العمارة الشرقية في تصاميم لو كوربوزييه
من بين العديد من المعماريين، الذين انتقلت أعمالهم خارج موطنهم وبيئتهم الأم، نال المعماري الفرنسي لو كوربوزييه (1887- 1965م) مكانة مميزة، حيث نستطيع تتبع بصمته المعمارية المميزة داخل العديد من البلدان؛ بداية من اليابان مرورًا بالهند، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى بعض المدن العربية مثل: بغداد وتونس والجزائر. وقد عُرف المعماري، الذي تحل ذكرى وفاته في السابع والعشرين من أغسطس، بأنه الأب الروحي للعمارة الحديثة، ورائد للمدرسة الوظيفية، التي كان لها التأثير الغالب في معمار القرن العشرين. كان لو كوربوزييه معاصرًا لفرانك لويد رايت؛ الأب الروحي للعمارة الحديثة. وعُدّتْ أطروحاته الأسلوبية وأعماله المعمارية بمنزلة أمثلة ناصعة للفكر المعماري الحداثي. وإضافة إلى كونه معماريًّا مجددًا، شارك أيضًا في عمليات تخطيط العديد من المدن، وله اهتمامات أخرى أبداها في فن الرسم والكتابة؛ وخصوصًا في مجال التنظير لفن العمارة. وعلى الرغم من أن الأبنية التي نفذها لو كوربوزييه في حياته قليلة نسبيًّا، فإن لكل واحدٍ منها مكانته في تطور مبادئ «العمارة الحديثة».
جماليات الهندسة الصارمة
ربما كانت السمة البارزة التي ميزت مبانيه، ذلك الحضور الواضح لمعايير الهندسة الخالصة المعتمدة على الأشكال الأساسية؛ المكعب، ومتوازي الأضلاع والأشكال الأسطوانية. وقد كتب ذات مرة: «إن المشكلات الكبرى للبناء الحديث يمكن حلها فقط عبر استخدام الهندسة المنتظمة. بمعنى أن يتجه مهندسو اليوم نحو إنتاج كتل ملتزمة بالخطوط الهندسية الصارمة، وعن طريق ذلك يمكنهم الكشف عن أشكالٍ واضحة وقوية التأثير، تريح الأبصار وتوفر للعقول متعة النظر». يتضح من عبارة لو كوربوزييه هنا أن التشبه بالآلة وبنتاج المهندسين الصناعيين، ليس الهدف منه تحقيق الوظيفية البحتة للبناء، بقدر ما كان يهدف إلى التعبير عن إنجازات مهندسي العصر الصناعي في تقنين نماذج رياضية، اعتمادًا على كتل هندسية بسيطة يسهل التعامل معها ضمن إمكانيات الصناعة الآلية، وفي الوقت ذاته تكون ذات مظهر جمالي جذاب.
إن الحقبة الحديثة، في رأي لو كوربوزييه، لا بد أن تعبر عن روح العصر الصناعي الذي يعتمد على التنظيم والنمذجة ضمن مواصفات ومقاييس معيارية تتوافق والأهداف المتوخاة من الأداة قيد التصميم. وكلما كان التصميم بسيطًا ومباشرًا وأقرب في طبيعته إلى الأشكال الهندسية، كلما اكتسب جمالًا رياضيًّا فريدًا من نوعه.
كانت السنوات الممتدة من عام 1925 إلى 1930م، أكثر السنوات إنتاجًا له. ففي عام 1926م، صمم لو كوربوزييه معظم مبانيه السكنية الشهيرة. وقد صاغ في هذه المدة ما عُرِف بعد ذلك بالنقاط الخمس في أصول تصميم المسكن، التي جاءت على النحو الآتي:
أولًا- رفع المبنى على الأعمدة الدائرية فوق مستوى الأرض، وهو ما يسمح باستثمار الحيز الذي يتوافر تحت المبنى. ثانيًا- المسقط الحر الذي يوفّره هذا النظام الإنشائي، من حيث توافر الاستقلالية التامة للقواطع الداخلية عن العناصر الإنشائية الداعمة للأسقف. ثالثًا- الواجهات الحرة التي يوفرها هذا النظام الإنشائي أيضًا، بفضل الاستقلالية التي يتمتع بها الجدار الخارجي أيضًا عن العناصر الإنشائية الداعمة. رابعًا- النوافذ الأفقية الطويلة المنزلقة أفقيًّا. خامسًا- حديقة السطح التي يمكن توفيرها كنتيجة طبيعية للأسقف المستوية.
قام لو كوربوزييه بتطبيق تلك المبادئ في كثير من المساكن المستقلة التي صممها في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات مثل فيلا ستاين في غارش عام 1927م، وفيلا بيزو في قرطاج بتونس عام 1928م، وفيلا سافوي في بواسي عام 1929م. كما قدم في معرض فايسنهوف الإسكاني في شتوتغارت عام 1927م تلك النقاط الخمس لزوار المعرض في الكاتالوج المرافق له، وهو ما حقق انتشارًا أوسع لأفكاره ومبادئه في أوساط المعماريين الألمان والأوربيين عامة. كان ذلك في مرحلة حاسمة من تاريخ العمارة الأوربية تميزت بالاهتمامات المتزايدة في موضوع تشييد الأبنية السكنية، ليس فقط للتعويض عن الدمار الذي لحق بكثير من المدن نتيجة للحرب العالمية الأولى، بل أيضًا بسبب دخول موضوع الإسكان إلى صدارة أولويات الحكومات الأوربية في ذلك الوقت، وخصوصًا في الاتحاد السوفيتي. حيث كان توفير المسكن الملائم لكل فرد من أفراد المجتمع أمرًا واجبًا وضروريًّا تلتزم به الدولة، كما اتضح في البيان الصادر عام 1924م عن الاجتماع الثالث عشر للحزب الشيوعي بوصف الإسكان أهم قضية في الحياة المادية للعمال.
مـشـروع مـديـنـة بـغـداد الـكـبـرى
قد لا يعلم كثير من سكان العالم العربي أن إسهامات لو كوربوزييه انتقلت إلى عالمهم، وأنه أسهم بنفسه في تخطيط بعض المدن وإنشاء أبنية عدة. فبـعـد تأسيس «مـجـلـس الإعـمـار» في بـغـداد عـام 1950م، تـبـنّـت الـحـكـومـة الـعـراقـيـة، التي كـان يـترأسـهـا نـوري الـسعـيـد، في يونيو 1955م مـشـروعًا لتـوسـيـع مـديـنـة بـغـداد وتـحـديـثـهـا. وقـد طـلـبـت مـن أهـم الـمـعـمـاريـيـن الـعـالـمـيـيـن وأشـهـرهـم في تـلـك الحِقبة الـمـشـاركـة فـيـه، وضمنهم لو كوربوزييه الذي عُهِد إلـيـه تـصـمـيـم مـديـنـة أولـمـبـيـة في بـغـداد تـضـم مـلـعـبـًا ريـاضـيـًّا مـفـتـوحًا (5000 مـقـعـد) ومـلـعـبـًا مـغـلـقـًا (3500 مـقـعـد) ومـسـبـحـًا أولـمـبـيـًّا يتسع لـخـمـسـة آلاف مـشـاهـد. غير أن حراك 14 تـمـوز (يوليو) انـدلـع في الـعـام الـتالي وأوقـف حـلـم تـحـديـث بـغـداد، الذي كـان في طـريـقـه لـيـتـحـول إلى واقـع.
وضـع لو كوربوزييه مـلـفات مـشـروعـه داخل مـكـتـبـه حتى وفاته سـنـة 1965م. وفي عـام 1980م قـررت الـحـكـومـة الـعـراقـيـة التواصل مع الـمـعـمـاريـيـن الذيـن كـانـوا قـد عملوا مـع لو كوربوزييه لـبـحـث مـسـألـة تـنـفـيـذ الـمـشـروع من جديد. وقَبِل جـورج مـارك بـريـزنـتـيـه، أحـد شـركـاء لو كوربوزييه الـقـدامى، الإشرافَ عـلى تـشـيـيـد الـمـلـعـب الـريـاضي كما صممه لو كوربوزييه؛ وهـكـذا شـيد الـمـلـعـب بـعـد خـمـسـة عـشـر عـامـًا عـلى وفـاة مـصـمـمـه في شـرق بـغـداد. لمدة طويلة، لم يُثِر المشروع اهـتـمـامًا لدى الـغـرب. غير أنه في عـام 2005م، زارت الـفـرنـسـيـة سـيـسـلـيـا بـيـيـري بـغـداد، لِتُعِدّ أطـروحـة دكـتـوراه عـن الـمـعـمـار الـحـديـث فيها، واكـتـشـفـت وجـود هـذه الـبـنـايـة، والـتـقـطـت لـهـا صـورًا. كما أبدت دهشتها إزاء عدم معرفة الـمـخـتـصـيـن، والـمـسـؤولـيـن عـن الـمـؤسـسـة الـتي تـحـمـل اسـمـه، بـإنـجـازات لو كوربوزييه، أو أي شيء عـنه تـقـريـبـًا. وقد مـضـت سـت سـنـوات أخـرى قـبـل أن يـقـرر جـاك سـبـريـغـلـيـو، نـائـب رئـيـس مـؤسـسـة لو كوربوزييه الـسـفـر إلى بـغـداد في 2011م لـيـزور الـمـلـعـب ويـلـتـقـط لـه صـورًا. ثم نـشـر بـعـد رجـوعـه إلى أوربـا أولى الـمـقـالات عـن مـلـعـب لـو كـوربـوزيـيـه. وفي عـام 2014م، صـدر في بـاريـس كـتـاب صـالـة لـو كـوربـوزيـيـه الـريـاضـيـة في بـغـداد، كما صدرت الترجمة العربية له في العام نفسه ليلقي مزيدًا من الضوء على هذا المنجز المعماري المهم.
تأثير العمارة الجزائرية في لو كوربوزييه
كان لو كوربوزييه قد تأثر بالعمران الجزائري على نحو جعله يعزف عن نموذج «الأسلوب العالمي» في البناء. وقد سعت الدولة الجزائرية فيما بعد للاستفادة من ابتكاره لمفهوم «الوحدة السكنية»، فتبنته، مُهملة سياقه التاريخي والعمراني، كحَلّ سحريّ سرعان ما كشف عن مشكلاته على أرض الواقع. انتبه لو كوربوزييه إلى الخصوصية العمرانية الجزائرية لدى قدومه إلى البلاد سنة 1931م بدعوة من جمعية «أصدقاء الجزائر»، ووضع مخططًا جديدًا للعاصمة. وعلى الرغم من أن تصوراته لم تنفذ؛ بسبب عزوف السلطات الاستعمارية، فإن نظرته إلى العمران الشرقيّ شهدت تحولاً جذريًّا بعد تلك الزيارة.
فوجئ لو كوربوزييه بالتصاميم الفريدة للقصبة، المدينة القديمة في الجزائر، وبهرته تقنيات البناء والاستغلال المثالي للضوء وتصيد منظر البحر؛ وهي التقنيات التي حرص عليها البناة الأولون لها. ونزولاً على نصيحة أحد المهندسين، زار المعماري مدينة غرداية، جنوب الجزائر، وهي الزيارة التي عدها مؤرخو العمارة بمنزلة «زيارته الثانية للشرق». في غرداية، هذه المدينة الألفية التي شُيّدت في منطقة وادي ميزاب، وهي منطقة صحراوية قاسية المناخ، كانت مواجهة الحر معضلة المؤسسين الذين ابتدعوا، بالاعتماد على الطين، طريقة فريدة في خلق تكييف طبيعي للهواء من دون التفريط في الإضاءة، وعملوا على تضييق الشوارع التي أصبحت أروقة تفاديًا لأشعة الشمس الحارقة. هذه التقنيات المصوغة بجمالية مُدهشة جعلت لو كوربوزييه يصف غرداية بأنها «مدينة متلألئة». وأثمرت زيارته هذه عن تصميم كنيسة «نوتردام ديهو» في مقاطعة «رونشامب»، شرق فرنسا، التي بها كثير من العناصر المشتركة مع العمران الميزابي.