«كتاب الفل» لعبدالرحمن موكلي… محاولة التأريخ للفل كبنت لاهية

«كتاب الفل» لعبدالرحمن موكلي… محاولة التأريخ للفل كبنت لاهية

في «كتاب الفل» للشاعر عبدالرحمن موكلي، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ٢٠٢٣م، تبرز البطولة لوردة الفل البيضاء، المشتهرة في جازان، بلد إقامة موكلي، وبلد الفل في آن، وتبرز الهروج -الكلام والحديث بين شخصين أو أكثر، ولها أصل فصيح مرتبط بصوت القوم المختلط في أثناء التقاتل، وهي أيضًا من الكثرة في الشيء- كأسلوب من أساليب السرد الشعبي، الذي يميل كل الميل إلى الحديث الشفاهي المرسل. كأن موكلي منذ عنوان كتابه يود أن يبلغنا عن مستوى كتابي معين يقوم على أُنس الكتابة عن هذه البنت اللاهية، على حساب الموثوقية القائمة على البحث والتنقيب في المراجع.

في مديح البُعد الجمالي

في بداية الكتاب نجد الكاتب يعترف بعدم موثوقية المعلومات الواردة فيه، ويحيل ما سيأتي لاحقًا إلى التأريخ الشفاهي القائم على إعمال الحدس والشعور لا المعلومة الموثقة، وهذا اعتراف شجاع منه، قلما نجده لدى مَن يدَّعي صدق ما يرد في مصنفه. ومن لطيف ما فعل تصديره للكتاب بمقولة أمبرتو إيكو من رواية «اسم الوردة»: «الكتب لا تكتب لتصدق، ولكنها عرضة للمساءلة، عندما نفكر في الكتاب، يجب ألا نسأل أنفسنا ماذا يقول، ولكن ماذا يعني»، كأن موكلي بهذا التصدير يود منَّا ألَّا ننساق وراء سطوة الحقيقة، بقدر إعمالنا لقيمة وجمال المعنى المُراد من وراء تأليفه لهذا الكتاب عن وردة (أو بنت) الفل.

ومن خلال هذا الفعل التعاقدي بين المؤلف والقارئ يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن نتلمس البعد الجمالي، ونُقصي البعد المعرفي، على الأقل في شكله الذي يحملنا على التدقيق والبحث. والحقيقة أن ذلك ممكن جدًّا إذا ما نظرنا إلى فداحة ما سنخسره من أبعاد جمالية لو طالبنا كل كاتب ألَّا يؤلف أو يصنف خارج حدود المعلومة الموثقة، وبخاصة موضوعات مثل موضوع هذا الكتاب، الذي يجنح بشكل متعمد إلى التاريخ الاجتماعي للظواهر والأفعال المرتبطة بالبهجة والجمال في حياة الناس.

وبخلاف موضوع الكتاب الذي يتحمل إقصاء ضغط الحقيقة في صالح رحابة البهجة والجمال، هناك أمور أخرى تشفع للكتاب تمسكه بالبعد الجمالي جاعلًا منه قيمة عليا، من قبيل تقسيمات فصول الكتاب، التي جاءت على طريقة رؤية الشاعر لا الباحث، من فصول تتبع أشكال الاحتفال بالفل، وعلاقته بالأنثى، والجغرافيا الطرية التي تتقبل زراعته، وطقوس التعامل الأنثوي معه، وفصول أخرى تتبع ورد الفل في الأغاني الشعبية، إضافة إلى اللغة السردية الجمالية التي تتناول كل هذه الفصول، وهي لغة متفاوتة بطبيعة الحال بسبب حجم وطبيعة الفصل، لكنها في مجملها لغة مختارة بعناية لا تذهب للمعنى كما يذهب الباحث والمحقق، بل تخاطب الوجدان والقلب كما يليق بشاعر، وهذه مزية من مزايا الكتاب.

ولو تتبعنا معجم موكلي في فصول كتابه من دون أن ندري أنه شاعر، لجزمنا بشاعريته، فمفردات الحب والصبابة والفرح والبهجة والجمال والموسيقا حاضرة بتنويعاتها في لغة السرد، بل إن التراكيب المجازية صفة غالبة على طبيعة التناول من ناحية التصور الموضوعي لكثير من مفاصل الكتاب، حتى طريقة المقاطع التي بنى الموكلي عليها جل كتابه، طريقة رقراقة تنساب فيها الأفكار والرؤى على هيئة دفقات شِعرية في غاية الجمال والرقة، وليس هذا بمستغرب على الشاعر حين يتناول موضوعًا تأمليًّا وثيق الصلة بالأفراح والمباهج.

قد يظن بعضهم أن الكتاب بصفته الشِّعرية التي ذكرنا لا يقدم الفائدة والإضافة. والحقيقة خلاف ذلك؛ فالسرد اللطيف واللغة المجازية مرتبطان كل الارتباط بالمادة المعرفية، لكن الفارق يكمن في أن كل معلومة مقدمة من خلال نظرة تأملية، تغلف المعلومة وتزفها للقارئ بأسلوب احتفالي، مليء بالفخر والفرح والابتهاج والاحتفال بالحياة. حتى عندما تحدث عن الأحزان التي تصحب مواسم العزاء وفراق الأحبة، كانت لمسة محبة الحياة موجودة وحاضرة، وهذا الملمح يشي بمدى تعلق الكاتب بالبعد الشِّعري الذي دفعه لتأليف الكتاب، وتأمل تاريخ زهرة الفل البيضاء، وكما لو أن الموكلي يؤرخ لبنت لاهية لا لنبته مهاجرة من الهند.

الفل من البيت إلى المزرعة

وعن هجرة هذه البنت اللاهية، يزف لنا الكاتب المعلومات التي تتبع من خلالها بداية ظهورها في جازان، ثم يسمي لنا بدقة متناهية كل نوع من أنواعها، وكل شكل من أشكال الاحتفال بها، ثم ينفذ من خلال هذه التنوعات إلى تأملاته الخاصة، ورؤيته لارتباطها بالأمم الأخرى، من خلال نظرة بانورامية لا ينقصها الارتباط بالتاريخ ولا الجغرافيا ولا البعد الميثولوجي لارتباط الإنسان بها، سواء في الوقت الحاضر، أو عبر التاريخ العريق بالمنطقة، وإمكانية وجود البعد الإنساني والتواصلي.

وما بدأه الكاتب بالتاريخ والارتباط بين الأمم والشعوب من خلال تتبع تاريخ الفل، يلحقه الارتباط الاجتماعي والمحلي بها، يفعل ذلك من خلال أول شجرة (رديمة) فل جاءت بها سمية أمه إلى بيتهم، حيث تعرف موكلي بهذه الوردة الجميلة، التي بدأ يلاحظ ارتباطها بإنسان المكان (جازان)، سواء الأنثى التي بدأت في زراعتها ورعايتها، وانتهت بالرجل الذي واصل العناية بها كرمز من رموز المنطقة، ومن التعامل العائلي الرقيق معها، إلى لحظة تحويلها إلى سلعة تجارية مربحة، جعل لها مزارع خاصة، بعد أن كانت بنت البيوت الرقيقة، التي وصفها بأنها بنت ليلتها، كدلالة على ضرورة التعامل اللطيف معها.

وكما أن الفل هدية جازان لبقية مناطق المملكة في الوقت الحاضر، نرى الكاتب يتتبع فكرتها الأساسية كهدية. فلديه أن بنت الفل، الغصن الذي يُقص بلطف من الرديمة (اسم شجرة الفل)، تأتي مع هدايا النساء للعروس في ليلة زفافها. ويقول: إنها هدية أساسية من هدايا البيت الجديد، وهذا ما يبرر وجودها الأصيل في كل بيت من بيوت أهل جازان؛ إذ ترعى المرأة شجرتها، وتهتم بها كما تهتم بزوجها وأبنائها، ويفصل في ذلك تفصيلًا في غاية الجمال، مرتبطًا بطريقة زراعتها، وموقعها من فناء البيت، ثم أسلوب التعامل معها في الري والعناية، كأنها جزء لا يتجزأ من معمار البيوت هناك. كل ذلك من دون إغفال اللغة الشِّعرية، والسرد القصصي الذي يجعل القارئ يسابق السطور جراء لذة وجمال الموضوع.

إننا من خلال هذا الكتاب لا نتعرف فقط إلى بنت الفل، وتاريخها في المكان، بل نتعرف إلى شخصية الكاتب وثقافته من خلال الفل، فكثير من المعلومات والإضافات والفوائد مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة المؤلف نفسه، فهو أحد منطلقات الكتابة، وهو عنصر رئيس من عناصر حكاية الفل. وحين أتأمل ما قرأته من خلال الكتاب، أتساءل عن كثير مما يمكن أن نتحصل عليه لو أن كل ذات مهمومة بالجمال تناولت موضوعًا حيويًّا مرتبطًا بمكون جمالي في منطقته، بِمَ يمكن أن نخرج؟ لعلنا سنشيع من خلال ذلك البعد الجمالي، تمامًا كما فعل موكلي من خلال تتبع بنت الفل الأثيرة لديه.

دعوة ضمنية للبهجة

إن كل مكون جمالي مهما بدا ضئيلًا في حياة المجتمعات المحلية، هو فرصة سانحة لتأمل جمال الحياة، وعلاقة الإنسان الأصيلة به، وهو فرصة ثمينة لتكوين علاقات قد تبدو من الوهلة الأولى متباعدة، ولكن ما إن نشرع في تناولها ومحاولة قراءتها، حتى تنفتح أمامنا الآفاق وتتقارب الرؤى. تمامًا كما حصل مع تجربة موكلي مع الفل في كتابه الجميل هذا، فقد استطاع ببراعة متناهية أن يتنقل بنا بين الواقعي والأسطوري، وبين الآني والتاريخي، بين علاقتنا المحلية بالفل، وعلاقة بقية الشعوب به، سواء الشعوب المجاورة أم تلك الضاربة في القدم. وهذا الفعل بلا شك يضيف القيمة الحضارية لإنسان المكان، ويجعل منه صانعًا للحضارة الإنسانية لا مستهلكًا سلبيًّا لها، كما أنه يوضح مدى ارتباطه الدائم بالقيم البيئية المهمة، التي تُعلي من وجوده وتفاعله الإيجابي مع مكونات بيئته.

إن في هذا البحث الجمالي -إن صح تسميته بذلك- تعرُّضًا لموضوع في غاية الأهمية بالنسبة للبحوث المتعلقة بالبيئة، التي تزايد الاهتمام بها في الآونة الأخيرة على مستوى الدراسات الثقافية. والأجمل من الولوج إلى مناطق البحث الحديث: تعرضه لذلك من خلال البعد الشاعري والجمالي، ولا أدل على ذلك من فصل الكتاب الأخير الذي تناول فيه ورد الفل في الغناء الشعبي. فلطالما عبر الغناء عن الضمير الحي لدى الناس، ولطالما كون وجدانهم وصنعه. فمَن ذا الذي لا تؤثر فيه رائعة إبراهيم خفاجي ومحمد عبده «مثل صبيا في الغواني ما تشوف»؟ ومَن يستطيع أن ينكر قدرة الأغاني على التأريخ للمكونات المحلية والوطنية؟ فمن طبيعة الغناء السفر بهذه المكونات وخلق حيوات جديدة لها، تؤكد ارتباطها بالذهن، وتخلق لها وجودًا حيويًّا يتجاوز معناها التداولي، وينقلها إلى مرحلة أعلى وأرحب.

إن في كتاب موكلي البديع هذا دعوة ضمنية لتأمل موجودات حياتنا التي تبث البهجة، وتؤكد أصالة إنسان هذا الوطن المتنوع والمختلف أيما اختلاف في حضارته. فكتاب مثل هذا يمكن أن يقدم بنعومة بالغة الصورة المثالية لحياة إنسان المكان، كما أن فيه مساحة رحبة للتأمل في تاريخه الضارب في القدم، والمرتبط بعلاقات قديمة مع حضارات مجاورة وأخرى بعيدة، والإقدام على مثل هذا الفعل التأملي والشاعري فيما يخص مكونات المكان البيئية ما هو إلا مصافحة لطيفة ليد العالم الصديقة، وصورة فوتوغرافية بالغة الجمال للمكان، يمكنها أن تختصر كثيرًا من خطب وبيانات التعريف بالذات.