ابتكر نمطًا جديدًا في الشعر الأميركي ما بعد الحرب فرانك أوهارا: جماليات الأشياء الصغيرة

ابتكر نمطًا جديدًا في الشعر الأميركي ما بعد الحرب

فرانك أوهارا: جماليات الأشياء الصغيرة

يصنف النقاد الشاعر الأميركي فرانك أوهارا ضمن «مدرسة نيويورك»، وهي جماعة من الشعراء والرسامين والراقصين والموسيقيين الذين نشطوا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بمدينة نيويورك واستلهموا أفكارهم من الدادية السريالية، في افتراق واضح عن شعراء الاعتراف المعاصرين لهم، وأبرزهم روبرت لويل (1917-1977م).

لكن هذا التصنيف ليس دقيقًا تمامًا، كما سنرى. فأوهارا يكاد يكون ظاهرة خاصة في حد ذاتها من ناحية أسلوبه الشعري، القريب جدًّا من نثر الحياة اليومية، وكأنه يسجل يومياته، بالبساطة والعفوية ذاتيهما، والعبث أيضًا، بالمبنى والمعنى، الذي سيتماثل لاحقًا مع موته العبثي حين دهمته سيارة مسرعة في ليلة حالكة من شهر يوليو، عام 1966م، وهو في الأربعين.

سأحاول هنا أن أبين أن وراء قصائد الشاعر، التي تبدو من السطح عفوية وسريعة وارتجالية، ويمكن كتابتها في أي وقت وفي أي مكان، هي عملية واعية من البناء والتفكيك، وأن بناءه الشعري ليس مجرد تَشَظٍّ، وإعادة دمج، لذات الشعر الداخلية، كما تعتقد، مثلًا، ناقدة أميركية من وزن بيرلوف(1).

جماليات الأشياء العادية

في كل قصائده تقريبًا، وبخاصة مجموعته الشعرية «أفعل هذا، أفعل ذاك»، يضع أوهارا «كل شيء في القصيدة»، وهو أسلوب أصبح سمة مميزة في عمله الشعري. وقلما نجد شاعرًا معاصرًا يحتفي بالأشياء بهذا الشكل، كما يفعل أوهار(2).

يقول أوهارا عن شعره، مقارنًا إياه بشعر معاصره جون أشبري، وهو من أبرز شعراء «مدرسة نيويورك»، بأن شعره «مليء بالأشياء لذاتها»(3). ويبدو أنه كلما ضمن الأشياء أكثر في قصيدته، وبقدر ما يستطيع؛ بدت مفتوحة على فضاء أرحب، وبالتالي كونية أكثر، وهو قد يتفرد بهذه الميزة، كما سنبين، كما أنه يتمتع بتلك القدرة الشعرية النادرة على رفع اليومي العادي و«الأشياء المبتذلة» إلى مستوى السامي، وعلى أن يهبط بالسامي إلى مستوى اليومي والمبتذل في الوقت نفسه، خالقًا بذلك حركة جدلية يمتزج فيها الإنسان، والعالم، والأشياء، سواء أكانت سامية أم مبتذلة، معًا في نسيج القصيدة، المحدد زمنها ومكانها.

ومن خلال «تأريخه» للأحداث اليومية، يكشف أوهارا، بلغة مباشرة، وغالبًا حميمية، عن وعي واضح بالطبيعة الجمالية للأشياء، أو ما يمكن أن نسميه «جمالية الأشياء الصغيرة». وبذلك ابتكر نمطًا جديدًا في الشعر الأميركي ما بعد الحرب، رادمًا الهوة في قصيدته بين الفن والحياة، وهو ما يجعلنا، حسيًّا وذهنيًّا، منخرطين أكثر في وجودنا الإنساني.

في قصيدته القصيرة «في الداخل مع جين»، على سبيل المثال، نرى أن تجربة أوهارا مع المكان هي تجربة حسية جدًّا. إنه يراكم الأشياء الحقيقية في مكان محدد ليخلق مشاهد مرئية، ويبدو كذلك أنه واعٍ تمامًا لوجوده في ذلك المكان المليء بـ«الأشياء الغبية»: علبة قهوة، حلق أذن قيمته 35 دولارًا، حفنة شعر. ومع ذلك، «فهذه الأشياء الغبية تفعل لنا الكثير»:

«أعني الأشياء الغبية حقًّا/ علبة قهوة/ حلق أذن/ حفنة شعر، ماذا/ تفعل هذه الأشياء لنا؟»

يخضع أوهارا في هذه الأسطر للتساؤل، ليس فقط بما تمثله هذه الأشياء، بل بفكرة أهمية الأهمية(4). وهو يفعل ذلك من خلال ثلاث حركات متداخلة: تنطلق القصيدة من التجريد في المقطع الأول، حيث يطرح الشاعر بعض أسئلة فلسفية، خالقًا حالة من التأمل تؤدي وظيفتها ككناية:

«رغبة الأشياء/ أن تكون ما نخاف أن نكونه/ لا يسعها إلا أن تحركنا/ هل/ هذه الرغبة تكون دافعًا فينا/ لفعل ما نرفضه؟» (قصائد مختارة، ص 21).

ومن هنا نحن لا نتفق مع ماجوري بيرلوف -في كتابها عن أوهارا المعنون «شاعر بين الرسامين»، وهو من أهم الكتب حول الشاعر- في استنتاجها بأن «ذات أوهارا تذوب في الأشياء التي يتأملها». تقول: «إن الذات لا تعود قادرة على فصل نفسها عن الأشياء التي تحسها، بل تذوب فيها، وتصبح جزءًا من المنظر الخارجي. «الأنا» تتشظى، على سطح الشيء الذي تتأمله. ولذلك، يستطيع الشاعر أن يخبرنا فقط عما يفعل، وأي الكتب يشتري، وأين يأكل، وأين يتمشى، وماذا يقول ولمن»(5).

صحيح إن أوهارا «يصب نفسه في شعره»، لكنه يفعل ذلك، في أفضل قصائده، لـ«يصهر المباشرية والإثارة مع المتعة الذهنية المفرطة والوعي الذاتي الحاد»(7). هذا الوعي، كما يقول مارك سيلفربيرغ بحق، يأتي «في مقدمة مشروع أوهارا». وأكثر من ذلك، فإن هم أوهارا الشعري هو أن يجعل القارئ يكتشف القصيدة، لا أن يتأملها»(8).

يشكك أوهارا في قصيدته، وبشكل واعٍ، بمفاهيمنا التقليدية عن الأشياء، و«يفكك الافتراضات الجمالية، في الحياة والأدب معًا»(9). وهو ينجح في إقامة صلات وجودية ومادية بيننا وبين الأشياء التي هي «بيننا كل يوم، حتى في السواحل، وفي النعوش، وأن لها معنى، وهي صلدة كالصخور»، كما يقول الشاعر في قصيدة «اليوم». (قصائد مختارة، ص 6).

 

في المقطع الثاني من القصيدة، يحاول أوهارا أن يحررنا من تصورنا الميكانيكي للأشياء؛ كي نعي العلاقة الجدلية بينها وبين العالم، كما هي وكإشارات أيضًا. أشياء مثل «علبة قهوة» و«حلق أذن» و«حفنة شعر» هي إشارات فارغة المعنى، ولكنها ترتبط مع إمكانية شيء آخر: جنسي، أو حميمي، أو محزن(10).

وهنا نتفق مع وجهة نظر الناقد مارك تيرسي التي يقول فيها: «إن أوهارا يدرك في القصيدة -المشار إليها- «سياسية» اللغة، والطريقة التي تعمل بها، وكذلك الطريقة التي تتلاعب بها الأشياء المترابطة، ولو اعتباطيًّا، بالكلمات، ليس فقط بطريقة إدراكنا للأشياء، بل تشكك أيضًا في طريقة اكتسابنا للغة»(11).

في السطور الأخيرة من القصيدة، التي تشكل حركتها الثالثة في سبعة مقاطع شعرية مؤلفة من بيتين، يتحرك الشاعر من مكان مفتوح، حيث الأشياء في كل مكان تبعث الحياة والطاقة، إلى مكان مغلق (الغرف)، حيث الشمس باهتة، والأشياء شبه ميتة: «… نحن/ دخلنا الغرفة، النوافذ/ عديمة الجدوى، الشمس باهتة/ تنزلق فوق الجليد و/ نشيج يبدأ، والسبب ببساطة/ إنها أبرد الأشياء التي عرفناها». (قصائد مختارة،21).

ينجح أوهارا في هذا المقطع في تمثيل وتجسيد تداخل العقل والشعور، وهو ما يساعد على تصعيد القصيدة إلى مستوى التجريد. ونعتقد هنا أن مارك توسي لم يكن على صواب في قوله: إن أوهارا في هذه القصيدة «يتجنب التجريد وبالتالي يفسر التجربة من خلال عدسات»(12).

شعر ماكر

في بيان له سماه «برسونيزم (شخصانية)، يميز أوهارا بين درجتين من التجريد: مطلق الحنين، والحنين إلى المطلق. إنه يرفض الأول لأنه ينطوي على إلغاء الماضي للشخصي، ويعتبر الثاني هو «التجريد الحقيقي». يكتب ما يلي:

«التجريد (في الشعر وليس في الرسم) يتضمن إلغاء شخصيًّا من قبل الماضي. وعلى سبيل المثال، إن القرار المتضمن عملية الاختيار بين «مطلق الحنين» وبين «الحنين إلى المطلق» هو الذي يحدد الموقف حول درجة التجريد. إن الحنين إلى المطلق هو الذي ينطوي على الدرجة الكبرى من التجريد، والإلغاء، وقدرية سلبية (كما في حالة كيتس ومالارميه). إن برسونيزم، وهي حركة أسستها أنا حديثًا، ولا أحد يعرف عنها شيئًا، تثير اهتمامي كثيرًا؛ لأنها على الضد كلية من ذلك النوع من النزع التجريدي، الذي يتاخم التجريد الحقيقي، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الشعر. (قصائد مختارة، 247- 248).

ومع ذلك، وبالرغم من كل ما تقدم، لا نشعر أننا منخرطون تمامًا، فيزيائيًّا وذهنيًّا، في هذه القصيدة، المكتوبة عام 1951م، أو «نعيش تجربة الشاعر»، ويبدو أسلوبه هنا، بشكل عام، بعيدًا من التلقائية والعفوية. إنها قصيدة عن موضوع ما، وليست هي الموضوع، مع إنها توحي بإمكانية التطور الذي سيحققه أوهارا لاحقًا في أفضل قصائده، حين أصبح أسلوبه «رفيعًا، صافيًا، انعكاسًا لوعيه الذاتي، وأصبحت القصيدة هي الموضوع، وليست عن الموضوع»(13)، في تحول كبير عن أسلوب معاصريه، الذي لم يكن يستسيغه. (قصائد مختارة، 249).

غير أن قسمًا من النقاد، الذين وصفهم أوهارا بأنهم «منتهكو البساتين» في قصيدته «الناقد» (قصائد مختارة، 17) أخفقوا في رؤية المعنى الأعمق خلف السطح الخارجي لقصائد أوهارا. فقد وصفت مجلات قيمة في الخمسينيات والستينيات -مثل مجلتي «شعر»، و«كينيون ريفيو»- أوهارا بأنه «داندي نيويوركي ينظم قصائد سريعة لتسلية شلته»(14)، ولأنه يكتب بسرعة شديدة، وغالبًا وهو يمشي أو في ساعة تناول الغداء في متحف الفن الحديث (حيث كان يعمل)، فقد افترضوا بأن شعره عادي وتافه»(15).

ومثال آخر على القراءة الخاطئة لشعر أوهارا هو نقد وليم كوربت. وهو يستشهد ببعض أبيات من مرثية ألن غينسبرغ لأوهارا: «أوه، إذن أوهارا/ لنمائمنا الماكرة»، ليستنتج بأن «النميمة الماكرة هي العبارة الملائمة لوصف الصفة الأكثر جاذبية في شعر أوهارا»(16). ولكن غينسبرغ لم يقصد باستعماله مفردة «النميمة» وصف شعر أوهارا، بل كان يشير إلى نوع من الكتابة «الديمقراطية»، بمعنى أن كل شيء ممكن أن يكون مادة لشعر أوهارا. يكتب غينسبرغ:

«كان شعر أوهارا نميمة، نميمة محلية، نميمة اجتماعية، مع «هوابط وصواعد مفاجئة». إنه باستلهامه صور نيويورك، المختلطة مع الكعكة العِنبية يلهمنا أيضًا. وهكذا كان يشعر بأن أية إيماءة يصدرها هي شعر. والشعر بهذا المعنى هو ديمقراطي كليًّا، حتى لا يكون هناك ملوك أو ملكات للشعر»(17).

ما كان يهدف إليه أوهارا في رأينا هو ليس فقط النميمة، بالمعنى الذي تحدث عنه غينسبرغ، أو أن يسجل فعالياته اليومية، بل ليكشف عن الدلالات المخفية وراء سطح الأحداث الآنية، ومن خلال ذلك يفكك أفكارنا التقليدية عن الحياة والفن، ويساعدنا على كشف الإمكانات غير المحدودة للوجود المادي.

أن ننظر للأشياء كما هي ومن الداخل

كان أوهارا يؤمن بأن ما يسميه «فن اللحظة» غير قادر دائمًا على تغيير قضايا اجتماعية بسرعة، لكن عندما يكون التركيز على الواقع اللحظي للفرد، فإن الفن يعبر عن الجوهر الحياتي ذاته(18).

لقد مضى أوهارا أبعد من معاصريه في انشغاله بالعالم كما يعيشه، من خلال تفكيك الحدود الفاصلة بين الفن والحياة، ومن محاولاته الشعرية في سبر العلاقات المحتملة بين الشعر والأشياء العادية. وفي معظم قصائد مجموعة «إني أفعل هذا، إني أفعل ذاك»، التي تتميز بانفتاحها الاستثنائي على تجاربه في الحياة، كان أوهارا، كما يقول مارك فورد، «مدركًا لنهجه هذا».

كان أوهارا يطمح إلى أن يطور نوعًا من الشعر مختلفًا جذريًّا عن ذلك الشعر الذي ينتجه وينشره معظم شعراء اللغة الإنجليزية. في حديث له نشر عام 1952م، هاجم أوهارا على نحو خاص أولئك الذين «يعملون تحت التأثير المخدر والقاتم والمتكلف» (قصائد مختارة، 2) يكتب في مقاله «الشخصانية: بيان»: «بعد كل شيء، ويتمان، وكرين، ووليمز فقط، من كل الشعراء الأميركيين، هم أفضل من الأفلام. الوزن والأدوات التكنيكية الأخرى هي من الفطرة السليمة: إذا أردت أن تشتري بنطالًا فإنك تريده أن يكون ضيقًا حتى يرغب كل شخص أن يكون معك (…). هناك شيء ميتافيزيقي حول ذلك، إلا إذا أردت بالطبع أن تخدع نفسك بالتفكير أن ما تحسه هو مجرد شوق». (قصائد مختارة، 247).

يحتفي أوهارا بالأشياء بطريقة والت ويتمان (هو يعُدّ ويتمان سلفه الأعظم في قصيدته «أنشودة»). كلا الشاعرين يؤمن بأن كل شيء، مهما كان ضئيلًا، جدير بالشعر، وأنه ممكن أن يخلق «دهشة قصيدة»، كما يقول أوهارا في قصيدته «اليوم». (قصائد مختارة، 6). وهو يؤمن أيضًا أن «الفن وُجِدَ حتى يستطيع المرء استعادة الإحساس بالحياة، وُجِدَ حتى يجعل المرء يشعر بالأشياء؛ ليجعل الفن الحجري يزيح الأشياء من مجال ميكانيكية الملاحظة»(19)، وهو يؤمن أيضًا، كما ورد في بيانه الشعري، بأن «الشعر يولد الصفة المحسوسة لحدث ما، وهو صلد جدًّا وظرفي». (قصائد مختارة، 247).

إن تسمية الأشياء بالنسبة له، هي «هدف فقط لرسم أشياء»، أما المفتاح فهو أن ندرك الأشياء لذاتها، أن ننظر للأشياء من الداخل، وليس بالعين» (قصائد مختارة، 7). وهكذا، يحاول أوهارا أن يفكك تصوراتنا التقليدية عن الأشياء، ويقودنا إلى وجودها الفيزيائي حتى نرى ما لا يرى:

«أوه، أيها الكنغر، أيتها الترترة، يا صودا الشوكولا! أنتن جميلات حقًّا! اللآلئ/ الهارمونيكا، العنّاب، الإسبرين، الشيء الذي يتحدثون عنه دائمًا/ لا يزال يخلق دهشة القصيدة! هذه الأشياء معنا كل يوم/ حتى في السواحل والنعوش، إنها/ لها معنى، وهي صلدة كالصخور» (قصائد مختارة، 9).

هذه القصيدة مبنية، كما يبدو، من أشياء غير مترابطة: حيوان، آلة موسيقية، دواء، وأشياء صغيرة، أو ضئيلة الأهمية (ترترة، شوكولا، صودا) بجانب أشياء ثمينة (لآلئ)، لكنها تبدو مترابطة داخل نسيج القصيدة العام، وفي توافق ليس فقط مع بعضها الآخر، ولكن مع الشاعر نفسه (إنها تدهش القصيدة)، ومع المحيط الموجود حولها، والشيء الأهم مع وجودنا نفسه. لهذه الأشياء معنى، وهي تتصف بالأهمية نفسها، سواء أكانت ثمينة أم ضئيلة الشأن، كما أنها في وحدة واحدة، بالرغم من أنها متباينة، أو لكونها متباينة. والقصيدة تحتفي بهذا الاختلاف، وتكشف في الوقت نفسه، العلاقات الداخلية بينها. وهكذا تفتح أعيننا لنرى الوقائع في حياتنا اليومية كما هي، وليس من خلال «تجميل العادي»، كما يقول مارك توسي(20)، من خلال تقديم الأشياء كما هي، ولذاتها، ومن خلال كشف دلالاتها الداخلية، بلغة الحياة اليومية، يشعر أوهارا بأن «الأشياء تحتاجه، كما أن السماء ينبغي أن تكون فوق الأرض»، وأن «الشعر لم يأمره بألّا يلعب مع الدمى»، كما يقول في قصيدته «يوم الذكرى 1950» (يوم 30 مايو الذي يحتفل فيه في أكثر الولايات الأميركية بذكرى الجنود الذين قتلوا في أثناء خدمتهم العسكرية)، ولكنه لا يضفي قيمة على الأشياء. إنها ثمينة في حد ذاتها، وهي موجودة لذاتها. وهو أيضًا لا يسعى لإعادة ابتداع المألوف، مثل الشاعر الإنجليزي فيليب لاركن على سبيل المثال، ولكن ليكشفه، ويجعلنا واعين لوجوده وأهميته.

يتكثف هذا الوعي عبر عملية التفكيك وتجريد الشيء من مألوفيته، وهو ما يسبب تحولًا في إدراكنا الحسي له، ويساعدنا على فهم دلالة المألوف، كأنما نراه للمرة الأولى. وهكذا ننخرط بالتالي في تجربة القصيدة، حسيًّا وذهنيًّا. ولكن عملية كهذه تحتاج من الشاعر إلى درجة عالية من اليقظة، كما تقول بيرلوف: «الفن يجرد الأشياء من مألوفيتها من خلال تقديمها كما لو أننا نراها للمرة الأولى، أو من خلال تحريف أشكالها، وفي مسعاه لتغريب المألوف، على الفنان أن يكون منتبهًا بقدر الإمكان للعالم الذي يحيط به»(22).

ولكن «الانتباه اليقظ» وحده لا يكفي لتحقيق عملية تغريب المألوف، الذي هو شرط مسبق لأية عملية إدراكية واعية، كما يُحاجُّ الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي بإقناع في كتابه «أساس الإدراك الحسي».

وحدة العادي والسامي

في المقطع السادس من القصيدة، يصور أوهارا «أشياء تافهة»، ثم يرفعها إلى مستوى السامي، وفي الوقت نفسه، يهبط بهذه الأشياء إلى مستوى العادي، في حركة ديالكتيكية، تمزج بينها في وحدة واحدة، خالقًا بذلك علاقة جديدة بينها داخل القصيدة، بلغة بسيطة «تبدو مجسدة في لحظة إنتاجها، وهي تنتقل من الذهن المتأمل إلى التجربة المرئية للعين»(26).

«الحب هو أول الكل في درس المرافق/ أسمع مياه المجاري تغني/ تحت مقعد مرحاضي الأبيض الناصع فأعرف/ إنه في مكان ما، وقت ما، ستصل إلى البحر: النوارس وسمك أبو سيف ستجدها أغنى من نهر».

قوة هذه القصيدة تنبع أيضًا من الطاقة الموجودة فيها، من تحولاتها، من تفاعلها، والعلاقة المتبادلة بين المادي والمجرد، والعادي والسامي، الخاص والعام، وبين الماضي والحاضر. وهناك أيضًا قوة التركيب، فيشعر القارئ، نتيجة لكل العوامل مجتمعة، أنه منخرط في هذه القصيدة، وأنه أصبح جزءًا من عناصرها المتمازجة التي تخلق، من خلال اختلافاتها كما يبدو الأمر من السطح، شعورًا موحدًا.

وتتجلى هذه الوحدة بين العادي والسامي، وبين الرفيع و«الوضيع» في معظم قصائد «أنا أفعل هذا، أنا أفعل ذاك» بشكل خاص، مثل «خطوة بعيدًا منهم»، (SP 109) «يوم ماتت السيدة»، (SP155) «رابسودي»، (SP156) «قصيدة شخصية» (SP 168)، وكذلك في مجموعته «وقت الغداء».

في قصيدته «خطوة بعيدًا منهم»، (SP109) التي تعد واحدة من أفضل قصائد هذه المجموعة، يتعامل أوهارا مع الأشياء من منظور مختلف تمامًا. فمنذ بداية القصيدة يكدس الشاعر الأشياء، لا للاحتفاء بها، أو لاستكشاف جمالياتها وأهميتها في حياتنا، كما يفعل في قصيدته «يوم الذكرى 1950م»، (قصائد مختارة 7) ولكن ليهيئ نفسه، والقارئ أيضًا، لحادثة غير متوقعة ستُكتشَفُ في وقت واحد في السطور النهائية.

إنها عملية تراكم وليس عملية تفحص أو مجرد ملاحظات كما في بعض القصائد الأخرى مثل «في الداخل مع جين» (قصائد مختارة، ص21) أو «عند جين» (قصائد مختارة، 30)، أو «في ذكرى شعوري» (قصائد مختارة، 102) على سبيل المثال. وعملية مراكمة الأشياء في هذه القصيدة (الساحرات، الكوكا كولا، السيارات، الجذوع، الشبكات، الدخان، النيون، الشوكولاتة، سندويش الجبن) هي سمة بارزة لتكنيك «السحب والدفع» الذي يستخدمه أوهارا، وهي «عامل رئيس في انفتاح القصيدة على تفسيرات متعددة، تتيح إمكانية انخراط القارئ في القصيدة(28). إنها، أيضًا، تجذب النظر «مثل ضوء ساطع لنافذة متجر»29 كما نرى في المقطع الأول من القصيدة: «إنها ساعة غدائي؛ لذا سأذهب/ للنزهة بين همهمة سيارات الأجرة الملونة./ أولًا، أسفل الرصيف/ حيث يُطعم العمال/ جذوعهم المتلألئة القذرة ساندويتشات/ وكوكا كولا/ وهم مرتدون خوذاتهم الصفراء/ (…) الشمس حادة، ولكن/ سيارات التاكسي تحرك الهواء./ أراقب/ المساومات على ساعات اليد. هناك/ قطط تلعب في نشارة الخشب» (قصائد مختارة، 10).

تبدو الأشياء هنا وكأنها علامات، بالمعنى المادي للكلمة، ولكنها، في الوقت نفسه، تعمل ككنايات تشير إلى فضاءات أعمق. الشاعر هنا لا يسعى لاستكشاف هذه الأشياء، ولا لفتح أعيننا على وجودها، ولا لتغريبها. إنها أشياء بذاتها، وتوجد بذاتها، لكن القارئ يشعر أنها تتمرد على الحدود، ليتصل بعضها ببعضها الآخر في عملية جدلية مستمرة. اللغة هنا هي لغة الحياة اليومية، عفوية، مستقرة، ومع ذلك فهي تتقدم للأمام مع نوع من السرعة، وهو ما يخلق، ولو على نحو غير واضح، إحساسًا بالكآبة «يتسلل إلى حافات القصيدة، إلى حد ما»، مع لمحة وجه بيلي هوليداي على غلاف صحيفة «نيويورك بوست»، التي تجعل الموت يتسرب إلى كل تفاصيل قصيدة «يوم وفاة السيدة»(30).

في المقطع الثاني، ينظر الشاعر إلى تجربته ويفسرها من منظور مختلف. ينقطع فجأة عن السرد في القصيدة، ولا يترك للقارئ المعنيّ خيارًا سوى متابعة القصيدة والانخراط في انشغال الشاعر الذي ينعكس بشكل غامض على سطحها: «إلى تايمز سكوير، حيث الإشارة/ تنفخ الدخان فوق رأسي، وأعلى منها/ يتدفق الشلال قليلًا/ حيث يقف الزنجي في المدخل ومعه مسواك».

تحت سطح القصيدة

في كتابه «شعراء مدرسة نيويورك والطليعة الجديدة»، يجادل مارك سيلفربيرغ على نحو غير مقنع تمامًا بأن تقنية أوهارا في هذه القصيدة، أو «تسطيح أوهارا»، كما يسميها، «يمكن أن تكون مرتبطة بـ فكرة فريدريك جيمسون عن «تضاؤل التأثير» بوصفه سمة مركزية لما بعد الحداثة(31).

لا نرى أي «تسطيح» في هذه القصيدة، بل عملية جدلية. أولًا، نرى مجموعة متنوعة من المشاهد والأصوات والأنشطة اليومية التي تحتفي بالحياة في مدينة مفعمة بالحيوية (نيويورك). كما رأينا في المقطع الأول (سيارات الأجرة الملونة، كوكا- كولا، شوكولاتة مملحة، فتيات الكورس، جذوع متلألئة، شطائر، خوذات صفراء). وفي المقطع التالي تنتقل القصيدة إلى مشهد مختلف حيث «الإشارة/ تنفخ الدخان» فوق رأس الشاعر، و«الشلال ينسكب قليلًا» وهو ما يمثل تحضيرًا شعريًّا ونفسيًّا لحادث مأساوي لاحق وهو الموت. وهذا يتناقض على نحو حادّ مع الطاقة الاجتماعية للمدينة، كما جرى عكسها في المقاطع السابقة: «أولًا/ مات الأرنب ثم جون لاتوش/ ثم جاكسون بولوك». وهكذا تحولت مواد القصيدة تدريجيًّا، في هذه الحركة الجدلية، إلى مستوى أعلى. لقد أصبح الناس والمكان جزأين من «موقع» القصيدة، حيث ارتبطت الأشياء بأهميتها المادية والاجتماعية:

«النيون في وضح النهار متعة كبرى،/ كما قد يكتب أدوين ديندي،/ كالمصابيح في ضوء النهار،/ توقفت لتناول ساندويتش جبن/ عند مطعم «جولييت»، جولييتا ماسينا،/ زوجة فيدريكو فيلليني،/ ذلك من دواعي سروري البالغ،/ كما يفعل إدوين ديندي/ أكتب كما المصابيح في وضح النهار» (المختارات 109).

ومرة أخرى، لا نتفق مع بيرلوف التي ترى أن سطح هذه القصيدة، تحت تأثير جاكسون بولاك، يعمل هنا كمجال يمكن للطاقات الفيزيائية للفنان أن تعمل فيه من دون أي تأمل(32). صحيح أن هذه القصيدة، التي كتبت في اليوم التالي لجنازة بولاك، تبدو ظاهريًّا وكأنها قصيدة تسجيلية عن مدينة نيويورك بأشيائها، وساعة تناول طعام الغداء المبهجة، وأنشطتها وإيقاعها اليومي، وأنها مثال واضح على قصائد الشاعر في «قصائد الغداء»، ولكن تحت السطح، هي، وعلى الرغم من إيقاعها السريع، قصيدة تأمل، في كل من الحياة والموت. نحن نواجه فيها جانبين متناقضين ذهنيًّا وحسيًّا: الحياة بطبيعتها الزمنية الزائلة، والموت الذي يبدو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم، لكن الحياة تستمر، والأشياء «التافهة» تواصل وجودها، ونحن نعيش تجربة الشاعر من كلا الجانبين:

«أولًا/ مات باني،/ ثم جون لاتوتش،/ ثم جاكسون بولاك./ ولكن هل كانت الأرض، مثل الحياة،/ مليئة بهم؟/ واحد يأكل وآخر يمشي،/ يمر بالمجلات ذات الصور العارية،/ والملصقات الخاصة بمصارعة الثيران،/ ومستودع مانهاتن لخزن السلع،/ الذي سيهدم قريبًا/ كنت أظن أن هناك عرض «آرموري»/ كوبًا من عصير البابايا/ وأعود للعمل. إنها قصائد لبيير ريفيردي».


هوامش:

(1) Frank O’Hara, ‘Personism: Manifesto’, in Frank O’Hara: Selected Poems, ed. by Mark Ford (New York: Alfred A. Knopf, 2009), pp.247- 248 (p. 247).

(2) Marjorie Perloff, Frank O’Hara: Poet Among Painters 2nd edn (Chicago: University of Chicago, 1977), p. 137.

(3) Frank O’Hara, Selected Poems, p.21.

(4) Mark Tursi, ‘Interrogating Culture: Critical Hermeneutics in the Poetry of Frank O’Hara’ http://neiveroja.colostate.ed/ issue4/ohara.htm [accessed 21 December 2010.]

(5) Perloff, p. 14.

(6) Lytle Shaw, The poetic of Coterie (Iowa: University of Iowa Press, 2006), p.102.

(7) Frank O’Hara, ‘Personism: Manifesto’, p. 274.

(8) Mark Silverberg, The New York School Poets and the New- Avant – Garde( Ottawa: Cape Breton University, 2010), p.1001.

(9) Mark Tursi, ‘Interrogating Culture: Critical Hermeneutics in the Poetry of Frank O’Hara’, in <http://neiveroja.colostate.ed/10 tursi>{ accessed 8 November 2010}.

(10) Tursi, Neiveroja on Line.

(11) Tursi, Neiveroja on Line.

(12) Tursi, Neiveroja on Line.

(13) Perloff, p. 137.

(14) Geoff Ward, Statutes of Liberty: The New York School of Poets 2nd edn (London: Antony Rowe), p. 59.

(15) Perloff, p.9.

(15) William Corbett, ‘Personally: Joe LeSuer’s take on Frank O’Hara’, in book review, phoenix on line. Line<http://www.bostonphoenix.com/boston/arts/books/documents/03000473.htm> [accessed 21 December 2010).

(16) Corbett, book review, phoenix on line.

(17) Allen Ginsberg, qtd in Lytle Shaw, The poetic of Coterie (Iowa: University of Iowa Press, 2006), p.102.

(18) David Kanfmann, ‘ Frank O’ Hara ‘s Timind’ in http://jacketmagazine.com/37/kaufmann-ohara.shtml{ accessed 5 November 2010}.

(19) Victor Shklovsky, qtd in Perloff, Frank O’Hara: Poet Among Painters, p.19.

(20) Tursy, Neiveroja on Line.

(21) Andrew Gibson, ‘Larkin and Ordinaries’ in Critical Essays on Philip Larkin: The poems, ed. by Linda Cookson and Bryan Loughrey (London: Longman), pp. 9- 18. (p.9).

(22) Perloff, Frank O’Hara: Poet Among Painters, p. 30.

(23) : Maurice Merleau –Ponty, The Primacy of Perception, ed.by James M.Edie 2nd edn ( New York: Northwestern press, 1968), p.6.

(24) Merleau –Ponty, p.6.

(25) R.A. York, The poem as utterance (New York: Methuen, 1986), p. 1.

(26) Ian Davidson, ‘Nowhere Else- The Later Poems’ in The Salt Companion To Lee Harward (Cambridge: Salt Publishing 2007), pp. 195-206 (p. 200).

(27) Gibson, p.10.

(28) Hazel Smith, ‘ Hyperscapes in Poetry of Frank O’ Hara: Differences/ Homosexuality/ Topography in English illinois <htt://.edu/mapslpoets/m_r/ohara/painter.htm> {accessed 8 December 2010}.

(29) Ward, p. 59.

(30) Ward, p: 59.

(31) Silverberg, p. 103.

(32) perloff, 33.

«أوميروس» والكوت و«لارا» إيفاريستو.. بناء وإعادة بناء الهوية عبر الذاكرة وفي الذاكرة

«أوميروس» والكوت و«لارا» إيفاريستو.. بناء وإعادة بناء الهوية عبر الذاكرة وفي الذاكرة

أوميلارتي

سنأخذك إلى الذاكرة

نامي الآن

(لارا، ص109)

سترون

كيف يكون الأمر

حين تكونون بلا جذور في هذا العالم

(أوميروس، ص 21)

يوجد كثير من نقاط التقارب في سيرتَي الشاعر الكاريبي ديريك والكوت والشاعرة والروائية البريطانية من أصل نيجيري بيرناردين إيفاريستو. كلاهما ذو هوية هجينة؛ والكوت من سلالة «عبيد»، وقد «تسمم بدم جانبين من أسلافه»((Derek Walcott, qtd in John Thieme, Derek Walcott (Manchester: Manchester University, 1999), p. 5.)) (كان أجداده بيضًا، وجداته سوداوات)، بينما كانت إيفاريستو تعاني عدم التوازن بين طرفي عائلتها (أمها إنجليزية، ووالدها نيجيري). وكان كل منهما يدخل نفسه كشخصية رئيسة في عمله.

سرديات البحث عن الهوية

في روايتها الشعرية «لارا»، تجتاز إيفاريستو قرنين من الزمان عبر بريطانيا، وألمانيا، وأيرلندا، ونيجيريا، والبرازيل؛ لتبحث عن سبعة أجيال من أسلافها، من جهة الأب والأم معًا، كي تتصالح مع هويتها. وفي «أوميروس» والكوت((Derek Walcott, Omeros (New York: Farrar, Straus Girous, 1992).))، ترحل الشخصيات، وضمنها والكوت نفسه، الذي يروي قصته الخاصة، إلى إفريقيا وأوربا وأميركا، جسديًّا ومجازيًّا.

لكن مقاربة إيفاريستو لثيمتي الهوية والذاكرة تختلف إلى حد كبير عن مقاربة والكوت. فلارا((abernardine Evaristo, Lara (London: Angela Royal Publishing, 1997).))، كما تقول إيفاريستو نفسها. هي رواية سيرية ذاتية- شعرية، مستمدة من حياتها، وليس بالضرورة أن تكون كما هي((Bernardine Evaristo in >http://opennotebooks.co.uk/tag/bernardine-evaristo/ < {accessed March 2011}.)). وربما لهذا السبب، تقارب إيفاريستو ثيمتي الجذور والهوية، وتربط قضايا مثل العنصرية والتمييز والآخر، من منظور شخصي محدود. إن اهتمامها بـ«استعمار الوعي والثقافة» في المجتمعات المستعمرة السابقة، ومحاولتها المصالحة عبر الذاكرة، وفي الذاكرة، مع ماضيها، ومع ذاتها، كهوية هجينة، هو مسعى لأن تعيد كليتها، و«تضع العبودية خلفها»((Bernardine Evaristo in >http://opennotebooks.co.uk/tag/bernardine-evaristo/ < {accessed 12 March 2011}.)). ومن هنا، فإنها تعيد إنتاج هوية اجتماعية، وليس هوية وطنية أو تاريخية. وعلى العكس منها، يسائل والكوت التاريخ، أو، بشكل أدق الفكرة الأورُبية عن التاريخ، مازجًا الماضي بالحاضر، والثقافات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، والشخصي والعام.

عبر ملحمته «أوميروس»، مع أنه يرفض أن يسميها ملحمة، يرحل والكوت في التاريخ، لا ليتوافق مع نفسه، مثل إيفاريستو، ولكن ليعيد بناء الهويات الهجينة لشخصياته، وهو من ضمنها، وأيضًا ليخلق هوية تاريخية للجزر الكاريبية، «التي تشكلت وسط دمار مادي واجتماعي غير مسبوق»((Şebnem Toplu http://dih.fsu.edu/interculture/pdfs/toplu%20race%20and%20gender.pdf)). بينما نلحظ أن الصراع الرئيس في «لارا» هو بين ذاتها، وأبيها النيجيري تايوو. وهي تكشف هذا الصراع في الجزء الأول من عملها من خلال شخصية تايوو، الذي تصوره بوصفه تمثيلًا لـ«استعمار الثقافة». إنه ينتمي إلى الجيل الأول من الإفريقيين والكاريبيين، الذين «منحوا الفرصة» للمجيء إلى بريطانيا حسب «القانون الوطني» الصادر عام 1948م((British National Act, 1948 http://www.uniset.ca/naty/BNA1948.htm {accessed in 27 April 2011}.))، لكنهم وجدوا أنفسهم على هامش المجتمع، ليس فقط بسبب اللون، ولكن أيضًا بسبب «أصولهم الهمجية».

يصل تايوو إلى مدينة ليفربول «عاصمة بريطانيا العنصرية» في 1949م، «ممتطيًا الحوت نحو الفردوس» (لارا، ص 3). وتكشف رسالته الأولى إلى أمه كيف كان يصرخ ليلًا من السعادة بينما كانت الرياح الدافئة تهب على الميناء، وعن شعوره بالفخر؛ لأن أحلامه، عندما كان في وطنه، قد تحققت أخيرًا: «ماما، كانت أحلامي وقودي لسنوات/ كل تلك الأفلام البريطانية بستة بنسات في دار السينما/ أرى لندن… وأموت» (لارا، ص3). لكن لم يمر وقت طويل، حتى واجه تجربة خيبته الأولى، حين تعرض للتمييز العرقي، واختزلت هويته في مجرد لون.

استعمار الوعي والتماهي مع الثقافة المهيمنة

مثل العديد من كُتاب ما بعد الاستعمار، تهتم إيفاريستو بتحولات الوعي، التي يمكن أن تتمظهر عبر أربع مراحل: أولًا، المواجهة الجسدية، كما في قول تايوو: «سوف أقاتلهم» (لار، ص4)، أو «أنا مستعد لعدوي». ثانيًا: المواجهة الثقافية: «سأكتب مسرحية أنافس فيها سنت جوان، بعنوان (الملاكم المتعب)، بقلم برناردشو الجديد من المستعمرات» (واضح هنا كم يستبطن حتى هذا التحدي التأثير غير الواعي للثقافة المهيمنة، ثقافة المستعمر). والمرحلة الثالثة هي محاولة تايوو استعادة هويته (ادعوني فقط تايوو). والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الانصهار، فقد غير حتى اسمه: «لقبي الآن هو بيلي». (لارا، ص4).

وعلى الرغم من أن «لارا» هي رواية- شعرية، كما وسمتها المؤلفة، فإنها نجحت نسبيًّا من خلال المونولوج الدرامي أن تكشف المراحل الأربع في تحولات وعي تايوو، وأن تقبض على اللحظات الأكثر دلالة في حياته، أوهامه، وخيبة أمله، وعلاقته مع الآخرين. أولًا، تصور الكاتبة المواجهة مع مستعمريه السابقين، التي تمنحه للمرة الأولى إحساسًا بذاته، وتساعده نسبيًّا على تحديد أزمة هويته، أو بالأحرى على خطر فقدان هويته، كإنسان: «ماما، في هذا البلد أنا إنسان ملون. في بلدي أنا فقط».

في فصل هو من أكثر فصول العمل تأثيرًا وشعرية، يكتب تايوو إلى أمه رسالة يعرب فيها عن غربته في لندن «حيث يكرهه الناس، وعندما يلقي عليهم التحية يشعرون بالخوف، أو بالغضب، أو يعبرون إلى الجهة الأخرى» (لارا، ص5)، وهو يعبر فيها أيضًا عن إدراكه «بالغيرية» والهوية: «عندما نضحك نحن الملونين بعفوية فإنهم يعبسون في وجوهنا، وفي القطارات يحدقون في الفراغ».

لكن إيفاريستو لم تترك لبطلها أي خيار. لقد وضعته في مأزق تراجيدي، مواجهًا خياراته الضيقة جدًّا. إنه لا يستطيع العودة إلى وطنه الأم «فمن يذهب إلى أوربا لا يمكن أن يعود فقيرًا»، كما عزلته حتى عن تجمعات النيجيريين في لندن، ما عدا اختلاطه الأسبوعي مع الجيل الأول منهم الذين هاجروا نهاية القرن التاسع عشر إلى بريطانيا، وهو الأمر الذي يمكن أن يوفر له نوعًا من الإحساس بالانتماء، كما حصل، مثلًا، مع المهاجرين من الكاريبي في رواية «اللندنيون الوحيدون» لسام سيلفون((Samuel Selvon, The Lonely Londoners (New York: Longman Publishing, 1985.) http://70.237.187.125/html/DoubleConsciousness.htl >in))، الذين أتوا إلى إنجلترا في المدة نفسها، لكنهم نجحوا، بالرغم من اغترابهم وحياتهم اليومية الصعبة، في تحقيق نوع من الانتماء، من خلال اجتماعاتهم المشتركة، التي يستعيدون فيها ذكرياتهم في وطنهم الأم، واتصالاتهم الشخصية بعضهم مع بعض.

لم يبق أمام تايوو سوى فقدان هويته تدريجيًّا. وتجسد ذلك في اتخاذه اسمًا آخر: بيلي، وهو رمز من رموز مستعمريه السابقين: وليم الأكبر. لقد غير اسمه لأن «اسمًا إفريقيًّا يوصد الأبواب».

إن عملية التماهي مع ثقافة المستعمر هي نتاج وعي مزدوج، يكمن خطره، كما يقول دو بويسيان، عالم الاجتماع الأميركي، في توافق و/ أو تغيير هوية شخص ما إلى الكيفية التي يرى من خلالها الآخرون هذا الشخص. إن الوعي المزدوج لدو بويسيان هو «عالم يخضع الشخص لوعي ذاتي ليس حقيقيًّا، إنه فقط يسمح له برؤية نفسه من خلال اكتشاف العالم الآخر». بمعنى أنه ينظر إلى ذاته من خلال عيون الآخرين، و«يقيس ذاته» بشريط عالم ينظر إليه باحتقار وشفقة، مستمتعًا بذلك((Du Boisian {accessed in 27 March 2011}.)).

ومن ناحية أخرى، فإن عملية اقتلاع الهوية الأصلية هي جوهر إستراتيجية الانصهار الكولونيالية، كما يقول نغوغي واثيونغو في مقدمة كتابه «الإرث الكولونيالي في الأدب الكاريبي»: «الأفارقة في الأميركيتين وفي الكاريبي يرون أن لغاتهم، أسماءهم، أدبهم قد تم الاعتداء عليها بشكل منهجي من قبل النظام الاستعماري، الهادف إلى تعزيز شعور الانتماء إلى القوة الاستعمارية»((Ngugi Wa Thiongo, qtd in Amon Saba Saakana The Colonial Legacy in Caribbesn Literature9 (London: Karnak House, 1987), p.9.)).

العنصر الذي قاد إلى الاستعمار الثقافي الكلي، في حالة تايوو، اكتمل بزواجه من امرأة بيضاء، ألين، لأنها، كما يقول، «الشخص الوحيد في هذا البلد (إنجلترا) الذي يهتم بي. إنها «سونيتتي»، سيدتي الإنجليزية، زوجتي». (لارا، ص 28). وعلى الرغم من أنها تتزوجه بالضد من معارضة عائلتها وأقاربها أن تقترن بـ«واحد من سكان المستعمرات، داكن الوجه»، فإنها كانت تعدُّه «روحًا ضائعة»، تحتاج إلى من ينقذها؛ «لأن أولئك الذين ولدوا في القفر الجنوبي محرومون من الضوء، ولو أن أرواحهم بيضاء» (لارا، ص 8). وهي إشارة واضحة إلى أنها تعدُّه عرقيًّا في منزلة أدنى. وما توحي به المؤلفة هنا، أنه بالرغم من محاولات تايوو الانصهار في المجتمع الإنجليزي، فإنه سيبقى «آخر» حتى لزوجته. والمفارقة، أن تايوو يستعين بمثل شعبي نيجيري لتسويغ انصهاره، أو محالة انصهاره: «عندما تموت جذور شجرة، فإن البذور ستنمو/ أطفالي هم بذوري/ وهذا هو وطني الآن».

ولكن ابنته لارا، التي كبرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتنتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية، تقف على النقيض من أبيها. إنها تمثل مرحلة التحرر من استعمار الوعي. لقد طورت في البداية شعورًا ضعيفًا هشًّا بالانتماء والهوية عندما كانت صغيرة بعدما اصطدمت بالسؤال الحتمي «من أين أنت… في الأصل؟»

منذ اكتساب لارا وعيًا ذاتيًّا نسبيًّا لكونها هجينة، بدأت تتوق للعثور على صورة، قصة، تصف بها نفسها: «كنت… لكن أيهما؟». بدأت بالبحث، ولكن لم تجد ذاتها «لا في الشاشة، لوحة الإعلانات، الكتب، المجلات، وقبل كل شيء في المرآة». (لارا، 69)

وكما عند شخصيات والكوت، وضمنهم والكوت نفسه، الذي رحل فيزيائيًّا ومجازيًّا إلى إفريقيا وقارات أخرى بحثًا عن الهوية، «تمتطي» لارا خيالها لترحل في الزمن في مسعى لاسترداد كلية ذاتها الهجينة. والمفارقة، أن تعبير الهويات المزدوجة، كما تقول آيسا. أس. كاغلر في كتابها «سياسات التعددية الثقافية في أوربا الجديدة»، ينطبق غالبًا على الجيل الثاني والثالث من الأقليات المهاجرة، ويشير، مثل التهجين، إلى تلك العملية التي تتمازج فيها عناصر متباينة من دون أن تمحى التناقضات والفروقات بينها((Ayes S.Caglar, in Politics of Multiculturalism in the New Europe, ed.by Tarig Modood&Pnina Werbner, (London&New York: Zed Books,1997) pp.169-185(p.172))).

إن العلاقة بين الثقافات، كما تضيف، «لا توسع فقط حقل الهويات، بل تمد الهويات بدرجة من الانسيابية». ويذهب آشكروفت، وغريفثس، وتيفين في كتابهم «الإمبراطورية ترد بالكتابة» أبعد من ذلك بالقول: «إن ثقافة ما بعد الاستعمار هي حتميًّا ظاهرة مهجّنة تشتمل على علاقة ديالكتيكية بين النظام الثقافي الأوربي» المطعّم «وبين الوجود الأصلي، بدافعه لخلق أو إعادة خلق هوية ذاتية مستقلة… وهكذا فإن القراءة وإعادة كتابة السجل التاريخي والسردي هما مهمة حيوية لا يمكن الهروب منها في جوهر مشروع ما بعد الاستعمار»((Wilson Harris, qtd in Bill Ashcroft, Gareth, Helen Tiffin, The Empire Writes Back, 4th edn (New York: Routlege,1994),p.35.)).

من الأمثلة القوية الواردة في الرواية حول إمكانية أن نعيد إنتاج هوياتنا بالذاكرة، ينعكس في رؤيا لارا ذات ليلة، عندما تتجسد امرأة سوداء في غرفتها، داعية إياها أن تعيد أباها ثانية إلى نيجيريا: «أعيديه إلى بيته، أعيديه إلى بيته» (لارا 101). كان ذلك صوت إحدى جدات لارا، من ناحية الأب، التي كانت عبدة، واغتصبها أحد سكان المستعرات عام 1844م. ونحن نسمع هذا الصوت في مقدمة مؤلمة، تشير إلى جذور عائلة لارا، التي ترمز لها الشجرة الاستوائية «الباوباب».

من خلال إعادة أبيها الرمزية إلى أرضه الأصلية، تستعيد لارا هوية تايوو، بعدما فقدها عندما هاجر إلى إنجلترا عام 1949م. وهذه العودة إلى الجذور، ولو جثة، تحرره من استعمار وعيه وثقافته، وتمنحه حسًّا قويًّا بالانتماء، وهكذا يعيد إنتاج هويته:

«آه يا شعبي… هتف تايوو بينما كانت السيارة تغادر مطار «ميرتالا محمد» باتجاه المدينة الجزيرة التي كانت طويلًا مجرد ذكرى/ لم يعد إليها منذ أربع وأربعين سنة، ومع ذلك، هذا هو المكان الذي كان يسميه بيتًا». (لارا، ص 103).

وأن نسمي مكانًا ما بيتًا، هو إقرار، كما يقول غاستون باشلار في كتابه «جماليات المكان» بعلاقته بذواتنا، وبأننا نخلق حسًّا مشتركًا بالانتماء. ويَعُدُّ باشلار المكان هو كوننا الأول، كوننا الحقيقي بكل معاني الكلمة. أمّا البيت فهو مكان للخيال والذاكرة، إضافة إلى كونه مكانًا حقيقيًّا. إنه يشكل طريقة عيشنا، وفهمنا لأنفسنا والآخرين. وهكذا، فإننا نتأثر بعمق بمحيطنا، وطريقة مواجهة بعضنا لبعض تعتمد على هذا الفضاء((Gaston Bachlard, The Poetics of Space aesthetics, trans.by Maria Jolas,3rd edn (Boston: Beacon Press, 1994), p. 4)).

تتجسد جذور لارا في اسمها الأصلي (أوميلارا)، ويعني في لغة (يوروبا)، «العائلة مثل الماء» (لارا، ص43)، والماء، مهما ذهب بعيدًا، حسب مثل شعبي في يوروبا، لا ينسى منبعه. وقد صدّرت إيفاريستو روايتها الشعرية بهذا المثل. وقد انتهت الرواية كما بدأت. أصبحت لارا «آباءها، وأجدادها، وآلهتها» من خلال الذاكرة، التي ساعدتها على أن تتوافق مع ماضيها ومع ذاتها ككائن هجين.

والكوت… مواجهة الإرث الكولونيالي

على العكس من تايوو، في رواية «لارا»، نجد أن أخيل في «أوميروس» الذي فرض المستعمرون اسمه عليه، يرحل من سنت لوسيا، الجزيرة التي ولد فيها والكوت، إلى إفريقيا بحثًا عن اسمه المفقود، بعدما بدأ يسائل هويته «لأن شخصًا من دون اسم، اسمه الحقيقي، هو لا شيء»، كما يشرح «أفولبل»، جد أخيل: «داخل القبيلة، كل اسم، كل صوت يدلان على نوعية، على فضيلة مرتبطة بشجرة، بنهر، أو بشخص. بدون ذلك الارتباط، أي شيء بلا معنى، أي شخص لا شيء».

يقول دريك والكوت في ملحمته: «الآن ترون ماذا يعني أن يكون المرء بلا جذور في هذا العالم» (أوميروس، ص1). هذه الموضوعة الكبرى هي جوهر كل أعمال والكوت. إنه هوميروس معاصر، طروادته الوحيدة هي البحث عن الجذور. إن أغلب شخصياته شخصيات منبوذة، هامشية، ومع ذلك لا تكف عن الصراع الإنساني لترسيخ جذورها في مكان يمكن أن تحس أنها مكانها الخاص.

في قصائده ومسرحياته، وفي «أوميروس» خاصةً، يتتبع والكوت مصاير هذه الشخصيات في بحث دائم لا ينتهي. ومن هنا يعود دائمًا إلى التاريخ، تاريخ الكاريبي، وتاريخ إفريقيا، ما قبل المرحلة الكولونيالية وما بعدها، ليس فقط على المستوى الرمزي، وإنما على المستوى المادي أيضًا. فهو نفسه كان رَحّالةً كبيرًا في بحثه عن جذوره الأولى في سانت لوسيا نفسها، التي يهجرها لكن سرعان ما يعود إليها، هذه الجزيرة الصغيرة التي صارت مجموعة من كسر، مثل الكاريبي كله، الذي يقول عنه والكوت: إنه لا يملك مركزًا أو محيطًا، بل هو في الحقيقة استيعاب فوضوي لبيئات إفريقية، وأوربية، وأميركية- هندية، وآسيوية أيضًا.

كان والكوت يؤمن بأن التخلص من الإرث الكولونيالي لا يكمن في الهرب منه، بل في كشفه، وفهمه، ومن ثَمَّ مواجهته. وهو في ذلك يتفق مع أغلب كُتّاب ما بعد المرحلة الكولونالية. لكن ما يميزه مِن معظمهم، أنه لا يفكك الواقع لخلق إحساس بالهوية، كما يفعل النيجيري وول سوينكا أو سلمان رشدي مثلًا، بل يتحدى التاريخ، أو سلطة التاريخ، ليستعيد ما يسميه أحد النقاد «بذور الموروث»؛ ليزرعها في تربتها الأصلية من جديد.

هذه العودة إلى الماضي، كما ذكرنا، هي سمة مشتركة في أدب ما بعد الكولونيالية، لكن آخرين، مثل سوينكا، يرون أن «التوافق الثقافي»، بين المستعمِر -بكسر الميم- والمستعمَر -بفتحها- من دون نبذ التراث الكولونيالي، لا يمكن أن يقود إلى تحقيق الهوية، وإحياء آداب وطنية حقيقية، بل إلى إعادة سيادة الأول ثقافيًّا. وبسبب ذلك، اتهم والكوت بـ «التبعية الثقافية» من جانب كثير من أقرانه.

الهوية والذاكرة

آمن والكوت بالذاكرة كوسيلة لاستعادة الهوية. الذاكرة عنده جزء أساسي في تكوين مثل هذه الهوية، وهذا ما عكسه بقوة في الكتاب الخامس من «أوميروس». إنه يتتبع رحلة «أخيل»، الذي انطلق من سنت لوسيا بعدما طرح على نفسه أسئلة ممضة عن هويته، إلى قبيلة أجداده في إفريقيا. وعلى عكس أخيل هوميروس، الذي لم يستطع أن يصل إلى بلده لأنه فقد ذاكرته، أخيل والكوت يستعيد ذاكرته بمجرد أن يصل إلى إفريقيا، بعد رحلة ملحمية يتشابك فيها الزمان والمكان، والحاضر والماضي، والضياء والظلام، والأحياء والموتى. يكتب والكوت واصفًا هذا المشهد: «توغل الحزن في أعماقه ببطء وهو يبلغ موطنه. صار هو ذاكرته». (أوميروس، 141).

يوحي لنا والكوت هنا بأن الهوية تتمثل في الذاكرة، وتبعًا لذلك نحن نستطيع أن نعيد بناء هويتنا المتشظية عبر الذاكرة. ولكن هل يمكن أن نعيد بناء تجاربنا عبر الذاكرة؟ إنه يؤمن، كما كان يؤمن الفيلسوف ديفيد هيوم، بإمكانية ذلك. وكان هيوم يؤمن بقدرتنا على إعادة بناء تجاربنا في الذاكرة، وبالترابط بين الهوية والذاكرة، بل إن الإنسان ليس أكثر من ذاكرة، وإن العدمية ستسود الإنسانية من دونها. والهوية للاثنين ليست مجرد إحساس بمكان، بل بتاريخ، مهما كان هذا التاريخ، وهذا التاريخ هو الذاكرة، أو إن الذاكرة هي التاريخ.

يعبر والكوت عن ذلك شعريًّا في «أوميروس» حين يواجه «أخيل»، الذي كان قادرًا على التنبؤ بالمستقبل، كابوس العبودية في طريقه لقرية أجداده:

كان بإمكانه أن يسمع الأصداء نفسها التي تولدها فؤوسهم الحجرية،

في المرتفعات فوق أوتاد المستعمرة المثبتة بإحكام، حيث الأصداء التي توقعها.

نظر أخيل في الخريطة التي يحملها في يده

إنها تتشعب مثل الأنهار، والساحل…

ثم قامت الحرب. (أوميروس، ص44).

في المشهد التالي، نرى أخيل بمجرد مواجهته كل ذلك، يفقد ذاكرته، فتبدأ واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ: العبودية، وتلتها الكولونيالية بأشكالها المختلفة. واجه أخيل، الذي يتنبأ بالمستقبل، كابوس العبودية في طريقه إلى قريته القاحلة، قرية أجداده، عندما شَنَّ تُجّارُ العبيدِ، وهم سودٌ أيضًا وليسوا من الجنس الأبيض، غارةً عليها. هذه المواجهة كانت حاسمة في وعيه الذاتي بماضيه. وتعمل الذاكرة هنا كـ«نتاج مرئي للتاريخ».

ولكن المشهد الذي يتبع الغارة أثار تفسيرات متباينة بين نقاد والكوت. فبمجرد أن يبلل أخيل شفتيه بقطرات من الجعة، يفقد ذاكرته! يفسر برس كنغ هذا المشهد بقوله في كتابه «ديريك والكوت… حياة كاريبية» بالقول: إن والكوت أراد أن يوحي باستحالة استعادة شيء قد تم فقدانه»((Bruce King, Dereck Walcott, A Carbean Life ( ) Oxford: Oxford Press, 2000), p.518814))، وهو تفسير يناقض بشدة ثيمة قصيدة «أوميروس»، الهادفة إلى إعادة بناء ما فقد في مجرى التاريخ، وتذكير البشرية بما نُسِيَ، «فما نحتاجه هو ذاكرة جيدة»؛ لأن «الكثير قد تم نسيانه» (أوميروس، ص54). ولكن تفسير الناقد جون ثيم يبدو أكثر إقناعًا، ولو إنه ليس صائبًا تمامًا. إنه يرى أن والكوت «في إستراتيجية بحثه عن تعريف ذاتي، وتعريف مناطقي من خلال الممارسة، يغوص في طبقة بعد طبقة من التحول الميتافيزيقي، الذي يقاوم احتمالية تعريف مركزي، وجوهري»، وهو يوحي بذلك أن الهوية ستبقى دائمًا مجرد عملية، لا تنتج شيئًا أبدًا((Walcott, Dream on Monkey quoted in Derek Walcot, Thiem p.5)).

والمسألة هنا، هي أن أخيل ليس إفريقيًّا؛ إنه كاريبيّ. إنه يرحل إلى إفريقيا في رؤياه بحثًا عن جده من ناحية الأب، وليكتشف الجزء الإفريقي من شخصيته، وهو أمر أساسي في إعادة بناء هويته، ولكنه لم يعد إفريقيًّا، بل كاريبيّ. وتجسد هذا في ارتدائه لباسًا غربيًّا حين وصل إلى الساحل، وهو ما أثار دهشة القرويين الأفارقة الذين أخذوا بتلمس بنطاله، وقميصه الداخلي، ويديه (أوميروس،135). ما يوحي به والكوت هنا هو أن عملية بناء وإعادة بناء الهوية يتطلبان فقط تفاعلًا ديناميكيًّا بين الماضي والحاضر.

أخيل يرحل إلى الماضي، مثل لارا، لاكتشافه، لامتلاكه، وليس للعيش فيه. إنه يعيد بناء ماضيه في ذاكرته، ويكتشف التاريخ الحقيقي من أجل نفسه، ومن أجل أن يستعيد اسمه، دلالة على هويته.

في مقال له بعنوان: «وحي التاريخ»، ينتقد والكوت كُتّابَ الكاريبي «الممسوسين بتدمير الماضي التاريخي». إنه يؤمن بأن «السجل التاريخي يجب أن يُمحَى بشكل كامل حتى تتحقق بداية جديدة». هذا هو الهدف الرئيس لوالكوت وإيفاريستو في رحلتيهما إلى الماضي. فمن خلال الذاكرة، وفي الذاكرة، «بعيدًا من فضاء المستعمرين السابقين»، سعى الاثنان ليس لاستعادة أو بناء وإعادة بناء الهوية، ولكن أيضًا خلق جمالية من خلال نصوصهما، وبخاصة والكوت، «تتجاوز أدب اليأس والاتهام والانتقام، الذي كتبه سليلو العبيد، وأدب الندامة الذي كتبه سليلو السادة».