بواسطة هدى الدغفق - الفيصل | مايو 2, 2017 | سينما
يعد عبدالله آل عياف من الأسماء التي برزت مؤخرًا في مجال السينما وصناعة الأفلام القصيرة في السعودية. أنجز آل عياف خمسة أفلام كانت من أفضل الأفلام التي أُنتجت في الخليج في الأعوام الأخيرة، هي: «السينما 500 كم»، و«إطار»، و«مطر»، و«عايش» و«ست عيون عمياء». في هذا الحوار مع «الفيصل» يتحدث آل عياف عن سمات السينمائي، ومستقبل السينما في السعودية، والصعوبات التي تواجهها.
لا تزال السينما في السعودية قائمة على محاولات فردية، وهي في الغالب من جيل الشباب؛ ما مستقبل هذه الجهود، وبخاصة أنها لا تجد الدعم؟
أتوقع استمرار تلك المحاولات الفردية في الظهور إن استمرت الحال تجاه الموقف من السينما على ما هي عليه، كما يتوقع أن يواصل السينمائيون السعوديون والسعوديات إبداعاتهم الفردية وحصولهم على جائزة هنا وحضور إعلامي هناك، إلا إن قامت الجهات الرسمية متمثلة في المجمع الملكي للفنون أو هيئة الترفيه أو وزارة الثقافة والإعلام بدعم واضح لهذه المحاولات، فالمتوقع أن تكون هنالك نقلة نوعية لحضور هؤلاء الشباب في المحافل الدولية والمحلية بما يليق بمكانة بلادنا، لكن ما أعرفه تمامًا سواء هناك دعم أو غاب فسيستمر هؤلاء السينمائيون في محاولاتهم لتقديم كل ما هو جميل.
من خلال الأدوار المنوطة للمجمع الملكي للفنون؛ هل تتوقعون أن يقوم بدور فعَّال في الأيام المقبلة وبخاصة مع نشوء هيئة الترفيه وتنظيم هيكلها؟
أجهل الأدوار المنوطة بالمجمع الملكي للفنون وكذلك هيئة الترفيه؛ لعدم وجود تفاصيل واضحة إزاء هاتين الجهتين، لكنني في المقابل أتوقع وأنتظر منهما الكثير مما يقدمانه من دور بحيث يكونان حاضنتين لكل المواهب الفنية في المملكة، وأن تكون جهة تدعم العروض والمعارض الفنية الثقافية وغيرها الكثير.
متى تتوقع أن يزاح الستار عن السينما وافتتاح صالاتها في السعودية؟
عندما صنعت أول فلم عام 2005م تلقيت سؤالًا من هذا النوع، وفي حديث مع البي بي سي قلت: أتوقع أن تبدأ السينما السعودية عصرها خلال عامين. وسألني أحدهم في عام 2007م السؤال ذاته، والآن وأنا أكثر نضجًا وواقعية وتفاؤلًا وثِقة أقول بأن السينما السعودية ستنطلق خلال العامين المقبلين. وأود التأكيد على رغبتي الشخصية في أن لا يربط موضوع صالات السينما بالسينمائي وكأنه لا توجد قضايا إلا صالات السينما. فليست صالات السينما بأهم من إيجاد مخرِجات ومخرِجين سعوديين، ليستخدموا هذه الأداة للأفلام والسينما فيما يخدم بلادي مستقبلًا.
كيف تنظر إلى المهرجانات السينمائية السعودية التي تقام مؤخرا بين عام وآخر، على الرغم من الموقف السلبي الظاهر من السينما؟ وماذا تقترح من رأي لاستمرارها في ظل الظروف الراهنة؟
فلتسمحي لي بداية أن أحيي روح أولئك الذين وقفوا وراء قيام تلك المهرجانات، سواء من المنظّمين أو المخرجين أو حتى الجمهور الذي حضر وتفاعل مع تجاربنا في ظل ظروف عدم قبولها. وبرأيي أن تلك المهرجانات لن تصل إلى المستوى المأمول إلا بتقديم المساعدات من تسهيلات لها كمثل الدعم المالي الكبير لترتقي مع المهرجانات في الدول المجاورة، وهذا الدعم تقدمه الدولة وجهاتها الرسمية مثل وزارة الثقافة والإعلام، أو الجهات المعنية مثل المجمع الملكي للفنون وما على شاكلته، أو حتى من القطاع الخاص الذي مع الأسف فإنني أرى أنه لا يقدم أي دعم، كما في دول العالم المتقدمة. وكذلك لا بد من الاحتفاء والدعم والمؤازرة الإعلامية الجادة للسينما بوصفها رافدًا ثقافيًّا مهمًّا لأي بلد. وأن لا تموت الظاهرة بمجرد إقفال المهرجانات أبوابها، بل أن تؤخذ هذا التظاهرة بعين الاعتبار، وتستثمر بتنقل هذه العروض إلى جميع مدن المملكة. فما الذي يمنع أن نأخذ أفضل العروض التي أقيمت في مهرجان الدمام مثلًا ونعرضها في حائل وتبوك وهكذا. كما أعتقد أن عرض بعض الأفلام الجيدة في التلفزيون السعودي لاحقًا، ودعم أصحابها بمقابل مادي لقاء هذه العروض، قد يسهم في دعم هؤلاء المبدعين في تقديم أفلام أفضل إنتاجيًّا لاحقًا. كما أن اختيار بعض الأفلام الجيدة للمشاركة في بعض المحافل داخل المملكة وخارجها يظهر على الأقل مدى احتفاء الدولة وفخرها بأولئك المبدعين والاعتراف بهم بعد سنوات طويلة من مقاطعتهم.
هل يمكن تحديد مواصفات معينة ينبغي توافرها في السينمائي السعودي الناجح؟
في نظري لا بد أن يكون مثقفًا وقارئًا ومطلعًا على ما يستجد سواء في مجاله السينمائي أو في علمي النفس والاجتماع ومختلف المجالات، ويزداد وعيًا بما يحدث من حوله، وينبغي أن يكون حساسًا يلتقط أدق التفاصيل والخلجات الإنسانية والمواقف المعبرة التي نشاهدها لتغير فينا وتغيرنا للأفضل، وأن يكون سفيرًا نموذجيًّا لوطنه داخله وخارجه كذلك، وأن لا يهتم لأضواء الإعلام وبخاصة الإعلام الخارجي الذي يتصيد ربما في أمثاله لاستغلاله في الإثارة الصحافية وحسب. السينمائي السعودي الناجح هو من يضع هدفًا نبيلًا أمامه ويحاول الوصول إلى الهدف رغم كل المعوقات التي تصادفه وتنال من جهده.
كيف يمكن للسينما إحداث تغيير في الواقع الاجتماعي السعودي وفي موقفه الحالي من السينما؟
أتحفظ شخصيًّا عن هذا السؤال؛ لأن هناك فرضية تروج بأن السعوديين ضد السينما وأنهم لا يشاهدون الأفلام، فخلال صناعة فلمي الأول «السينما 500 كيلومتر» 2005م قابلت مدير السينما في البحرين وقال: إن 90 في المئة من الجمهور في البحرين في مواسم الأعياد والإجازات من السعودية، دليل آخر يتضح من خلال تلك القنوات المدفوعة مثل: الشو تايم وأوربت سابقًا وغيرهما أكثر جمهورها المتابعين لأفلامها سعوديون. ذلك دليل قاطع وواضح على أن السعوديين يتابعون الأفلام. السينما أضحت على قائمة اهتمامات وبرامج أي أسرة سعودية تسافر إلى الخارج. مما سبق أعتقد بأننا لا نحتاج إلى أن نُقنع من لا يحبذ السينما. أعود إلى مغزى سؤالكم لأقول: بإمكاننا أن نقنع من لا يحب السينما بعرض بعض الأفلام الجذابة التي يمكن أن تجعله يغيّر قناعاته، أفلام تقدم فيها السينما قيمًا إنسانية رفيعة دينية تتوافق مع مبادئ ديننا الإسلامي وقيمنا العربية وعاداتنا السعودية، وأثق بأنهم إذا شاهدوا عددًا من تلك الأفلام سيدركون أن السينما مجرد أداة إذا استخدمت في الخير ففيها الخير العميم، وأما إذا استخدمت في ترويج صور الشر فبالتأكيد أنها ستكون مؤثرة سلبيًّا.
بواسطة هدى الدغفق - الفيصل | مارس 1, 2017 | الملف
لا يحضر مترو الرياض في النقاشات العامة، سوى بصفته فضاء يمكن للمرأة أن تقتحمه، المرأة بكل ما تعنيه من أسئلة وقضايا دائمًا ما تثير الجدل. لا يعني مترو الرياض، في أحد وجوهه، سوى ثنائية المرأة والسائق، المرأة والعمل؛ إذ ينتظر أن يلج المجتمع السعودي إلى فضاء يشتبك بأمور عديدة، اجتماعية واقتصادية وثقافية، منها ما يخص العلاقة مع الآخر، سواء كان هذا الآخر المرأة، أم الأجنبي، أم الآخر «الجواني» الذي يعيش في داخلنا.
من ناحية، لكل منا تصوراته التي يحملها في ذاكرته عن المترو تبعًا لما تصوره لنا الأفلام الغربية وتجارب السفر بشكل خاص، فحينما يخوض أحدنا تجربته الأولى مع المترو يشعر كأن خارطة العالم وجغرافيته تداخلتا في رأسه، وكأنه يعيد تنظيمها من خلال المترو. فكيف لجامد أن يخلق كل هذه الفوضى في الذهن.
كثير من الأسئلة تحوم حول المترو، منها: كيف سيتحول هذا الشكل من شيئيته وجموده الآن، إلى مؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية في الرياض؟ هل نأمل في أن تتقلص تأثيرات الطابع الأسمنتي في نفوسنا وأذواقنا وعلاقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن لا نعرف؟ كيف سيؤثر المترو في تقييم الوقت لدى مستخدميه؟ ما العادات التي ستتولد مع المترو؟ ما الذي سيختفي منا؟ كيف ستكون علاقاتنا وأصواتنا وطريقة كلامنا ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو على الأقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟
هنا أكاديميات وكاتبات وأديبات يسردن لـ«الفيصل» حكاياتهن مع المترو في خارج السعودية، ويقترحن جملة من النصائح استعدادًا للاندماج في لحظة ستغير ما قبلها.
حنان بنت جابر الحارثي: ثقافة المترو
قبل الإجابة عما نتوقع ونأمل في أن يتحقق في مشروع قطار الرياض، أودّ الإفصاح عن تجربة شخصية حول استخدام المترو وثقافته الحضارية في اليابان، الشعب الذي يتلاقى مع العادات العربية الإسلامية في كثير من العادات والتقاليد، أكثر من أي شعب آخر. ففي اليابان يعد القطار رمز حضارة، ومنهج ثقافة، وقاعدة اقتصادية ذات أهمية بالغة في الحياة اليومية للمواطن والمقيم في اليابان؛ حيث تعد وسيلة المواصلات الأولى في اليابان. والدليل على أهمية المترو أن هناك نحو تسعة ملايين نسمة تستخدم المترو يوميًّا في طوكيو وحدها، وهذا لا يضم رحلات القطارات السريعة التي تربط المدن الأخرى في اليابان. وبشكل عام، فالمترو هو وسيلة المواصلات للجميع إلى المدارس، والجامعات، والأسواق، والأماكن العامة، والدوائر الحكومية، ويقتصر استخدام البدائل على فئة قليلة جدًّا، أو من يضطر إلى ذلك من سكان القرى التي لا تربطها شبكات المترو. ولا أنسى هنا أن أذكر أن هناك عربات مخصصة للنساء ومجهزة بأحدث كاميرات المتابعة، بالإضافة إلى أجهزة مراقبة للمعوَّقين لمعرفة محطة الوصول للمعوَّق حتى يجد شخصًا في انتظاره لمساعدته.
وانطلاقًا من الثقافة الإسلامية التي هي أساس لمجتمعنا؛ فأتوقع أن يبرز مترو الرياض أولًا وقبل كل شيء حسن الاستخدام، وتوظيف هذه الخدمة الراقية التوظيف الأمثل لقضاء حاجاتنا اليومية، وذلك على غرار ما يقوم به شعب ثالث أكبر اقتصاد في العالم (اليابانيون). وتجدر الإشارة إلى ضرورة تكثيف الإعلام لنشر ثقافة استخدام المترو والاستفادة منه كوسيلة سهلة، واقتصادية، وآمنة، وحضارية، مع التركيز على صور من واقع مترو اليابان.
وفِي ضوء انتقاء محطات التوقف، يمكن القول: بأن مترو الرياض سيكون له أثر إيجابي إذا ما تم الإعداد لاستخدامه في ضوء ما ذكر سلفًا. وهنا سيكون أمام المواطن السعودي والمقيم المجال للإفصاح عن ثقافة مميزة ومتناغمة مع رؤية ٢٠٣٠م، وقد تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الثقافة المنشودة، وتساعد على تطبيعها على أرض الواقع. وأؤكد أن الإعداد لبناء الثقافة المنشودة، وتفعيل الاستفادة سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية من خلال قنوات الإعلام المختلفة هي ما سيحدد معالم نجاح مترو الرياض ومدى الإقبال عليه، أخذًا في الحسبان التوعية عن وسائل السلامة والأمن، وكذلك الخصوصية التي تعد من أهم ركائز المترو.
أكاديمية سعودية
منى المالكي: الحمل والذئب المفترس
مترو الرياض حدث مهم في حياتنا لأنه تجربة جديدة في التنقل، وكل تجربة جديدة تحمل في داخلها الدهشة والانبهار وإن كان أغلبنا قد مارس في سفرياته المتعددة تجربة ركوب المترو، ولكن ما نحن أمامه الآن هو «مترو الرياض» ولذلك يستوجب الحدث تفاعلًا اجتماعيًّا مختلفًا؛ لأن البيئة ستحاول صبغه بصبغة اجتماعية، ولكن مع التحولات المجتمعية والثقافية التي نعيشها أتصور أن مترو الرياض سيكون محركًا وفاعلًا في إحداث تغيير ثقافي في مفهوم التنقل والحركة والتواصل بين البشر، فالكل أمام بعض، وستختفي إلى حد كبير تلك العزلة التي تخلقها مقاعد السيارة!
وبما أن حركة المرأة مقيدة ولا تستطيع قيادة السيارة، فسيكون المترو أكثر أمنًا وأوفر اقتصاديًّا، كما أتوقع أن المرأة هي من ستدفع تذكرة المترو وبالتالي ستعطيه زخمًا اقتصاديًّا كما يحدث الآن مع شركتي «كريم» و«أوبر».
وجود الرجل والمرأة في ذات المكان لمدة زمنية مختلفة كل يوم سيكسر حاجز الوهم بفكرة الحمل والذئب المفترس، تلك الثنائية المريعة التي روج لها خطاب وعظي بارد لا يرى في الحياة غير جسد المرأة وفتنته! والواقع اليوم سواءٌ في مجالات العمل المشتركة بين الرجال والنساء أو في الدراسة في الخارج أثبت أن هذا الرأي الجائر في علاقة المرأة بالرجل خطأ يجب تصحيحه، وأزعم أن مترو الرياض بجانب الابتعاث، وفتح مجالات جديدة لعمل المرأة، والخطاب الإعلامي والديني المتوازن الواعي سيحقق تحولًا وتغيرًا اجتماعيًّا، يؤنسن العلاقة بين المرأة والرجل مرة أخرى بعد اختطافها زمن الغفوة.
كاتبة سعودية
أمل بنت الخيَّاط التميمي: مشهد الموت يلاحقني في كل مترو
سبقتني أختي إلى دبي بأسبوع وأوصتني بركوب المترو لنزهة أولادي، وقالت: احجزي البطاقة (الذهبية: VIP) حتى تستمتعي بالجلوس، لا تركبي في عربة العمال انتبهي. وصفت أختي رحلتها الماتعة إلى «دبي مول» وكيف نقلها المترو إلى مدينة الألعاب كيدزانيا بدون عناء الزحام، ووصفت جمال المنظر المشاهد من خلف الزجاج. شعور سابق لتحقيق متعة التنزه والمشاهدة في رحلة المترو، ولكن، أوّل ما أفسد علي المتعة، طول المسافة من الفندق إلى المحطة وأنا بكعب عالٍ، وقفنا ننتظر الحافلة في محطة الحافلات، حتى تنقلنا إلى محطة المترو؛ ولأننا لم نتعود على الانتظار، استأجرنا سيارة أجرة حتى تنقلنا إلى المحطة، قطعنا التذاكر، وخضنا التجربة بفرح، نقدم الخطوات نحو المركبة، دخلنا المركبة وإذا هي مركبة عادية ولم نرَ الرفاهية التي وُصفت لنا، همست في أذن زوجي هذه درجة VIP؟ قال ارجعي يبدو أن تذاكرنا في مركبة أخرى، خرجت ابنتي مناير، وأنا في المنتصف وحال بيني وبينها الباب، وأقفل بسرعة كالبرق، وبإحكام موصد وكأنه حاجز الموت الذي يخطف ولا يعود بما خطف.
خطف ابنتي وأنا تراجعت للخلف فلم أعلم ما مصيرها، كنت لا أرى سوى مشهد يديها ممتدة نحوي، وفم يصرخ ماما ماما، لا أعلم ما مصير ابنتي هل قطع يديها؟ هل فرمها؟ هل داس عليها؟ كل مشاهد الموت رأيتها، خطف الموت ابنتي، وخطفني المترو إلى عالم مجهول، وهنا بدأت دهشة المغامرة الخطيرة التي ارتكبناها، نصعد مركبة لا نعلم طريقة التعامل معها، وتسبب هذا الجهل لي بعقدة من هذه المركبة الخطيرة. ما كنت أعلم أنه بدون سائق، ويقفل الباب في ثوانٍ، ويقص الحديد، لم أتعود التعامل مع الجمادات الباردة، تعودت أتكلم وأجد من يرد علي، ولكنني أتعامل مع آلة بدون عقل يدرك صراخ أم تبكي تقفز تدق على الحديد والزجاج بكل قواها، ولا يستجيب لعواطفها، البشر الذين كانوا فيه جمادات مثله، أصبحت أصرخ بأكثر من لغة كي يفهمني من حولي، ابنتي دهسها فرمها قتلها خطفها، قف قف، قف، stop لا أحد يتجاوب مع قفزي وبكائي وركلاتي على الحديد.
فجأة ثلاثة شبان عرب يتحدثون بلهجة مغربية، أمسكوا بيدي محاولين تهدئتي، تجاوبت مع الإحساس البشري، وهم تفاعلوا مع صراخ الأم الفاقدة لكبدها، همس أحدهم قائلًا: لا تخافي بإذن الله إنها بخير سيقف في المحطة الأخرى ونُبلغ عنها، ثم نعود لها. سمعت الأمان في همس الشاب المغربي، وجمادات المترو لم يستجيبوا لصراخي، أيقنت أن من يركب المترو جماد لا يتجاوب مع البشر، نزلت المحطة بصحبة الشباب الثلاثة، دهشت من نفسي، لم أتوقع أنني بهذه اللياقة أركض الممرات، أجري على السلالم أقفز الحواجز، ربما كنت أسرع من المترو نفسه.
وجدت نفسي مع الشباب أمام بشر من موظفي المحطة يتجاوبون معي، سجلنا بلاغًا عن فقدان طفلة في محطة فندق البستان، كنت أتوقع أنهم سيخبرونني بأنه دهسها، وفجأة تأتي البشارة بأنها بخير. حمدت الله وبكيت من الفرح. عدت مع الشباب حيث ابنتي هناك، لا أعلم حينها اضطربت عندي المشاعر هل أبكي؟ هل أحضنها؟ هل أشكر الشباب؟ وجدت نفسي أسجد لله شاكرة، وأنثر على ابنتي الماء حتى تغادرها الفجعة، وبعدها التفت إلى الشباب، وجدتهم يبكون من هول الموقف، تأملت أعينهم، تفاعلوا معي، والمترو يحطم نفسيتنا بقسوته ويدوس مشاعرنا ويسير إلى دهس مشاعر أخرى، بلا مشاعر بلا أدنى مسؤولية أنه يؤلمنا.
سألت الشباب عن سبب ركوبهم هذه الآلة القاتلة، أجابوني بصوت واحد، قادمين نبحث عن وظيفة ولولا الحاجة ما ركبناه، ومن حسن الحظ كانت حقيبتي مزودة بالنقود، أصبحت أوزع عليهم النقود وهم يتمنعون، فقال أحدهم: ساقنا الله إليكِ، وساقكِ الله إلينا، سنأخذ المال لأننا لا نملكه، ولعلنا نوفق بوظيفة من دعواتك. شكرت الشباب، واستنشقت الهواء بعمق، غابوا عن نظري، وبعدما ارتحت، استرجعت المشاهد التي خضتها معهم وأنا أركض لإنقاذ ابنتي، وجدتها لقطات كأنني في فلم مثير يعرض في هوليوود.
كم من قصة مماثلة ستكون مع افتتاح مترو الرياض، ونحن شعب يجهل ثقافة المترو، شعب يجهل التعامل مع قصف الآلة، لن يركب هذه الآلة إلا المحتاج جدًّا إليها، وستتعبه أكثر من تعبه، هل يستوعب بلد عربي مثل هذه المشاهد المثيرة؟ لاحظت في الغرب حتى الحيوانات لها أماكن مخصصة في الباصات، فهل نحن مستعدون لهذه الثقافة بدون مشكلات؟ كم من القصص ستبقى في الذاكرة وكم ستموت؟ عن نفسي لن أكرر هذه التجربة ولن أقبلها على أولادي ومن أحب، بقي مشهد الموت يلاحقني في كل مترو أراه في أي مكان أذهب إليه، شبح الموت أراه في مترو السويد، ولم أركب هذه المركبة الجامدة، وكنت أتكبد مبالغ باهظة وأنا أركب سيارة الأجرة بديلًا منه، وحينما أرى المترو أريد أن أسترجع فقط مشهد نشامة وشهامة الشبان المغاربة العرب.
أكاديمية سعودية
الهنوف الدغيشم: سنعيد ضبط ساعاتنا
الهنوف الدغيشم
هل ستتغير ملامح الرياض؟ هل ستصبح هذه المدينة أقرب للإنسان وحكاياته؟ وهل سيخبو صوت منبهات السيارات؟ ويعلو صوت حكايات العابرين في جوانب المترو وهو يعبر هذه المدينة الضخمة؟ كيف سيتحول هذا الشكل الأسمنتي من شيئيته وجموديته الآن، إلى مؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية في الرياض قريبًا؟
هل نأمل أن تتقلص تأثيرات الطابع الأسمنتي على نفوسنا وأذواقنا وعلاقاتنا وتواصلنا مع من نعرف ومن لا نعرف؟ هل ستغيب عن أعيننا وذواتنا هذه الأشكال الأسمنتية وكسراتها وزواياها الحادة وأرصفتها وحواجزها؟ وهل سيختفي شعورنا بشيئيتها وجمودها؟ كيف ستكون علاقاتنا وأصواتنا وطريقة كلامنا ونظراتنا ونحن ندخل المحطات ونقطع التذاكر ونختار مقاعدنا ونسأل عن أي محطةٍ نقصد؟
هذه الأسئلة تنمو في رأسي في كل مرة أشاهد المترو وهو يتشكل بشكله الأسمنتي مخترقًا مدينة الرياض، محاولًا تجميع أطرافها.
أتخيل الرياض وهي تتغير وتتشكل مرات ومرات، ربما ببطء ومقاومة في البداية، لكن الروح الشابة لأهلها ستتقبل هذه التغيرات الثقافية والاجتماعية التي سيحملها المترو معه. في البداية، ستنبت كثير من الحكايات، ستتغير بوصلة الحديث في اجتماعات العائلة والأصدقاء نحو المترو، سنسمع حكايات لطيفة، وسنسمع أيضًا حكايات غير منطقية، وستستخدم هذه الحكايات للترويج أو للتنفير منه. مع الوقت.. ستخبو هذه الحكايات، سيصبح المترو من روتين الرياض، روتينها الطبيعي الذي لا يحمل كل هذه الاندهاشات، اندهاشات البداية. سنتآلف معه، سيصبح جزءًا مألوفًا وغير مدرك من حياتنا. أتخيل أن ثمة إقبالًا من طبقات مختلفة في المجتمع لتجربة المترو، أحد أسبابها الرغبة في تجربة الجديد، أو دفع ثمن الفوضى المرورية التي صاحبت إنشاءه، وتفادي الازدحام الذي أصبح طابعًا لمدينة الرياض، أو ربما عطشًا لمصادفة حكاية مع العابرين. كما أعتقد أن المرأة ستستخدمه أكثر في محاولة لمقاومة كل معوقات المواصلات لديها. نحن الذين اعتدنا دائمًا أن تكون مواعيدنا مفتوحة، أن نقول مثلًا «الموعد بعد صلاة العشاء»، وكم هو طويل وذائب هذا الوقت! فهل سيعلمنا المترو أن التأخير نصف دقيقة يعني تفويت الرحلة وانتظار ما بعدها؟ سيعلمنا المترو أن نعيد ضبط ساعاتنا وإدراكنا للوقت. سيعلمنا أكثر من ذلك، سيعلمنا كيف ننتظم في الدخول والخروج من المترو، سنتعلم كيف نقف عند باب المترو لنمنح الآخرين فرصة الخروج أولًا. مع التجربة، سيكون هناك رتم في حركتنا، وسيتحول المكان إلى نغم بين حركة الإنسان وحركة المترو، سيحمل هذا الرتم تأثيرًا في سلوك إنسان الرياض، سيصبح أكثر صبرًا، أكثر قدرة لضبط وقته، وأكثر مرونة في التعامل مع الآخر، فسيتحول المترو من شيئيته الجمودية إلى مؤثر في النمط الاجتماعي بأكمله.
ستحتوي المحطات بقالات ومحلات تبيع معروضات ومطاعم صغيرة، سينتظر الركاب في المقاهي، سيتحدثون من أين جاؤوا وإلى أين سيذهبون، سيسألون وسيتعارفون، سيحكون عن حياتهم وأطفالهم، سيبتسمون. لن يعودوا معزولين كما في سياراتهم الخاصة. سيؤثر المترو في علاقات الإنسان، ورؤيته للآخر، سيقترب الغريب عن الرياض من أهلها، هكذا أظن، وسيحمل في ذاكرته صورة متنوعة وقريبة من تفصيلات الحياة. الأسئلة لا تتوقف عن التبرعم في رأسي، فهل يمكن للعلاقة بين الرجل والمرأة مع الوقت أن تكون أقل تحفزًا؟ نسق الحياة في الرياض جعل هذه العلاقة في حالة توجس، وفي حالة تضاد دائمة. أتخيل أنه في البداية سيزداد توجس المرأة تجاه الرجل، ومع زيادة استخدام المترو، ستجد المرأة نفسها مضطرة بداية لأن تسأل عن اتجاه ما، عن مكان ما. وحينما ترى أن الأمر أكثر بساطة مما تظن، وأنه سيأخذ منحى إنسانيًّا عابرًا، سيذوب هذا التوجس، ستبدو العلاقة أكثر وضوحًا، أقل توجسًا. سيكسر المترو ما بناه الأسمنت، سيذيب جمودية العلاقات، فكبار السن سيظهرون في رتم الحياة، سيكونون جزءًا من الصورة، سنراهم أقرب للأجيال اليافعة، سيتحركون داخل المدينة دون اعتماد على أحد ما، سيجدون كثيرًا من الشباب والشابات المستعدين دائمًا لمساعدتهم، وسيشعرون أنهم أقرب للحياة. سيعتاد الأطفال أو الناشئون على هذا النوع من الحركة، وحينما يرونه منظمًا وآمنًا، سيسهل فيما بعد تنقلهم وحدهم، هذا ما أتمناه على الأقل.
ما الذي سيختفي منا؟ هل سيصبح هناك اندماج اجتماعي أكبر؟ أو على الأقل إدراك مجتمعي للطبقات المختلفة داخله؟ كل هذا محاولة تخيل وقراءة لتأثير المترو، ربما سيخلق مفاجآت لم يكن لنا توقعها ورصدها.
كاتبة سعودية
نوير العتيبي: أنسب كتاب اجتماعي
الرياض مدينة يضج فيها كل شيء إلا صوتها، مدينة مزدحمة بآلاف الحكايات المطمورة والمنسية والحياة المتكلفة التي سرقت طبيعتها كأنها، وفي لحظة تمدد خطوط سكك جديدة على صدر هذه المدينة ستقول: القطار سيخرج مفاهيم اجتماعية عديدة، وستلبسون لونًا حياتيًّا لم تعتادوه! فتلك المدينة التي تقسم كل شيء على اثنين اختارت أن تغير المعادلة وتلغي القسمة. وتتهيأ لخوض تجربة تضاف لسابق خطواتها في التغيير غير أن وسيلة النقل الجديدة ستترك أثرًا في الجانب الاجتماعي والإنساني.. إن الحركة الدائمة للإنسان وللبحث عن ضروريات الحياة جعلته يستخدم وسائل النقل التي تسهل له عملية الانتقال وبالطبع تشكل هذه الوسائل بجانب أهميتها عبئًا بيئيًّا ومشكلات حضرية، أبرزها الاختناقات المرورية والتلوث بكافة أشكاله؛ لهذا جاءت فكرة القطار في مدينتنا أبرز الحلول التي نتطلع لبدء تشغيلها. ولخوض تجربة مماثلة للدول السابقة في ذلك. فالتوسع العمراني هو الأصل، ووجود وسائل النقل كي تمكن أفراد المجتمع الواحد من التواصل فيما بينهم بعدما تعذر عليهم التواصل بالأقدام.
سيسهم القطار إلى حد كبير في إحداث التغيير الاجتماعي بين أفراد المجتمع عمومًا؛ إذ إن المترو سيقصده كل الفئات، وسيتاح بكلفة أقل مما هو متاح، ومن هنا ستكون عملية الاتصال الاجتماعي متاحة بشكل أكبر، إذ إن الممرات الطويلة والمقاعد المرصوصة ومحطات الانتظار ستضج بحياة مختلفة وتبادل معرفي، يلتقي فيها الفرد مختلف الفئات، ولن تكون التجربة مجردة ولو على سبيل التأمل لحركة الحياة. سيصبح المترو رافدًا ثقافيًّا ليتعرف المجتمع على كل فئاته دون الحواجز المتكلفة، ولعله يعيد الطبيعة الإنسانية كما هي صورها في كافة بلدان الجوار قبل البلدان المتقدمة. ومن المؤكد أن تلك الوسيلة ستنعكس على السلوك الاجتماعي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنه ستستجد قوانين اجتماعية تحكم هذا الفعل الاجتماعي (فعل التنقل)، وستنبت في محطاتنا الحكايات المخيفة قبل البدء وعند التجارب الأولى لتشغيله، وستشحذ العواطف الدينية كعادتنا عند أي تغير، وبعدها ستنسى تلك الحكايات حين يكون العقل في مقدمة كل قول ليدحض الحكايا التي تعوق التقدم وتمنع الحياة. فشبكات الخطوط الجديدة ربما تعيد شيئًا مما فقدته المدينة، وربما تمنحها آلية جديدة تتعاطى مع الحياة بشكل يذيب جمودها. يقول أدونيس: «إن المترو أنسب مكان تقرأ فيه كتاب علم النفس»، وأنا أقول: إنه سيكون أمتع كتاب اجتماعي ممكن أن تقرأه.. هو مترو الرياض.
شاعرة سعودية
أسماء الزهراني: ملايين الأحلام
تستيقظ لصلاة الفجر ولا تنام بعدها؛ لأنها إن أخذت غفوة استرخاء مهما كانت قصيرة فستفوت حضور عملها في موعده بين السابعة والثامنة، الموعد الذي تفوته مهما كانت دقيقة خروجها من المنزل، لأن العبرة في جدة والرياض، المدينتين اللتين تكبران كل ساعة، ليست بالتبكير بل باستحالة اللحاق بامتداد قطار السيارات الذي يضاف له عربات كل يوم ومزيد من التفافات الطرق للتحايل على الزحام!
وحيث لا يمكن لساكني هاتين المدينتين إنجاز أكثر من مهمة في اليوم، باحتساب الوقت الذي سيمضونه في الطرقات، فكم أريق على تلك الطرقات من أفكار ومشروعات كانت ستصنع فارقًا هائلًا. في هذا اليوم بالتحديد كان الطريق سلسًا بشكل لم تعهده، فهي لم تضطر للدخول في مسيرة سيارات واقفة، بل صعدت من إحدى محطات قطار الأنفاق، الذي لا يقطع مسيره تحويلات ولا حفريات ولا إشارات. وجدت نفسها مبكرة أكثر مما ينبغي في موقع الجلسات العلمية، حتى إنها شعرت ببعض القشعريرة! كانت السكينة تعم المكان فقررت أن تغير موعد خروجها في اليوم التالي! اليوم الذي لم تشعر فيه بحاجة لتعليق عينيها بالسائقين المتهورين، وتركيزها مع السائق لتنبيهه لمفاجآت الطريق كعين ثالثة! فقررت أن تقرأ شيئًا حتى الوصول لموعدها. في ذلك المقعد الهادئ قضت أيام الرحلة الأربعة تتأمل الملايين التي يحملها القطار يوميًّا ذهابًا وإيابًا، وتحلم بمقعد يشبهه في الرياض وجدة، وتحسب كم من الخطط والطموحات ستنجو، وكم من المشروعات ستتحقق بدون أن تجهضها هذه الطرقات التي تحمل كل يوم ملايين المواطنين مع ملايين الأحلام!!
عضو مجلس الشورى السعودي
أثير عبدالله النشمي: ليس حميمًا، كما توقعت!
كان هذا أول ما تبادر إلى ذهني في أولِ مرة صعدتُ فيها على متن المترو، كُنت دائمًا ما أتخيل المترو بشكل مُختلف، أنا القادمة من بلاد لا تتعاطى مع المواصلات العامة بعمومها، ما بالكم بمترو ينطلق بسرعة ثمانين كيلو مترًا في الساعة!
دائمًا ما كُنت أتخيل رائحة المترو أو القطارات، كُنت أتصور دائمًا أن لها رائحة تُشبه بشكل ما رائحة الكُتب، هكذا صورت لي الأفلام الأمر، أُناس يتشابهون بشكل ما، يتقاطعون بطريقة ما، يستقلون كبائن القطار ومقاعد المترو، يقضون الوقت في قراءة أدبيات كلاسيكية، يلتقي بعضهم مُصادفة من يُشبهه، يكتشفون أنهم توأم روح، يقعون في الغرام، يتزوجون وتُخلد الحكاية!
لكنه لم يكُن مثلما تخيلت على الإطلاق، لم يكُن يُشبه قطار فلم before sunrise ولم يكُن من عليه يُشبهون من كانوا عليه! كان أسرع مما كان من المفترض عليه أن يكون، ممتلئ بأناس مُختلفي الملامح والهيئات، أناس لا يتشابهون فيما يرتدون ولا في الطريقة التي كانوا يجلسون أو يقفون فيها، لم تجمعهم لغة، وأكاد أجزم بأن أعينهم لم تلتقِ أبدًا طوال تلك الرحلة، الشيء الوحيد الذي اتفق ركاب المترو عليه هو انشغال معظمهم بالأجهزة الإلكترونية التي كانت في أيدي الأغلبية، باختلاف أنواع تلك الأجهزة. كُنت وحدي من يُحملِق في ملامح الجميع، كُنت أتأمل ذلك الاعتياد على الوجود في مكان كهذا، كاعتيادي على أن أستكين خلف مقعد سائقي في الرياض، لم يكُن هُناك مُتوتر سواي، أنا التي كدت أتراجع عن اللحاق بالمترو خوفًا من أن يُغلق بابه عليّ فيطحن جسدي قبل رأسي!
شعرتُ بالخجل من خوفي، وشعرتُ بالخجل حينما تخيلت أن الباب فعلًا قد أغلق علي، وشعرتُ بالخجل كثيرًا حينما تأملت تأخري في المرور بمثل هذه التجربة. كُنت سعيدة جدًّا في اليوم الذي استقل أطفالي فيه المترو لأول مرة، تأملتُ طويلًا تلك الدهشة، وجدتُ أنها كانت تشبه دهشتي بشكل لا يُصدق عند استقلالي المترو لأول مرة، كُنا على القدر نفسه من الدهشة، على رغم فارق العمر الكبير عند استقلال كل منا المترو لأول مرة! كُنت ممتنة لتلك السرعة التي خطفت أنفاس أطفالي ونفسي أيضًا، لا لمُجرد أنها أدهشتنا وأضافت لنا تجربة مُختلفة لم يكُن ليتسنى لنا المرور بها في الوطن حينذاك، ولا لأنها وفرت علي كثيرًا من المال الذي كُنت سأنفقه مقابل سيارات الأجرة أو السيارات الخاصة التي كُنت سأستقلها في حالة عدمِ وجود المترو، بل لأنها جعلت تنقلاتنا أكثر سهولة وأوفر وقتًا مما كانت عليه، سيعي تمامًا معنى هذا الأمر وقيمته من هو مسؤول عن أطفال صغار في عُمر الملل والحركة. ممتنة أنا بأن أطفالي قد عاشوا هذه التجربة مُبكرًا، ممتنة أكثر لأنهم سيمرون بها كثيرًا بإذن الله في وطنهم، حتى يفقدوا دهشتهم حيال الأمر، وحتى يعتادوه مثلما كان يبدو على من كانوا يستقلون ذلك المترو في رحلاتنا الأولى عليه.
حينما نزل أطفالي من المترو لأول مرة قال لي ولدي الأكبر بخجل: «ماما، خفت يسكر علي الباب ويكسر رأسي». ابتسمت، تذكرت نفسي في أول رحلة على مترو الدهشة!
روائية سعودية
حنان الأحمدي: التحرر من الاتكال على الآخر
حنان الأحمدي
تجربتي الشخصية مع خدمات النقل العام في أميركا وأوربا التي تتميز بالجودة والدقة والانضباط ترتبط في ذهني بمعانٍ عديدة، أولها التحرر من الاعتماد على الآخرين في التنقل، والتحرر من ضغوط قيادة السيارة في ساعات الذروة، والإحساس بالتمكين في مباشرة أموري وأعمالي بنفسي، وهو شعور مختلف كان يعني لي الكثير كشابة حديثة التخرج من الجامعة، لم تألف حتى هذه الدرجة البسيطة من الاستقلالية.
المجتمع السعودي اليوم يشهد حراكًا كبيرًا من الشباب والشابات الساعين للاعتماد على النفس لتحقيق أحلامهم من خلال تأسيس مشروعات خاصة، أو القيام بأعمال غير تقليدية، وبخاصة في ظل تغير الظروف الاقتصادية وشح فرص العمل؛ لذلك سيمكنهم توافر مواصلات عامة من السعي نحو تحقيق أحلامهم وطرق أبواب الرزق. وأتوقع أن يألف المجتمع وجود النساء في وسائل النقل العام بعد أن توسعت مجالات عمل المرأة لتشمل الأسواق والمجمعات التجارية والعيادات والبنوك ومؤسسات القطاع الخاص، فلم يعد وجود المرأة في الفضاء العام أمرًا غير مألوف. ومع ذلك قد تظل بعض رواسب الثقافة التقليدية تمارس شيئًا من الفضول، وربما الوصاية على النساء، وهو ما يجعل المراحل الأولى لانطلاق مترو الرياض تمثل تحديًا كبيرًا للراغبات من النساء في استخدامه. وعلى صعيد الأسرة، فإن أبرز تغيير نتطلع لتحقيقه للأسرة السعودية من خلال توافر وسائل النقل العام هو التحرر من ثقافة الاعتماد على السائق الخاص التي فُرضت على كثير من الأسر؛ بسبب استحالة قيام رب الأسرة بالجمع بين عمله ومهمة توصيل جميع أفراد أسرته لمدارسهم وأعمالهم.
ومع ذلك لا أتوقع أن نصل قريبًا إلى مرحلة نفضل فيها استخدام وسائل النقل العام على المواصلات الخاصة، كما كنت أفعل خلال دراستي العليا في الولايات المتحدة الأميركية. إذ رغم امتلاكي لرخصة قيادة السيارة كنت أفضل استخدام وسائل النقل العام في التنقل من الجامعة وإليها بسبب سهولة استخدامها ونظافتها ودقة مواعيدها، وتوافرها في كل زاوية وشارع، وربما لأنها توفر لي فسحة خاصة من الوقت للتأمل أو الاسترخاء والقراءة أو الاستماع للموسيقا. لم يكن استخدام النقل العام محصورًا على فئة أو طبقة من الناس، لأن قلة مواقف السيارات في وسط المدينة، وازدحام الطرق يجعل الذهاب للعمل بسيارة خاصة مصدرًا للضغوط. ولا تنظر الثقافة السائدة في أميركا وفي بعض الدول الأوربية بدونية لمستخدمي النقل العام؛ لأنهم يمثلون غالبًا معظم شرائح المجتمع. لذلك فإن وجود خدمات نقل عام راقية وذات جودة عالية سيغير النظرة إليها وإلى مستخدميها بشكل جذري.
ويتمتع قائدو المركبات العامة هناك بصفات الحزم والمهنية العالية، ويتمكنون من ضبط الأمن والسلوك العام بكفاءة. وفي ظني لن تنجح وسائل النقل العام في اجتذاب الأسر السعودية أو الأفراد إلا بتوافر هذا الانضباط السلوكي الذي تفرضه ثقافة المواصلات العامة سواء في المحطات أو داخل المركبات. وبلا شك نحن نستطيع تحقيق الانضباط السلوكي نفسه في مترو الرياض من خلال توفير طاقم من العاملين على درجة من المهنية والحزم لترسيخ ثقافة المواصلات العامة وفرض أنظمة صارمة لاستخدامها. من جانب آخر فإنني أتطلع بشكل خاص لتوافر خدمات النقل العام المتميزة لتساعد على تمكين العديد من فئات المجتمع غير القادرة على الاعتماد على نفسها في توفير مواصلات خاصة، للمسنين والمعوقين والفئات محدودة الدخل. وفي ظني مع تزايد نسبة المسنين في المجتمع وما نشهده من استقلال الأبناء في بيوت خاصة، يجعل المسنين أكثر قدرة على الاستفادة من المواصلات العامة في التنقل لأغراض مختلفة، لقضاء الحاجات، أو مراجعة المستشفيات، أو لارتياد الأماكن العامة بدون الحاجة للانتظار لحين يتفرغ أحد الأبناء لمساعدتهم. ومن المهم أن تراعي مواصفات واشتراطات الحافلات والقطارات الاحتياجات الخاصة لبعض فئات المجتمع، وأن توفر مساحات للكراسي المتحركة وأحزمة الأمان، وسلالم متحركة لتسهيل دخول هذه الكراسي، وأن يُعطى أصحابها الأولوية في الجلوس في المقاعد الأمامية.
ومن المشاهد التي لا أنساها من خلال تجربتي الطويلة في استخدام هذه المواصلات في الخارج، مشهد شاب مصاب بشلل كامل ولا يستطيع تحريك إلا بعض أصابع يديه، يركب الحافلة يوميًّا للذهاب للنزهة أو لقضاء بعض احتياجاته معتمدًا على نفسه بشكل تام باستخدام كرسي كهربائي بمواصفات عالية. كان هذا الشاب يحرص على تبادل الحديث مع قائد المركبة أو مع الركاب كاسرًا بذلك كثيرًا من الحواجز النفسية والافتراضات الضمنية التي تعزز عزلة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمنع اندماجهم في المجتمع. وهذا قد يكون من المنجزات الاجتماعية البارزة لوسائل النقل العام فيما لو تمكنت من إيجاد مساحة آمنة لذوي الاحتياجات الخاصة لممارسة حياتهم بشكل طبيعي. الخلاصة هي أن بالإمكان أن تؤثر وسائل النقل العام في ثقافة المجتمع، وأن تؤدي لمزيد من التمكين والاستقلالية لمختلف فئاته، وأن تسهم في إحداث تغيير ثقافي ملموس، ولكن ذلك يتطلب ثقة المستفيدين بمنظومة النقل العام، وتوافر درجة عالية من الدقة والجودة والاعتمادية في خدماتها.
عضو مجلس الشورى السعودي
ليلى الأحيدب: نافذة أولى للنساء
الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض عملت بذكاء وبإستراتيجيات واضحة في هذا المشروع، فقد أشركت المجتمع في مترو الرياض مذ كان حبرًا على ورق، طلبت من المواطنين عبر مسابقة أطلقتها بعنوان «وش نسميها» أن يشاركوا في تسمية آلات الحفر السبع التي ستحفر الأنفاق وستؤسس لمترو الرياض، وضعت مواصفات معينة لهذه الأسماء، وهذه المسابقة اشترك فيها المواطنون من جميع أرجاء المملكة، وتم اختيار أسماء آلات الحفر وفقًا لاقتراحات المواطنين؛ ففي نهاية الأمر المواطنون هم من سمى الآلات بأسماء تعبر عنهم، وترتبط بذاكرتهم الجمعية؛ مثل: ذربة وسنعة وظفرة ومنيفة وجزلة وصاملة وثاقبة، جميل أن تؤنسن الهيئة الآلات وتربطها بوجدان المواطن وذاكرته، ولم تكتفِ الهيئة بذلك؛ بل عمدت إلى إشراك المواطنين في كل مرحلة تنجزها من هذا المشروع، فتوجه الدعوات لأصحاب الحي القريب ليحضروا شق نفق أو الانتهاء منه بإحدى هذه الآلات التي أسموها بأنفسهم.
إشراك الناس في التسمية وفي مراحل إنجاز مترو الرياض جعل مترو الرياض جزءًا مهمًّا من حياة الناس، فهو مشروع شاركوا فيه منذ البدء، وحضروا كل مرحلة تم إنجازها بطريقة جعلتهم يعرفون خطوات بنائه خطوة خطوة،، فقد تحول لمشروعهم هم لا الهيئة، إضافة إلى الرسائل الدعائية الموجودة في الشوارع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وهي رسائل ليست تقليدية، بل موجهة بذكاء بطريقة جديدة ومبتكرة.
هذا الاشتغال الذكي من هيئة تطوير الرياض على جعل مترو الرياض جزءًا من حياة سكان الرياض سيسهم لا شك في نجاح تشغيل المترو وإقبال الناس عليه.
مترو الرياض ملائم جدًّا لرؤية 2030م من النواحي كافة. وأعتقد جازمة أن مترو الرياض سيكون مشروعًا ناجحًا، وسيحظى بإقبال كبير من سكان العاصمة، وسيلمس الناس فائدته الاقتصادية، وبخاصة في ظل ارتفاع أسعار الوقود، فقد ملّ الناس من ازدحام الطرق وحوادث السيارات والتحويلات، وسيكون مترو الرياض نافذة أولى تغني النساء عن استخدام السائقين الذين استنفدوا ميزانيتهم. أنا مستبشرة بهذا المشروع، وأشكر هيئة تطوير مدينة الرياض على مهنيتها في العمل، فهي هيئة تعمل بحب وإخلاص وتجمِّل دائمًا وجه الرياض.
روائية سعودية
بواسطة هدى الدغفق - الفيصل | ديسمبر 27, 2016 | حوار, قضايا
أوضح الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية الدكتور عبدالعزيز السبيل أن إجراءات الترشيح والتحكيم والاختيار في الجائزة، تتم بكثير من الحذر والسرية والتجرد من الأهواء، مشيرًا إلى أن الترشيح للجائزة لا يقبل من الأفراد والأحزاب السياسية، إنما من الجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية، والمراكز البحثية. وقال السبيل في حوار لـلفيصل: إن الجائزة دشنت مرحلة مختلفة في تاريخها، مرحلة ميزها عقد علاقات ثقافية ومشاركات دولية للفائزين، شملت عددًا من العواصم العربية والعالمية. إلى نص الحوار:
● بتعيينك أمينًا عامًّا لجائزة الملك فيصل العالمية يتوقع المهتمون مرحلة جديدة تدشنونها، فما الجديد وما خططك للمستقبل؟
– من الخطط الجديدة التي تم الشروع في تنفيذها بعد إقرارها من هيئة الجائزة مجموعة أنشطة علمية ثقافية، حيث شرعت أمانة الجائزة في إقامة علاقات ثقافية مع عدد من الجهات ذات العلاقة. فعلى سبيل المثال، نظمت أمانة الجائزة بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية لقاء علميًّا تكريمًا للأستاذ الدكتور محمد عبدالمطلب، الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية (بالاشتراك) في فرع اللغة العربية والأدب، حضرها عدد من العلماء والأدباء والأكاديميين والمثقفين، في شهر إبريل 2016م. كما تم التعاون مع جامعة محمد الخامس في الرباط بالمملكة المغربية، ممثلة في كلية الآداب في إقامة حفل تكريمي للأستاذ الدكتور محمد مفتاح، الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية (بالاشتراك) في فرع اللغة العربية والأدب، في شهر نوفمبر 2016م. وهناك تعاون علمي بين أمانة الجائزة والجامعة القاسمية في إمارة الشارقة تمثل في محاضرة ألقاها الأستاذ الدكتور محمد عبدالمطلب في الجامعة القاسمية بعنوان «سطوة الشعر» وذلك في الخامس من ديسمبر 2016م في مقر الجامعة في مدينة الشارقة. وقامت أمانة الجائزة، بالتعاون مع مؤسسة عبدالحميد شومان، بتنظيم لقاء علمي لكل من الأستاذ الدكتور محمد عبدالمطلب والأستاذ الدكتور محمد مفتاح في مدينة عمان بالمملكة الأردنية في شهر نوفمبر 2016م.
يضاف إلى ذلك مشاركة الجائزة في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي أقامته منظمة اليونسكو في مقرها في باريس في الخامس عشر من ديسمبر 2016م، إذ شاركت الجائزة في إقامة ندوة علمية شارك فيها اثنان سبق أن فازا بالجائزة؛ وهما الأستاذ الدكتور رمزي بعلبكي، والأستاذ الدكتور محمد مفتاح، إضافة إلى الدكتور ماجد الحمد. وهناك أنشطة أخرى مستقبلية، منها خطة لإقامة لقاء علمي بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس. أما الفائزون بجائزة الطب وجائزة العلوم، فقد تم التنسيق مع عدد من المؤسسات والمراكز العلمية لتنظيم محاضرات ولقاءات علمية، في كل من مدينة براغ، وفي جنوب إفريقيا، وجامعة كمبريدج البريطانية، وجامعة هارفارد الأميركية.
الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية للدورة العشرين
استخدام التقنية في أعمال الجائزة
أحمد زويل
● جائزة الملك فيصل العالمية تكاد تكون الوحيدة في العالم العربي من ناحية توجهها إلى المبدعين في العالم أجمع، لكنها لا تحضر في الذاكرة سوى عند الإعلان عن الفائزين، أو في حفل توزيع الجائزة. ونحن اليوم في لحظة إعلامية بامتياز مع وسائل التواصل الاجتماعي والثورة في الإعلام المرئي، فهل ستفيد الجائزة من هذه اللحظة لإعادة صياغة حضورها الإعلامي؟
– لا شك أن الاتصال اليوم أصبح من أهم ضروريات الإنسان؛ فقد فرض نفسه بقوة بفضل التطور التقني المذهل، ولقربه من المتلقي ويسره، وارتباطه باحتياجات الإنسان من تعليم وتواصل وتنوير ودعاية، حيث نجد أن هذه الوسائل الحديثة مدت جسور الحوار الحضاري مع الثقافات الأخرى. والتعامل مع التقنيات الحديثة أصبح قضية ثقافية في المقام الأول، وهو ما تهدف إليه أمانة الجائزة، إذ إن هناك توجهًا إلى استخــــدام جميع التقنيات الحديثة في أعمـــال الجـــائزة عـــلمــــية كانــــــــت أو إعلامية؛ وهو ما سيجعل للجائزة حضورًا إعلاميًّا مستمرًّا. ولنا أمل كبير أن تصل رسالة الجائزة وسمعتها إلى مصاف قريناتها في العالم المتقدم.
● بعض الجوائز ذات القيمة المادية الكبرى، والتي تأسست في الأعوام الأخيرة، أصبح لها حضور وأجنحة في معارض الكتب العربية والدولية. فهــل سنرى شيئًا من هذا القبيل تقوم به جائزة الملك فيصل العالمية؟
– لا شك أن معارض الكتب لها أهمية كبيرة، وهي دلالة على الوعي يتتبعها المثقفون من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، وتعدها بعض الدول من مرتكزات القوة الناعمة في علاقاتها مع الشعوب من خلال الأنشطة الثقافية المتعددة المصاحبة لهذه المعارض، ومن هذا المنطلق فإن أمانة الجائزة على رغم حرصها على الحضور، فإنها تريد حضورًا فاعلًا ومؤثرًا، وتولي هذه المعارض وما يصاحبها من نشاط اهتمامًا كبيرًا من خلال العمل على مشاركة الجائزة في إقامة عدد من المحاضرات والندوات واللقاءات العلمية للفائزين بها في هذه المناسبات الثقافية عبر خريطة العالم العربي وخارجه.
● كثر اللغط عن لجان التحكيم داخل الجوائز العربية، من ناحية عدم جديتها في تحكيم الأعمال المقدمة للجوائز، ووقوعها في أخطاء علمية، مثل قبول كتب مسروقة، واضطرار بعض اللجان للاعتذار عن منح جوائز معينة وإعلان سحبها لأسباب مختلفة. انطلاقًا من ذلك، كيف تتعامل جائزة الملك فيصل العالمية مع مسألة لجان التحكيم؟
– إن إجراءات الترشيح والتحكيم والاختيار، على بساطتها، تنطوي على كثير من الحذر والسرية والتجرد من الأهواء، تلك أمور لا تتحقق إلا باليقظة الدائمة والعمل الصامت، والاعتماد على الثقات من الرجال. ولمزيد من الإيضاح يمكن ذكر المراحل التي تمر بها الترشيحات، إذ تتمثل في أربع مراحل:
الدكتور عبدالعزيز السبيل
أولًا- الترشيح: الترشيح للجائزة لا يقبل من الأفراد والأحزاب السياسية، إنما لا بد أن يكون الترشيح من الجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية، والمراكز البحثية، وهذا يعني أن هذه الجهات العلمية قد أخضعت مرشحيها للفحص العلمي، واقتنعت باستحقاقه الترشيح للجائزة.
ثانيًا- الخبراء: عند انتهاء المدة الزمنية المحددة للترشح، تقوم الأمانة العامة للجائزة بتعيين ثلاثة خبراء من ذوي الكفاءات العالية في تخصصهم، وذلك لدراسة الترشيحات، والتأكد من ارتباطها بموضوع الجائزة. ويتولى الخبراء اختيار أفضل المرشحين، بحيث يمثل هؤلاء القائمة القصيرة للمرشحين.
ثالثًا- الحكام: تتواصل الأمانة العامة مع الجامعات والمؤسسات العلمية من أجل ترشيح محكمين حسب موضوع الجائزة. وبعد التشاور مع الخبراء والمستشارين يتم اختيار ثلاثة محكمين، يقوم كل منهم بدراسة أعمال المرشحين في القائمــة القصيرة، وتقويمها وإعـــداد تقـــرير عن كل مــرشح. ويتضمـــن التقرير ترتيب أسماء المرشحين في ضوء استحقاقهم الجائزة، ويراعى في المحكمين تنوع جنسياتهم ومؤسساتهم الأكاديمية. وتكون درجتهم العلمية بمرتبة أستاذ.
رابعًا- لجان الاختيار: باستثناء جائزة خدمة الإسلام، يتم اختيار أعضاء لجان الاختيار من ذوي الاختصاص، يختارون لأشخاصهم بناء على ترشيح من الجامعات والمؤسسات العلمية ذات العلاقة. ويراعى في ذلك تنوع اختصاصاتهم وتوازنها، ولا تقل درجتهم العلمية عن مرتبة أستاذ. وتتمثل مهام لجان الاختيار في القيام بالاطلاع على أعمال المرشحين، والتقارير التي أعدها المحكمون عنهم، حيث تدرس اللجنة كل ذلك دراسة مستفيضة، وبعدهـــا تقـــرر اخــتيار فائـــز أو أكثـر بالجائزة، أو حجبها. وهذه اللجان تعمل بشكل مستقل ورأيها نهائي.
● في زمن مضى تبنت الجائزة في فرع اللغة العربية والأدب موضوعات لم تعد تلقى رواجًا أو اهتمامًا نشطًا، مــثل النــثــر في القــرن الثـــالث الهجـــــري، أو ما شابه ذلك، إذ لا يتجاوز المهتمون بهذا الموضوع بضعة مختصين. كيف يمكن للجائزة أن تختار موضوعات تشتبك براهن اللغة العربية وآدابها؟
– موضوع الجائزة يتم اختياره من لجنة الاختيار المكونة من عشرة أساتذة مختصين بفروع علوم اللغة العربية وآدابها. عند اختيار أعضاء اللجان ترسل لكل عضو قائمة بالموضوعات التي تم منح الجائزة فيها، ويطلب من العضو ترشيح ثلاثة موضوعات على الأقل. وعند اجتماع اللجان يتم دراسة الموضوعات المقترحة من جانب الأعضاء، ويطلب من اللجنة الخروج بثلاثة موضوعات. وقد كونت أمانة الجائزة هذا العام لجنة علمية من عدد من الأكاديميين تنظر في هذه الموضوعات، وتختار الموضوع. وجائزة اللغة العربية والأدب تتجه لتقدير المنجز الأكاديمي في أحد الموضوعات ذات الصلة باللغة العربية والأدب العربي، وتعمل الجائزة على تسليط الضوء على بعض الموضوعات الأدبية المعاصرة التي بُذِل فيها جهد كبير لكنها لم تحظ بتقدير علمي.
جائزتان تتوجهان إلى الإنسانية
● الجائزة مهتمة بالمجالات العلمية الدقيقة وتكرم المبدعين فيها، ولذلك حصد كثير من العلماء الذين فازوا بها جائزة نوبل بعدها. لكن المفارقة أن الجائزة تنطلق من منطقة عربية ليست نشطة علميًّا، ومع ذلك هي تحتفي بالرواد في مجالات علمية مرموقة، والذين هم أجانب في الأغلب، ترى متى تذهب هذه الجوائز التي باتت حكرًا على الأوربيين والأميركان وبلدان غير عربية أخرى، إلى علماء عرب؟
– تقصد في هذا السؤال جائزة الملك فيصل العالمية في فرع الطب وفرع العلوم. وهما جائزتان تتوجهان للإنسانية بعامة لأن منجزهما يهم البشرية، والجــائزة تهـــدف إلى تكريم العـــلم والعــلمــاء، بصـــرف النظـــر عن دينهــــم أو جنسهم. لكني أود التذكير بأن الجائزة لم تكن حكرًا على الغربيين؛ بل فاز بها علماء عرب، وإن كانوا يعملون في مراكز علمية خارج بلادهم، ويمكن أن أستشهد هنا ببعض العلماء العرب الذين فازوا بالجائزة، وإن حملوا جنسيات أخرى، فمثلًا في فرع الطب البروفيسورة فرانسوا باري سنوسي، الفرنسية الجنسية، ذات الأصل التونسي. وقد نالت الجائزة في موضوع نقص المناعة المكتسب «الإيدز» عام 1413هـ/1993م، ثم نالت جوائز كبيرة منها جائزة نوبل. أما في فرع العلوم فقد فاز بها السير مايكل عطية، البريطاني الجنسية، ذو الأصل اللبناني. وقد نالها في الرياضيات عام 1407هـ/ 1987م، والذي يُعدُّ أشهر عالم رياضيات في القرن العشرين. وقد منح أكثر من عشرين جائزة دكتوراه فخرية في العلوم، كما منح عدة جوائز مرموقة منها ميدالية أبيل (Abel Prize)، التي أنشئت للرياضيين خاصة عوضًا عن جائزة نوبل.
البروفيسور أحمد زويل، المصري الأصل، الأميركي الجنسية، الذي أدَّت إبداعاته تقانات مذهلة إلى تأسيس فرع جديد من فروع المعرفة هو كيمياء الفيمتو، وقد نال الجائزة عام 1409هـ/1989م في الفيزياء، كما منح أكثر من مئة جائزة وميدالية ووسام، ومن بين الجوائز التي نالها جائزة نوبل عام 1419هـ/1999م. والبروفيسور مصطفى عمرو السيد، المصري الأصل، الأميركي الجنسية، الذي نال الجائزة في الكيمياء عام 1410هـ/1990م. والبروفيسور سمير زكي الذي هو من أصل لبناني ويحمل الجنسية البريطانية، وقد نال الجائزة في علم الأحياء (البيولوجيا) عام 1424هـ/ 2004م. وجميع هؤلاء الفائزين تم ترشيحهم من مؤسسات وهيئات علمية، ومراكز بحثية غربية.
● جوائز الدورة الأخيرة من الجائزة غلب عليها المناصفة، هل ذهاب جائزة الفرع الواحد إلى اثنين خيار لا بد منه، علمًا أن بعضهم لا يحبذ المناصفة، ولا يرى فيها تساويًا في الأبحاث المرشحة من ناحية الأهمية، وقد تدل المناصفة على أن الأعمال لا ترقى إلى المستوى المطلوب، فيكون الفائز بحاجة إلى فائز رديف. فما رأيكم؟
– اختيار الفائز بالجائزة بالانفراد أو الاشتراك أو حجب الجائزة هو من مهام لجنة الاختيار، ولا تتدخل أمانة الجائزة في عمل اللجان، ولكن قد يكون السبب في اشتراك أكثر من فائز في جائزة واحدة نتيجة تقارب مستويات المرشحين، أو قناعة اللجان بعـــدم رقـــي واحد فقــط للانفـــراد بهــــــا، أو اختلاف في وجهات نظر أعضاء اللجان. وقد سبق أن اشترك ثلاثة فائزين في فرع واحد من أفرع الجائزة. وعليه أقول: إن الحكم في هذا هو للجنة الاختيار.
40 عامًا على انطلاق الجائزة
أُنشئت جائزة الملك فيصل العالمية قبل ما يقرب من أربعين عامًا، وتشرفت بحمل اسم ملك عظيم حمل هموم أمته العربية والإسلامية. وقد جاء إنشاؤها إيمانًا بأهمية العلم في فتح آفاق أوسع للبشرية في جميع المجالات، وتأكيدًا لرسالة تحملها مؤسسة الملك فيصل الخيرية إلى العالم، وهي رسالة تقوم على إشاعة الخير، وبث الأمل، والاعتراف بجهود العلماء والعاملين، والمشاركة في كل ما يعود على البشرية بالنماء والازدهار. ولعلَّ فوز مؤسسة الملك فيصل الخيرية بجائزة العويس عام 2016م في حقل الإنجاز الثقافي والعلمي، لهو دليل على النجاح الذي حالف هذه المؤسسة الخيرية التي تعمل لصالح الإنسانية جمعاء. وقد مر على منح أول جائزة من جوائزها الخمس ثمانية وثلاثون عامًا. تم منح الجائزة بفروعها الخمسة، منذ إنشائها، لمئتين وسبعة وأربعين فائزًا وفائزة ينتمون إلى أربع وأربعين دولة. وحققت الجائزة جانبًا كبيرًا من أهدافها، كما حققت ريادة واضحة في تكريم نوابغ من العلماء والباحثين. فقد حصل ثمانية عشر فائزًا بها في فرعي الطب والعلوم – بعد فوزهم بها – على جائزة نوبل للإنجازات العلمية الرائدة.
والجائزة لا يقتصر تكريمها على العلماء في مختلف فروع المعرفة؛ بل يمتد إلى العاملين المخلصين، إذ وجه الأمير خالد الفيصل رئيس هيئة الجائزة بتكريم أمينها السابق الأستاذ الدكتور عبدالله العثيمين – رحمه الله – الذي أمضى ثلاثة عقود من العمل الدؤوب، والجهد الكبير، وذلك في حفل تسليم الجائزة الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. وامتد هذا التكريم بموافقة الأمير خالد على إقامة الندوة العلمية «عبدالله العثيمين مؤرخًا وأديبًا»، التي نظمتها أمانة الجائزة يوم الأربعاء 15/3/1438هـ الموافق 14/12/2016م، بمشاركة نخبة من المؤرخين والأدباء والمثقفين من المملكة والوطن العربي.
بواسطة هدى الدغفق - الفيصل | نوفمبر 1, 2016 | تقارير
حمد الراشد
أكثر من إشارة يحملها الاهتمام بالفلسفة في أوساط السعوديين، الاهتمام الذي هو آخذ في الاتساع لافتًا الأنظار هنا وهناك، فالأمر ليس مجرد اقتناء كتاب فلسفي، ولا عقد جلسة ومناقشة لموضوع يتعلق بـ«الوجود»، و«الكينونة»، أو «الأخلاق» عند هذا الفيلسوف أو ذاك، كما أن الأمر يتخطى تأسيس موقع إلكتروني ينشر مقالات ومواد فلسفية.
إقبال السعوديين على الفلسفة يعني، ضمن ما يعنيه، الاهتمام بقضايا كبرى وطيدة العلاقة بالخطابات الفكرية المتصارعة حينًا والمتحاورة حينًا آخر، وربما يعني أيضًا، كما يذكر بعض المشتغلين في حقل الفكر، إخفاق مشروع التنوير والحداثة، ومن ثم لا بد من البحث عن بديل. الولع بكل ما هو فلسفي، هو ولع بالتفكير المنطقي، ولع بمساءلة الأشياء وعدم التسليم في سهولة. هو أيضًا البحث عن أسئلة جديدة، تستوعب جملة المشكلات التي يعانيها جيل الشباب، الذي يعيش وضعًا مختلفًا أقرب ما يكون إلى مأزق وجودي، نتيجة الخيبات الكثيرة بسبب انكسار الأحلام وانتشار التطرف في كل شيء.
الفلسفة عند هذا الجيل الشاب، ليست أيديولوجيا إنما علم، وطريقة في التفكير ومنهج لرؤية الذات والعالم. ويأتي الاهتمام بالفلسفة في ظل غياب فلسفي تعيشه الجامعات ومقرراتها، إضافة إلى اللبس في فهم الفلسفة وتلقيها عند العامة. ويؤكد مهتمون الحاجة إلى إعادة الاعتبار للفلسفة ومفهومها، من خلال طرح تساؤلات عدة، من قبيل: ماذا يعني غياب الخطاب الفلسفي بصفته أداة أساسية لإنتاج المعرفة؟ على أن هناك من يرى أن الفلسفة حاضرة في عدد كبير من الخطابات حتى الخطابات الدينية، باعتبار أن الفلسفة هنا تعني التفكير بالعقل.
«الفيصل» سعت إلى عدد من المهتمين، وطرحت عليهم أسئلة حول الفلسفة والاهتمام بها، وماذا يعني هذا الاهتمام على الرغم من الأحكام التي تحيط بالفلسفة.
تفكير فلسفي متوازن
يقول المشرف على الحلقة الفلسفية التي تعقد في نادي الرياض الأدبي حمد الراشد: إن الحلقة «تحاول أن تسهم في تفكير عقلي وفلسفي متوازن للفرد والمجتمع، سواء في الحياة العامة أو في المشهد الثقافي، وبالتالي فإن الحلقة تسعى جاهدة لأن تُعيد إلى منظومة الثقافة تعريفَها الحقيقي بإدخال عنصر الفكر والفلسفة داخل هذه المنظومة، وهو المحور المهم جدًّا الذي يحتاجه المجتمع والمثقف معًا إلى جانب ما نلحظه من اهتمام بالآداب والفنون». ويرى أن الثقافة «أوسع نطاقًا من ضيق الأفق والتحيزات التي نشاهدها على أرض الواقع، ومن هنا فالحلقة الفلسفية تتطلع إلى تشكيل مشهد ثقافي ثري ومتنوع يحترم المنطق والعقل مع انتهاج فكر جاد وفلسفة عميقة وحوار راقٍ»، مؤكدًا أن هذا الهدف سيتحقق «بواسطة نخبة من الأقلام الجميلة الآن وفي مراحل لاحقة، وهذا ما تحاول «حلقة الرياض الفلسفية» تحقيقه واقعًا من خلال إتاحة الفرصة لكل مثقف ومهتم وباحث ومفكر من الجنسين تفاعلًا أو كتابة، بل إن الحلقة تتطلع إلى مشاركة المرأة في خلق مستقبل ثقافي وفكري مشرق؛ إذ إنها المحرك الاجتماعي والفاعل المكمل لآمال الرجل وطموحه».
ويوضح الراشد أن الفكر الفلسفي له أكبر الأثر «نظرًا إلى صلته القوية بالعقل الذي يميز الإنسان عن غيره من الكائنات». وقال: إن العرب تعودوا النظر إلى الفلسفة بوصفها بين طرفي نقيض، إما لا مبالاة وتهميش لها ويمثل ذلك قول العامة: «لا تتفلسف» جهلًا بما يدل عليه معنى التفلسف وأهميته، وإما النظر إلى الفلسفة بصفتها تمثل التعقيد في الحياة والخطر على عادات الإنسان وعقيدته ومصالحه».
الحلقة الفلسفية.. الحلقة الأقوى
وترى الكاتبة سارة الرشيدان، إحدى المواظبات على حضور الحلقة الفلسفية، أن ما يطرح في الحلقة من أوراق يتسم بالجدية والعمق، ويغطي مجالات لا توجد لها دراسات متخصصة في السعودية. وتقول: إن ما يحفزها على الحضور، «المتعة التي أجدها في الطرح الفلسفي والفكري في الحلقة من جهة، ومن جهة أخرى أن بعض المشاركين في الحلقة بطرحهم أو حتى بحضورهم الشخصي يمثلون صفوة مثقفة ومؤثرة في المجتمع معرفيًّا، سواء أكانوا أساتذة جامعات أو كتابًا ومفكرين، وفيها يقدمون طرحهم الأعمق، ورؤاهم المعرفية الفكرية المبنية على بحث وقراءة جادة للمعرفة وعلومها، وكثيرًا ما كانت الحلقة سباقة في طرح القضايا المختلفة عن السائد»، مشيرة إلى أن الأيام أثبتت مصداقية الحلقة وجديتها «لأنها دأبت على تقييم وقراءة الواقع قراءة واعية غابت بغياب تدريس الفلسفة… باختصار تعد الحلقة الفلسفية منهلًا فلسفيًّا ذا تأثير فاعل في ظل إهمال الفلسفة وتهميشها في كثير من المؤسسات الثقافية الوطنية».
انشغالات فردية
خالد العنزي
الباحث في الفكر الإسلامي خالد العنزي قال: إنه لا يمكن القول بأن فضاء فلسفيًّا ملموسًا قد بدأ فعليًّا بالتشكُّل في أروقة الخطاب الثقافي السعودي، فالتجربة، في رأيه، لا تزال تتمثل في مجرد انشغالات ذات سمات فردية. ويوضح العنزي أن صعود وتزايد الاهتمام بالفلسفة في المشهد الثقافي السعودي، «يعود إلى أسباب تتعلق بهذا التوق الذي يعتري الجيل الجديد في محاولة سبر التجربة الإنسانية بأدوات معرفية غير تقليدية من خلال الفلسفة بوصفها منتجًا إنسانيًّا مشتركًا، وممارسة لإنتاج المفاهيم التي تتحكم بحياة الفرد لتمده بأجوبة عجزت الأيديولوجيات أن تمده بها، بشكل يعكس هذا الارتباط الوجداني الثري بين التاريخ وأسئلته والواقع وتحولاته. هناك أيضًا سبب جوهري آخر يتعلق بأزمة تعثُّر مشروع التنوير الذي ذهب ضحية عدم قدرة هذين الخطابين الكبيرين (الخطاب الشرعي التقليدي والخطاب المدني) اللذين ظلا يتحركان كقوى فكرية مرجعية متصارعة داخل المجال الفكري السعودي؛ من أجل بناء صيغة معرفية جامعة تمزج بين الأدوات والبنى المعرفية الكبرى المؤسسة للعقل والوجدان الإسلامي وهي: الحكمة، والفلسفة، والشريعة في مدرسة واحدة».
ويذكر العنزي أن الجيل الجديد خرج من منظومة الثنائيات الحادة التي يتسم بها الواقع الثقافي اليوم في السعودية، «منحازًا إلى فضائه الخاص والوليد على أسس شبه مستقلة عن المشهد الأم إلى حد ما. ويتحتم أن يكون ذلك الفضاء البديل هو الفضاء الفلسفي الذي نشهد تصاعده اليوم وإن كان من الصعب قراءة هذا التصاعد وتحليله بناء على قواعد ومنطلقات جليلة؛ لكونه كما سبق أن أشرت لم يزل يدور في مجال فردي صرف، يظهر كممارسة وليس له منتج أو رصيد معرفي ناضج حتى اللحظة».
ويرى العنزي أن إفلاس مشروع الحداثة والتنوير الذي يُعبر عنه اليوم -تجاوزًا- بالمـشــــروع الليبــــرالي، قـــد يــــــــؤدي إلـــــى تــــــزايد الإقبال على هذا الاتجاه الفلسفي، «بل ربما كان هو المحرض والملهم الأكبر لنقله من هامش المشهد الثقافي إلى خطاب منافس لما يسمى بالخطاب التنويري في تحقيق توازن من نوع ما على مستوى الخطاب الثقافي الوطني العام».
جهل أو سوء فهم
من ناحية أخرى، يرى رئيس مركز الوسطية للأبحاث والدراسات الشيخ عيسى الغيث أن الموقف المتشنج من الفلسفة وعلم الكلام والمنطق تاريخيًّا جاء بسبب «جهل أو سوء فهم بعض العلماء لهذه العلوم الإنسانية التي لو تأملنا القرآن الكريم والسنة المطهرة لوجدناهما يدعوان إليها؛ كالأمر الرباني بالتفكر والتأمل والتدبر والتعقل ونحوه. وأما الموقف الحاد اليوم من كل جديد وتنفير الناس بهذا الغلو والتطرف فبسبب الجهل بهذه العلوم، وتعطيل العقول حتى أصبحت جملة (عقلاني) أو (تنويري) أو (تجديدي) محل تنابز وتهكم وتحقير للأسف الشديد، ولا حل إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام الحقيقية الواردة في الكتاب والسنة التي دعت لعلم الفلسفة والكلام والمنطق بما لا يخالف الدين، ويحقق المصلحة العامة الدينية والدنيوية ويدرأ المفاسد عن البلاد والعباد».
خالد العنزي
حسن ياغي
وللخلاص من الالتباس بين الديني والفلسفي يشدد الغيث على مسألة مهمة: لا بد من التفريق بين الفلسفة وعلم الكلام والمنطق؛ فالفلسفة تهتم بمباحث كثيرة منها: دراسة الوجود، ودراسة المعرفة الإنسانية، وكيف نحصل عليها، ودراسة القيم الأخلاقية، ودراسة السياسة وغيرها. أما علم الكلام أو علم الجدل عند العرب فهو قرين الفلسفة غالبًا، وقد انحرف عندهم عن مساره الشامل إلى التركيز على الجوانب العقدية، لافتًا إلى أنه من هنا بدأ الخلل «ومن ثم التحذير منه؛ إذ خرجت فرق متعددة متأثرة به؛ كالجهمية، والمعتزلة، والأشعرية وغيرهم، وأما علم المنطق فهو العلم الذي يبحث في التفكير الصحيح، وكيف ننتقل بأحكامنا من أشياء مجهولة تخفى علينا إلى أشياء أخرى معلومة (الانتقال من المجهول إلى المعلوم) مما يساعد في تنمية الملَكة العقلية على التصور والإبداع».
أسئلة الذات والوجود
من جهة أخرى، أكد حسن ياغي مدير دار التنوير (إحدى دور النشر العربية التي تعد الفلسفة واحدة من اهتماماتها الرئيسة) إقبال السعوديين على كتب الفلسفة بكثافة، ويرد هذا الإقبال إلى أنه بقدر ما تصبح أسئلة الذات، والوجود والقيم، والأخلاق والماضي والحاضر، أسئلة مطروحة في حياة المجتمع، «بقدر ما تصبح الفلسفة حاجة؛ لأنها ميدان هذه الأسئلة». ويقول: إن هذه الأسئلة التي تبدو بعيدة أو وهميّة «هي في الحقيقة أسئلة ملحّة على جيل جديد من المتعلمين والمتعلّمات الذين ما عادوا يتقبّلون فكرة العلاقة مع الآخر، ولا العلاقة بين الجنسين، ولا العلاقة بالسلطة (زمنية ودينية)، ولا العلاقة بالعالم، والعلم… كما كانت الحال لدى أهاليهم وأجدادهم. صحيح أنها أسئلة بسيطة، لكنها قويّة وملحّة إلى حد جعل للفلسفة، وهي ميدان هذه الأسئلة، حضورًا ينمو ويتزايد في أوساطهم. وهذا تعبير عن التطوّر الذي يحصل في المجتمع. فقبل سنوات عدة كانت كتب تطوير الذات هي الكتب الأكثر رواجًا لدى هذه الفئات، وبخاصة تلك الكتب التي تلامس قضايا فلسفيّة أو دينيّة.. لكن هذا النوع من الكتابات لم يعد يرضي فئة من القراء أدركت أن في هذا النوع من الكتب تكرارًا للأفكار نفسها، وأن مثل تلك القضايا تحتاج إلى معرفة أعمق وقدرة أوسع وأكثر عمقًا في النظر إلى الأفكار التي تبني العالم».
ويلفت حسن ياغي إلى أن الشبان والشابات «صاروا يحتاجون إلى معرفة تدلّهم على مواجهة القلق الذي يعيشونه كنتيجة لأزمات المجتمع. ويخطئ كثيرًا من يظن أن في هذا مروقًا من المجتمع. إنهم يبحثون عن الحلول التي من واجبهم البحث عنها، سواء على المستوى الفردي (وهذا مهم جدًّا)، أو على المستوى الأخلاقي (وهذا له تأثير كبير وهم يرون الفارق بين الخارج والباطن). أو على مستوى القيم التي تنظّم حياة الناس وتُنظم علاقة الواحد (ة) منهم بالآخر».
ويتطرق إلى أن بعض هؤلاء أصبح «يفتش عن كلمة فلسفة في أي كتاب، كما لو أنها «موضة» وعليه أن يقتني الكتاب وهو عاجز عن فهمه أو قراءته. ولذلك ذهبنا باتجاه تقديم كتب مبسطة بالفعل تساعد على تلمّس بداية الطريق للتفكير الفلسفي، وهذا النوع من الكتب يلقى إقبالًا مميزًا في السعودية».
كتب محاصرة بالخوف
عادل الحوشان
أما الكاتب والناشر عادل الحوشان (دار طوى)، فيقول: إنه لسنوات طويلة ظلت حركة النشر المحلية «تدور في إطار الآداب وفروعها، وحبيسة مؤسسات رسمية خاضعة للرقابة بشكل مباشر، لم تتطوّر حرية النشر المحلية إلا في العشر سنوات الأخيرة، وهو عمر متأخر كثيرًا في تطور العلوم والكتاب تحديدًا».
وفيما يخص الفلسفة وكتبها وأسئلتها يذكر أنها ظلت «محاصرة بالخوف من طرحها؛ لأسباب تكاد تكون هي نفسها أسباب تأخر حركة النشر المحلية، يضاف إليها ما لاحقها من تحريم ديني واجتماعي على مستوى الجامعات، وعلى مستوى تظليل المفهوم العلمي لها». ويشير إلى أنه لم تتوافر مصادر مهمة لأسس الفلسفة غير الكتب المترجمة «على الرغم من مرور أكثر 2500 عام على أول إطلاق للمعنى والمفهوم الفلسفي، وعدّت محرمة كعلم ومحظورة كاتجاه، ساهم بالطبع التصور الديني لها بنفيها وعدّها علمًا منافيًا للعلوم الدينية. ولنا أن نتخيّل محاولة زحزحة هذا الثقل على مدى مئات السنوات في غضون عشر سنوات من عمر الحضارات المتقدمة».
ويلحظ أن ما يسميه «الكتب الموضوعية»، «احتلت مكانًا جديدًا بعد سيادة الشكل الأدبي سنوات طويلة». ويقول: «إن هناك أنواعًا وأشكالًا أدبية شهدت حرب إزاحة، لكن «بالمراوغة احتل الأدب مكانه، وأتيح له المزيد من الفرص في العشر سنوات الأخيرة مع اتساع وسائل النشر والتواصل». ويلحظ عادل الحوشان أن عناوين الفلسفة الكبيرة «بدأت في أخذ مكانها في المعارض المحلية. والملحوظ أيضًا أن القارئ أصبح يسأل ويجيب ويناقش ويسعى للحصول على كتاب الفلسفة، وكأنه كان بانتظار الفرصة ليثبت نوعيته داخل المجتمع وينفي هذا الخوف غير المسوّغ طوال عقود».
تقاليد للكتابة الفلسفية
أكد الكاتب شايع الوقيان وجود إرهاصات مبشرة لقراءة الفلسفة في السعودية وكتابة النص الفلسفي، «وثمة إقبال ملحوظ من شرائح القراء على الكتاب الفلسفي». ويقول: «بما أن الفلسفة غائبة تمامًا من نظم التعليم لدينا فإن الأفق الذي سمح للقراء السعوديين باقتحام حقل الفلسفة هو أفق الإنترنت. فوسائل التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية والمنتديات شهدت كثافة في انهماك شريحة لا بأس بها من القراء على الفكر الفلسفي. لكن هذا الانهماك لن يتطور إلى مرحلة النضج ما لم تترسخ تقاليد للكتابة الفلسفية. وأهم عوامل ترسيخ تقاليد فكر فلسفي هو السماح للفلسفة في التعليم العام والتعليم الأكاديمي. فلا وجود لدينا لأقسام أو كليات تعنى بالبحث الفلسفي والمنطقي. وهذا خلل كبير لا يليق ببلد مهم على المستوى الإقليمي والدولي كبلادنا».
شايع الوقيان
ويرى الوقيان أن ولوج الفلسفة إلى الحقل الأكاديمي «سينقل الاهتمام الفلسفي من المستوى الشخصي والفردي إلى المستوى المؤسسي والتربوي. إضافة إلى أن القراءة الحرة في الكتب الفلسفية لا تفضي إلى «التخصص» العلمي الدقيق في الفلسفة. وكل ما نراه هو جهود فردية متنوعة تنتقل من فكر إلى فكر ومن مذهب إلى مذهب من دون تأسيس حقيقي لاشتغال فلسفي شامل وعميق. بعبارة أخرى، التخصص في أي مجال علمي أو معرفي سيؤدي بالضروري إلى نشوء «تقاليد علمية» وإلى بروز مجتمع معرفي. وهذا المجتمع المعرفي هو أساس تطور أي علم، والعلم لا يتطور بالجهود الفردية».
ويرى الوقيان أن هناك ميلًا أكاديميًّا إلى العلوم التطبيقية، وإهمالًا للعلوم النظرية. «حتى في العلوم الاجتماعية والإنسانية عموما يلحظ اشتداد ذلك الميل التطبيقي. وهذا أدى إلى انفصام الفكر العلمي الأكاديمي عن الواقع المعيش. ففي العلوم الاجتماعية مثلًا نجد مصادرة على التعريفات النظرية التي قررها علماء الاجتماع الغربيون، ومحاولة لتطبيق ذلك على واقعنا المغاير. وهذا خلل منهجي كبير؛ لذا فالحاجة إلى التنظير العلمي ملحة وضرورية. والحديث عن التنظير العلمي والمنهجي يقودنا مباشرة إلى الفلسفة. فكل المنظرين في العلوم الإنسانية هم فلاسفة وقلما نجد منظرًا لا يعنى بالفلسفة».
غياب المرأة عن الفلسفة
تقول الكاتبة الدكتورة أميرة كشغري: إن العلاقة بين المرأة والكتابة الفكرية الفلسفية «يجب أن ينظر إليها من زاويتين طبعتا تطور المجتمعات على مر العصور، أولاهما: ظروف المجتمع وواقعه الثقافي الفكري، ثم موقع المرأة في هذا المجتمع بشكل عام وقدرتها على تجاوز القيود السوسيوثقافية المفروضة عليها، والخروج من دائرة الانشغال المعيشي اليومي بوصفها «أنثى» إلى أفق الانشغال الفكري الفلسفي بوصفها إنسانًا». وتمضي قائلة: «بداية لا بد أن نعترف بأن الفلسفة على مر التاريخ وفي كل المجتمعات كانت تمثل مجالًا نخبويًّا، فالانشغال الفلسفي كان يتطلب، إلى جانب سعة المعرفة، وقتًا كافيًا للانشغال الفلسفي، لذا كان النصيب الأوفر من حظ الرجل؛ إذ لم تحظ النساء بالتعليم أو الوقت الكافي للدخول في مجال الحياة المعرفية الفكرية، ومع ذلك يمكن تعداد عدد من النساء الفلاسفة (أو على أقل تقدير مفكرات) في الغرب مثل سيمون دي بوفوار. أما مجتمعنا بشكل عام، فهو مجتمع غير صديق للتفكير النقدي وبناء المفاهيم، ولذلك فهو لا يؤسس لعملية بناء الإنسان المفكر. فالفلسفة إن لم تكن مجالًا محظورًا، كما تعودنا، فهي ضرب من الترف والسفسطة على أحسن تقدير، المدارس لا تشجع على التفكير النقدي ولا تبني المنهج العلمي في الحكم على الأشياء، كما أن وسائل الإعلام لدينا لا تسهم في تنمية الاتجاهات النقدية الخلّاقة لدى الفرد».
أميرة كشغري
وتلفت كشغري إلى أنه بناءً على تعريف الفلسفة بوصفها منظومة من الأفكار والمفاهيم التي تفسر العالم وتقترح رؤية جديدة للعلاقة بين الإنسان والثقافة والمجتمع، «يمكن القول بأنه ليس لدينا فلاسفة من الرجال ولا النساء». وتقول: إن مسألة عزوف المرأة السعودية عن الفلسفة «نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها المرأة في مجتمعنا، فالمرأة معطلة في مجتمع يفرض وصايته عليها ويعدّها ناقصة عقل، فكيف لناقصة عقل أن تفكر، وكيف لها أن تبدع في مجال الفلسفة وهي محاطة بسياج من الممنوعات يتعامل معها على أساس أنها قاصرة!! إذن فموضوع الفلسفة وعزوف المرأة عنها هو نتاج طبيعي لظروف اجتماعية ثقافية تعيشها المرأة. وهذه الظروف تجعلنا ندرك أن موقع المرأة الاجتماعي ومستواها الثقافي يعدّ مرآة تنعكس فيها مواصفات هذا المجتمع وشروطه الحياتية».
وتذكر أن الدخول إلى عالم الفلسفة «يمثل المرتبة العليا في هرم الاحتياجات الإنسانية؛ إذ تتعلق بطرح قضايا لا يمكن أن يتعرض لها إلا من انتهى من إشباع الحاجات الأساسية، كما يقول عالم النفس ماسلو. ومن الواضح أن المرأة، بشكل عام والسعودية بشكل خاص، ما زالت تصارع في أسفل هرم الحاجات الإنسانية الأساسية، فكيف لها والحال كذلك أن تخوض ميدانًا يأتي في المرتبة العليا من مستويات الفكر؟ ما زالت المرأة تناضل من أجل كسب قضايا وحقوق أساسية مثل حقها في أن تكون إنسانًا كامل الأهلية، يملك القدرة على اتخاذ قرارات حياته المصيرية الأساسية في الزواج والطلاق وحضانة الأطفال والعمل والحركة والسفر. وليس لنا أن نتوقع منها أن تخوض مجال الكتابة الفلسفية وهي لم تتجاوز الأساسيات في الحياة بعد».
بواسطة هدى الدغفق - الفيصل | أغسطس 30, 2016 | الملف
حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية، فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء، خصوصًا الجدد، إلى الإحباط ومن ثم الانكفاء على أنفسهم، وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة، فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة جدًّا من الأصدقاء. لعل أول الأسباب طغيان الرواية التي سرقت الاهتمام تقريبًا من الجميع، وانصراف عدد لا بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية، طلبًا للأضواء ومزيد من الاهتمام الذي انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء. ومن الأسباب أنه إذا حدث وجرى الاهتمام بالشعر، فإن النوع الشعري محط الاهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل الأحوال شعر التفعيلة، أما قصيدة النثر فلا أحد يفكر فيها. على أن اللامبالاة وعدم الاهتمام تطال الشعر بأنواعه.
ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة، تصور فيها عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة. سبب آخر يحبط الشعراء، هو المستوى الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجاملات والتحشيد تتفشى، من دون اعتبار لأي أي شيء آخر.
غياب الشاعر الرمز
جاسم الصحيح
يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن الشعر في السعودية مرتبط براهن الشعر العربي؛ إذ يستحيل في رأيه، الفصل بين المشهدين «خصوصًا في ظل انبثاق وسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، والتنسيق العام لمعارض الكتب في العالم العربي، فالتجارب الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها على بعض بكل يسر وسهولة».
ويلاحظ الصحيح أن أجيالًا جديدة من الشعراء صعدت إلى مسرح الشعرية العربية في معظم البلدان، «وقد يكون المشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل المشاهد وإن خلا من فكرة الشاعر الرمز؛ لأن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة في عصر ما بعد الحداثة عبر كل المجالات وليس الشعر فقط». ويتطرق الصحيح إلى «مختارات من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت في «كتاب الفيصل» في مارس الماضي، وكانت فكرة اقترحتها «الفيصل» على الشاعر زكي الصدير فقام بتنفيذها، حول هذه المختارات يقول: في هذه المختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب، لكنني أرجو ألّا تكون عبقرية عجولة.. أي لا تنطفئ بسرعة.. كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري عن عبقرية الشاعر رامبو. الجماليات الشعرية لا يمكن أن تستقر على حال؛ لأن الشعر هو حال من القلق والفوران والهذيان. الشعر هو عملية استكشاف مستمرة لجغرافيا الروح، وكلما جاء جيل جديد بمراكبه ومناظيره، وأرسى على شواطئ الروح وحدَّق في التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن يواصل الاستكشافات التي بدأها أسلافه. هذا العمل الإبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء، للخروج من لحظتها الراهنة إلى المستقبل عبر مغامرة جامحة تضيف من خلالها مساحة جديدة من الكشف والابتكار».
الشعر عابر للعصور
محمد عابس
ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر للعصور «وإن خفت ضوء الاهتمام به بين فترة وأخرى لأسباب متعددة منها: منافسة فنون أخرى، واهتمام الناس بأشياء أخرى، وانفتاح العالم على الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطور أدوات الترفيه، ومن ناحية أخرى سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج المختارة في مواد الأدب».
ومن ناحية أخرى، يذكر عابس أن توجه الشعر إلى موضوعات ليست جماهيرية ولا علاقة لها بالقضايا الكبرى للمجتمعات لقيام وسائل أخرى بذلك الدور، دفع الشعر إلى الاتجاه إلى «قضايا ومفردات الإنسان وهمومه البسيطة، وإلى مفردات الهامش والمهمل والبسيط…».
ويلقي عابس باللوم على المؤسسات الثقافية في التراجع الذي يعيشه الشعر: «لم يعد هناك اهتمام بالشعر والشعراء على مستوى الدول والمؤسسات إلا على استحياء أو بشكل محدود، جوائز الشعر محدودة ومهمشة وغير مجزية ولا يمكن تجاوز الاهتمام الأكبر بالعاميات (الزجل) في مختلف الدول على حساب الشعر الفصيح، ولست ضد الاهتمام بالعامّي ولكن بشكل لا يلغي الفصيح»، مشيرًا إلى أن معظم النقد «توجه إلى البعد الثقافي العام وإلى الرواية، وكثير من النقاد لا يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم لا يستطيع قراءته بشكل سليم، ومن ثم تصدر عشرات الدواوين المميزة ولا أحد يعلم شيئًا عنها!!».
عدم تقبل النقد
محمد الجلواح
أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية والمزاجية للمواطن العربي بشكل عام، وكذلك الإفرازات السياسية وانعكاساتها على مشاعر وروح الشعراء. ويعزو الجلواح ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت -في شكل مؤثر وقوي- في صرف الشاعر والقارئ معًا عن القراءة العميقة. ويعزو الجلواح هروب الشعراء إلى الرواية، إلى تراجع الشعر عند هؤلاء «إضافة إلى استسهال الكتابة النثرية. كما أن انتشار الرواية لا يدل على وجود عافية فيها، فقد أصبح الجميع يكتب رواية»، مضيفًا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري في المملكة، وهو:«أننا لا نقبل النقد، ولا نرضى بالدراسات والملاحظات التي تُنشَر في الصحف، وتأتي من آخرين لهم قـَدَم السّبق وقـَصَبُه في الشعر، بل نطير فرحًا بالمجاملات حتى لو كانت على حساب الجودة، فينجم جراء ذلك التراجع من جهتين: جهة الشاعر الذي لا يريد أحدًا أن ينتقده. ومن جهة أخرى فإن المتلقي الناقد الذي لا يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته، يشعر بالحزن والغضب والإحباط، وهو -في الوقت نفسه- يخشى أن يفقد بذلك صداقته وعلاقاته بالشعراء».
الشعر السعودي بلا تجارب عميقة
مسفر العدواني
ويقول الشاعر مسفر العدواني: إن الشعر السعودي «لم ينتج تجارب نتكئ عليها في حال النقد باستثناء تجربة الثبيتي، وما زلنا أيضًا في صراع كبير بين رفض وقبول قصيدة النثر لدينا ونحن في أمسّ الحاجة لتجارب شعرية نواجه بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولًا، ولن يصل إلى منصات العالم». ويرى العدواني أنّ الأصوات الشعرية المعاصرة «عندما لا تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم، وإذا توقف خيال الشاعر عند حد معين خوفًا من المستقبل فلن نخلق موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم، ولا شك أن ما يحدث فيه يؤثر فينا. أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست مقياسًا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم المؤسسة التابعة لها، ولا تخدم الشاعر، وفي زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر التفاعل معها بنصوص قصيرة مكثفة تسهل على القارئ، وتناسب الواقع، وتظهر الشاعرية. فالزمن الآن زمن التواصل الاجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا».
أدب بلا أدب
وتنتقد الشاعرة هند المطيري شعر اليوم وأدبه بشكل عام قائلة: «يصدر عدد هائل من الأعمال الأدبية سنويًّا، لكن بلا أدب. صرنا نسمع أسماء كثير من الشعراء لكننا لا نسمع شعرًا؛ من أجل ذلك كله، كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد في عصرنا والعصور السابقة». ولا ترى المطيري أن طغيان الرواية تسبب في تراجع الشعر؛ «لأن ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إلى المنافسة، لكن المسألة تتعلق بالوعي الجمالي الجمعي. الشعر يهب نفسه للأمة التي تقدره وتحفظ قيمته، فإذا تخلت عنه تخلى عنها تمامًا».
وتقول المطيري: «في العصور القديمة كانت العرب تقدس الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبين القرآن (كلام الرب جلّ وعلا)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه. أما اليوم وقد انصرفوا إلى صفصفة الكلام فلا أظن الشعر يبقى يانعًا مزدهرًا، أو على الأقل لن يبقى كثير منه. لم نفتقد الدواوين فهي كثيرة، وتصدر عشرات منها كل عام، لكننا نفتقد الشعر». وفي ظن المطيري أن وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحين التفاتة من مؤسسات الثقافة، تُعلي شأنه وترفع أركانه. حين ذاك يعود، ويزدهر، ويطرح ثماره اليانعة».
مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات الأكاديمية
أحمد التيهاني
لا يثق الشاعر أحمد التيهاني كثيرًا في الأقوال المعمّمة التي تميل إلى تفضيل جنسٍ أدبي على حساب جنسٍ آخر، ويرى ذلك «كلامًا» إعلاميًّا استهلاكيًّا؛ «ذلك أنه –في الأغلب– يصدر عن المبدعين أنفسهم انتصارًا للأجناس الأدبية التي يكتبونها». وينتقد التيهاني المبدعين قائلًا: «يُفترض لعقل المبدع أن يكون تفكيره متجهًا نحو النص بوصفه نصًّا، لا نحو النص بوصفه جنسًا أدبيًّا، وهي نظرة متقدمة بمراحل على رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إلى التصنيف اليوناني السابق لما آل إليه الإبداع اللغوي في اللغات كلّها».
ويؤكد التيهاني على المكانة التي يحتلها الشعر قائلًا: «سيبقى الشعر المختلف والمميز بذاته، لا بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غيره من الأجناس الأدبية، فيما نجد الأجناس الأخرى تتداخل رغم صرامة القواعد»، مشيرًا إلى أن القول بانحسار الشعر، «قولٌ عاطفي يُقصد به التهوين لا غير؛ ذلك أنه لا يستند على معطيات واضحة، ولا يقوم على حججٍ بينة، إضافة إلى أن يُبنى على إحصاءات دقيقة؛ لأن القول بذلك يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمالي الذي لا يسده إلا الشعر». ويلمح التيهاني إلى أن كل ما يقال عن انحسار الشعر، وتمدد أجناس أخرى، سيذوب حتمًا، «فالشعر يبقى حاضرًا، ويستمر متجددًا، وليس أدلّ على ذلك ممّا آلت إليه الشعرية العربية الحديثة، في القصيدتين: الإيقاعية، والنثرية، على السواء، من تطور سريع جدًّا، مداه الزمني لا يتجاوز نصف قرن». وفي تصور التيهاني أنه: «ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة، إلى كتابيتها، سببًا في خلق وهم انحسار الشعر». ويلفت إلى أن القول بغياب العمل النقدي المتعلق بالشعر، تدحضه الدراسات الأكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر، «ولو أننا أجرينا عملًا إحصائيًّا عن الأجناس الأدبية التي اهتمت بها هذه الدراسات، لوجدنا الغلبة للدراسات المتعلقة بالشعر».
رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث
زكي الصدير
يوضح الشاعر زكي الصدير أنه في ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقافي بعموميته، وقدرتها على تحويل نفسها للدراما التلفزيونية، أو لفلم سينمائي، «لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي. الأمر الذي يجعله قابعًا في إطار لا يستطيع من خلاله الاتّساع ومعانقة القارئ البسيط. ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء على ذواتهم، ولعدم قدرتهم على تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحياتي اليومي. ومن بين هذه التجارب خرجت تجارب سعودية، هنا وهناك، استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغالات شعرية مهمة، لكنها قليلة، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة من الممكن القياس عليها».
ويقول: «إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرافي متسع مثل السعودية، فإنه من الصعب الحديث عن هوية الشعر أو ملامحه بشكل دقيق، حيث لكل منطقة من مناطقها المترامية الأطراف أسئلة شعرائها وقلقهم ورؤاهم الكونية الخاصة، والتي تنعكس على واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا. هذا الاتّساع الجغرافي يجعلنا أمام مشهديات شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة، يجمعها الاسم، ويفرقها الاشتغال. والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس هندسته المعمارية فحسب». ويلفت إلى أن الجغرافيا المكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج «تمتلك سمات على مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة في الشمال والوسط. نجد شعراء الشرقية -على سبيل المثال- متماهين إلى حد كبير في نصوصهم مع التجارب الشعرية المنجزة في العراق ودول الخليج، على حين يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية في بقية المناطق، الأمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء الجنوب، حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة، وتخفت في بقية المناطق».
عن الشعر في اللحظة الراهنة
مسفر الغامدي
إذا استعرنا لغة الحروب التي نعيش على وقعها الآن، فإنه يمكننا القول: إن الشعر تضخم كثيرًا، وبشكل مبالغ فيه، في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم… إنه تحول إلى قنبلة انفجرت لتنتشر شظاياها في كل مكان. نحن في هذه اللحظة نعيش في زمن الشظايا. لم يعد للشعر رموزه وتكتلاته وملاحقه ونقاده، بل أصبح متناثرًا في كل مكان. شعراء لا يحصون، ودواوين لا تعد، وسيل جارف من الحروف التي لا تكفّ عن التناسل من بعضها البعض، ثم لا أثر مهم يذكر بعد ذلك، حتى مع تعدد المهرجانات الشعرية، أو تكاثر الجوائز وتنوعها. مع كل ذلك هناك ورود حقيقية ومدهشة، تنبت في كثير من الزوايا القصية، لكن الأغصان الكثيفة للغابة تحجبها. هناك أسماء تستحق القراءة والاحتفاء، ولكن ليس هناك بستاني ماهر، يحول الغابة إلى حديقة. هذه مهمة نقدية بامتياز، لكن النقد تعوّد في العقود السابقة على التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)، وليس في وسعه، حتى الآن على الأقل، أن يتعامل مع النتف المتناثرة هنا وهناك…
قد نعزو السبب للانفجار المعلوماتي، للطبيعة السائلة للأفكار وللعالم، لعزلة الفرد، لموت الأيديولوجيات الكبرى، لوسائل التواصل الاجتماعي، للحظات الترقب والخوف التي نعيشها، لعجز الخيال عن مجاراة الواقع، لتسرب الشعر من قبضة اللغة وهروبه إلى فنون بصرية أكثر إقناعًا… لكل ذلك ولأكثر من ذلك. في كل الأحوال وبالعودة إلى لغة الحروب: أصبح الشعر ملجأ أكثر منه سلاحًا. الشعراء الذين ما زالوا يظنونه سلاحًا يبدون هزليين ومضحكين بشكل كبير. لم يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة للأفكار والعنتريات البالية، بل أصبح درعًا واقيًا لاتقاء التلوث في أحسن الأحوال… كمامًا واقيًا لكي لا نلتقط المزيد من الجراثيم والأوبئة اللغوية والحياتية الضارة.
الشاعر هنا أصبح حارسًا ولم يعد محاربًا.