والمتنورون. وتمضي كل مجموعة من مجموعاتها في نظام من التحالفات وتوزيع دقيق للأدوار.
بالنظر إلى الفلاسفة، نجد أن قائد الأوركسترا والمتلاعب الكبير [ص 399] هو فولتير الذي أرسل، منذ تقاعده من فيرني، المقر الحقيقي للمعصية، كلماته إلى مجموعة الأقمار الصناعيّة المُدرّبة والمتفانية والدعاة. ومنذ ذلك الحين أُطلِقَتْ آلة الحرب.
فيما كان دالمبار، كاتبًا متواضع المستوى، لكنّه يتمتّع بسمعة هندسي مساحة، حُوفِظَ عليه بعناية، بعد أن قرّر أن يجعل نفسه مُساويًا للبطريرك ومُحاكيًا له، بدافع الكراهية البسيطة للمسيحيّة. بينما كان زعيم الطائفة يُسلّح قواته في فيرني، يُشوّه دالمبار، بمساعدة ديدرو، سمعة الدين في الأماكن العصرية. وفي المقاهي «قادوا ببراعة الحديث حول بعض الأمور الدينية. ولئن بدا دالمبار يدافع بشكل أكثر عمومية، فإنّ ديدرو عبّر في مهاجمته العلانية عن كلّ شيء موصول برجل الدين؛ فهو: «صاحب رأس متشدّد، ذو حماسة، يشكو من اضطراب في أفكاره»، غير أنّ دالمبار يعجز، وهو أسير صورة محترمة شُيّدت بجهد، أن يوافق عمّا عبّر عنه ديدرو علنًا وأمام الجمهور! وهكذا تقوم الإستراتيجية على وجود خطابين متكاملين؛ أحدهما يُعبّر بشدّة عن برنامج إلحادي وخبيث ضدّ السلطة القائمة، بينما يضع الآخر قناعًا لتمرير الأفكار نفسها بشكل أكثر خداعًا.
يجمع باروال أدلّة المؤامرة؛ إذ تؤكّد المحفوظات والمراسلات المنشورة بعد وفاة فولتير فكرة التواطؤ السرّي بين الممثلين الذين يُعدّون لخطتهم المكيافيليّة في الظلّ. فأصبحت الأسماء المستعارة التي أطلقها فولتير، بشكل مألوف وممتع على العديد من مراسليه، هي العلامات التي لا يمكن دحضها لهذه المناورات.
ألا يُدعى، فريدريك الثاني الحامي غير المستحق، الذي تكمن قوّته في خدمة الفيلسوف الخائن، القديس لوك؟ أليست هذه كلمات مرور: «بروتاغوراس» أو «برتراند» التي حدّدها دالمبار تحت قلم فولتير؟ هل بعض الصيغ الغريبة مثل «Ecrlinf» («سحق سيّئ السمعة») لا تشكّل علامات ولا يمكن دحضها للتجمّع القائم على نمط طقوس التنشئة السارية في المجتمعات السرّية؟
كان للموسوعة دور أساسيّ من بين الوسائل التي استخدمها المتآمرون [ص 400]؛ إذ يخفي هذا العمل العظيم، تحت واجهة الأرثوذكسية، المجموع المتفجر لكل مغالطات المعصية الحديثة؛ لأن تنوّع المشاركين بالنسبة إلى باروال لا يُمثّل بأيّ حال من الأحوال اعتراضًا محتملًا على أطروحة المؤامرة. على العكس من ذلك، فإنّ مجموع الممثلين والموضوعات التي عُولِجَتْ تُحوّل القاموس إلى وعاء من جميع المذاهب التخريبية، القديمة أو الحديثة؛ لأنّ جميع المُتحدّثين، باستثناء جاوكورت، كان من الممكن أن تكسبهم «الفلسفة». إنّ أطروحة يانسونيست شوميو، التي ذُكِرَتْ منذ نشر المجلدّات الأولى من الموسوعة، نُوقِشَت مرّة أخرى لتصبح راديكاليّة ومكتملة لتتعمّق فكرة الحيلة التحريريّة التي تضاعف إستراتيجيات الإخفاء، أيضًا.
وهكذا، تصبح أكبر مكتبة لبيع الكتب مؤامرة غير عادية تهدف إلى خداع القرّاء الساذجين؛ لأنّ كل شيء، هنا، منطقيّ لدعم المبدأ الذي وُضع في البداية من قبل المُنظر، فالأرثوذكسية الظاهرة، وبخاصّة تلك الموجودة في المجلّدات الأولى، تنشأ مثل شَرَكٍ يُنْصَبُ للجمهور في الخفاء قصد كسب ثقته. وتكمن الحيلة في أنّ أفضل العيون التي تمارس الحيلة إنّما تُخاطر بأن تستغلّها، وبالطبع يستدعي باروال الحجّة الشهيرة المتمثلة في الرفض التي من شأنها أن تسمح، من خلال انحراف غير ضارٍّ، بالانزلاق في سماتٍ مُضادّةٍ للدين.
ثم تستعيد صورة السمّ قوّة جديدة، من خلال تحديد تأثير يكون أكثر ضررًا، عندما لا يكون الضحايا على دراية بالتلوّث. وتتمثّل الوسيلة الثانية في تدمير النظام اليسوعي. هنا يتعزّز التواطؤ؛ لأنّه قد وُجد متواطئون من بين أعلى مُمثلي السلطة.
كان شوازول والسيّدة دي بومبادور، بصفتيهما من حماة الفلاسفة، أعداء المتآمرين. أما البرلمانيون اليانسونيسيون، فقد كانوا موضع تلاعُب من «السفسطائيين». وفي ذلك مواصلة لمؤامراتهم المعادية للمسيحيين [ص.401]. ثمّ هاجم الفلاسفة التجمّعات الدينيّة وحصلوا على إصلاحات جائرة من السلطات العامّة، مثل المراسيم التي تُؤخّر سنّ النذور إلى واحد وعشرين عامًا وقمع الأدْيِرَة، التي لم تكن سوى عشر راهباتٍ في القُرى وعشرينَ في المدن.
كان من الواضح أنّ هذه السياسة المعادية للدين تنذر بالاضطهاد الذي قد ينشب خلال الثورة. ولتوسيع هيمنتهم وإتقان عملهم، اقتحم الفلاسفة الأكاديمية الفرنسية مع المؤيد العظيم دالمبار كقائد لتأسيس سياسة الفتح وتلويث الرأي العام، وكلّ ما تَبقّى هو نشر الكتب المُعادية للمسيحيين حتى في الأكواخ، حتى ينغمس الناس من جميع الفئات ومن جميع الأعمار في ارتداد وحشيّ!
ثالثًا- رهانات وَحدَة التخييل والأيديولوجيا من المؤامرة
دفع باروال تفكيره إلى الأقصى، خلافًا للمنطق السليم، ليؤكّد أنّ معصية فولتير تولّد فيه كراهية السلطة الملكيّة! أمّا روسو، فقد رسم النتائج النهائيّة للنظرية التي طرحها مونتسكيو حول فصل السلطات، من خلال إعلان وجود حرّيةٍ طبيعيّةٍ، ومن خلال إسناد السلطة التشريعيّة إلى الشعب؛ إذ شكّلت نظريّة المؤامرة، في القرن التاسع عشر أولًا، منهجًا استعاديًّا مذهلًا للقرن الثامن عشر في فرنسا. ولم يفشل المنظرون في المطالبة بتراث فكري لتحديد مَنْ مِنَ الشخصيات التقليديين ذوي النزعة الاعتذارية للسلف كما للمستنيرين، الذين تخلّلوا تاريخًا، تعرّض للتهديد منذ فترة طويلة.
يخبرنا باروال أنّ الأب دي بورغارد يكشف النقاب، قبل ثلاثة عشر عامًا من الثورة، عن «مشاريع الفلسفة الحديثة بنبرة الأنبياء». وبفضل هذا الرأي الذي ساد فجأة، يبدو أنّ العديد من المؤامرات قد حدثت في الماضي القريب. فعندما تنهار السلطة والنخب المسؤولة عن فرض الحقيقة وتفشل فعليًّا في مهمتها المشروعة تُشكّل تحالفات غير عادية (أرستقراطيٌّ، وأحد المُفضّلين وفيلسوف) لإنجاز المخططات المظلمة. إنّها قصّة حبّ سوداء كاملة تُوفّر شبكة تفسيريّة للمُؤرّخ.
أمّا الأب باروال، الذي حصل على هذه المعلومات من ملاحظات وروايات السيّد دي كاسيني، وتشويسيول، صديق فولتير، الوزير الساخر وغير المتديّن؛ فلم يتردّد في أن يسمّم طعام دوفين، ابن لويس الخامس عشر؛ لأنّ هذا الأمير أراد الحفاظ على الروح الملكيّة الأصيلة ومُعارضة تصاميمه المُعادية لليسوعيين! [ص. 402]
إنّ تواتر الأرستقراطيين المهاجرين العظماء، وتداول الشائعات من جميع الأنواع، والأسرار التي تسير على ما يرام، وتحديث المراسلات الخاصّة، تُوفر كلّها مادّة لإعادة التفسير الذي يُبالغ في تقدير المؤامرات لتقليل الدور، الذي يُسبّب الصدمة بشكل أساسيٍّ، للقصّة الكبيرة. ثمّ تفقد الثورة جزءًا من عظمتها المُبهَمَة والمأساوية.
لكنّ موقف باروال وغيره من منظري المؤامرة ليس مجرّد موقف رومانسي؛ إذ ينضمّ الخياليُّ إلى «النزعة القومية» التي تأتي جزئيًّا في أعقاب روح «فلسفيّة» معيّنة. وبدءًا من فرضية طُرِحَتْ منذ البداية على أنّها مؤكدة، يعود المؤوّل إلى الوراء في الوقت المناسب لِيَجمَعَ الأدلّةَ المُتراكمة، التي يُعزِّز بعضُها بعضًا، تشكيلًا لسلسلة سببيّة واحدة؛ ذلك أنّ التأويل القاطع يمحو خشونة الواقع وأحداث التاريخ، لإسناد بند حصريٍّ يُمكّننا من التعرّف إلى الوضع الحالي، ممّا يُرضي الرّغبة في التوضيح المطلق. دعونا نلاحظ كيف تستسلم الفلسفة الراديكالية للهذيان التأويليّ، وذلك بناءً على مُلاحظاتٍ صائبةٍ.
فإذا كان من الواضح أنّ فولتير، كما رأينا، قد نسج شبكة من التحالفات الأوربية، فهذا لا يعني أنّه يتّبع خطّة لزعزعة الاستقرار السياسي! فلئن كانت دوائر الموسوعيين، من خلال التدخّل الأساسي لدالمبار، تعتزم التغلب على هذه المنصّة التي تمثلها الأكاديمية الفرنسية، فإنّهم لا يُفكّرون، ولو للحظة واحدة، في الإطاحة بالسلطة الملكيّة!
أليس من الضروري أن نتذكّر أن الوفاق السرّي بين جميع الفاعلين في الصراع الفلسفي لا يقدّم أدنى أساس، وأنّ التقسيمات الإستراتيجيّة والعقائديّة تسود بقوّة على نقاط الاتفاق! [ص 403]
ومع ذلك، فإنّ الخيال الوحدوي الذي يُغذي فكرة المؤامرة قد ترك بلا شك آثارًا في تمثُّلنا التخيُّلي للقرن الثامن عشر في أعمال الفلاسفة. كما أنّ ذاك الخيال يُحافظ على التدخّل في الماركسيّة في نصّها التأسيسي عندما يفترض وُجود عمل جماعيّ للمثقفين، وعندما تظهر العواقب العالميّة لحركة نهائيّة، على أساس التحالفات الموضوعيّة، حتى لو تبنّت موقفًا أيديولوجيًّا واضحًا يُعارض باروال.
ملاحظة أولى: ورد المقال في كتاب: ديديي ماسو، «أعداء الفلاسفة، معاداة الفلسفة في عصر الأنوار»، ألبان ميشال، باريس، 2010م.
ملاحظة ثانية: أرقام الصفحات الموجودة في الترجمة العربية بين معقوفين، (من صفحة 393 إلى صفحة 403)، متوافقة مع أرقام الصفحات الموجود في النص الفرنسي، الأصلي، الذي أوردته أسفل الترجمة بداية من الصفحة 9.
مصادر:
من كتاب ديديي ماسو، أعداء الفلاسفة (معاداة الفلسفة في عصر الأنوار)، ألبان ميشال.