المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه تختار من مفرداته (الأجزاء المكونة له) ما يعد مطية ترحل فوقها في إطار رؤية ذاتية شديدة الخصوصية موظفة آليات القالب التعبيري الذي تنشده وتوظفه لحمل رؤيتها تلك(1). والأدب على اختلاف تجلياته يعد تمثيلًا لغويًّا لعالم يدخل في علاقة تفاعلية مع شخص المبدع فيأتي نتاج هذه الحالة رؤية وشكلًا.
إن الجذر اللغوي (رَوَى) الذي خرج منه هذا الدال المعبر عن اسم الآلة (رواية) يتحرك بنا ذهنيًّا بين محطات نلتقي فيها: الماء، الأرض، الإنسان (الذي يروي والذي يرتوي)، النبات، الحيوان.. الحكاية وصانعها وراويها (ناقلها من فرد/جماعة إلى فرد/جماعة أخرى في رحلة عبر الزمان والمكان لا سقف محدد لها تقف عنده.. كما نجدنا كذلك مع الطور الشفاهي في تداول المعرفة الذي أفضى إلى مرحلة المكتوب.. إننا مع الجذر: روى بإزاء أيقونة تفتح على منثورات فكرية قوامها في نهاية المطاف مفردات ثلاثة تجمع أشتاتها: الحركة/ النقل/ الرحلة في سبيل تحقيق غاية مثلى هي: الإشباع/ الاستقرار. وعملية القراءة ستؤدي عملها واضعة نصب عينيها محاور ثلاثة هي بمنزلة طوابق مكونة لبيت الدلالة النصي (تأويل المنجز الإبداعي):
• السياق: الزماني، المكاني، الفكري المحيط بالذات المبدعة.
• تجربة الذات المبدعة وتوجهاتها الفكرية.
• بنية النص الفني ذاتها.
ولا شك في أن البيئة الثقافية السعودية قد شهدت طفرة في فنون الحكي بصفة عامة وفن الرواية على وجه الخصوص، مفيدة من الواقع وتحولاته التي ألقت بظلالها على مخيلة الذات المبدعة فظهر ذلك جليًّا فيما خرج إلى المكتبة الثقافية العربية من منتجات سردية تنتمي إلى هذا الفن تحديدًا. إن المثقف السعودي الذي احترف الأدب يعد وريثًا حضاريًّا للعربي القديم الذي دفعته حياة الصحراء لحركة دائبة لا تتوقف، يبحث من خلالها عما يتيح له البقاء؛ بوصفه حيًّا مثله مثل غيره من جهة، وبموازاة ذلك يبحث عن الكلمة العبقرية التي تمنحه وجودًا جماليًّا خاصًّا. تلك الكلمة كانت أيقونة تفتح على رؤية عالمه من جانب، ورؤية الخارج على اتساعه من جانب ثانٍ.. وهذه الثنائية في الرؤية التي تحركت من سياق الشعر إلى سياق النثر على تعدد مظاهره تستقر بنا حديثًا مع فن الرواية.
أحمد الدويحي نموذج يصح الاستشهاد به؛ بوصفه أحد مكونات التجربة السردية السعودية الحديثة القائمة على عوامل أبرزها التنوع/ التعدد بحكم ما يميز المجتمع السعودي، خصوصًا في النصف الثاني من القرن العشرين، من طبيعة خاصة يتسنى إدراك ملامحها بالنظر المتأمل إلى هذه القرينة (مَزُور)؛ فالأرض السعودية بيئة مكانية جاذبة لعرقيات/ جنسيات كثير عددها، تَفِدُ إلى المكان بتجاربها وثقافاتها ولغاتها.
وفي إطار مفهوم «التماسك النصي»(2) يمكن الوقوف على طرفي ثنائية (داخل النص وخارجه) أو سياق الحياة وسياق الفن من خلال مرتكز إجرائي يقوم على ما يسمى: الإحالة القَبْلية، أي الرحلة من النص إلى خارجه، والإحالة البَعْدية: الرحلة من سياق الحياة إلى بناء الفن في تجليه اللغوي (الرواية على سبيل المثال).
ومن ثم فإن منظور رؤية الذات الفردية (المبدع) للخارج على امتداده المصطبغ بعلامات مرجعية ومحفزات واقعية تحيل إلى الذي تنتمي إليه يشكل سلطة تبقى مهيمنة على وعي الرعية المتلقية التي تتعامل تأويليًّا مع منجز الفنان استنادًا إلى إجراءات تمثل زادًا تستعين به وتتقوى في رحلتها الذهنية هذه بصحبة الراوي (صنيعة المؤلف) الذي يتولى مهمة تقديم هذا المعروض الحكائي إليها(3).
ترادفية العلاقة بين الإبداع والمرجع
ومن بين ما قدم الدويحي: «أواني الورد» (رواية)، ثلاثية «المكتوب مرة أخرى» (رواية)، «وحي الآخرة» (رواية)… وغير ذلك مما ينتمي إلى حقل القصة وحقل السرد الروائي.. تمثلات جمالية تعد مستندات تاريخية تنقل عن زمن ماضٍ قد اختمر في وعي صاحبه فأراد وفق أدواته أن يشكل من خلاله منتجًا جديدًا، لكن هذا التاريخ المتغيّا لن يكون وفق المعنى الكلاسيكي (التسجيلي) للمصطلح، لكنه التاريخ بالمعنى الخيالي عندما يستحيل سياق المرجع إلى رموز تمنح الذهنية الساردة مساحة رحبة للحركة لتقدم في فراغاتها ما تشاء إخلاصًا ووفاء لقوانين الفن الذي ترتقي منبره لتعلن عن حضورها من خلاله.
من هذا المنطلق يطفو فوق السطح مصطلح الترادف بمنظور أوسع عندما يستحيل البناء الفني إلى معنى ذي ملامح خاصة يشير إلى الذات الفاعلة له والعالم الذي تصدر عنه معًا.. من هنا تتحرك الرحلة باتجاه الشكل اللفظي المجسد لذاك المعنى وصولًا إلى ما يفترض أنه مقاصد تدل السائر على السابق في الوجود عليه، أي الواقع وصاحبه.
من هذه المحطة الخيالية «أواني الورد» نستطيع الخروج بتصور مفاده أن السيولة العاطفية والذهنية التي تنساب فنًّا في قوالب حكائية تحدها تضع الدويحي تحت ما يسمى بتيار الوعي في السرد الحكائي الحديث.. يكشف عن ذلك الولع الشديد بالحوار أحادي البعد الذي يتماهى فيه مستوى الخطاب مع مستوى الحكاية.
وبالنظر إلى «أواني الورد»، بوصفها بناءً لغويًّا معلقًا في فضاء الدلالة، نجده يحيل إلى نتيجة نهائية (حال قائم) يتجلى في ختام رحلة عايشتها الذات مع المخبوء في صندوق الخواطر. إن هذه الصيغة الجمعية «أواني» تعد كأنها كاميرا يستطيع الناظر من خلالها التقاط ملامح هيكل فني يتشكل من وحدات سردية ثلاثة يتأسس عليها قوام هذا البناء السردي: «يوميات العزلة»، «ارتحالات الروح والجسد»، «حرب الثمائل».. إننا هاهنا بصدد إحالة بعدية، حركة ذهنية أفقية ينطلق فيها وعي القراءة من دال ذي بعد مكاني «أواني» إلى العناصر الجمالية المكونة له، وتعد في الوقت نفسه مرادفًا جماليًّا يكسبه قيمته الدلالية.
فتحت عنوان أشياء المكان «حساسية جديدة وعلائق وثيقة تربطني بمكونات المكان الذي اعتدت فيه أن أختلي بنفسي لحظة الكتابة». وتحت عنوان الشيطان «أربع سنوات مضت.. تزيد قليلًا أو تنقص والفكرة في ذهني أقبلها وأدرجها على كل شؤون حياتي ولا فائدة»(4). وتحت عنوان مصير «قرأت ورقة من التقديم ليس الموت وراء الجبال بل وراء الأكتاف.. ومضيت»(5). وتحت عنوان وجه «نظارة القراءة الصغيرة دائمًا على الورقة العليا من دفتر المسودات أو من ورائها»(6).
معاناة الذات
إننا هاهنا في خطاب المقدمات بصدد صوت يتناول رمزيًّا تجربة الكتابة في حد ذاتها في شقها المأساوي.. معاناة الذات في أوقات الرحيل والبحث، توجعها مرحلتان: الانتقاء، ثم البحث والاستقرار. والملاحظ على هذه القوالب القصصية الصغيرة أنها تأتي مرتبطة بأطر زمنية تحيل إلى الأسبوع في حياة الجماعة الإنسانية؛ فأشياء المكان تأتي مرتبطة بيوم الثلاثاء، أما الشيطان فملتصق بالأحد، ومصير تأخذنا إلى الجمعة، ووجه ترحل بنا إلى يوم الإثنين.. إن هذه المكونات الزمنية تحيل إلى تجربة حركية، إلى ذات تسعى إلى اقتناص ما هو جدير بالتدوين.
إن لعبة السرد في هذه الرواية تنطلق من ثيمة رئيسة هي الحركة في داخل الوعي. نرى عالمًا شديد التضافر والتداخل يتقاطع عنده الذاتي بالجمعي في خليط يتطلب من فعل القراءة القيام بالضدين معًا في مقاربته: التفكيك، والتجميع؛ فنحن أمام لوحات ثلاث كبيرة للأنا المتكلمة تعكسها أجزاء الرواية الثلاثة:
• الأنا في يوميات العزلة.
• الأنا في ارتحالات الروح والجسد.
• الأنا في حرب الثمائل.
وتوافقًا مع البيئة المكانية للمبدع التي شهدت الميلاد/ النشأة/ التكوين الفكري والثقافي نجد أن الدال (صحراء) يحظى بانتشار لا بأس به داخل الفضاء النصي لإبداع الدويحي. ولعل هذا التأثر بالمكان واقعًا قد نجم عنه على مستوى الفن أن أضحت الصحراء شخصية مؤثرة في وعي البطل وموجهة لأنساقه الدرامية. إن البطل لا يكف عن الرحلة المعتمدة على الانتقال المادي والذهني والعاطفي معًا «فالح لم يكن يعلم ما تخبئه له الأيام من أحداث ومفاجآت، كما لم يكن يظن أباه رضع حرية الصحراء، استطاع أن يهجرها أو تهجره، التحف سماءها، توسد قيعانها ووديانها، قرأ فصولها وشهورها وبروجها»، «الحياة تمضي بعيدًا يا فالح، قال لنفسه هذا، ثم تذكر لهفة صوفيا على معرفة واقعه وتفاصيل حياة الصحراء، النفط، الجمال.. إنها تبحث عن شيء آخر».
إن البطل في ثياب الراوي لتجربته يتزوج بصحرائه ليجعل منها أيقونة جمالية تفتح على: الحياة/ الثقافة/ الأرض/ الحضارة.. إن الحركة المادية والذهنية التي ينجزها ذاك البطل تستفز في الرعية المتلقية على الجانب المقابل نشاطًا منتجًا على مستوى الدلالة؛ إذ يتمدد ذاك الدال «الصحراء» ويتسع ليصير وعاءً حافلًا يسمح بثراء معنوي يدشن لوجوده هذا الحضور العاطفي «صوفيا» التي تشغل مكانًا في داخل المكون الوجداني لفالح. إن صوفيا بإزاء فالح تضعنا أمام ثنائية ترتقي فوق السطح السردي الظاهر لتعرج إلى سماء أوسع على مستوى التأويل تأخذنا إلى هذه الرغبة في الاتصال والاستكشاف بين هذين الطرفين الأثيرين: الشرق (فالح)، والغرب (صوفيا).
ولا شك في أن تجربة الدويحي فوق المكانية تغازل إطارها الصحراوي الذي خرجت منه، لكنها لا تتجمد ولا تلتصق به، كما تعرج لتحلق بأجنحة لها مُتَّكَآتُها الفنية التي تعتمد عليها لتلامس الرعية الثقافية العربية المتمركزة شرقًا وغربًا عبر أثواب جمالية، تعد «أواني الورد» أحد الشواهد عليها في تأكيد على شمولية الرؤية النابعة من ذات فردية عربية.
ولعل البعد الكمي لمنجزها السردي يعد هو الآخر ملائمًا للحالة الجمعية لذاك العالم الفني؛ فالمسار الأفقي للحدث ولخطاب الراوي المقدم له قد أفضى إلى فضاء نصي كبير من حيث الحجم بما يمنح فرصة لهذا السارد للإحاطة بمفردات التجربة على تنوعها وتغيرها، من يوميات العزلة إلى حرب الثمائل مرورًا بارتحالات الروح والجسد، في نسق درامي يوظف النشِط على المستوى الواقعي (العربي في حركته داخل فضاء مكاني ممتد هو الصحراء) ويخرج منه في رحلة على المستوى الفني يتكفل بأعبائها بطل الراوي والقائم بأعمال السارد الحاكي لعناصر التجربة، وما مر عليه من مواقف وشخصيات في مزيج يعكس بجلاء رصيد الخبرات المتراكم لدى هذا الفاعل المرجعي (الدويحي) الذي يستقي من بعض أجزائه ما ينسج منها أثوابه الحكائية.
(1) انظر: عز الدين إسماعيل، الفن والإنسان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، طبعة 2003م، ص22، 23.
(2) إن أساس هذا المصطلح لغوي، لكن الرؤية التي تتغيا تطويرًا في الأداء ترتفع بالمصطلح من اللغوي إلى ما هو لغوي وغير لغوي يعود إلى الواقع وملابساته التي يمكن التقاطها بوصفها نصًّا يتحدث بلسان الحال وليس بالضرورة لسان القال في تمظهره المنطوق أو المكتوب؛ ومن ثم يمكن الاعتماد على المحتوى الدلالي المطروح عبر هذا المصطلح في عملية سفر تأملي (دخول وخروج من النص إلى الواقع وبالعكس) بوصف هذا الأخير في حد ذاته نصًّا هو الآخر.
• يُراجع في هذا المصطلح: كلاوس برينكر، مدخل إلى التحليل اللغوي للنص، ترجمة: سعيد بحيري، مؤسسة المختار، القاهرة، طبعة 2003م، ص32 – ص35.
(3) انظر: الدكتور صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، عدد 164، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص315- ص318.
(4) أحمد الدويحي، أواني الورد، ص10، منشورات دار علاء الدين، دمشق، الطبعة الأولى، 2001م.
(7) السابق، ص25.