مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

«الحرب» لمحمد اليحيائي… الانتصار للذاكرة وللحياة خارج الأدب

«الحرب» لمحمد اليحيائي… الانتصار للذاكرة وللحياة خارج الأدب

أعظم متعة يقدمها الفن الروائي هو أن يجعل القارئ يعيش أزمنة مختلفة ضمن زمن واحد، وهذه التجربة لا تتيح فقط الاستمتاع بتلك الفرصة التي منحها الأدب، بل يصبح القارئ أيضًا قادرًا على فهم الظروف المحيطة، وعلى فهم البشر ضمن النطاق الأوسع للإنسانية، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالروايات التي تستحضر الحروب من زاوية أدبية، وليست من زاوية الكتابة التاريخية. فهدف الأدب هو قراءة الواقعة التاريخية في إطار ما تسمح به الرؤية الفنية، وبذلك تقرأ واقعًا أدبيًّا متخيلًا على مقربة من واقع حقيقي نعيد اكتشافه روائيًّا من زاوية الحاضر؛ إذ من المهم دائمًا أن تكون هناك مسافة كافية بين الزمن الذي تتحدث عنه الرواية والزمن الذي تُكتب فيه إذا ما تعلق الأمر بالحديث عن حقبة تاريخية بعينها. في هذا السياق، تمتلك الرواية مقدرة إذابة الأشياء داخلها، لتعبّر عن ذاتها؛ إذ يصبح «كل مكان هنا وكل لحظة هي الآن»، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الصيني لاوتسي.

ومن الروايات التي قد يأخذ عنها القارئ تصورًا مختلفًا من العنوان، رواية «الحرب»، للروائي العماني محمد اليحيائي، الحاصلة على جائزة كتارا للرواية عام 2023م؛ إذ يظن أنها تتناول الحرب بمفهومها العام. وفي الحقيقة، الرواية تتناول الحرب عبر تشظيتها وعبر مخاتلة القارئ ودفعه إلى التفكير في أي حرب هي هذه «الحرب»!

استذكار التاريخ روائيًّا

تعيد رواية «الحرب» استحضار مرحلة مهمة من تاريخ عمان، وهي ثورة ظفار في جنوب عُمان، التي دامت عشر سنوات؛ انطلقت شرارة الثورة عام 1965م، وانطفأت عام 1975م، والتي تعد من أطول الثورات العربية في التاريخ العربي الحديث. لكن الرواية كما أشرتُ ليس هدفها استعادة تفاصيل هذه التجربة كما تفعل كتب التاريخ، وإنما استذكار هذا التاريخ روائيًّا. فالحرب في رواية «الحرب» لا تتوقف عند تجربة ثورة ظفار، والحرب المعروفة بحرب الجبل الأخضر في شمال عُمان، وإنما تتجاوزها إلى الحروب الصامتة، تلك التي يخوضها الإنسان يوميًّا من أجل الدفاع عن أحلامه، أو محاولة الوقوف مجددًا، إثر كل خيبة تشله عن الحياة.

الحرب تحضر أيضًا فيما خلفته من آثار نفسية وذهنية، سواء عند الذين كانوا جزءًا منها كسعيد علي وصالح ناجم، أو الذين انعكست آثارها على حيواتهم، من دون أن يشاركوا فيها مباشرة، مثل كريستينا سعيد، وسعيد قيصر، وعيسى صالح، وسهيل محاد، وخليل زاهر، فلكل واحد من هؤلاء منهم قصة نقرأ من خلالها تجارب مختلفة عن الحرب، تجارب من عاشوها وتجارب من عاشتهم من خلال (الذاكرة المروية). فشخصية سهيل محاد في رواية «الحرب» يمكن تلخيصها في عبارة نيتشه: «إن قيمة الحياة ترتكز عند الإنسان العامي العادي على كونه يرى نفسه أهم من العالم. إن الضعف الفادح في الخيال الذي يعانيه يجعله لا يستطيع أن ينفذ بأحاسيسه إلى بقية الكائنات، وبالتالي لا يقاسمها مصيرها ومعاناتها إلا بأضعف ما يكون من مقدار».

الحياة لسهيل محاد تنطلق من ذاته وتعود إليها من دون قيمة تذكر، أو لربما القيمة المثلى لهذه الشخصية أن تركيزها على نفسها يعد المعيار الأهم للتفاعل مع الحياة، أما ما يخرج عن نطاق حيزها فهو لا يعنيها وفي الغالب لا يهمها. وأمثال سهيل محاد يشكلون شريحة لا بأس بها في المجتمع.

بينما تجسد شخصية خليل زاهر التناقض بعينه، مرة تشعر أنه مُنتمٍ لمجتمعه الذي نال بفضله الوجاهة والثراء. لكن، على الرغم من هذه الميزات، فإنها شخصية مستلبة ترى الحرية، كل الحرية، خارج بلادها، هناك في الغرب حيث لا قيود تمنعها من ممارسة ما تريد من وجهة نظرها. وفي الحقيقة أمثال خليل زاهر أنانيون رغم مكاسبهم، فهم يرون أن بلادهم تحدهم عن مواصلة أحلامهم؛ لذا يحاولون التنصل منها عندما يتعلق الأمر بمصالحهم الشخصيّة.

بينما شخصية سعيد قيصر مختلفة تمامًا عن الشخصيتين السابقتين، وينطبق عليها ما عبر عنه نيتشه بقوله: «أما من كان بالمقابل قادرًا على تلك المشاركة فسيجد نفسه مدفوعًا إلى اليأس من مستقبل الإنسانية، وإذا ما أفلح في أن يتمثل في نفسه ضمير الإنسانية وأن يحس به فإنه سينهار». ما كان يود أن يحققه سعيد قيصر، في مجال الأفلام الوثائقية، قوبل بالرفض، وذلك الرفض حطم الكثير من الأحلام داخله. ونموذج سعيد قيصر نصادفه دائمًا؛ إذ يمثل كل من يحلم، لكن أحلامه يحققها شخص لم يفاوض الأحلام على شيء.

في حين يمثل عيسى صالح كل الشخوص المسكونة بالماضي، ماضٍ عاشته، وماضٍ عاش داخلها من خلال ذكريات لم تعشها، لكنها تلقتها عبر ذاكرة الآخرين وتجاربهم عن الحرب وفيها. هنا تبدى اهتمام الروائي بـ«الذاكرة المتنقلة» إن جاز تسميتها بذلك، ذاكرة تنتقل من شخص لآخر عن طريق المرويات الشفاهية. ذاكرة نستشعر ثقلها في كل الأشياء المحيطة بنا، ذاكرة تعيد لنا ذكريات لم نعشها مع أشخاص لم نعرفهم لكننا نشعر أننا شاركناهم ماضيهم؛ حتى أصبحوا الآن ذاكرة تعيش معنا حاضرنا هذا. بينما نجد أن الشخصية الرئيسة التي تكاد ترتكز عليها أحداث الرواية وتدور حولها كل الشخصيات الأخرى، هي كريستينا سعيد، الفتاة التي تحمل أكثر من ثقافة وأكثر من ماضٍ وأكثر من تاريخ.

كيف ذلك؟

للحرب وجوه أخرى

تمثل كريستينا سعيد كل من جاء للحياة عن طريق الزواج المختلط، تجد نفسها تعيش بين ثقافتين وتاريخين مختلفين، فهي الابنة المدللة للسياسي العماني الثري سعيد علي. هذه المرأة التي عرفت ما عرفت عن والدها من خلال منصبه وتاريخه الحالي الذي يترافق وتاريخ الفترة الحالية التي تتحدث عنها الرواية، تكتشف في رسالة منه تاريخًا آخر له، هو تاريخه الشخصي حين كان ثوريًّا. وهنا تحدث الكاتب عن الثورة، وعن الانتقال من معارضة السلطة إلى موالاتها.

نقرأ من خلال سعيد علي والد كريستينا سعيد، ومن خلال صالح ناجم، والد عيسى صالح الذي رأى في الحرب وجوهًا أخرى. لكن شخصية كريستينا سعيد لا تقف عند هذه الفروقات، بل تجسد فكرة أخرى عبّر عنها العنوان، ألا وهو الحب. تحضرني عبارة للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش ترى فيها أن «الحبَّ هو الحدث الشخصيُّ الوحيد للإنسان في الحرب. وكلُّ ما عداه، أحداث مشتركة، حتى الموت». وهي تقصد الحب داخل الحروب، لكن، يمكن اقتباس مقولتها هذه للحديث عن الحروب داخل رواية «الحرب» لمحمد اليحيائي تحديدًا، وتناول الحب بوصفه الحدث الشخصي الوحيد الذي تتقارب حوله وجهات نظر الشخصيات وتتباعد، عندما تشعر بالخطر. الحب في الرواية مقترن تمامًا بالحرب، ليس في تشابه الكلمتين ولكن في تشابه المصاير. يقول السارد: «أراد أن يحفر (الحرب خدعة)، لكن السكين أسقطت الراء، فجاءت (الحب خدعة)». نقرأ كذلك من خلال شخصية الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان تجربة أخرى عن الحب، وعن المنفى، وعن الوطن.

لا تتوقف تجارب شخصيات اليحيائي بوصفها وليدة الفن الروائي، بل تسير وفقًا لكونها «شخصيات قادرة على الحياة خارج النص» كما عبر عن ذلك المؤلف في حوار له. وما يجعلها على قيد الحياة الأدبية هو بناؤها الفني ورؤيتها الأدبية المحملة بإرث عمان على مدى المئة عام الماضية؛ ثقافيًّا، واجتماعيًّا وفكريًّا، ولكنها أيضًا محملة بإرث شخصي يخص الشخصيات وحدها لأنها تنتمي للفضاء الإنساني الأكبر؛ إذ لا ينحصر حيز المكان الذي تتفاعل فيه على عمان، بل يمتد حضوره إلى اليمن، والبحرين، وبولندا، والكويت، والولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا، عرف الكاتب كيف يعبّر عن شخصياته ضمن فضائها المكاني من دون أن تتخلى الرواية عن خصوصيتها الثقافية، هذا ما يجعل من رواية «الحرب» نصًّا أصيلًا في انتمائه لفن الرواية.

لا توثق الرواية ما هو موثق ولا تقص ما هو مروي، بل تنتصر للذاكرة بكل أنواعها حين تستعيد ما عبر عنه المؤلف بـ«مقتنيات الذاكرة»، وكلما انتصر الإنسان للذاكرة انتمى للمستقبل، فمن لا ذاكرة له لا مستقبل له، والحياة بتعبير تزفيتان تودوروف: «مهزومة أمام الموت، لكن الذاكرة تنتصر دومًا على العدم».