بواسطة شرين أبو النجا | نوفمبر 1, 2017 | الملف
مشكلة النسوية في العالم العربي أن لا أحد يعرفها، لكن الكل سمع عنها وأكمل ما سمعه ببعض التصورات الزائفة والهواجس النظرية. النسوية هي نظرية وأيديولوجية تسعى إلى مداواة اختلال ميزان القوى في العلاقات بين الجنسين، وفي رؤية المجتمع -أفرادًا وأنظمة- إلى موقع النساء على المستويات كافة.
النسوية فكر في الأساس لا بد أن ينعكس على المنظومة السلوكية للجنسين، لكنه فكر لم يتمكن من التغلغل في المؤسسة العربية، إلا إذا اعتبرنا وجوده في الأوراق الأكاديمية وجودًا. العالم العربي يخاف النسوية، لنقل بشكل أدق: إنه يكرهها، ويراها منتجًا غربيًّا، لا يتوانى رجال الدين عن توجيه كثير من التهم له، ولا يتوانى رجل عن الاستهزاء به -لأنه يخافه- ولا يتردد صناع الكاريكاتير في تحويله لمادة طريفة. المشكلة في كل هذه الأطراف أنهم صاغوا أفكارهم بناء على الثقافة السمعية المشوهة، ولا أحد يريد أن يتنازل عن ممتلكاته في الساحة. دائمًا ما يظهر أي خطاب نسوي في العالم العربي وهو مغلف بنبرة اعتذارية، من قبيل «الرجل والمرأة يكملان بعضهما»، أو «المرأة نصف المجتمع» أو «لسنا ضد الرجال»… إلخ، من الصياغات التي تؤكد أن المتحدث لا يعرف ما هي النسوية.
النسوية نضال طويل بدأ من القرن التاسع عشر، وتعاظم في القرن العشرين في الإضراب الذي قادته العاملات في المصانع الروسية في فبراير 1917م. كنا نحن نئنّ تحت الاستعمار، أو نبحث عن الهوية المفقودة، وكان لا بد من مواجهة الاستعمار بتحجيم دور النساء، كما حدث مثلًا بعد استقلال الجزائر. في مواجهة مجتمعات وأنظمة تؤرقها النساء، فتسعى إلى إيجاد عقوبات ملائمة لهن -مثل جرائم الشرف أو الحبس في المجال الخاص أو الضرب- وتبذل جهودًا من أجل شرعنة هذه العقوبات وتقنينها تارة باسم العادات والتقاليد أو الهوية أو التراث أو الدين، لا مفر من اللجوء إلى الفكر النسوي الذي يحلل هذه الأوضاع المختلة ويتأمل في مبرراتها، وهذه الأخيرة تشكل خطاب مجتمعات كاملة: المبررات. لا تستطيع مجتمعاتنا تحمل النسوية لأنها أيديولوجية تكشف بصرامة ومن دون مواربة معنى تشكل الذات وتقسيم الأدوار، كما أنها -أي النسوية- تُغير من شكل المجال العام قسرًا، في حين ترغب كل المؤسسات في الإبقاء على الوضع القائم.
النسوية فلسفة تغيير في الرؤية للعالم وللنفس، وهو ما لا يحتمله المجتمع. أقصى ما يمكن أن يتحمله موضوع أو مؤتمر عن «أدب المرأة»، تمامًا كما نشير إلى «حقوق المرأة» أو «يوم المرأة» ولا نعرف عن أي امرأة نتحدث. يجري اختزال كل عناصر التحليل من طبقة وعرق ولون وموقع جغرافي وخلفية ثقافية لصالح جنس بيولوجي لا يضيف إلى التحليل، بل يضيف إلى قوة المؤسسة. لا تزال النسوية في العالم العربي حبيسة في بعض الجامعات، وهو ما يُشعر المؤسسة بالطمأنينة اعتمادًا على الفصل بين النظرية والممارسة العملية.
بواسطة شرين أبو النجا | مارس 16, 2016 | مقالات
إدوارد سعيد
ظلت النظرية النقدية الأدبية مطمئنة لشكلها وغاياتها وأدواتها كثيرًا، أو بالأحرى طويلًا، استكانت لشكل متماسك، مما يسمح للمعطيات بتقديم نتائج تُضفي معنى على النص وتقدم المفاتيح الملائمة لفك شفرته وقراءته من وجهات النظر كافة. فكان النقد الجديد (ريتشارد) الذي أصبح قديمًا، ثم البنيوية وما بعد البنيوية (التي اعتُبرت ثورة بحق)، فعملت معاولها في التقويض، وأقامت الدوال، وجعلت لها مدلولات، ثم قرأت النص نسويًّا وتاريخانيًّا وزمكانيًّا (ميخائيل باختين وكرنفاله الشهير)، ولم تتوان ما بعد البنيوية عن الرفع من شأن ثقافات المجتمعات التي تحررت من الاستعمار، فأصبح النص علامة مقاومة تُشكل خطابًا جديدًا على مهل يتراكم فوق طبقات المعرفة (ميشيل فوكو)، علامة بناء خارج سياق ثقافة المُستعمر وتعمل على خلخلتها في الوقت ذاته (إدوارد سعيد). أقام النص حدودًا فاصلة بين المُستعمِر والمُستعمَر، وسعى إلى تعزيز ثقافات (ثقافاتنا) كانت مسلوبة الصوت (جايا تريسبيفاك في مقالها الشهير «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»).
ثم أدركنا قيمة ما لدينا فوجد النقد الثقافي (لمؤسسه ستيوارت هال) طريقًا ممهدًا عندنا (عبدالله الغذامي). وهكذا امتزج نقد ما بعد الاستعمار مع النقد الثقافي مما فتح آفاقًا جديدة للرؤية، وحول الثقافة بكل مفرداتها إلى نص جديد، بل قام لفترة بإزاحة النص المكتوب من مركز الصدارة، ثم عادت الأمور إلى اتزانها المعهود بفضل الجوائز الممنوحة للعمل الروائي، والتي عادت لتُذكر النقاد أن الكتابة كوثيقة ثابتة لن تفقد أهميتها، وأن تلك الإزاحة لم تكن سوى فعل مؤقت من أجل التعبير عن تواضع زائف. وعاد الثقافي والإبداعي ليعيشا في هناء في الساحة النقدية نفسها، فالأدوات متشابهة والغاية واحدة: قراءة النص.
لكن هذا التصالح ما كان له أن يتنبأ بموجة هجرة غير مسبوقة، هجرة تبدأ بافتراض الموت لتكون الحياة هي الاستثناء، هجرة شهدناها بكل الأشكال الممكنة: الصورة، التوثيق السمعي والبصري، التصريحات السياسية، بيانات مناشدة، ومعسكرات في العالم الأول مُكدسة بمهاجرين من العالم الثالث يناشدون كل أطراف القوى المتورطة في «اللعبة» أن يمنحوهم حق الغذاء، حق الدواء، حق الاتقاء من البرد والحر، حق التعليم، حق الإنسان، حق اللجوء. يغادر هذا الإنسان أرضه (نقطة الانطلاق) ليصل إلى مكان آخر (نقطة وصول) ويخوض صراعًا طويلًا (قد يكلل بالنجاح أو الفشل) ليتحول بقناعة كاملة- والأمر خارج عن إرادته- من مواطن مقهور إلى لاجئ مشكوك في أمره.
ما بين نقطة المغادرة ونقطة الوصول تطرح الأسئلة نفسها من دون هوادة: هل هي هجرة القديم من أجل الجديد؟ أم هي هجرة العالم الثالث من أجل الأول؟ أم هو التوق الغريزي إلى اللحاق بالمُستعمِر من أجل محاكاته (فرانز فانون وهومي بابا)؟ هي بالطبع هجرة اضطرارية، ولا مجال للتعامل معها بوصفها عملًا إراديًّا، لكن السؤال يسعى إلى اكتشاف المسكوت عنه، الافتراض الأولي، ما يراه المهاجر بوصفه الحل الأمثل أو الأسلم، فيبدأ تلك الرحلة المميتة غير مبالٍ بحياته كاملة.
فما الذي حدث إذًا للنص الإبداعي الذي كانت مهمته البناء في مجتمعات ما بعد الاستعمار؟ يبدو أنه فقد قدرته على التأثير، أو أن النقد استسلم لتفسيرات مسالمة لا تشتبك مع الفعل السياسي، فيبقى الأدب والنقد منعزلين تمامًا عما حولهما، وهي المسألة التي قام إدوارد سعيد بتناول تجلياتها في عهد رونالد ريجان. أما السؤال الثاني، ماذا يفعل المهاجر في بلاد المستعمِر السابق، ذاك المستعمِر الذي قدم المهاجر حياته من أجل طرده من أرضه. بمعنى آخر، ما هو شكل اللقاء بين ثقافتين تقابلتا من قبل في سياق استعمار واحتلال؟ (ودعك من مسألة الترحيب واللافتات والغناء، فهذه كلها بضاعة للتسويق الإعلامي). في الأحداث الأخيرة التي وقعت مع نهاية العام، بدا واضحًا أن هناك صدامًا حقيقيًّا ليس على طريقة صراع الحضارات أو نهاية التاريخ، ولكنه صراع على الهوية الأقوى، وكأن الصراع تخلى مؤقتًا عن السلاح ليجعل من الهوية مدية مُشهرة في وجه الآخر. حرفيًّا هو صراع يُمكن ترجمته كالتالي: لن أكون مثلك؛ لأنني مختلف، وعليك أن تقبلني من دون أي محاولة للتفاوض.
انهارت كل نظريات ما بعد الاستعمار على عتبات نص التحرش الجماعي الذي وقع في ألمانيا، فلم يعد هناك مكان للمساحة الثالثة التي نادى بها الناقد هومي بابا والتي تعني الامتزاج –وليس الذوبان- ليصل كل طرف إلى الآخر في منطقة اللقاء، واختفت منطقة الهامش التي تعتمل فيها خطابات مختلفة تؤدي إلى تغيير المركز (فوكو)، وتداعت الهوية المرتحلة (دولوزو غاتاري)، وتم القضاء على إمكانية الخروج من الاستقطاب الثقافي الذي يسلب الرؤية أي موضوعية، بل يفقرها كثيرًا (إدوارد سعيد). انهارت النظرية التي لم تعد العدة ليوم كهذا ولأزمة مشابهة. فقد تم تقسيم العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان الكل قانعًا بموقعه الذي خططه له الاستعمار.
فما الذي قلب الموازين رأسًا على عقب؟ وما هو الإطار النظري الذي يُمكن توظيفه لقراءة هذا اللقاء العاصف بين المهاجر المستعمِر السابق؟ كان المفروض أن يؤدي اللقاء إلى تفاوض وإذ به يؤدي إلى رفض وإنكار، تزداد وطأته لصعود تيارات دينية يمينية متطرفة (إدارة التوحش)، وهو ما يجعل نظريات ما بعد الاستعمار شبيهة بمجموعة من المعلبات التي انتهت فترة صلاحيتها.
وكما حدثت الهجرة القسرية من المكان، لا بد من هجر النظرية، والعمل على إعادة قراءة معطيات القرن الحادي والعشرين: سياسات منهارة، هجرة جماعية قسرية، صدام بين الثقافات، توحش مُعلن على شاشات التليفزيون. لكن في هذه الأزمة علينا أن نعمل نحن (ضمير فضفاض بالكاد يعني أي شيء) على إنتاج النظرية ـ المعرفة التي يُمكنها أن تتناول هذا الوضع الحالي. فإذا انغمسنا في تفاصيل من وأين ولماذا سنجد أننا نعود مرة أخرى إلى ما فككه إدوارد سعيد في كتابة الشهير «الاستشراق»، الذي صدر عام 1979م! أي أننا سنعود إلى خطاب الدفاع عن الذات، ومحاولة إثبات تحضر الثقافة التي تنحدر منها في مواجهة آخر يرى ما يريد أن يراه (محمود درويش؟) وذلك على الرغم من أن التنميط الذي صنعه الغرب وهاجمه إدوارد سعيد بكل شراسة كان من صنع الغرب، وكذلك هي السياسات المنهارة التي فررنا منها، فهي من صنع الغرب وظلت في حمايته حتى آخر لحظة، فتمكنت النظرية من الازدهار هناك بكل طمأنينة.
هنا والآن، حيث تغيرت صورة العالم الذي كنا نعرفه، تتجلى أمامنا الفرصة لإعادة صياغة النظرية، ونقد النقد، وتقديم إنتاج معرفي فكري لا يتوه في كواليس من الأفضل، ومن أكثر تحررًا، ومن فعل ماذا، وهو عمل لا يمكن أن يكون فرديًّا، بل هو عمل ينبغي أن يعمل عليه النقاد والمفكرون شريطة أن يبتعدوا عن التوجهات الطائفية المذمومة والتيارات السياسية المتناحرة، فكل تلك تعمل على مصالح آنية بعكس النظرية التي تؤسس لرؤية ولطريقة قراءة لا تعود بنا إلى الخلف حين صدر الاستشراق عام 1979م.