في تجديد التحليل النفسي… هوامش حول مشروع حسن المودن
تروم هذه المقالة استكشافَ واحدة من أهم سمات القراءة النقدية عند «القارئ المحلل»(١) حسن المودن، وهي السمة التي نقترح تسميتها «القراءة المزدوجة»؛ حيث يتجاور النقد التطبيقي والنقد النظري ويتكاملان، وحيث تتبادل الأدوار بين أداة القراءة وموضوعها، بين النظرية والنص المقروء. ولما كان التحليل النفسي مرجعَ الباحث ومنهجه المفضل في القراءة، فإن القراءة المزدوجة، إذن، تعني: قراءة النصوص من خلال مفاهيم وآليات التحليل النفسي، ثم قراءة التحليل النفسي نفسه من خلال ما تقوله تلك النصوص. إنها قراءة تنقلنا من التفكير بالتحليل النفسي إلى التفكير فيه، ومن نقد النصوص إلى نقد أدوات النقد نفسه، ومن الإسقاط الكسول إلى التجديد الخلاق. هذا ما تدل عليه دراساته المتجددة، وهذا ما تعلنه بوضوح بعضُ العناوين الفرعية على غرار: «من أجل تجديد التحليل النفسي الأنثروبولوجي»، و«عقدة الأخوة أولى من عقدة أوديب»، و«قراءة نفسانية جديدة»…
تجديد التحليل النفسي؛ ملحوظات وهوامش
لم يمض وقت طويل على تأسيس التحليل النفسي حتى انطلقت الدعوات التجديدية مُطورة ما خطه المؤسس فرويد ومضيفة إليه، وناقدة ومستدركة عليه في بعض الأحيان. ولا نقصد هنا انتقادات خصوم التحليل النفسي، بل نقصد استدراكات المنتمين إليه والمؤمنين بجدوى علم النفس عمومًا، على غرار يونغ وأدلر ولاكان وميلاني كلاين وإريك فروم وبيلمان نويل ورونيه كاييس ولوري لوفير وبيير بيار… وإذا كانت حركة التجديد مُطردة في السياق الغربي فإن السياق العربي بقي مستثنًى منها، إلا ما كان من اجتهادات قليلة نذكر منها اجتهادات عبدالكبير الخطيبي وفتحي بن سلامة ورجاء بن سلامة ويوسف الصديق… وتبقى دراسات الباحث والمترجم حسن المودن فريدة ومتميزة؛ فهي شديدة المواكبة لما يجري في حقل التحليل النفسي، وهي دراسات بنفَس نقدي صريح؛ إذ لا تخلو من جُرأة ومساءلة للسائد من المفاهيم والنظريات. وفيما يلي بعض الملحوظات والهوامش حول هذا المشروع:
النقد النفسي مشروع لم يكتمل بعد
لا بأس أن نوضح، أولًا، أن قراءات المودن تجدُ مشروعيتها وقوتها من مصادر متعددة؛ فهناك، من جهة أولى، هذه الحاجة المستعجلة إلى «نقد تدخلي»(٢) يحرك المياه الراكدة في النقد النفسي الحديث والعربي منه على الخصوص، بعد نحو قرن من التراكمات، وهناك، من جهة ثانية، هذا الإبداع المتواصل الذي تحفل به الدراسات الغربية الحديثة في علم النفس واللسانيات والأنثروبولوجيا والفلسفة… وهناك تلك الحاجة المتجددة لاستكشاف مجاهل النفس الإنسانية وتقويم ما قيل ويقال عنها، وهناك، قبل هذا وذاك، هذه النصوص والمحكيات النابضة بالحياة والواعدة بتأويلات ومنظورات «أكثر تفسيرًا» (وربما أكثر إحراجًا!) مقارنة مع المكرَّس في التحليل النفسي بصيغته التقليدية؛ سواء تعلق الأمر بالنصوص الأدبية التأسيسية التي ولَّدت التحليل النفسي (تراجيديات سوفوكل، مسرحيات شكسبير، روايات دوستويفسكي…)، أو بالنصوص الأخرى المنسية أو الجديدة.
ولا بد أن نوضح، بهذا الصدد، أن تجديد التحليل النفسي عند حسن المودن لا يعني الخروج منه، ولا بالأولى رفض ما أنتجه من نظريات في مقاربة النصوص، وكذلك في فهم النفس الإنسانية. فالكاتب دائمُ التذكير بانتمائه إليه ودائم تأكيده أهمية ما تحقق فيه، ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنه يحرص باستمرار على تذكيرنا بأن هذا التحليل «مشروع لم يكتمل بعد»؛ بمعنى أنه يظل ورشًا، مفتوحًا، يجري إغناؤه وتطويره، بما استجد في العلوم المجاورة له كاللسانيات والأنثروبولوجيا… وفي ضوء النتائج المحصَّلة من تفاعله مع النصوص. ومن هنا فإن التفكير في التحليل النفسي يعني، في الأساس، التفكيرَ في أفضل الصيغ الممكنة لجعله أقدرَ على تفسير ما يحدث في النفس الإنسانية الفردية والجماعية، ما يحدث في النصوص الأدبية والدينية والمحكيات الإنسانية… ولما كانت هناك طرائق حياة متجددة على الدوام، وهناك نصوص على الدوام، فمعنى ذلك أن هناك إمكانيات متجددة على الدوام لاستيلاد تنظيرات وتصورات نفسية جديدة.
إن التحليل النفسي وفق هذا المنظور ليس علمًا صارمًا ونهائيًّا وإنما هو، مثلما يؤكد جان بيلمان نويل: «فن يستند إلى نظرية، ويستند إلى ممارسة، بلا تقنيات إلزامية، وبلا شفرات شفافة، وبلا نماذج أصلية، وبلا تصورات أحادية، وبلا نقط استدلال ثابتة»(٣).
المجد للنصوص؛ لننصت إلى النص.. نروض النظريات
تأسيسًا على ما سبق، تدعونا دراسات المودن إلى استلهام تلك الروح العلمية المفعمة بالمرونة والحيوية، التي وجهت كبار النقاد المشتغلين بالتحليل النفسي؛ أولئك الذين لا يسمحون للنظريات، مهما بلغ اتساقها وإحكامها، أن تتحول إلى شرنقات قاتلة أو إلى أصنام مقدسة يُتقرب إليها بِلَيِّ أعناقِ النصوص وتقديمها قرابينَ على مذبح «العقد الجاهزة»… فلا تُقرأ ولا تؤول إلا بها؛ إذ كثيرًا ما كان هذا المنزع يتجاهل النص والقارئ وينصرف عنهما تمامًا، باحثًا في سيرة الكاتب وحياته الشخصية عما «يبرر» به الناقد النفسي هوسه بتصنيف «مرضاه» من المبدعين، فيتحول النص، إلى مجرد شاهد ويصبح الموضوعُ هو الكاتب و«أعراضه الباتولوجية»! وهذا خلافُ ما فعله فرويد نفسُه، القارئ الشغوف بالنصوص، وخلافُ ما يفعله المجددون من أمثال لاكان وبارت وبورخيس وبيلمان نويل وبيير بيار… (وفي كتاب «الأدب والتحليل النفسي» توضيحات دقيقة بخصوص قيمة إسهامات هؤلاء النقاد(٤)).
في مشروع المودن تذكير مستمر بأنَّ النصوص والمحكيات خلاقة وولادةٌ ولا يليق بالتحليل النفسي إلا أن يُحسن الإنصات إليها. لقد كانت هي المنطلق في تأسيس التحليل النفسي، ويُفترض أن تبقى هي المغذي الدائم له، وهي المحك الذي تُقوَّم به نظرياته. فـ«الأدب، لا التحليل النفسي، هو المصدر الأساس للتنظيرات والتصورات النفسية»(٥) وليس هو مجرد حقل للتجريب والتطبيق الأحادي الاتجاه. وقد كان هذا هو درس فرويد المحوري، إذ «اختار مبكرًا أن تكون (أرض الكتابة والتخييل) مسكنه الأبدي»(٦)، فكان دائم الإعلاء من شأن الشعراء والروائيين واصفًا إياهم بأنهم الخبراء والأساتذة في معرفة النفس البشرية.
هكذا يتبين أن التفكير في التحليل النفسي عند حسن المودن يعني أن نقرأ بعينين ونكتب بيدين؛ عين على النصوص والأخرى على التحليل النفسي، ويد تخط ما يمليه هذا التحليل وأخرى تتعقبها بالتقويم والمحو، إن لزم الأمر. هل ذلك ممكن؟ نعم؛ فتلك سيرة المؤسسين والمجددين على السواء، وذلك ما تقوله التطبيقات والمفهومات المستخلصة من النصوص المؤسسة للتحليل النفسي ومن النصوص المنافسة له أيضًا، كالنصوص الدينية.
تجديد التحليل النفسي؛ نماذج وآفاق
يقترح علينا مشروع المودن مباشرةَ القراءة وإعادة القراءة بـ«كامل وعينا» لما أُنجزَ في التحليل النفسي ولما أنجِزَ حول متونه ومصادره النصية من قراءات، كما يدعونا أيضًا إلى الانفتاح على نصوص ومتون جديدة، لا بغرض إضافتها إلى قائمة المواد التي اشتغل بها التحليل النفسي، بل بغرض استيلاد منظورات بديلة لإغناء هذا التحليل وتقويم بعض «انحرافاته» وتحيزاته أملًا في تطويره وتجديده.
في هذا السياق، نستحضر تلك الدراسات القوية و«الجريئة» حول أوديب وهاملت وحول قصة يوسف وحول المحكي الإبراهيمي وحول أولاد حارتنا والإخوة كرامازوف…؛ حيث نكتشف مفاهيمَ ومداخل مغايرة للمألوف، على غرار مفهوم «عقدة الأخوة»(٧)؛ هذا المفهوم الذي «ظل مستبعدًا أو ثانويًّا في الفكر النفساني»، على الرغم من وجود تصورات مبكرة حوله عند فرويد وميلاني كلاين وجاك لاكان(٨). وسنكتفي، في هذا المقام، بإبراز القوة التفسيرية الهائلة لهذا المفهوم في إعادة قراءة بعض النصوص المؤسسة للتحليل النفسي.
في إعادة قراءة النصوص المؤسسة (أوديب وهاملت)
في محاضرة «التحليل النفسي يلفق التهم للأبرياء…» يستثمر المودن دراسات بيير بيار، وبخاصة مفهوم النقد التدخلي؛ أملًا في تصحيح الصورة النمطية المشكلة حول هاملت وأوديب، التي شيّدها فرويد وكرسها من جاء بعده من المحللين. ولما كان «النقد التدخلي» مساءلةً للتأويلات والتفسيرات المتداولة، فإنه يبقى وفيًّا لطرح الأسئلة، وبخاصة تلك الأسئلة المهملة أو المقموعة، التي تستدرجنا -ببراعة الحكَّاء وبحنكة المُحقق- نحو إعادة تشكيل الحكاية من جديد، بعدما تكون قد زرعت من الشكوك واكتشفت من الثغرات ما يكفي لزعزعة الثقة في التأويلات السائدة. وحينها لا يكون هناك مناص من القبول بتأويل جديد وبالنتيجة بمنهج جديد وبرؤية جديدة وربما بمفاهيم جديدة وحكاية مختلفة! هل هو ضرب من التحايل على سلطة وهيمنة النقد السائد أملًا في تفكيك بنيانه الراسخ أم على العكس من ذلك، هو الخطة الأكثر إلحاحًا وضرورة لتجديد التحليل النفسي وإغنائه وتقويته؟ لنتأمل ما يمكن أن يصنعه هذا النقد التدخلي بخصوص محكيات مألوفة جدًّا وتأويلات «طاغية جدًّا»:
بالنسبة لأوديب: يتجه القارئ المحلل حسن المودن، في محاضرة: «التحليل النفسي يلفق التهم…» إلى مراجعة الحكاية في تشكلاتها الأولى وفي صيغها المتعددة، مقترحًا زوايا نظر جديدة ومثيرًا أسئلة مقموعة أو مهملة من قبيل: «ماذا وقع لوالد أوديب (لايوس) قبل أن يتزوج (جوكاست) وقبل أن ينجب وقبل أن يصبح أبًا لأوديب؟»، ماذا وقع لأوديب في صغره حتى صار يشكو من عيب في جسده؟ وهل كان قادرًا وحده، وبعلَّته الجسدية، على هزم ملكٍ وحرسه؟ من القاتل الحقيقي للايوس؟ من المجرم أو المجرمة؟ ولماذا بقيت اللعنة مستمرة بعد مقتل أوديب؟ ولماذا سيرفع الوباء بعد موت جوكاست بالضبط؟ ما الجريمة التي استنكرتها الآلهة؟ هل الجريمة هنا هي قتل الابن لأبيه أم هي على العكس من ذلك جريمة قتل الأب للابن؟ ما العقدة الحقيقية التي ينبغي أن تحُلَّ محل عقدة أوديب؟»(٩).
وفي مسرحية هاملت، تتناسل الأسئلة على النحو التالي: ما الجريمة الحقيقية الأولى التي تصدرت الأحداث؟ أليس هي قتل كلاوديوس لأخيه الملك هاملت، والاستيلاء على زوجته وعرشه؟ أليست الجريمة هنا هي قتل الأخ لأخيه وليس قتل الابن لأبيه؟ هل يكفي أن نقول كما قال فرويد: إن القتل كان موضوع رغبة هاملت الابن اللاواعية حتى نُحمله وزر الخطيئة؟ أو أن نقول كما قال لاكان: إن «دال القوة» هو موضوع الرغبة عند هاملت، وإن المانع من تنفيذها على كلاوديوس هو فكره المتردد والمحتقر في الآن نفسه لكلاوديوس… هل تكفي عقدة أوديب لتفسير ما جرى؟ ألا يتعلق الأمر هنا بعقدة أخرى «صريحة» هي عقدة الأخوة؟
بالعودة إلى مقالة: «مسرحية هاملت: أَهوَ قَتلُ الأَب أمْ قَتلُ الأخ؟ نَحوَ قراءة نفسانية جديدة»(١٠). نجد تدقيقات و«تحقيقات» تعيد بناء الحكاية من جديد، تستدرك ما فاتَ الدراسات والتحقيقات السائدة كدراسات فرويد ولاكان وتحقيقات بيير بيار نفسه، مستلهمة، على الخصوص، مفهوم «الرغبة المحاكاتية» لرينيه جيرار، ومستثمرة دراسة جون ديلوغ 1996م (C.Jon Deloge) : «كيف لقي هاملت الشيخ حتفه؟»، فتتجه إلى إظهار تلك «الحقيقة» المنسية والمطموسة تحت ثقل التأويلات «الأوديبية»، وهي: أن المشكلة الأساس هي قتل الأخ لأخيه (كلاوديوس لأخيه هاملت)، أن الإنسان يقتل أخاه الإنسان، وأن هذا القتيل يعود للانتقام بطرق جديدة؛ شبحًا، ابنًا، حفيدًا… فلا القاتل الأول ينعم بموضوع رغبته، ولا القاتل الثاني/ المنتقم يشفي غليله وينتزع ما سلب منه، ولا طرفَ قادر على تصحيح المعادلة أو حسم الصراع؛ إذ للقتيل الثاني ورثة وذرية جاهزون دائمًا للثأر… وهكذا تستمر التراجيديا الإنسانية صراعًا مستعرًا بين الإخوة… الجميع في الجحيم؛ كلٌّ حريص على الفتك بكلٍّ.. إلا ما كان من استثناءات قليلة جسدها أولئك «الإخوة السعداء».
في الحاجة إلى التحرر من عقدة «عقدة أوديب»
في هذه القراءة «التأزيمية» الجديدة، للنصين التأسيسيين القديمين، نكتشف: أن تراجيديات سوفوكل تقول أكثر، وربما غير، ما قوَّلها فرويد. نكتشف أن أسطورة أوديب حلقة ضمن سلسلة، وأنها لا تفهم إلا بالعودة إلى حلقاتها السابقة واللاحقة، ونكتشف أن الجريمة الكبرى في تلك الأساطير هي قتل الابن لا الأب. ونكتشف أن أوديب بريء من دم أبيه براءة الذئب من دم يوسف؛ ونكتشف، بالتبع، أن علاقة الابن بأبيه ليست بأولى من علاقة الأب بابنه؛ فكما أن الطفل يحمل مشاعر متناقضة تجاه أبيه، فكذلك يمكن للأب والأم أن يحملا مشاعر متناقضة تجاه ابنهما، يمكن أن يكرها أو يعاديا وقد يقتلا أبناءهما! ونكتشف في هذا الطريق أن العقد متعددة وأن عقدة أوديب قد تكون أضعفها تفسيرًا قياسًا إلى عقد أخرى كعقدة «جوكاست»، مثلًا، التي تفسر عدوانية الآباء تجاه الأبناء؛ هذا النزوع المستحكم الذي طالما كان موضوعَ استنكارِ الأساطير القديمة والأديان السماوية(١١)… فإذا ثبت هذا فمعنى ذلك أنه علينا التسلح بكثير من الشك بخصوص ما تكرس وترسخ من أحكام جائرة حول كثير من الأبرياء، ونتسلح أيضًا بكثير من سوء الظن بخصوص صكوك البراءة المتسرعة التي وزعت على كثير من الجناة و«المجرمين الطلقاء». لا بد إذن من «تحقيقات مضادة»، «لا بد من توسيع نظرية فرويد…»، و«لا بدَّ من إغناء الجهاز المفهومي عند فرويد بأن نضيف إلى عقدة أوديب مفهومًا تكميليًّا: عقدة جوكاست للدلالة على عدوانية الآباء، الواعية أو اللاواعية، تجاه أبنائهم: أي للدلالة على أن جزءًا مهمًّا من حياتنا اللاواعية يمكن أن يُوَجَّهَ ضد أقاربنا، وأطفالنا على وجهٍ خاصٍّ»(١٢).
ونكتشف أيضًا أن مسرحية هاملت لشكسبير يمكن أن تُقرأ قراءات مغايرة للسائد، تقلب التأويلات المستقرة رأسًا على عقب، وتفتح الباب أمام افتراضات جديدة تبتعد مِن «عقدة أوديب»، ومِن موضوعة الأب لـ«تستعيد تلك الموضوعة الأكثر حضورًا في السرديات الكبرى، الأكثر رسوخًا في النصوص الدينية والأدبية والتاريخية: الإخوة الأعداء؟ أيتعلّق الأمر بعقدة أوديب أم بعقدة قابيل؟ هل ألَّف شكسبير هذه المسرحية من أجل أن يكشف النقاب عن الجريمة المسكوت عنها، عن الحقيقة الأزلية التي لا تُقال: الإنسان يقتل أخاه الإنسان من أجل أن يستحوذ على ملكه وميراثه؟ هل ألَّف شكسبير هذه المسرحية من أجل أن يلفت النظر إلى أن هابيل الذي قُتل غدرًا لم يمت بعد، وأن شبحه يعود من خلال ذريته وورثته من أجل أن ينتقم من قابيل، أخيه المُجرم القاتل؟ هل ألَّف شكسبير هذه المسرحية من أجل أن يجعل من هاملت الابن رمزًا لهذا الاقتتال الدائم والمتواصل بين الإخوة الأعداء؟»(١٣).
خاتمة
هكذا يأتي مشروع الباحث حسن المودن منخرطًا بقوة في تجديد التحليل النفسي وتطويره بعد كشف حدوده. وقد كان من نتائج هذا التجديد اكتشاف منظورات ومفاهيم جديدة، على غرار مفهوم عقدة الأخوة؛ وهو ما ترتب عليه تصحيحُ أفكار وتصورات عمرت طويلًا، على غرار فكرة جناية كل من أوديب وهاملت… وترتب عليه أيضًا الانتباه إلى مكانة «الأخ» في الحياة الإنسانية.
يذكرنا هذا المشروع بأن مصادر معرفة النفس الإنسانية أكبر بكثير مما هو مكرس، وأنه وبقدر حاجتنا إلى قراءة النصوص «نفسيًّا»، فإننا بحاجة إلى مراجعة مستمرة للتحليل النفسي نفسه، في ضوء ما تقدمه النصوص من معرفة. غير أن جاذبية هذا الأفق ووعوده المغرية تثير أسئلة من قبيل:
هل نحول الأدب والدين والأساطير… إلى تحليل نفسي أم نحفظ المسافة بينهما؟ هل يمكن للأدب أن يكون تحليلًا نفسيًّا بالمعنى المتعارف عليه للتحليل النفسي؟ وماذا عن التعديلات المتلاحقة لمفهوم الإنسان؛ ماذا يمكن أن نقول عن هذه الأنفس الجديدة التي تبشر بها التقنية الحيوية؟ والتي سبق أن «بشَّرت» بها نصوص أدبية على غرار «عالم جديد شجاع» لهكسلي (1930م)، وماذا عن هذه الأنفس المعزَّزَة التي يعدنا بها دعاة «ما بعد الإنسانية»؟ ماذا يمكن أن تقدم المتون القديمة وكذا المناهج النفسية السائدة في هذا المجال؟
(١) تجد هذه الصفة (القارئ المحلل) مبررها في أعمال الباحث حسن المودن؛ حيث لا يكتفي بتحليل النصوص مطبقًا مناهج أو نظريات نفسية جاهزة، بل هو قارئ منخرط في حوار جدلي مع التحليل النفسي، وذلك ما سنتبين بعض جوانبه في هذه المقالة.
(٢) يحدد المودن وظيفة النقد التدخلي، في محاضرة أوديب لم يقتل أباه، قائلًا: «هو نقد لا يسعى إلى بناء معنى عن نص ما، بل إنه يتدخل من أجل تصحيح صورة أو معلومة أو حقيقة».
(٣) جان بيلمان نويل، التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، طبعة جديدة مزيدة ومنقحة، دار كنوز، عمان، الأردن، 2017م. ص19.
(٤) سبق أن كثفنا أهم مضامين هذا الكتاب المهم في مقالة لنا بعنوان: «قراءة في كتاب الأدب والتحليل النفسي لحسن المودن، ما معنى أن تكون ناقدًا نفسيًّا اليوم؟» مجلة نقد وتنوير، مركز نقد وتنوير، الكويت، ع12/ يونيو 2022م، ص ص: 326-334. (https://tanwair.com/archives/15186).
(٥) حسن المودن، «الأدب والتحليل النفسي»، وزارة الثقافة والرياضة ــ قطر، كتاب الدوحة رقم 99، أغسطس 2019م. ص10.
(٧) يعرف حسن المودن عقدة الأخوة كما يلي: «إن عقدة الأخوة هي مجموع منظم من التمثلات اللاواعية التي تتشكل انطلاقًا من علاقات تتأسس بين الأفراد والذوات، وفي داخل هذه العلاقات يحتل الفرد الواحد مكان الذات الراغبة؛ أي أن عقدة الأخوة هي تنظيم جوهري للرغبات العاطفية والنرجسية في علاقة بهذا الآخر التي تعترف الذات بأنه أخ أو أخت، وهو تنظيم ينتمي إلى بنية العلاقات التي تجري بين الذوات، ويحكمها التمثل اللاواعي للمواقع التي تحتلها الذات والأخ والأخت بالنظر إلى موضوع الرغبة الذي يتحدد في الأب، كما لاحظنا في القصص الديني». ينظر: حسن المودن، «قراءة نفسانية في قصة يوسف، عقدة الأخوة أولى من عقدة أوديب»، مجلة تبين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ع10/3، خريف 2014م، ص45-46.
(٨) حسن المودن، «المحلل النفسي روني كاييس: لماذا لا ينبغي تفسير مسألة الأخوة بعُقدة أوديب؟»، مجلة الفيصل (على الويب)، نشر يوم1 سبتمبر 2021م: https://www.alfaisalmag.com/?p=21858
(٩) حسن المودن، «التحليل النفسي يلفق التهم للأبرياء: أوديب لم يَقتلْ أباه، وهاملت بريءٌ من دَم أبيه»، نشر واقتبس يوم: يوم الإثنين 18 إبريل 2022م.
https://www.youtube.com/watch?v=Xy346NGkNQE&t=1963s&ab_channel=HassanELMOUDEN
(١٠) حسن المودن، «مسرحية هاملت: أَهوَ قَتلُ الأَب أمْ قَتلُ الأخ؟ نَحوَ قراءة نفسانية جديدة»، موقع عربي21، العدد الأول، 1 ديسمبر 2021م: https://naqd21.com/%d9%85%d8%b3%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%aa-2/181/
(١١) يشير حسن المودن إلى هذه المسألة موردًا نموذج النبي إسماعيل في القرآن الكريم الذي فداه الله بذبح عظيم، تلافيًا لحدوث «قتل الأب لابنه».
(١٢) حسن المودن، «أوديب، هل هو قاتلُ أبيه فعلًا؟ من عقدة أوديب إلى عقدة جوكاست»، مجلة الفيصل، يوم 1 نوفمبر 2022م:
http://www.alfaisalmag.com/?p=27689&fbclid=IwAR00uKtJVoiZbKbHu2Bik3fZNg-HmRVKgkOmx20NUSlzDhudGSYifjOPuRk
(١٣) حسن المودن، مسرحية هاملت: أهو قتل الأب أم قتل الأخ…
https://naqd21.com/%d9%85%d8%b3%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%aa-2/181/