تداعيات الهروب من الحرب في «الرواية السوفييتية»
كثيرة هي الروايات التي تناولت موضوع الحرب، وتطرقت لتصوير بشاعتها وتداعياتها المختلفة، وأثرها في حياة الأفراد والجماعات. وتعد رواية «الحرب والسلام» لتولستوي أشهر الأعمال الفنية التي تناولت حروب نابليون بونابارت في أوربا وروسيا بالأخص، وتداعياتها الإنسانية العميقة، ومن أهم النصوص التي غاصت في كنه الإنسان وتفاعله مع أوضاع الحياة وتقلباتها في الحقبة القيصرية. تناول تولستوي في روايته لمحات من حياة الفارين من الحرب، غير أننا نجد في الأدب السوفييتي روايات تناولت نماذج من الجنود الفارين من ساحات المعارك، وما سببه فرارهم من آثار سلبية في أهاليهم وفي مصايرهم بشكل مفصل وعميق. ومن بين الروايات «السوفييتية» التي لفتت نظري بتناولها لموضوعة الهروب من الحرب وتداعياتها على الأفراد والجماعات، ثلاث روايات مهمة لكتاب «سوفييت» بارزين:
رواية «وجهًا لوجه» لجنكيز أيتماتوف، التي نشرها سنة 1958م في مجلة «أكتوبر»، ثم أعاد صياغتها ونشرها بعد ذلك في مجلة «قيرغستان الأدبية» العدد 3 سنة 1990م. ورواية «أرى الشمس» لنودار دومبادزه، الصادرة سنة 1960م. ورواية «عش وتذكر» لفالنتين راسبوتين، الصادرة سنة 1973م، وقد تُرجمت إلى اللغة العربية باسم الهارب.
فما الجامع بين الأعمال الثلاثة؟ وكيف صورت وضع الإنسان زمن الحرب؟ وما تداعيات الفرار من ساحة المعركة على شخصيات هذه الروايات؟ وما الرؤى التي تحملها هذه النصوص عن الإنسان الهارب وعن حالته النفسية؟ وما انعكاسات هذا الفرار على الشخصيات القريبة من «الهارب» ماديًّا ومعنويًّا؟ وكيف نجحت هذه الروايات في كشف دواخل الإنسان ومعاناته وهو تحت وطأة العار ووصمة الخذلان؟ هذه بعض الأسئلة التي فرضت ذاتها ونحن نقرأ هذه الأعمال الثلاثة، وهي أسئلة سنحاول الإجابة عنها قدر ما تتيحه هذه النصوص من إمكانات تحليلية وتأويلية.
وجهًا لوجه: الحس الإنساني وانتصار القيم
رواية «وجهًا لوجه» رائدة في تناول موضوعة «الهروب من الحرب». نرى عوالم أيتماتوف السردية تجري في قرية قرغيزية، مصورًا خصوصية هذه المنطقة من مناطق ما كان يسمى «الاتحاد السوفييتي»، ومهتمًّا بنقل ملامح من جمال البلاد وطبيعتها، وفي الآن ذاته مركزًا على جوهر المعاناة الإنسانية في مختلف تبدياتها بسبب الحرب. يعرض السارد أوجهًا عدة لمعاناة أهل القرية تحت وطأة الحرب، ومعاناة الهارب من الحرب وأسرته وهما يواجهان المجتمع، وما ينجم عن هذه المواجهة أو التلميح من إحساس فادح بالخزي والعار. ولعل هذه الأبعاد التي يتناولها أيتماتوف في روايته سنجد لها امتدادًا عند دومبادزه في «أرى الشمس»، وفي «الهارب/ عش وتذكر» لراسبوتين.
في رواية «وجهًا لوجه» تعمل البطلة «سيدا» وحماتها العجوز «بكسات»، بكل جهدهما، على أن يظل سر هرب «إسماعيل» مخفيًّا لا يعلم به إلا هما. وقد عانت «سيدا» كثيرًا من أجل الحفاظ على هذا السر، ومن أجل ألا يعرف أحد من أهل القرية بمكان اختفاء «إسماعيل».
ركز السارد على تصوير قلق الزوجة وخوفها المستمر من انكشاف السر، وبخاصة حينما كان يمر بها وبجارتها «طاطوي» ساعي البريد «كورمان»، أو يزورها قريب الأسرة ورئيس مجلس القرية/ الأيل «ميرزاقول» ليطمئن عليها وعلى العجوز «بكسات». وقد شك الرجل في أمرها، واستدعيت للحضور أمام المفوض الذي ألح في معرفة حقيقة هروب زوجها من الحرب، وهل تعرف عنه أخبارًا ما، غير أنها أصرت على إنكار معرفتها بمكان «إسماعيل» ومصيره. ولا يكتفي السارد بتصوير معاناة الشخصية من الخوف والقلق على زوجها فحسب، وإنما يمعن في تصوير معاناتها من تأنيب الضمير، وعدم الصدق، وممارسة الخداع والكذب، وبخاصة حينما تحضر في جلسات تأبين شهيد من شهداء الحرب، أو حينما تزور جارتها «طاطوي» التي أخفى عنها الأيل خبر موت زوجها حتى تتمكن من تربية أولادها ولا تتخاذل عن رعايتهم. كما يصور السارد شعور أهل الهارب بالخزي والذل في حضور الآخرين، يقول السارد مشخصًا حالة «سيدا»:
«ها هي تجلس في منزل ساقي البوزو، لا تجرؤ على رفع بصرها، كما لو كانت مذنبة أمام الجميع (…) جلست بعيدًا في الزاوية، وغطت فمها بمنديل، ملتزمة الصمت» (ص.32)
هذه حالة من حالات الشعور بالذنب، والإحساس بالعار في حضور الآخرين تعكس جانبًا مهمًّا من جوانب النفس الإنسانية، وتمثل بعدًا من أبعاد اشتغال رواية الحرب انطلاقًا من رصد تداعيات الهروب من الحرب على أهل الهارب، ووضعهم الاجتماعي، وحالاتهم النفسية المختلفة والمتناقضة. ومن جهة أخرى يهتم السارد بشخصية الهارب من الحرب مبديًا وجهة نظره في الحرب، وتعليل دافع فراره من ساحة المعركة. فها هو «إسماعيل» يقول: «إذا ذهبت ما الذي سيتغير؟ لن أتغلب على العدو بمفردي، وسيتدبرون الأمر من دوني» (ص.28)
بهذا المنطق المتخاذل يبرر «إسماعيل» فراره من ساحة المعركة ليختبئ في حقل القصب قريبًا من بيته، وليبرر عدم قدرته على فراق زوجته وأمه وقريته. ويمعن السارد في تصوير معاناة الهارب النفسية والبدنية. ولنأخذ على سبيل التمثيل رصد السارد للوضع المزري الذي تمر به الشخصية. بهذه الكيفية يصور السارد تحول شخصية «إسماعيل» الهارب من شخصية سوية تتسم بالطيبة والخُلق الحسن، كما كان عليه الأمر قبل الحرب، إلى شخصية قاسية شرسة فقدت حسها الإنساني بالتدريج، بسبب ألم الجوع وضراوته، وأثر العزلة والوحشة، وصعوبة العيش في البرية. ولعل هذه الظروف القاسية، إلى جانب فقدان أمه وعدم قدرته على المشاركة في جنازتها وطقوس العزاء المتبعة لدى أهل قريته، جعلت «إسماعيل» يتمرد ويكفر بقيم المجتمع، وهو ما دفعه ليُقدم على فعل شنيع اهتزت له القرية: ذبح بقرة جارتهم الأرملة «طاطوي»، وحرمان أطفالها من الحليب الذي ستدره عليهم.
وقد جعل هذا الحدث مجلس القرية في حالة استياء بالغة، واستنكار لهذا السلوك غير الإنساني البشع، وهو ما استدعى استنفارًا شاملًا بحثًا عن الجاني. وقد حدست «سيدا» أن زوجها هو السارق والمعتدي. وفعلًا حمل «إسماعيل» في أثناء زيارته الليلية كيسًا امتلأ بلحم بقرة «طاطوي» لها ولطفله. ولما واجهته «سيدا» بحقيقة بشاعة جريمته، وعدوانه، لم يُقر بفداحة ما قام به من فعل، ولم يُبدِ ندمه، بل عمل على تبريره بما يكشف عن تمرده على الأعراف الاجتماعية، وعن تزعزع إيمانه بالقيم الإنسانية، وهو ما جعل «سيدا» تحمل سلاح التحدي في وجهه منتصرة لقيم المجتمع وللأواصر الإنسانية التي ربطتها بجارتها «طاطوي» ردًّا على فقدان الإنسانية والرضى بالوحشية والعدمية، وكانت في طليعة الجنود الذين اقتحموا وكره في حقل القصب، وبخاصة بعد سقوط «ميرزاقول» وتعرضه لإصابة من طلق ناري رماه به «إسماعيل». وفي اللحظة التي كان الجنود يحذرونها من التقدم لاحتمالية تعرضها لطلق ناري مثلما تعرض له «ميرزاقول»، نراها تتقدم غاضبة مندفعة بعزيمة قوية. يقول السارد مصورًا
هذه اللحظة الدرامية:
«لم يعرف أنها سيدا السابقة؛ كانت امرأة أخرى غير مألوفة بالنسبة له: وقفت أمامه بلا خوف، تحمل ابنها بين ذراعيها؛ وفجأة بدت له أنها تقف عاليًا، عاليًا جدًّا، لا يمكن الوصول إليها في عظمتها الحزينة؛ بينما كان هو عاجزًا وبائسًا أمامها… ترنح إسماعيل، وألقى البندقية بقوة نحو الجنود المقتربين منه، رافعًا يديه للأعلى». (ص.161)
وبهذه النهاية التراجيدية والمواجهة بين الزوجين نرى كيف ستنهدم آمال «سيدا» في الحفاظ على أسرتها، وإنقاذ زوجها من المتابعة، وربما تعرضه للموت من خلال حكم عسكري بإعدامه، كما اغتيل حلمها في اللحاق بأخوال زوجها وأولادهم في الجبال بعيدًا من الحدود القرغيزية، وبعد عبور ممر «شاتكال»، وهو الحلم الذي طالما راودها واقتسمته رفقة حماتها الراحلة «بكسات» ووضعتا الخطط والاحتمالات لتحقيقه. وبهذه النهاية تصل الرواية إلى قمة تصوير الحس الإنساني، وانتصار قيم الخير والوفاء والمحبة الإنسانية بمفهومها الواسع على قيم الأثرة والأنانية والقسوة والتنكر لأعراف الرأفة والرحمة.
أرى الشمس: المأساة والسخرية واستحالة الغفران
ينسج الروائي الجورجي «نودار دومبادزه» في روايته «أرى الشمس» عالمًا متخيلًا يتميز بالحركية والغنى، وبامتزاج المأساة بحس ساخر لاذع. وهذه الرواية التي تجري، أيضًا، في قرية من قرى جورجيا تجعل من تداعيات الحرب وأثرها منطلقًا لتشكيل رؤى الشخصيات الروائية لما حولها وتفاعلها مع الحياة.
وإذا كانت رواية «جنكيز أيتماتوف» تحكي بضمير الغائب، وتجعل للسارد العارف قدرة على كشف دواخل شخصياته ورصد ما يجري حولها، فإننا نجد «نودار دومبادزه» في «أرى الشمس» يرصد ما يجري من منظور سارد/ «طفل» يحكي بضمير المتكلم عن ظروفه، وعن صديقته الأثيرة: «خاتيا» الفتاة الضريرة، وعن ظروف عمته معلمة القرية، وعن ظروف أهل قريته والقرى المجاورة لها.
في هذه الرواية نجد هاربًا آخر من الحرب يدعى «داتيكو»، وهو على صلة بالمعلمة «كيتو» عمة «سوسويا»/ الطفل: الشخصية المحورية في الرواية. وكانت «خاتيا» أول من أخبر العمة أنها سمعت صوت «داتيكو» عند الطاحونة، ولما أحست الفتاة بذهول العمة ووقوع الخبر ثقيلًا عليها، عادت فأنكرت أنها سمعت صوته، غير أن الأيام ستكشف أن الفتاة الكفيفة كانت صادقة، وكانت المواجهة بين «سوسويا» والعمة «كيتو» من جهة، وبين «داتيكو» من جهة ثانية لا تخلو من قسوة وسخرية، وهي لحظة درامية تصور نظرة المجتمع إلى الهارب ورفضه.
ومن خلال مشهد حواري درامي متصاعد (الرواية، ص. 32-33)، الذي سيتحول إلى مواجهة فعلية بين العمة و«سوسويا» من جهة، و«داتيكو» من جهة ثانية، يصور الروائي منطق الهارب من الحرب وتعدد العلل التي يلجأ إليها ليبرر جبنه وسر فراره، ولكن المجتمع الذي ينتمي إليه الهارب يرفض هذا السلوك ويدينه ويعده خذلانًا وجبنًا يوسم صاحبه بالنقص مدى الحياة، ومن ثم يُعَدّ عالة على أهله وأقربائه وسكان قريته.
تتتابع الصور التي تشخص بؤس الهارب وذله وحمله لعار الجبن والخذلان في هذه الرواية. نجد في رواية «أرى الشمس» تصويرًا دقيقًا لرفض أهل القرية لـ«داتيكو» الجبان الهارب من الحرب، ومواجهته بالسخرية والدعاء عليه، ورفضهم ذكر من مات من ذويهم أو أقربائهم في الحرب على لسانه. يقول السارد مصورًا مواجهة «داتيكو» بعض نساء القرية حين اقتحم طاحونة «بيغلار»، ومحاولته طحن ذرته قبل الآخرين عن طريق فرض قوته وتهديده، لكنه تعرض لسخرية النساء ودعائهن عليه. ويلخص المشهد الروائي مواقف أهل القرية من الهارب على لسان «ماترونا» التي تخاطب «داتيكو» قائلة: «نعم، مات، ولا أعرف حتى أين قبره، قبر ابني! لم يبق إلا قميصه الذي لا يجف من دموعي. ولكن أن يكون لي هذا القميص وحده خير لي من أن أرى ابني حيًّا، ولكن على شاكلتك! كيف تجسر على أن تذكر بلسانك القذر أسماء أبنائنا… وأرادت ماترونا أن تقول شيئًا آخر، إلا أنها لم تقدر، وانخرطت باكية بعد أن غطت
وجهها بيديها». (ص.107)
بهذه الشاكلة تختزن المواجهة السخرية، وبهذه الطريقة تنبثق الملهاة من رحم المأساة لتشخص رفض الهارب في المجتمع القروي وإدانته، ولتجسد عمق خذلانه وعاره. ولا نجد الرواية تقف عند مستوى السخرية من «داتيكو»، وإنما نلقى تصويرًا جليًّا لموقف أهل القرية منه والامتناع عن كل تعاون معه، كما نرى في موقف الطحان «بيغلار» الذي أبى طحن ذرة «داتيكو»، واضطراره إلى تعطيل الطاحونة حتى لا يقوم «داتيكو» بطحنها ليُشعره بمزيد من الذل والهوان؛ لأنه خان الوطن ورضي بالفرار من الحرب، ولأن الهارب لجأ إلى التهديد والقوة لمحاولة طحن ذرته، وأخذ حق الآخرين الذين سبقوه إلى الطاحونة من أجل طحن ذرتهم، والعودة إلى بيوتهم، وأسرهم مبكرًا. (ص.108-109)
تشترك الروايتان: «وجهًا لوجه» و«أرى الشمس» في تصوير حال الأرامل والأطفال، وخسة ونذالة الهارب الذي يحرم الصغار من غذائهم؛ فإذا كان «إسماعيل» قد ذبح بقرة جارته «طاطوي» وحرم أطفالها من الحليب الذي انتظروه طويلًا، فإن «داتيكو» كان يحلب معز أهل القرية ويستولي على النزر القليل من الغذاء المتبقي للعجائز والأطفال الصغار. ويصور «دومبادزه» هذه النذالة التي تميز الهاربين في مشاهد لا تخلو، بدورها، من سخرية أو كوميديا سوداء ترمي إلى رفض هذه الأفعال وإدانتها. (انظر على سبيل المثال: ص.62-63 وقبلهما ص.53)
ولا تقف السخرية عند حدود تصوير مواقف أهل القرية والشخصيات المحورية في الرواية من الهارب المدان، وإنما تمتد إلى إدانة الحرب ذاتها، والسخرية من وضع بعض الشخصيات وواقع حالها. وقد كان لمعتوه القرية «بيجان»، وسخريته المرة من «إديميكا» ومن ساعي البريد «كوتيا» (السكران دائمًا)، دور في مد الرواية بلمحات طريفة تضفي على السرد جوًّا من المرح وحسًّا ساخرًا، حوَّل النص من ثقل سرد الحرب إلى خفة الحياة وتشخيص مفارقاتها.
ومن خلال ما سبق يمكن القول: إن رواية «أرى الشمس» جعلت من موضوعة الهروب من الحرب إمكانًا سرديًّا يجلي موقف مجتمع القرية الجورجية من الهروب والفرار من ساحة المعركة، موظفة السخرية أسلوبًا في الإدانة والتصوير، مع انشغالها الواضح بالحس الإنساني وجعله البوصلة الأساس في تحقيق التفاهم، وإدراك هشاشة الكائن الإنساني وضعفه، ومن ثم ختمت أحداثها بتأكيد استحالة التسامح والغفران مع العنصر الشارد المدان «داتيكو» وصعوبة عودته إلى المجتمع، ورفعت من قيمة البطولة ورفض الخذلان، على الرغم من تصويرها لبعض جوانب هشاشة الإنسان وضعفه.
الهروب وذروة الحس المأساوي
في رواية «عش وتذكر» أو «الهارب» تجري الأحداث في قرية من قرى سيبيريا تقع على نهر «أنغارا»، اسمها «أتامانوفكا». وتبدأ الأحداث باختفاء فأس العجوز «ميخيتش غوسكوف» التي كان يخبئها تحت خشبة من خشب الأرضية جنب المدفأة الحجرية. وفي أثناء بحثه عن الفأس سيكتشف أن أشياء أخرى اختفت منها عدة «الاسكى» القديمة. وبذلك خمن أن اللص قدم من منطقة نائية وأنه لن يرى فأسه ثانية. علمت الكنة «ناستيونا» بالسرقة بعد عودتها من العمل، فحدست أن الغرباء لا يمكن أن يفكروا في رفع خشبة الأرضية، والمرور بالحمام لأخذ أشياء أخرى، ولهذا طافت بها هواجس جعلتها تعمل جهدها لكشف هوية السارق. وفعلًا عرفت أن المتسلل هو زوجها «أندري غوسكوف» الفار من الحرب، والجندي الذي ضاعت أخباره فجأة في صيف 1944م، ولم يظهر متخفيًا في ضواحي قريته إلا في شتاء سنة 1945م.
ومن هنا ستبدأ «ناستيونا» رحلة الرعب والخوف، والشعور بالعار والخذلان، وفي الوقت نفسه الإحساس بالفرح لعودة «الهارب». كما ستتسع دائرة الشكوك في «ناستيونا»، ومعاناتها داخل بيت زوجها وفي العمل وفي القرية. كان على الزوجة الوفية أن تداري عن زوجها وتخفي معرفتها بهروبه حتى تطوي عاره وتجنبه النعت بالجبن والخذلان، وكان عليها أن تساعده في محنة تستره ومعاناته من الجوع والبرد والخوف، وكل ما يتعرض له الهارب من الحرب من ذل وهوان. وفي الآن نفسه أن تحافظ على سرية علاقتها بالهارب، وحسن علاقتها بالآخرين في القرية. وقد كان «فالنتين راسبوتين» بارعًا في الغوص داخل نفسية بطلته وتناقض مشاعرها وتوزع أحاسيسها واضطراب أفكارها وخواطرها، بما يجعل المتلقي يحس بمدى فداحة فعل الهروب وآثاره المهولة في الشخصيات القريبة من الهارب، وبخاصة الزوجات.
وهكذا نرى الرواية تركز على شخصية «ناستيونا» في الأساس، تمامًا كما رأينا في رواية «وجهًا لوجه». لكن «راسبوتين» يمضي أبعد من الكاتبين السابقين في تشييد نص روائي درامي على إيقاع سردي هادئ. ومن خلال إثارة قضايا متنوعة تتصل بالحرب وتداعياتها على الإنسان. وهكذا نراه يصور حيرة «ناستيونا» وغرابة تصرفاتها، واتخاذها قرارات غير منطقية، وهي تواجه مجتمع قريتها، محاولة مداراة فضيحتها وزلة زوجها الهارب من الحرب.
تكشف مقاطع كثيرة من الرواية عن وضع ناستيونا القلق، وعن توترها، وسلوكها مسالك غريبة تثير ردود أفعال متباينة: ما بين رضا المفوض ورئيس التعاونية نسطور، واستغراب الحاضرين من أهل القرية. وهكذا نجدها تسعى إلى تبرير إقدامها على خطوة تبرعها بمال كثير بالشجاعة تارة، وبرغبة خفية في فدية زوجها الهارب بالسندات الحربية التي اشترتها بألفي روبل، وهي لا تملك هذه الأموال. وبهذه الشاكلة يرسم السارد أفقًا واسعًا لاحتمال تكرار مزالق «ناستيونا»، وانسياقها وراء مشاعر وأحاسيس غامضة ستحدد تراجيديا هذه الشخصية ونهايتها المأساوية. وبهذه الكيفية يُشكل الروائي أبعادًا أخرى في تصوير شخصية الزوجة، وهي تتفاعل مع الوضع الجديد الذي تجد نفسها أسيرة شرطه القسري. فإذا كانت بطلة «وجهًا لوجه» دارت فضيحتها وفضيحة زوجها، ولم تؤد ثمن هروب زوجها إلا في آخر الرواية، وهي تشهر البندقية في وجهه، فإن ناستيونا، تبدأ تراجيدية وضعها تتأسس منذ أن حل زوجها بالقرية، وأقام في الغابة القريبة بمنطقة «أندرييفسكويه»، في أحد الأكواخ المهجورة.
يمعن السارد في تصوير معاناة بقية شخصيات الرواية القريبين من «أندري»، وبخاصة والداه، كما يصور حالة أرامل القرية، وسكانها الآخرين، تمامًا كما رأينا في الروايتين السابقتين، ولكن المدار يظل مركزًا على الزوجين: «أندري» و«ناستيونا». ففي مشهد درامي من مشاهد الرواية (ص. 64) نرى كيف يوصي «أندري» «ناستيونا» بوالديه اللذين لن يستطيع الاقتراب منهما على الرغم من أنه قاب قوسين منهما. وبهذه الشاكلة نلمس كيف ينمي السارد صور السخط والاضطراب الوجداني والفكري في سرده الروائي مركزًا على الشخصيتين المحوريتين، لتبلغ المأساة ذروتها في نهاية الرواية تقريبًا. وتبدأ علامات هذه الذروة منذ أن حملت «ناستيونا» من زوجها الهارب، وعملت بكل جهودها أن تداري حبلها، وأن تكتم هواجسها وآلامها وآمالها عن كل من يحيط بها. وهكذا تزداد معاناتها، وتتطور علاقتها مع «أندري» ومع جميع من يحيط بها، في أفق يندر بالصراع والخلاف المستمرين.
وعبر الحوار العاصف بين «أندري» و«ناستيونا» يعري «فالنتين راسبوتين» إحساسات الهارب وطبيعة نظرته إلى المجتمع من حوله. وعبر هذه المواجهة نستشف مدى توجس الهارب من أقرب الناس إليه، وتفكيره في ذاته. وقد أمعن الكاتب في تصوير الحس المأساوي الذي كانت «ناستيونا» ضحيته الأولى. ويكشف أكثر من مقطع في النص مدى أنانية «أندري» وتفكيره المتمركز على الذات، وهو ما يعمق من الشعور المأساوي لدى زوجته. ترضى «ناستيونا» بكل ألوان الذل والعذاب من أجل زوجها لتداري فضيحته وذله وهوانه، لكنه على الرغم من كل تضحياتها ومعاناتها يصر على نعتها بالغدر والخيانة، وبذلك يزداد الحس المأساوي استغوارًا في نفس الشخصية حتى يدفعها إلى الانتحار.
من خلال ما سبق نتبين أن الحس المأساوي في رواية «الهارب» شكل محورًا أساسًا لبلورة الأحداث ولإبراز طبيعة العلاقة التي جمعت الزوجين «أندري» و«ناستيونا» إلى أن وصل إلى ذروته بافتضاح حمل الأخيرة بين سكان القرية، وتعرضها لمضايقات بعض سكان القرية، وبخاصة العجوز إينوكينتي إيفانوفيتش الذي كان عاملًا آخر من عوامل دفعها إلى رمي نفسها في نهر «أنغارا» وتخلصها بذلك من عارها ومخاوفها وخذلان زوجها لها ورضاه بذله من دون أن يحرك ساكنًا لإخراجها من مأزقها الاجتماعي ومعاناتها النفسية.
بناءً على كل ما سبق يمكن القول: إن رواية الهروب السوفييتية تناولت موضوعًا شائكًا من موضوعات الحرب وتداعياتها على الإنسان، واستطاعت عبر تصوير هذه النماذج المنتمية إلى بيئات مختلفة الوقوف عند عار الفرار من ساحة المعركة آثاره الفادحة في أقرب الناس إلى الهارب، وخصوصًا الزوجات والآباء والأقرباء الذين يتحملون تبعات نذالة الهارب وجبنه وأنانيته، من جهة. ومن جهة ثانية، يكونون ضحايا هذا الفعل الجبان وهذا التخاذل الإنساني في لحظة ضعف الهارب وتفكيره في حفظ بقائه.
وبهذه الكيفية نرى أن هذا النوع من الرواية بقدر ما يدين الهروب، فهو يقف عند بشاعة الحروب وتداعياتها المهولة على الأفراد والشعوب، وهو بذلك يختزن نوعًا من الرفض لهذه الممارسة الإنسانية مهما كانت دواعيها.