بعد سنوات من رحيله… زيارة جديدة لإبراهيم أصلان

بعد سنوات من رحيله… زيارة جديدة لإبراهيم أصلان

ربما كان الدافع الأساسي لكتابة السطور التالية هو اكتشافي لنفاد غالبية كتب الراحل الكبير إبراهيم أصلان 1935– 2012م، عندما تاهت من مكتبتي بعض أعماله التي كنت أريد إعادة قراءتها، فبحثت عنها في المكتبات من دون جدوى، وهو ما جعلني ألجأ إلى نسخ إلكترونية.

أصلان الذي غادرنا منذ اثني عشر عامًا فقط، توشك أعماله على الانقراض، بعد أن نفد بالفعل كثير من أعماله. أصلان الذي شكّلت أعماله إضافة كبرى للسرد العربي، وتوقف النقد طويلًا أمامها، نكاد نفقده للأسف. ربطت بيني وبين أصلان -على الرغم من أنه يكبرني بخمسة عشر عامًا- صداقة ممتدة وعميقة منذ التقينا عام 1969م، على الأرجح على مقهى ريش لحضور ندوة نجيب محفوظ، أو على مقهى إيزافيتش الذي كان أحد المراكز الكبرى للقاءات الكتاب الجدد.

على مبعدة شارع من النيل

امتدت لقاءاتنا إلى إمبابة حيث كان يسكن أصلان في الحي الشعبي العريق، وبالتحديد في منطقة الكيت كات -ومن هنا جاء اسم الفِلْم بالغ الجمال والمحقق لنجاح جماهيري وضعه في القمة وكتبه وأخرجه داود عبد السيد عن رواية أصلان الأولى «مالك الحزين»- التي تضم عددًا كبيرًا من الحواري والشوارع، لكنها تتميز بأنها الأقرب للنيل، ولا يفصل بين مسكن أصلان مثلًا والنيل إلا شارع واحد؛ لذلك تعلم السباحة في النيل في سنواته الأولى مع عشرات الأطفال، وكذلك صيد السمك مبكرًا، ولم تكن هناك قوة على الأرض قادرة على أن تعطله عن النيل الذي كان مكانًا لممارسة الحياة واللعب والسباحة. وعندما ارتكب جُرمًا فظيعًا وهو لا يزال في سنواته الأولى، عاقبه أبوه بربطه بحبل متين إلى مقعد كبير ليمنعه من الخروج، لكن ذلك لم يكن عائقًا له. لما عاد الأب ولم يجده في البيت، توجه إلى النيل فوجد الطفل الصغير قد اصطحب المقعد وجلس مربوطًا به على الشاطئ يشارك بلسانه في كل ما يجري!

كثيرًا ما أعارني عشرات الكتب من مكتبته، وهو الأمر الذي استمر بعد ذلك لسنوات، وكانت مكتبته ثمرة جولات يومية، لعقود، لسور الأزبكية الشهير الذي كان يضم كتبًا نادرة مستعملة. وكان قريبًا جدًّا من مكان عمله في هيئة المواصلات في شارع رمسيس. أدين وأعترف بفضل أصلان، فقد كنت أذهب له بالكتب التي أكون قد قرأتها، وأحمل من حجرته الصغيرة كل أسبوعين حِملًا ثمينًا من الكتب التي أسهمت بلا شك في تكويني.

آنذاك تعرّفت، مرات عدة، إلى قهوة عوض الله القريبة من النيل، وجلست مع أصلان وبعض أصدقائه على مقاعدها نحتسي الشاي، إلا أنني لا أتذكر الشيخ حسني الكفيف بطل الرواية، وهي القهوة التي كانت مسرحًا لأحداث «مالك الحزين» أولى رواياته الصادرة عام 1983م.

في حياة أصلان مكان ظل يتردد عليه لعقود؛ سوق الجمعة في إمبابة. كان مولعًا بالمرور عليه أسبوعيًّا؛ ليشتري منه أغراضًا لا حصر لها، وكلها مستعملة أو تسللتْ إلى السوق بطريقة أو بأخرى لكن ثمنها في السوق لا يقارن بثمنها الحقيقي. وتحفل قصصه القصيرة بمشاهد تمتُّ كلها إلى تلك الخبرات الإنسانية التي شكلت وجدانه منذ وقت مبكر.

من أثمن ما حصل عليه، بحسب ما كتب، عن بدء اهتمامه الحقيقي بالموسيقا الكلاسيكية: «استطعت تدبير مجموعة من أجهزة الاستماع ابتعتها تباعًا من على عربات يد مركونة في بعض مناحي وسط، كنت دائم المرور عليها، مجموعة قديمة كلها إلا أنها على كفاءة عالية (بيك آب كولارو إنجليزي مجهز لعشر أسطوانات وإبرة ماسية غير قابلة للتآكل. جهاز جروندج ألماني صغير. راديو إنجليزي بلمبات ماركة صوت سيده)». وكثيرًا ما شاركته أنا وآخرون من أصدقائنا الاستماع- على هذا الجهاز الساحر في حجرته الصغيرة- لأعمال كورساكوف وتشايكوفسكي وبيتهوفن.

من إمبابة إلى الوراق

ولحسن الطالع سكنّا متجاورين نحو عشر سنوات في أوائل ثمانينيات القرن المنصرم. فعندما تزوج أصلان، غادر منطقة إمبابة إلى إحدى امتداداتها، وهي منطقة الوراق، وكنت أنا قد فعلت الشيء نفسه قبله بعامين أو ثلاثة. كانت الوراق منطقة شديدة العشوائية مكدسة بالمباني التي تنبت كيفما اتفق، وبلا مرافق، والناس يتدبرون أمرهم بصعوبة شديدة. لكن ما خفف الأمر أن مجموعة كبيرة من الكُتَّاب في الحقبة نفسها عرفوا طريقهم إليها بالمصادفة، ولمجرد وجود شقق خالية، في وقت كانت أزمة المساكن مستحكمة. سكن كل من الشاعر عزت عامر والقاص الراحل يوسف أبو رية، والقاص الراحل إسماعيل العادلي، في مربع واحد متجاورين تقريبًا، وسكنتُ أنا بعدهم ببضع حوارٍ، ثم إبراهيم أصلان بعدنا.. لذلك كنتُ أنا الأقرب له، وكثيرًا ما التقينا منفردين في بيت أحدنا، بينما سكن الروائي إبراهيم عبدالمجيد في منطقة مجاورة تدعى «أرض الجمعية»، ولذلك السبب لم تكن علاقاتنا به منتظمة آنذاك.

وائل عبدالفتاح

بطبيعة الحال اعتدنا قضاء سهرات عديدة كان أكثرها في بيت يوسف أبو رية فهو الأعزب الوحيد، وكنا نستضيف بعض الأصدقاء من خارج الوراق مثل محمد المخزنجي أو الدكتور شاكر عبدالحميد أو عبدالعزيز جمال الدين أو غيرهم. إذا كتب أحدنا قصة أو قصيدة جديدة كان يقرؤها ونتبادل النقاش حولها، إلى جانب الحديث عن قراءاتنا الخاصة أو ما يثار من أفكار وآراء في أثناء لقاءاتنا الثرية. أتذكر على سبيل المثال أن أصلان كان مفتونًا بهمنغواي، وخصوصًا ما قاله الأخير عن الجملتين اللتين تلخصان عالمًا كاملًا كبداية لقصة شهيرة له، عن الجندي الذي يهبط من القطار ويسير بساق واحدة مستندًا على عكاز… تلخصان الحرب والفظائع والكوارث والمعارك ومستقبل الجندي… إلى آخر ذلك من التداعيات. انشغل أصلان منذ وقت مبكر بالاستبعاد والحذف واللغة المتقشفة والابتعاد من العاطفية والغنائية. أدين له بقراءة أغلب أعمال همنغواي المترجمة للعربية وكتابين ممتازين حوله وحول عالمه: الأول همنغواي وعالمه القصصي لكارلوس بيكر، والثاني بابا همنغواي لكاتب نسيت اسمه.

لكنني أتذكر أيضًا حادثة شهيرة. كان أصلان قد تمكن من الإيقاع بسيارة فولكس فاجن طراز 1958م الشهيرة التي تشبه الخنفساء، واستطاع بمعاونة أصدقائه من الحرفيين توضيبها وتجديدها. وفي مساء اليوم الذي كنا قد حددناه للقاء عند يوسف أبو رية، جاء من يخبرنا أن هناك من يسأل عنا، وخرج بعضنا ووجدنا أصلان يقود سيارته الفولكس (أظن أنها كانت المرة الثانية التي يجرب فيها قيادة سيارة؛ لذلك كانت مفاجأتنا أشبه بصاعقة) والمشكلة لم تكن هنا، بل لأن الحارة التي قاد فيها السيارة مسدودة ودخلها بالخطأ، ولم يكن ممكنًا أن يخرج من ذلك الفخ بسبب المساحة الضيقة إلا بأن يتراجع، ويعبر الحارة مرة أخرى بظهر السيارة. أتذكر جيدًا أنه كان غارقًا في العرق ووجهه يتفصد لا يعرف كيف يواجه تلك المعضلة. المعجزة أن ذلك الرجل الذي لم يتعلم القيادة نجح في العودة بظهر السيارة كل تلك المسافة دون أن تصاب الفولكس بخدشة واحدة!

تجربة «الحياة»

وبعد سنوات، وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي تزاملنا في تجربة قصيرة مرة أخرى، وكنت أنا قد نقلت سكني من الوراق إلى شبرا، واقتصرت لقاءاتنا على المقاهي، لكنني حظيتُ بمشاركته بعد ذلك في السفر إلى المغرب وربما العراق وإسبانيا لحضور مؤتمرات أو لقاءات أدبية. وعندما عمل أصلان في القسم الثقافي بجريدة الحياة اللندنية (وهي واحدة من أهم التجارب الصحفية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وكان تمويلها السخي يسمح لها باختيار كتابها وصحفييها وموضوعاتها، وقد أصدرت ملحقين أسبوعيين؛ أحدهما ثقافي وهو آفاق، والثاني فكري باسم تيارات، وأظن أنها كانت تنشر أثمن وأرفع المقالات والتحليلات في الصحافة العربية).

جمال الجمل

وبسبب احتياج هذين الملحقين للمواد المختلفة قرر مكتب القاهرة أن يستعين بثلاثة محررين ينسّق معهم أصلان ويشرف على المادة المرسلة. الثلاثة هم الصحفيان جمال الجمل ووائل عبدالفتاح وكاتب هذه السطور. كانت خبرة ثمينة أعتز بها، وتجربة ذات تأثير شديد من الزاوية الصحفية، أي المهنية، ولا سيما أنني كنت أعمل آنذاك محررًا في أخبار الأدب في بداياتها. وهناك سبب آخر لا يقل أهمية، وهو استمرار علاقتي المنتظمة والمستمرة بإبراهيم أصلان الذي كانت أعماله القليلة تُنشر تباعًا. ولا بد أن أشير هنا إلى أنه ظل كريمًا معي في إعارتي كتبه، وكان لا يزال مولعًا بالبحث والتنقيب عن الكتب المستعملة عالية القيمة. لم تستمر تجربة العمل في الحياة طويلًا ولا أتذكر السبب، إلا أنه تقرر أن نعمل منفردين وليس ضمن فريق منتظم.

أصلان كما عرفته

ومع ذلك توالت لقاءاتنا وكنت شديد الحرص على علاقتنا، فهو واحد من أكثر من عرفتهم خفة دم وابن نكتة مصري وابن بلد لا يشق له غبار. خبرته بالكتابة شخصية إلى أبعد الحدود، وكان بعيدًا من المقولات الجاهزة والأحكام القطعية والتشبث بالرأي، وفي الوقت نفسه لم يكن مولعًا بالظهور والانتشار. كان أيضًا معروفًا بتجنبه للمصالح الصغيرة وعطايا المؤسسة الرسمية من دون أن يكون هناك داعٍ للاصطدام بها… يكفيه تجنبها والابتعاد من مرماها. للكتابة عنده مكانة ويكاد يقدسها.

أما علاقته بالكتابة، فقد تأخرت قليلًا، حيث نشر قصته الأولى عام 1965م، وإن كانت علاقته بالقراءة قد بدأت قبل ذلك بالطبع. نشر منذ البداية في مجلات وصحف ذات مستوى مرموق مثل مجلة «المجلة» و«مواقف» وغيرهما، إلا أن مبادرة المجلة الطليعية «جاليري 68» بنشر ملف خاص به لفتت إليه الأنظار بقوة. الملف -وهو الوحيد من نوعه الذي نشرته المجلة- كان يضم ثلاث قصص جديدة له ودراستين نقديتين، ولذلك عندما صدرت مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء» عام 1971م كان أصلان وجهًا معروفًا نسبيًّا، واستقبلت تلك المجوعة استقبالًا مذهلًا، وكتبت حولها عشرات المقالات والتعليقات.

كانت المجموعة حدثًا أدبيًّا فريدًا وتستحق الإشادة بها؛ بسبب تبنيها للتجديد والحداثة، كما ضمت عددًا من القصص التي كانت بذرة جنينية لكثير من أعماله الروائية اللاحقة مثل: قصة «بحيرة المساء» التي خرجت منها روايتي «مالك الحزين» و«عصافير النيل»، ومثل قصة «الطواف» التي خرجت منها روايته الأخيرة التي صدرت بعد رحيله «صديق قديم جدًّا». وتوالت أعماله الأدبية. بعد رحيله جُمعت زواياه الصغيرة التي كان ينشرها في الأهرام بعد ثورة 25 يناير 2011م في كتاب «انطباعات صغيرة حول حادث كبير»، والمفاجأة أن الأسرة اكتشفت أنه كان قد انتهى من روايته «صديق قديم جدًّا» وبادرت بنشرها عام 2015م، لكن المؤسف أنه كان على حاسوبه رواية أخرى فُقدت بسبب خطأ تقني لم يكن هناك سبيل لإصلاحه على الرغم من الاستعانة بمتخصصين.

هذا العالم الصغير

وفي كل تلك الأعمال كتب أصلان عن عالمه الصغير ولم يكد يغيّره تقريبًا، ومع كل ذلك الضيق، إن صحّت المفردة، شكّلت تلك الأعمال عالمًا بالغ الرحابة. كتب أحد عشر كتابًا فقط: أربع مجموعات قصصية، وأربع روايات، وثلاثة نصوص سردية، شكّلت معًا واحدة من التجارب السردية الكبرى. وإذا كانت مجموعته الأولى «بحيرة المساء» قد لفتت إليه الأنظار إلا أنه داخَله الخوف والتردد، وأمضى أربعة عشر عامًا قبل أن ينشر روايته الأولى.

مجموعة «بحيرة المساء» هي معطف أصلان، ومنها خرجت أعماله التالية التي تكاد تنحصر الحركة فيها بين إمبابة حيث عاش، وبين وسط البلد حيث عمل، سواء في البريد أو التلغراف. في «مالك الحزين» مثلًا تدور الأحداث في ليلة واحدة تنتهي بإتمام خديعة تاجر الفراخ، واستيلائه على المقهى وحرمان كل الذين تحولت القهوة لديهم إلى مكان لممارسة الحياة وليس مجرد تناول القهوة.

رواية تتصف ببناء فني خفي يتيح لها أن تتدفق على مهل بشخصيات عديدة تقطع حواري الكيت كات، وتلتقي في قهوة عبدالله آناء الليل وأطراف النهار. رواية ترصد انهيار عالم وقيام عالم آخر على أنقاضه بكل قسوة وفظاظة.

سأكتب كلمات قليلة عن بعض أعماله كأمثلة بسبب المساحة. روايته القصيرة «وردية ليل» ذات البناء الساحر، تتكون من مشاهد متتابعة ليلية بين التلغرافات المرسلة والواردة، وجميع تلك المشاهد المتفرقة تشكّل في النهاية جسم الرواية القصيرة المكتنزة. و«عصافير النيل» هي رواية المصاير والنهايات لساكني إمبابة والكيت كات النازحين من الريف. خطاياهم ومباذلهم وجسارتهم وانحيازهم لقيم جرى التخلي عنها بكل فظاظة، بينما «عصافير النيل» تحلق باحثة عن غذائها.

أما «صديق قديم جدًّا» التي عُثِرَ عليها ونُشِرَت بعد رحيله، فهي بالغة العذوبة وتليق بأن تكون آخر كلمات كتبها أصلان. فيها يعود إلى الصبا الباكر، حيث الراوي يوزع الخطابات في البنايات الفخمة، ثم ينتقل إلى الأرياف حيث يركب الدراجة بين القرى يسلم الخطابات أيضًا، ويعود ليحضر حفلات الكريسماس التي يقيمها خدم السادة مستغلين سفرهم خارج البلاد، يرتدون ملابس سادتهم، ويدخنون ويشربون مثلهم، ويمثلون التمثيلية بكل جدية وانضباط، وبعد انتهاء السهرة، يخلعون ملابس السادة ويواصلون حياتهم منتظرين عودتهم.

السطور السابقة مجرد إشارات سريعة لعالم بالغ الثراء والعذوبة شيّده أصلان على مهل وفي تبتل وعكوف، عالم أخشى أن نفقده إن لم تُعد طباعة أعماله التي نفدت، والتي أتمنى أن تتاح للأجيال الجديدة.

عن طه حسين الذي لم يغادرنا… آخر أبناء العميد يروي الحكاية

عن طه حسين الذي لم يغادرنا… آخر أبناء العميد يروي الحكاية

صدر هذان الكتابان معًا، لا تفصل بينهما إلا أسابيع قليلة، على الرغم من أن ناشرهما ليس واحدًا. الأول «طه حسين.. ذكريات شخصية معه» عن منشورات سشات- 199 صفحة. والثاني «طه حسين الإنسان والمشروع» عن هيئة قصور الثقافة، 504 صفحات. وحسبما ذكر المؤلف الدكتور صبري حافظ، فقد ولد أحدهما من الآخر، في أثناء الكتابة نفسها. أما الدكتور صبري حافظ فهو أستاذ الأدب العربي في عدد من الجامعات الأوربية، وأصدر في رحلته الشاقة الطويلة 24 كتابًا بالعربية، و15 كتابًا بالإنجليزية، تشكل مشروعًا نقديًّا وفكريًّا وجد طريقه للتأثير الواسع في الجامعات العربية والأوربية، من خلال عمل حافظ المتواصل منذ سبعينيات القرن الماضي.

وإذا كان كتابه «طه حسين الإنسان والمشروع» يمثل صرحًا متينًا ومتماسكًا وشاملًا لمشروع طه حسين، فإن الكتاب الثاني يتضمن للمرة الأولى جانبًا من السيرة الذاتية لحافظ نفسه وعلاقته الشخصية بالعميد، فضلًا عن تفاصيل الصدمة الحضارية التي جرت له في بلاد الفرنجة، عندما غادر مصر وهو في الثلاثين من عمره، وألقى بنفسه في خضم ما زال يعيش فيه.

لا يقرأ حافظ ويحلل أعمال العميد الأدبية والفكرية فقط، بل يقرأ العصر الذي كان العميد أحد أهم صانعيه. معاركه الأدبية والفكرية التي خاضها على سبيل المثال، هي معارك مصر ذاتها في مواجهة التخلف والاحتلال والقصر. المعركة الأولى التي خاضها كانت مبكرة جدًّا عام 1926م، بعد صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» وتوابعها في الصحافة والبرلمان، وانحياز النيابة العمومية للحرية والعقل، وإصدار محمد بك نور، رئيس نيابة مصر، قراره بحفظ القضية المرفوعة على طه حسين بعد تحقيق كان أقرب للمناقشة والسجال العلمي والفكري رفيع المستوى.

مشروع الأمة

وهكذا ناقش حافظ وحلل مشروع طه حسين بوصفه مشروعًا «ينبع من تحكيم العقل وتوسيع المعرفة والانحياز للتنوير والاحتفاء بقيم العدل والحرية والتسامح الإنساني»، حسبما كتب. وهو في الواقع مشروع الأمة منذ اندلاع ثورة 1919م وما أعقبها من المعارك التي انتهت بدستور 1923م، وهو دستور لدولة مدنية ديمقراطية حقيقية للمرة الأولى في تاريخنا الحديث.

وهكذا قرأ حافظ حياة طه حسين وأعماله الأدبية ومعاركه الفكرية والأدوار التي أداها في دولاب الدولة، ومن بينها توليه مناصب جامعية عدة، فضلًا عن تولي الوزارة، وأولى عنايته للأدوار التي قامت بها الرجعية الدينية ضده منذ وقت مبكر سواء في الأزهر (البلاغ الأول المقدم ضد كتاب الشعر الجاهلي كان من أحد مشايخ الأزهر) أو في الصحافة، وأفسح المجال أيضًا للمعارك والاتهامات التي لم يتوقف من ادعوا أنهم يدافعون عن الإسلام عن توجيهها له، وخصصوا كتبًا بكاملها للهجوم عليه باسم الإسلام.. وصاغ من هذا وذاك سبيكة واحدة ضخمة أشبه بجدارية شاهقة لقرابة سبعين عامًا من التاريخ الحديث.

وهكذا أيضًا قرأ «الأيام» و«الشعر الجاهلي» وكُتب طه حسين الأخرى، مثل كتابه عن المتنبي وعن المعري و«مستقبل الثقافة في مصر» و«الفتنة الكبرى»، وغيرها، وأعاد أيضًا قراءة صحافة ذلك الزمان، ليس فقط الصحف التي رَأَسَ العميد تحريرها أو كتب فيها أو حتى أصدرها من نفقته، بل أيضًا الصحافة التي هاجمته بضراوة وقسوة.

أما الدور الذي أداه طه حسين في إنشاء جامعة الإسكندرية فقد فصّله حافظ، إلى جانب إنجازات أخرى، منها: مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية، التي أقرّها ويعود الفضل له في فرضها، وكذلك تأسيسه لمجلة الكاتب المصري التي تعد في حد ذاتها أحد إنجازات الثقافة والأدب الحديث، وسلسلة الترجمات التي ارتبطت بها وأصدرتها المجلة. وفي هذا السياق يرد حافظ على الأكاذيب الرخيصة التي اتهمت العميد بالعمالة للحركة الصهيونية.

ويختتم حافظ كتابه بالإشارة إلى قصة الحب «الخارقة» على حد تعبيره بين العميد وسوزان رفيقة حياته، معتمدًا بشكل أساسي على كتابها الجميل «معك» الذي يشكل إضافة لا غنى عنها لسردية طه حسين بكاملها، والرحلة الشاقة التي قطعاها معًا على مدى نصف قرن.

ملامح من سيرة جيل الستينيات

أما كتابه الثاني الذي صدر متزامنًا تقريبًا مع الكتاب الأول فهو «طه حسين.. ذكريات شخصية معه»، فيقترب للمرة الأولى من السيرة الذاتية لكاتبه، ومن الجيل الذي ينتمي إليه. أي يقترب من حياته الشخصية وسنوات التكوين في أواخر خمسينيات ثم ستينيات القرن الماضي ومسيرته العلمية والفكرية. تأخرت شهادة صبري حافظ كثيرًا، لكنه كتبها في نهاية الأمر، وأظن أنه آخر أبناء طه حسين الأحياء؛ لذلك تكتسب شهادته أهمية خاصة بالنسبة لجيل الستينيات وآبائه المباشرين.

تعرّف حافظ إلى القاهرة مبكرًا بعد حصوله على الثانوية العامة من قريته، حيث عمل ودرس في مدرسة الخدمة الاجتماعية في الوقت نفسه، وبدأ في تلمس العالم المحيط به، بعد أن استقل بحياته. توسعت قراءاته، وبدأ في التردد على المنتديات الثقافية، فكان من أوائل من ترددوا على ندوة نجيب محفوظ التي كان يعقدها في كازينو صفية حلمي المطل على ميدان الأوبرا، وندوة أخرى أو جلسة ثقافية في مقهى في الدقي كان يتصدرها الناقد أنور المعداوي، كما عرف طريقه لندوات أخرى كانت تعقد في نادي القصة ورابطة الأدب الحديث والجمعية الأدبية المصرية، إلى جانب تردده على مقهيين شهيرين للمثقفين هما ريش وإيزافيتش.

كان هناك جيل جديد يتشكل على الرغم من القبضة الناصرية، وكُتاب جدد يبحثون عن طريق جديد، ولم تكن ماكينات الدعاية الناصرية الضخمة قادرة على أن تطوي الجميع، والأصوات الجديدة في الشعر والقصة القصيرة والمسرح وجدت مكانًا لها على الرغم من السيطرة المطلقة على وسائل النشر كافة. فعلى سبيل المثال كان مؤسس الملحق الأدبي لجريدة المساء هو الراحل الكبير عبدالفتاح الجمل، وكان يدافع عن القيمة ويرفض نشر الغث بجانب السمين، وآمن بالكتابة الستينية، وأفسح المجال لهذا الجيل، وخرج من معطف المساء الأبنودي وأصلان ويحيى الطاهر وأمل دنقل وغيرهم من الكتاب البارزين، وكان صبري حافظ أحدهم، ونشر أولى مقالاته النقدية في ملحق المساء، إلى جانب مجلة الآداب اللبنانية واسعة الانتشار آنذاك، ومجلة المجلة التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي.

من جانب آخر، كان من بين زملائه في مدرسة الخدمة الاجتماعية عدد من الشباب الذين كانوا قد عرفوا طريقهم إلى الفكر الماركسي، وتطورت وتوثقت العلاقة بينه وبين صلاح عيسى وآخرين، وشكّلوا بعد ذلك تنظيم «وحدة الشيوعيين» الذي كان أقوى رد على مأساة الحل، بموجب القرارات الذاتية التي اتخذتها منظمات الحلقة الشيوعية الثانية بعد اعتقال دام لخمس سنوات في صحراء الواحات. لا مجال هنا لتناول مسألة أو مأساة الحل، لكنه كان قرارًا بالغ الخطأ ويراه بعضٌ جريمة، خصوصًا أنه ارتبط بما نادى به جانب منهم بدخول التنظيم الوحيد للسلطة فرادى -أي الاتحاد الاشتراكي آنذاك- وهو ما يعني تصفية الوجود المستقل والانتحار؛ لذلك كان تنظيم وحدة الشيوعيين رد اعتبار ومحاولة شجاعة لمواجهة التدهور. انضم للتنظيم عدد كبير من المثقفين والمشتغلين بالأدب مثل الأبنودي ويحيى الطاهر وغالب هلسا وسيد حجاب وصبري حافظ وصلاح عيسى وغيرهم، لكن التنظيم -حسبما أكد حافظ- كان أقرب لحلقة تشتغل بالفكر وساحة للنقاش، فلم يُصدر منشورات أو يشارك في أي عمل علني أو ما شابه، بل كانت له أهمية أخرى وحاسمة في دراسة المشروع الناصري، والتحرر من الأوهام التي نُسجت حوله. وظل حلقة فكرية حتى قُبِضَ على أعضائه وأمضوا شهورًا عدة، بين عامي 1966-1967م، في معتقل القلعة، ولم يُفرج عنهم إلا بعد تدخل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي زار مصر برفقة سيمون دي بوفوار، والتقى جمال عبدالناصر، وطلب منه وديًّا الإفراج عن هؤلاء الشباب الذين كانوا معروفين بوصفهم كتابًا وشعراء ونقادًا للأدب.

أين طه حسين؟!

حتى هذا الوقت لم يتخيل حافظ أنه سيلتقي طه حسين، وأن الأخير سيوجه له نصائح سيضعها في حسبانه، وأن المصادفات ستؤدي دورها، بحيث يتمكن من تنفيذ تلك النصائح في بلاد الفرنجة.

كيف حدث هذا إذن؟

كان حافظ قد عُيّن مختصًّا اجتماعيًّا بعد تخرجه، ثم انتقل للعمل موظفًا في «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب»، وتحديدًا في أمانته العامة، حيث تُعقد اجتماعات أكثر اللجان، ويتردد أبرز الكتاب والمثقفين. وبدت الفرصة تلوح للقاء طه حسين الذي يحضر الاجتماع السنوي لاختيار الفائزين بجوائز الدولة. وبالفعل بذل جهودًا مُضنية ليُنقل في أمانة اللجان ليكون قريبًا، غير أنه اعتُقل في أكتوبر 1966م، ولم يتح له حضور جلسة المجلس الأعلى في ذلك العام، ثم جاءت هزيمة 1967م التي ألغت الاجتماع لعامين ونصف العام، وبسبب حالة العميد الصحية، تقرر عقد الاجتماع في بيته. ومن المتعين حضور أحد موظفي الأمانة العامة الاجتماع لقراءة جدول الأعمال وتسجيل محضر الجلسة. هنا فقط أتيحت الفرصة للقاء طه حسين فلم يكن الموظف إلا صبري حافظ!

صبري حافظ

يستغرق حافظ صفحات عدة وهو يصف بتأنٍّ وإسهاب بيت العميد وحجرة مكتبه، حيث عُقد الاجتماع، واصطحاب زوجته له والسير به حتى مقعده، وسكرتيره فريد شحاتة القريب منه على الدوام. كما يصف وقائع الاجتماع، وكيف انفرد العميد بأمين المجلس صبري حافظ ويمليه المحضر بنفسه وهو الأمر الذي تكرر مرتين. وكان العميد قد لحظ أن بعض الحاضرين يعرفون حافظًا ويتبادلون معه الحديث فسأله لما انفرد به، على نحو أبوي، عن عمله. ولنا أن نتخيل سعادة صبري لما شعر به من اهتمام العميد الذي تبادل معه الحديث واستمع له باهتمام، فقد كان يريد التعرف إلى اهتمامات الشباب بعد أن علم أن حافظًا يمارس النقد والكتابة، وعلى الرغم من إرهاقه إلا أنه قال له في نهاية اللقاء: «في المرة القادمة تعال مبكرًا قليلًا قبل موعد الجلسة؛ لأنني أحب أن أسمع شيئًا عن مشاغلك واهتمامات جيلك من الشباب».

وفي خريف عام 1972م عُقد الاجتماع التالي، وأتيحت له فرصة ثمينة خصوصًا أنه لم ينس وصية العميد وحضر مبكرًا، وتضاعفت سعادته لما علم أن الرجل لم ينس أيضًا، وبدا وكأنهما عقدا معًا اتفاقًا لم ينسه أحدهما برغم مرور عام. طال الحديث قليلًا عن النشر وعن حرية التعبير والرقابة. وتطرق الحديث إلى المناهج التي يدرسها حافظ في معهد الفنون المسرحية الذي كان قد التحق بقسم النقد فيه. وأوصاه العميد بضرورة إتقان لغة أجنبية.

إلى بلاد الفرنجة

لم يكن حافظ يتخيل أن وصية العميد ستجد طريقها لأن تتحقق وأن يتقن الإنجليزية؛ بل يُدرّس بها في جامعات العالم وفي بلاد الفرنجة! كانت هناك سلسلة من المصادفات وما يشبه تصاريف القدر. من بينها مثلًا أن حافظًا كان قد نشر ببليوغرافيا للرواية في مصر، وأن هناك دارسًا مصريًّا للدكتوراه في أُكسفورد قرأها واعتمد عليها، وعندما حضر إلى القاهرة ليحصل على المادة التي يحتاجها في دراسته التقى حافظًا، وبالمصادفة أيضًا كانت جامعة لندن تعتزم تنظيم أول مؤتمر عن الأدب العربي الحديث، وتقرر دعوة حافظ لحضوره ممثلًا للجيل الجديد من النقاد. وهناك قرر مركز دراسات الشرق الأوسط دعوته لفصل دراسي، فخصصت له غرفة للإقامة وتناول الطعام، كما خُصّصَتْ قراءة له مع طلاب مبتدئين في أكسفورد لقراءة كتاب «الأيام» -وهنا يتدخل طه حسين مرة أخرى!- حيث وفّر هذا العمل مبلغًا إضافيًّا مكّنه من العمل المتأني، وفي النهاية حصل على منحة لدراسة الدكتوراه لثلاث سنوات.

يخصص حافظ بقية كتابه للحديث عن دراسته في إنجلترا وحصوله بالفعل على الدكتوراه، وعندما عاد رفضت الجامعة المصرية تعيينه بحجة أنه لم يحصل على مؤهله الجامعي من الجامعة، وهي حُجة بالغة التفاهة، والأغلب بالطبع أن هناك تدخلات أمنية جرت. لذلك عاد إلى أوربا ودرّس في عدد كبير من الجامعات الأوربية والعربية، كما أصدر في رحلته تلك عددًا من الأعمال التي تعد مراجع نقدية لا غنى عنها، فضلًا عن عشرات الدراسات النقدية المنشورة في دوريات لم يتسنَّ له الوقت بعد لجمعها في كتب.

وأخيرًا.. تلك هي رحلة صبري حافظ مع والده وأستاذه طه حسين، ورحلة طه حسين مع الفكر والأدب والحرية في مصر.تمنى لمن لم يقرأه بعد أن يبادر بهذا على الفور، منتهزًا فرصة صدور طبعة جديدة عن دار المعارف.