أسير القدس في السجون الإسرائيلية
في 24 نوفمبر الماضي، أفرجت إسرائيل عن 39 معتقلًا فلسطينيًّا (24 امرأة و15 طفلًا) كجزء من اتفاقية تبادل الأسرى مع حماس. 39 معتقلًا من بين 7000 سجين سياسي لا يزالون في السجون الإسرائيلية، من بينهم 62 امرأة و200 طفل، و2070 معتقلًا إداريًّا. في هذا السياق، من المهم التذكير بالدور الذي لعبه نظام السجون في المشروع الاستعماري الإسرائيلي: منذ عام 1967م، فقد سجن أكثر من ربع السكان الفلسطينيين لأسباب سياسية. وفي هذا الصدد، تأتي شهادة صلاح الحموري، الذي سجن ما يناهز عشر سنوات. في هذا السياق سجل المحامي الفلسطيني المقدسي، معاركه السياسية ضد النظام الاستعماري وسنوات احتجازه الطويلة في كتابه الصادر في 21 أغسطس 2023م.
ولد صلاح الحموري عام 1985م في القدس، وهو فرنسي-فلسطيني. أمضى أكثر من عشر سنوات في السجون الإسرائيلية، حيث أدانته محكمة عسكرية خطأً في البداية، ثم سُجن بموجب الاعتقال الإداري (بدون تهمة أو محاكمة). وفي ديسمبر/كانون الأول 2022م، وقعت الحكومة الإسرائيلية على أمر ترحيل صلاح الحموري إلى فرنسا، وهو ما يشكل سابقة مثيرة للقلق. في هذه القصة المؤثرة، يروي حياة السجناء الفلسطينيين في السجون ويسلط الضوء على أهمية التضامن الدولي.
رمز لمحنة جماعية
يشكل الشتات عن «الأرض الأصلية» الفلسطينية نقطة بداية السرد في هذه السيرة الذاتية، وهو النهج الذي دعمته المؤلفة أرميل لابوري سيفان، التي جمعت تصريحات صلاح الحموري بعد وصوله إلى فرنسا، في 18 ديسمبر 2022م. عقب طرد السلطات الإسرائيلية لهذا الأخير من مسقط رأسه القدس إلى فرنسا، في انتهاك صارخ للقانون الدولي. في تلك اللحظة، بات يعيش في المنفى تمامًا مثل ملايين الفلسطينيين منذ عام 1948م.
تقدم روايته سردًا صادمًا عن السجن كجزء من نظام المراقبة العسكرية والعقاب للفلسطينيين، ولكنه أيضًا يحكي عن الوضع المضطرب للسكان الفلسطينيين في القدس؛ إذ «يعتبرون أجانب» مقيمين «في مدينتهم، بدون جنسية»، «وثيقة هويتهم الوحيدة هي عبارة عن تصريح إقامة صادر عن السلطات الإسرائيلية التي يمكنها سحبه تحت ذرائع عديدة». وقد ألغيت تصاريح أكثر من 14643 فلسطينيًّا منذ عام 1967م، مع تسارع الاستيطان في القدس الشرقية. يستخدم إلغاء التصاريح كإجراءات عقابية ضد السكان الفلسطينيين في القدس، كما أن ذلك يخدم المعركة الديموغرافية التي تخوضها إسرائيل. وهكذا، يتذكر صلاح الحموري الهدف الإسرائيلي المتمثل في «جعل القدس مدينة إسرائيلية بنسبة 75٪ بحلول عام 2030م».
يقترح الراوي «سردًا في الزمن المضارع، ما دام من غير الممكن محو عشر سنوات قضاها في الاحتجاز، خاصة عندما نعلم أن رفاقه في الأسر لا يزالون في السجن». تكتب محررة الكتاب أرميل لابوري سيفان لاحقًا أن هذه ليست قصة اعتقال ونضال «بل هي كلمات إنسان لم يتوقف كفاحه والتزامه بحقوق الفلسطينيين، على الرغم من محاولات إسكاته».
«إن الاستجوابات والاعتقالات والنقل، كل شيء كان مصممًا بهدف التدمير النفسي للأسرى الفلسطينيين، فبمجرد إطلاق سراحهم، سيكونون مطيعين ويتوقفون عن النضال للمطالبة بحقوقهم. لكن هذه الحسابات كانت واهية سلفًا؛ لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي كانت مخطئة تمامًا. بالنسبة لي، كما هو الحال بالنسبة للعديد من رفاقي، أصبح السجن تحديًا: فكلما حاولوا إجباري على الانحناء، ركزت قوتي على البقاء مخلصًا لقناعاتي».
لا يمكن اختزال خبرة صلاح الحموري في مسيرته الفردية. إنه يمثل محنة جماعية، كما يتضح من نسيج السجن. كتاب «تاريخ السجن في فلسطين» بقلم ستيفاني لات عبدالله، الصادر لدى (بايار، 2021م)، اعتمد على تحقيق ميداني طويل، تصف فيه المؤرخة والسياسية، بطريقة مفصلة، كيف «يساهم نسيج السجن في خلق مساحة معلقة، وبهذه الطريقة تكون غير محددة وغير مؤكدة»، «نظام استثنائي دائم»، وكيف أن «المرور عبر السجن قد طبع التجارب الجماعية والتاريخ الفلسطيني» في سياق يجرم فيه «أي شكل من أشكال الالتزام السياسي، النضالي، النقابي، الوطني والمدني». وبناءً عليه فإن هذا النص يوضح الوجود الكلي لعالم السجون، في حين أن الاعتقالات والاستنطاقات قد تزايدت باستمرار منذ 7 أكتوبر.
السجون، من داخلها
يقتفي سرد صلاح الحموري التسلسل الزمني. كما تجري أحداثه وفق إيقاع السجن، والإفراج، والسجن من جديد، والانتقال من سجن إلى سجن آخر، إلى أن يصل إلى مرحلة الترحيل إلى فرنسا. وفي خضم ذلك يكشف صلاح عن الآليات المختلفة التي جعلته «هدفًا» للسلطات الإسرائيلية، والضغوط وأساليب الترهيب المختلفة. «لتبين الاستخبارات أنها لا تنسى، وأنها تعرف كل ما نقوم به»؛ بهدف تثبيط أي مقاومة سياسية. بعد إطلاق سراحه في عام 2011م، خضع صلاح الحموري لاعتقالات إدارية جديدة والعديد من الاستجوابات. هذه الإجراءات تسمح بالاحتفاظ بالسجناء طوال ستة أشهر قابلة للتجديد، من دون توجيه تهم إليهم، ومن دون أن يتمكن محاميهم من الاطلاع على ملفهم. يوضح صلاح أيضًا كيف استخدمت عائلته للضغط عليه وزوجته، إلزا الحموري، كانت تتوفر على تأشيرة عمل صادرة عن القنصلية، لكن الكيان الإسرائيلي طردها في عام 2016م.
تعرف صلاح حموري على عالم السجن في طفولته، عندما سجن عمه بسبب أنشطته السياسية خلال الانتفاضة الأولى. وقد سجن بدوره لأول مرة في عام 2001م، في أثناء الانتفاضة الثانية، عندما كان في السادسة عشرة من عمره فقط، بتهمة وضع ملصقات بمبادرة من اتحاد طلبة مدرسته الثانوية. ثم نفذت السلطات الإسرائيلية «حملات اعتقال واسعة النطاق»، و«قمعت أدنى عمل من أعمال المقاومة». خلال هذا السجن الذي دام خمسة أشهر، «أدرك أهمية الالتزام السياسي» بناءً على «المعرفة والحجج والتفكير». وبذلك أضحى السجن، الذي يعدّه الإسرائيليون أداة للقهر، مكانًا لتعزيز إرادة المقاومة. فواصل صلاح الحموري دراسته وفي الوقت نفسه تابع مشاركته في الحركات الطلابية، وهو ما أسفر عن مزيد من الاعتقالات.
من خلال اعتقالاته المختلفة في مراكز السجون: عوفر، المسكوفيت، هشارون، كتزيوت، ميغيدو، الرملة، في سجن بئر السبع، في مركز الحراسة المشددة في حضاريم، «السجن الأخير المصمم على نموذج السجون الأميركية»، ولكن أيضًا من ريمونيم، جلبوع وشطا، يروي صلاح الحموري تفاصيل عن السجون، من داخلها وعن آليات تنظيمها والاختلافات بينها.
كانت تشكل الاستجوابات وعمليات التحويل من سجن إلى سجن آخر «أساليب تعذيب يتعرض لها السجناء من أجل إنهاكهم جسديًّا ومعنويًّا». ثم يتابع روايته عن «لحظات الاكتئاب العظيمة» التي يمر بها السجناء، وكذلك كفاحهم من أجل الحصول على الحقوق، ولا سيما لجوؤهم إلى الإضراب عن الطعام، والأساليب البارعة لتجنب المراقبة، و«تنظيم الحياة الجماعية» من أجل «تحمل الاعتقال والتغلب على الوقت الذي يكاد يسحقهم».
يحتل القانون مكانة مركزية في رواية صلاح الحموري. فهو يقدم، من جهة، عناصر لفهم القانون العسكري الإسرائيلي، «قانون بلا عدالة» المطبق في الأراضي المحتلة، الذي يُعَدّ «عنصرًا أساسيًّا في النظام الاستعماري». والواقع أن «التشريع العسكري المطبق على السكان المحتلين يحكمه نظام قوانين الطوارئ الذي يجدده الكنيست الإسرائيلي كل عام منذ عام 1948م». من جهة أخرى، فإن كل شيء يقود السجناء إلى الاهتمام بالقانون من أجل «معرفة القانون الدولي وإتقانه» ومن أجل «تحديد شروط كفاحهم والمطالبة بشرعيته» بشكل صحيح. ومن هنا جاء إصراره ليصبح محاميًا، كما أن القانون كان يشكل المبدأ التوجيهي لروايته، والرابط بين داخل السجون وخارجها.
تمثل السجون مكانًا مهمًّا للتعلم، وبخاصة إذا توافرت مكتبات جماعية قد تكون سرية في بعض الأحيان ووسيلة للتعلم الذاتي، فتعلَّم التاريخ والأدب والقانون، كما عزز معرفته بالفرنسية أيضًا. عند إطلاق سراحه في عام 2011م، بدأ دورة في القانون في جامعة القدس في مدينة أبو ديس، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية المختلفة لمنعه، بما في ذلك القيود المفروضة على حقه في التنقل. أصبح أخيرًا محاميًا في عام 2015م ثم انضم إلى فريق منظمة الضمير غير الحكومية الفلسطينية.
وأخيرًا، فإن هذا النص يتميز بتقديمه شهادة حيّة عن التحولات المهمة التي حدثت في جغرافية القدس الشرقية منذ الانتفاضة الثانية ونتائجها على حرية تنقل الفلسطينيين. كما يستحضر صلاح الحموري الجدار الذي بدأ بناؤه في أثناء إقامته في السجن والذي يفصل حيه السكني، في ضاحية البارد، شمال القدس عن بقية المدينة: «لو لم يكن هناك، لكان منزلنا في الجهة المقابلة. كان علينا السير على طول الجدار، والذهاب إلى نقطة التفتيش لعبورها، ثم الرجوع مرة أخرى على الجانب الآخر للوصول إلى المنزل». وعلى الرغم من التجارب الموصوفة الصادمة، فإن السرد يتميز بتواضع وعزة نفس كبيرة، نبرته متواضعة وواضحة دائمًا، يشبه أيضًا نشيدًا وطنيًّا عن قوة التضامن الجماعي والدولي. وإذا لم يكن لدى صلاح الحموري «أوهام كثيرة حول الدبلوماسية الفرنسية» التي «تواصل معاملة إسرائيل كدولة فوق القانون الدولي»، فإنه يضع آماله في القانون الدولي والاعتراف بالظلم الذي ارتكب ضد الشعب الفلسطيني، ولا سيما أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي لها أهمية كبيرة، في حين أن ما يفوق 20 ألف مدني لقوا حتفهم تحت القنابل الإسرائيلية في غزة حتى الآن.
** صلاح الحموري / أسير القدس. سجين سياسي في فلسطين المحتلة. مقابلة مع أرميل لابوري سيفان. منشورات ليبرتاليا، 144 ص. 2023م