مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

في مرسم العين الشاحبة عند إيمانويل لفيناس أو نحو تفكيك مركزية العين في الوجه

في مرسم العين الشاحبة عند إيمانويل لفيناس

أو نحو تفكيك مركزية العين في الوجه

لطالما تملكنا انهمام دائم بقراءة وتأويل وتفكيك العين؛ لونها ولغتها وإيماءاتها وشكلها، على أساس أنها أهم الثيمات في الوجه ورمز وحدة النوع الإنسي؛ ففيها نشهد انفجار معجزة الكون والحياة وعنفوان مجدها المهيب، كما نلمح في بُؤْبُؤ العين الغرائبي ظلنا وشبحنا؛ فصورة ذواتنا لا تنعكس إلا في أعين الآخرين كمرايا لأطيافنا، فهي تمتلك اقتدار ترجمة أشد الانفعالات عمقًا في نفسية الإنسان من أمل وألم، حرقة وبهجة، ترقب ولقاء، في لغة صامتة لكنها صاخبة وتفكيكية. وبما أننا نعتمد في كثير من نصوصنا إستراتيجية التفكيك سنستبدل بغرائبية الكتابة الصامتة عند دريدا رسمة العين الشاحبة عند لفيناس؛ التي ستُفَكِّك الذات المتمركزة وتُفَكَّك في الآن نفسه لتصبح عينًا فارغة اللون.

إذن ما المكانة التي اتخذتها العين في الخطاب الفلسفي على مر الزمان؟ كيف سيصبح الوجه نصًّا قابلًا للقراءة والتأويل مع لفيناس، بعد تفكيك مركزية العين كشَفْرة تعمل بمنطق اللون والشكل؟ كيف ستصبح عين الآخر إستراتيجية هدم وتفكيك لمركزية الذات العاشقة، لتمتلك اقتدار الاتحاد بالآخر بإطلاق؟ كيف ستتماهى عين لفيناس الشاحبة مع عين ابن عربي، لتصبح كأحرف كتابة دريدا الغرائبية؟ كيف ستعمل إتيقا لفيناس على تفكيك مركزية لون العين في نص الوجه لينتقل بنا من العين الملونة المرتسمة إلى العين الشاحبة النورانية؟ هل هو تفكيك يَعِدُنا بميلادِ عين إنسان جديد أكثر أُنْسًا؟ كيف ينبجس الصوت خلف المرسم الأخرس والمعنى خلف المحيا المتحجر، والسلم خلف الوجه المُعَنَّف، والوحي خلف الوجه كمعبد؟ كيف سيعمل التفكيك على الوجه؟

بين المرسم والأثر

إنَّ الحديث عن العين عند لفيناس هو حديث عن أكثر المفاهيم حمولة دلالية في إتيقا المَرْسَمْ عند لفيناس كما أحب أنا أن أسميها. والمرسم اصطلاحًا هو مكان وموضع الرسم، وفي تراثنا الفني الجزائري الرايوي؛ المرسم يأخذ معنى الأثر، وللشيخ الميلود شقراني المعسكري قصيدة بعنوان «المرسم»؛ وقد ترددت على ألسنة العديد من أعمدة نجوم الراي الجزائري. وتعريف المرسم كأثر يتماهى مع التعريف الذي ورد في ابن منظور: «رسم: الرَّسْمُ: الْأَثَرُ وَقِيلَ بَقِيَّةُ الْأَثَرِ(…) وتَرسَّم الرَّسْمَ أي نظر إليه»(1). وبقولنا: إتيقا المرسم كأننا نقول: إتيقا الأثر، وهو مركب يتوافق مع مضامين إتيقا لفيناس، فالآخر بإطلاق لا يحضر إلا كأثر لماضٍ سحيق يرتسم على مرسم الوجه الشاحب، كما تعتبر العين المفهوم المركزي في فلسفة لفيناس الصوفية التفكيكية بأنفاسها العبرانية، أثناء حديثه عن العين الجوانية.

وفيها يقول الفيلسوف محمد شوقي الزين: «عين العيون حقيقة الإيجاد فانظر إليه بمنزل الإشهاد». العين حقيقة الإيجاد والتكوين، العين هي الماهية أو الجوهر، العين مصدر الرؤية والمشاهدة العين المنبع (…) ويمتحن «المعنى» في حقول «المبنى» اللافحة. تتقولب الحروف والكلمات في أشكال باروكية، مبهمة المعالم ومتقمصة الطبائع وأحيانًا شبيهة بالإنسان المتشظي في لوحات الرسام البريطاني فرنسيس بيكون»(2).

محمد شوقي الزين

العين الحسية هي المرتسمة على الوجه، في حين أن الجوانية هي عين القلب التي أسهب في الحديث عنها محمد شوقي الزين في أغلب مؤلفاته، من كتابه بديع الحرف، غزير المعنى، «الذات والآخر»، إلى كتابه قوي الدلالة وعذب الإيقاع «نَقْد العَقْل الثقافي» في جزأَيْهِ، ويقدم وصفًا للعين الشاحبة العارية من اللون والشكل بقوله: «يعبر القديس إينياس دولويولا عن تجربة روحية متميزة تعطي الأولوية والصدارة للرؤية بعين الخيال لا بعين الحس، بعيدًا من الحس في محايثته المطلقة وعن المثال في تعاليه المفارق»(3).

إنَّ العين هي أكثر الأعضاء مركزيةً في الوجه، ومن هنا احتلت موضع المركز في كثير من التخصصات المعرفية، فقد أَسَرَت الرسامين، وتَغنَّى بها الشعراء، ونظم حولها القديسون الترانيم. ويقول فيها الفيلسوف فتحي المسكيني في كتابه «الكوجيطو المجروح»: «لأنَّ العين ليست حاسة عادية، بل هي مركّب من الحواس أو مركّب الحواس. إن عقولنا تعقل بعيوننا. وآذاننا تسمع بعيوننا. وأيدينا تلمس بعيوننا، وألسنتنا تتذوق بعيوننا»(4). فهي مركز حواسنا؛ لأنًّها تعمل من خلالها فهي نافذتنا التي ننفتح من خلالها على مشهد الكون.

إذن تتخذ العين الموضع الملكي في الوجه كما اتخذه الوعي سابقًا الذي كان مملكة وعرين الفيلسوف الحديث، وهي تهمس بأحرف صامتة لكنها صاخبة ولها صدى على النفس ووقع على القلب وإيقاع على الذوق؛ لتفجر المسكوت عنه والمخفي والمكبوت الذي يطفو على سطحها في شكل توهج فرح أو دمعة حزن. فهي في العشق تخوننا عندما تدمع حزنًا أو فرحًا ونحن لا نريد أن نبكي أمام من يتأملنا بعينيه، ليتقدس الحب من خلالها. ألم يقل جبران خليل جبران: «الحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلًا وخالدًا»؛ لتهدم وتفكك الذات المتمركزة فتعيد بناء الذات الغرامية.

إنَّ للعين سلطة مساوية للشبق، فهي في كثير من المرات تعمل بمنطق إغواء يتداخل فيه المحظور والممنوع، ويأتي في شكل تفكيك يهدم مركزية الذات العاشقة ليجرح نرجسيتها. في هذا السياق قال ابن سهل الأندلسي:

«والسيف في الغمد لا تخشى مضاربه

وسيف عينيك في الحالين بتار»

ليهتز عرش الذات فتنفتح على الآخر المعشوق بعد التفكيك والجرح النرجسي الذي تعرضت له لترتهن للآخر الغرامي. فالعين في أحد تفريعاتها الإيتيمولوجية، في القاموس العربي والغربي، تعني النفس. نقول عينه أي نفسه وتفكيك العين هو تفكيك الذات؛ لذلك توصف حور العين بقاصرات النظر وفق قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ٤٨ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾(5) أي تبرئتهن من الإثم؛ لذلك مارَسَ الإسلام حصارًا على العين، مثل الحصار الذي فُرِضَ على العين الشبقية في كتاب «حكاية العين» لجورج باتاي، فهي محل صنع الخطاب في الوجه ومركز ائتلاف الملامح في مشهد المشاركة الوجهية بين الذات-الآخر.

تفكيك العين

لذلك خصها لفيناس بشروحات مطولة فهو يعدُّ من التفكيكيين الأوائل الذين عمدوا إلى تفكيك سلطتها في الوجه كنص، لمَّا وضع الوجه موضع التعكيف لنتأمله بلا صفات فيسيولوجية لتسقط من مركزها إلى هامش الوجه خصوصًا عندما نمحي لون العينين ونهدم شكليهما، لنتأمل العينين الشاحبتين الفارغتين من اللون، ومن ثم نتأمل الوجه في شحوبة بشرته. فهو وجه من لا وجهة له؛ إنه وجه الفقير والأرملة واليتيم والشريد الذي يرتسم عليه اللانهائي كأثر، وهي الرموز التوراتية التي تقابلها في الإسلام دلاليًّا السائل والأرملة والمحروم وابن السبيل، إنها الآخرية الإتيقية التي أعلنت حربًا شعواء على الذات المتمركزة(6).

فعين المتصوف تتكحل بنور الإله الذي يرتسم عليها ضمن أفق طيفي وبرزخي في العالم المرآوي المنكشف للرؤية. وقد حدثنا القرآن الكريم عن العين المطموسة وفق قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأنَّى يُبْصِرُونَ﴾(7)، والطمس لغةً هو المحو والإزالة، مثلما عمد لفيناس إلى طمس لون العين، فمعنى الآية هو تعفية شق العين لتصبح ممسوحة كباقي جلد الوجه، وهو ما ينسجم نوعًا ما مع المبتغى اللفيناسي الذي يراهن على إسقاط العين من مركزها إلى الهامش لتصير كبقية بشرة الوجه ليس لها شق.

والإقبال نحو الوجه يُلْزِمُ ألا نتعامل معه بصفته موضوعًا؛ فعندما نتأمله لا نصفه ونتجنب التحديق بلون العينين؛ لأنَّ ذلك سيعوق التأسيس لعلاقة إتيقية، لتحمل بشرته فقرًا أساسيًّا وسموًّا جليلًا(8). فزيارة الآخر بإطلاق للوجه تكون في تجرده من الشكل. وهو الموقف الذي يبتعد ويقترب مع ما هو سائد في رسومات مارغريت كين التي كانت ترسم عيون الأطفال الكبيرة الملائكية الحزينة، فالفن الأصيل ينطلق من هامش المشهد. تقول: «الفن يولد من وجوه الأرصفة وحزن عيون الكادحين. ما زلت أرسم أحيانًا وجوهًا حزينة بسبب كثرة الحزن في العالم»، ما ينسجم مع الموقف اللفيناسي الذي احتفى بالهامش ليحكي كآبة العالم.

والعين أساس رسمة البورتريه لذلك تشكل تحديًا أمام الفنانين فهي منبع المعنى، وهو ما نشهده في لوحة الصرخة لإدوارد مونك؛ التي صورت العيون المتسعة كتعبير عن الفاجعة ليخرج المعنى بقوة من الوجه، كما أنَّ ظل الوجود ينعكس في العين وهذا ما تترجمه لوحة المساء لمونك التي فيها تنظر الفتاة الريفية إلى عذرية الطبيعة في صفائها لتتلون وتتصبغ الأعشاب بزرقة قاتمة من عينيها تُفصح عن غروب.

وهو الأمر الذي لا يتفق مع إتيقا لفيناس التي تراهن على تجريد العين من اللون لنمسك بالمعنى الخفي للوجه خلف مرسم العين، ففي العين الشاحبة فقط يسطع المعنى والدليل لزيارة اللانهائي الذي لا يأتي إلا في صورة مرسم، يأخذ شكل نداء يمنع العنف(9)، في وصية الرب «لن تقتل أبدًا»(10) أين ننصت لإيقاع العين الشاحبة المفككة في صمت لنكتشف اللامرئي في المرئي؛ ونلتقي الآخر بإطلاق كمرسم ساطع على وجه من لا وجهة له والاستجابة للنداء هو إكسير الأبدية.

لقد عمد لفيناس إلى تفكيك لون العين الحسية؛ ليصل إلى العين الجوانية للزاهد الذي يتحد بمعبوده في وجه الآخر. كتب رامبو بحسه الخيميائي الصوفي قصيدة رائعة بعنوان «الأوميغا، شعاع عينيها البنفسجي» فباختراعه ألوان أحرفه قدم وصفًا لبهجة المتصوف التي يرمز لها بشعاع عينيها البنفسجي؛ البنفسجي لون الرؤى الصوفية، ليأتي الأزرق إيذانًا برؤية الإله، والحرف الأول O من Oméga يتماهى مع حرف العين رسمًا ليمثل الرؤية(11)، والأوميغا هي مكمل حيوي يحافظ على صحة القلب، محور التصوف.

إذن لقد قرأ لفيناس والمتصوفة العين الملونة المتعالية على الآخر؛ ليفككوها ويرسموا لنا عينًا شاحبةً غرائبية- مذهلة لإنسان جديد أكثر طيبةً وانفتاحًا على الآخر، تأهلًا لرؤية معبوده بعين عارية من اللون والشكل في مرسم الوجه الأخرس بصخب، هي عين العيون المتعالية على لوث المادة، يقول فيها تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ﴾(12).


هوامش:

(1) ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، مج1، ص1646.

(2) محمد شوقي الزين، بركانية النص وأتون المعنى بختي بن عودة قارئًا لجاك دريدا، https://www.aljabriabed.net

(3) محمد شوقي الزين، «الذات والآخر، تأملات معاصرة في العقل والسياسة والواقع»، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر العاصمة، الرباط، ط1، 2012م، ص50.

(4) فتحي المسكيني، «الكوجيطو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة»، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، الرباط، الجزائر العاصمة، بيروت، ط1، 2013م، ص243.

(5) سورة الصافات: الآية 48.

(6) مصطفى كمال فرحات، «صروف الكينونة بين لفيناس وهيدغر، حرب الإطيقا ضد الأنطولوجيا»، وردت ضمن: حوليات الفينومينولوجيا والتأويلية، مج1، ديسمبر 2006م، منشورات دار المعلمين ودار سحر للنشر، ص 39.

(7) سورة يس: الآية 66.

(8) Emmanuel Levinas, Ethique et Infini (Dialogues avec Philipe Nemo), Librairie Arthème Fayard et radio-France, 1er édition, 1882,pp.79-80.

(9) Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata Morgana,1er publication LGF, 1972, pp.69-70.

(10) Emmanuel Levinas, Totalité et Infini (Essais sur l’extériorité), Original edition:Martinus Nijhoff,1er édition, 1971, p.217.

(11) David Guerdon, Rimbaud, La clef alchimique, Editions Robert Laffont, Paris, 1980, p.134.

(12) سورة النجم: الآية 11.

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة واللاانتماء، المفهوم المركزي الذي يشتغل عليه معظم الفلاسفة اليهود، وهو ما يقابل مفهوم الأنارخيا An-archique أو اللاأصل عند إيمانويل لفيناس الذي أتى به لنقد مفهوم الأصل والمركز الغربي، ليتكلم فيما بعد عن قضية الهامش وذلك عندما طرح مفهوم الآخر اليهودي. والفضاء الصحراوي هو المناسب لكل كاتب يلجأ من خلاله إلى عزلته، فيلامس قلقه ويحدث أطيافه في صمت صاخب وخلوة منفتحة على الآخر بإطلاق.

أمَّا إذا حفرنا في جذور نصوص إدمون جابيس فسوف نتذوق إيقاع كتابة شاعرية تصف لنا خروج جابيس من مصر وعبوره صحراءها وهي لحظة تفككه الذاتي، وهذا ما يترجم لنا عنونته لكتابه المهم «الريبة في الصحراء». فتجربة التيه في الصحراء مهيمنة على كتاباته؛ لأن الكتابة عنده هي تجربة الحرق بامتياز، والرجوع إلى نص الصحراء هو رجوع إلى الهامش، على الرغم من أن كل ذاكرة العالم مختزنة في حبة رمل حسب تعبيره المجازي البليغ.

وعليه: ما المكانة التي تتخذها الصحراء في كتابات المفكرين اليهود؟ لِمَ تحيط بها هالة من القدسية؟ كيف صار الفضاء الصحراوي الأفق الإبداعي الملهم في أدب بلانشو وجابيس وفلسفة الاختلاف عند لفيناس؟ وهل يمكن أن ننتقل من لهيب رمل الصحراء الحارقة إلى لطافة جو الواحة المنتعشة؟

صحراء الكتابة

إذا أردنا أن نقدم وصفًا موجزًا للكتابة عند جابيس يمكن أن نصفها بأنها كتابة غرائبية وملغزة لا يمكن تصنيفها ضمن نمط كتابة معين؛ لأنها فريدة من نوعها، تأتي في شكل شذرات خارج كل الطرق التقليدية للكتابة، يمتزج فيها سحر الشعر ورونق البيان بقوة الفلسفة، كما أنها موقعة بنفس عبراني صوفي تتجاوز كل الحدود المعروفة للكتابة الكلاسيكية، سعى من خلالها جابيس حتى بلانشو إلى تفجير المسكوت عنه، فهي كيفية في الاحتراق والموت بالأحرف؛ لأنها لا تنبجس إلا من رمال أقاصي الصحراء الحارقة حيث تظهر معجزة المعنى والدليل.

فـ«للحرف المشتعل، نحن رضينا بحق الحرق. الكلمة عالم مشتعل. لا يمكن للنار أن تنطفئ في الكلمة التي تكتبها، أبدية الكتاب»(١).

موريس بلانشو

إنها كتابة ممحية تقع على حافة النص، فهي مغامرة تيه في الصحراء حيث يحجب غسق الليل النظر والحنجرة يحرقها العطش، ليسكت فيها الصوت ويصرخ الصمت فقراءتها دائمًا مرجأة؛ لأنها: «ما يحفر بأسود النار أبيض النار»، نار سوداء على نار بيضاء، نيران الكلمات ونيران النيران تموت بنقاء وتولد من موت مطهر؛ لتصبح الكلمةُ المقروءةُ مقروءةً لزمن موعود للقراءة «المرجأة،»(٢) إنها نيران الكلمات المكتوبة بالرمال الحارقة.

إن بلانشو يعطي أولوية للكلمة المكتوبة على حساب المنطوقة، كغيره من الفلاسفة اليهود التفكيكيين، على اعتبار أنهم من ديانة كتابية، والتفكيك عند بلانشو هو توالد لأعشاش من الحرائق، وهذا يرجع إلى تجربة الحرق التي اختبرها اليهود، وكذلك تجربة التيه في الصحراء الحارقة. والفلسفة الحقة تكتب لتخلد كما يقول بول فاليري، بين جنباتها يحوم الصمت والانمحاء لتقودنا إلى الماوراء خارج الحياة إلى تلك المناطق القاحلة، إلى المنفى(٣).

ذلك أن نص الصحراء هو النص المركزي في كتابات بلانشو وجابيس حتى لفيناس وجاك دريدا، ولا سيما جابيس الذي اختبر تجربة التيه والترحال في صحراء مصر. ومن هنا كانت الكتابة عنده هي تجربة الحرق بنيران الأحرف والكلمات المنبثقة من نص الصحراء الذي أسر جابيس شعرًا وفلسفةً وتصوفًا.

فالكتابة اليهودية لا تنبجس إلا من الخلاء لتُخط برماد الأحرف المحترقة، والفيلسوف هو ذلك الرحالة التائه بين الكثبان. أليست الفلسفة ترحالًا كما علَّمنا جيل دولوز؛ فنحن لا نتحرك، بل الأرض هي التي تتحرك تحتنا، والتفلسف الحقيقي يتحدد كحرمان أبدي من الإقامة لتحقيق إقامة الإقامة التي هي تيه أبدي(٤).

كما أن الفيلسوف الحقيقي هو ذلك الذي استطاع أن ينصت لنداء بعيد، يرجع لماضٍ سحيق لا يتوقف عن التقادم والتباعد كصدى، إنه نداء الرب الذي يدعوني إلى أن أحب الآخر الغريب حبًّا غير مشروط، بلغة فرانز روزانزفايغ، أي أن أكون مسؤولًا عنه بلا حدود حسب تعبير لفيناس. فالصحراء هي الأفق الرحب لاحتواء الكلمة المقدسة، ففيها يسطع مجد اللانهائي؛ لذلك فرَّ إليها جابيس ليكتب بالرمل تجربته الصوفية الشاعرية. في الصحراء ستتخلى عن كل انتماء لأصل متحجر؛ لأنه في الوثنية فقط تنغرس في الأرض كأن هنالك عقد ملكية بين الأرض ومالكها، في حين أن البداوة تفر من سطوة قانون الملكية والتشبث بالأرض.

اللانهائي وأقاصي الصحراء

لذلك ثار لفيناس على سياسة الحشد وانتهاك الجسد ليؤسس لإتيقا الوجه؛ للرد على وحشية الحرب التي طالت آدمية الآخر التائه في الصحراء القاحلة الذي يسطع على وجهه مجد لا نهائي؛ ليصبح النفور منه رغبة وشوقًا إليه. لذلك يمكن استخدام مصطلح الشوق مقابلًا لمفهوم الرغبة اللفيناسي. يقول ابن عربي في الشوق: في الغياب يتملكنا الشوق، وفي اللقاء، لقاء المحبوب، يهلكنا الاشتياق، نتعذب من آلام الغياب، ونرجو الشفاء في اللقاء لكن الشوق والوجد يزيد،(٥) فالعلاقة مع الآخر تحكمها الرغبة كشوق لا يشبع؛ لأنها حفر مستمر ينخر نرجسية الذات ويفككها.

إن تجلي الآخر هو تكشف يتجسد في حضور وجهه في العالم المحايث، وهو ليس مجرد صورة أسيرة شكل؛ لأن هذا الوجه يفر من سطوة الشكل واللون فهو متعرٍّ باحتشام ليلقي خطابه الأول في صمت صاخب(٦). إن للوجه معنى خلف الملامح الفسيولوجية، وابتهالًا خلف الصمت، وتضرعًا خلف التعالي، لتتحد الوضاعة بالسمو(٧). وفي الأثر يقول جابيس: «لا يوجد أثر إلا في الصحراء، ولا صوت إلا في الصحراء. الفعل هو العبور، التيه. من المتعذر قوله إلى المتعذر قوله. هجران المكان المعروف، المعيش -المشهد، الوجه- من أجل المكان المجهول-الصحراء، الوجه الجديد، السراب؟ الوجه اللانهائي للاشيء، بثقله اللاشيء بكل الوجوه المختزلة في وجه واحد، وجهي، الضائع. إذن، العبور؟ ربما الذي لا نهاية له ولا بداية. المسطر غير المحدد، اللاأثر لأثر حارق»(٨).

إنه وجه فارغ وناءٍ كالصحراء، ففي صحراء وقفار الوجه نشهد معاناة اليتيم والأرملة والغريب ولغز اللانهائي؛ الذي يحرم فعل القتل أي العنف من خلال الكلمة الأولى للرب: «لن تقتل أبدًا»(٩). إنها مقاومة إتيقية منبجسة من الوجه غير عنيفة تشل الذات وتمنعها من تعنيف الآخر، فهناك نداء قداسة يحثها على مقاومة غواية القتل والحرب المتمثلة في فعل الكفاح للاستمرار في الكينونة التي تحولت فيها العلاقة بين الذات والآخر إلى علاقة اقتتال، فالحرب تفترض السلم المنبعث من وجه الآخرين واللا-حساسية Non-allergique نحوهم(١٠).

إيمانويل ليفيناس

وهنا نستطيع أن نلمس توجه لفيناس، الصوفي اليهودي، فهذه المفاهيم لا نعثر عليها إلا في المنظومة المفاهيمية للتصوف. فقد أراد لفيناس أن يعيد تأسيس الأنا من خلال فكرة اللانهائي الذي لن تصل إليه إلا من خلال المرور عبر معمودية الآخر؛ ليجعل اللانهائي ينبض داخلها من خلال مفاهيم من قبيل الحب والهذيان والألم حتى الزهد والتضحية والإيثار في سبيل الآخر، وهو ما يوضحه لفيناس بقوله: «العلاقة الإتيقية وجهًا لوجه، تتفرع بدورها إلى علاقة يمكن أن نصطلح عليها اسم تصوف»(١١).

لقد سيطرت تجربة التيه والاحتراق برمال الصحراء على أغلب كتابات المفكرين اليهود ولا سيما كل من بلانشو وجابيس. ومن المؤكد أن الاحتفاء بنص الصحراء هو احتفاء بالمهمش والمنسي واللامفكر فيه. في الصحراء نعثر على وجه الآخر بإطلاق حسب موقف لفيناس، ففيه يشع نور أثر اللانهائي الذي يحثنا على التبرؤ من الكينونة من أجل هجران المكان المعروف، للعبور الذي لا نهاية ولا بداية له إلى ما وراء الكينونة حيث اللغز.

نستطيع أن ننتقل من لهيب الصحراء الحارقة إلى لطافة الواحة المنتعشة، من خلال العمل على تكريس قيم كونية؛ مثل: السلام والتعايش المشترك والتسامح والضيافة التي لا تتحقق كلها إلا من خلال الانفتاح على الآخر وقبول المختلف والغريب الذي لا أرض ولا وطن له؛ لأنه يعيش شريدًا تائهًا في أصقاع الأرض كافة.


المصادر:

أ- باللسان العربي.

– إدمون جابيس، كتاب الهوامش، ترجمة رجاء الطالبي، دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الرباط، الجزائر العاصمة، بيروت، ط1، 2015م.

ب- باللسان الأجنبي.

– Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Libraire philosophique, Paris, 4emeédition,j.Vrin, 2010.

-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata morgana, 1972.

-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, (Essais sur L’extériorité), Original edition: Martinus Nijhoff,1erédition, 1971.

-Maurice Blanchot,L’EntretienInfini, Gallimard, Paris, 1969.

2- المراجع.

باللسان العربي:

– بول ريكور، الذات عينها كآخر ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2005م.

– محيي الدين بن علي ابن العربي، ترجمان الأشواق، اعتنى به عبدالرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، ط1.


هوامش:

(١) إدمون جابيس، كتاب الهوامش، ترجمة رجاء الطالبي، دار الأمان، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الرباط، الجزائر العاصمة، بيروت، ط1، 2015م، ص48.

(٢) مصدر نفسه، ص ص 51-53.

(٣) إدمون جابيس، كتاب الهوامش، مصدر سابق، ص ص 53-55.

(٤) Maurice Blanchot,,L’Entretien Infini, Gallimard, Paris, 1969, p.185.

(٥) محيي الدين بن علي ابن العربي، ترجمان الأشواق، اعتنى به عبدالرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2005م، ص204.

(٦) Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Libraire philosophique, Paris, 4emeédition, j.Vrin, 2010,p.271.

(٧) Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata morgana, 1972, p.p.68-68.

(٨) إدمون جابيس، كتاب الهوامش، مصدر سابق، ص ص 167-168.

(٩) Emmanuel Levinas, Totalité et infini,(Essais sur L’extériorité), Original edition: Martinus Nijhoff,1erédition, 1971, p.217.

(١٠) Emmanuel Levinas, Totalité et infini, op.cit, p.p.217-218.

(١١) Ibid, p.221.