سيرة ابن رشد.. من وجهة نظر مستعرب إسباني

سيرة ابن رشد.. من وجهة نظر مستعرب إسباني

هل انتهى زمن ابن رشد؟ هل تجاوز الزمن أفكاره؟ تبدو أن الإجابة: لا، فلا تزال أفكار ابن رشد مطروحة في الجامعات الغربية، ولا تزال شروحاته للمعلم الأول، أرسطو، هي المرجعية الأولى لدارسي الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. لكن الأهم من ذلك، أننا في العالم العربي لا نزال في حاجة إلى قراءته وفهمه، وتحليل منهجه العقلاني والتعاطي معه. هنا لن نكتفي بوجهة نظرنا، وإنما نستعرض وجهة النظر الغربية، بالتحديد الإسبانية، حيث ولد وعاش. هنا يمكننا قراءة فصل من كتاب «ابن رشد: سيرة فكرية» للمستعرب الإسباني أنطونيو باتشيكو، المتخصص في الدراسات الإسلامية.

المترجم

حول الأخلاق

في عام 1175م، كان لدى ابن رشد مشروع للكتابة عن المعقولات، وبدءًا من ذلك العام، يمكن الحديث عن ملخصاته: واحد عن البلاغة، بتاريخ 26 يوليو، والآخر عن الشعر، في ديسمبر من العام نفسه، وكلاهما لأعمال أرسطية. على ما يبدو، تدفق تأمل الفيلسوف في مسائل تتعلق بذاتية الإنسان ونشاطه الأخلاقي وواجباته ككيان اجتماعي، وهي قضايا تمثل جزءًا من نظام أيديولوجي، نظام الموحدين، يحث على الجوانب المتعلقة ببواطن الضمائر. على رغم استمرار الإمبراطورية في إظهار قوتها السياسية الاقتصادية.

في الوقت نفسه تقريبًا، تكونت الجنسيات في الممالك المسيحية، حيث كان ألفونسو الثامن ملك قشتالة (1162-1196م) هو الملك الذي من شأنه أن يوسع حدود شبه الجزيرة المسيحية وسيمثل أكبر تهديد مباشر للموحدين في الأندلس. وفي عام 1177م، استولى ألفونسو الثامن على كوينكا واحتل حوض نهر جواديانا بأكمله حتى الحدود البرتغالية الحالية، إضافة إلى الحوض العلوي لنهر خوكار.

من ناحية أخرى، منذ نهاية القرن السابق، سادت روح الحروب الصليبية في أغلب أنحاء أوربا الحالية، ورُبِطَ القتال ضد المسلمين الإسبان بالحروب الصليبية في الشرق، التي أعلنها مجلس لا تيران في عام 1123م. تزامن أهم هذه الحروب في شبه الجزيرة مع الحرب الثانية في الشرق عام 1147م، بحيث دخلت مجموعة كبيرة من الصليبيين شبه الجزيرة واحتلت ألميرية ولشبونة. شارك العديد من الجنويين والإنجليز في حصار هذه المدن التي استولت مع الجيوش المسيحية بشبه الجزيرة على مدينة ألميرية في ذلك العام، رغم أنها عادت إلى الحكم الإسلامي بعد عشر سنوات.

في 4 مايو 1177م، أكمل ابن رشد ملخصه عن «الأخلاق إلى نيقوماخوس» لأرسطو، وبهذا نصل إلى هذا المجال المتعلق بالفلسفة العملية التي بالنسبة لأرسطو تنعكس في الاستنتاجات العملية المستمدة من نظريته الميتافيزيقية والكونية. تركز الأخلاق الأرسطية على الأخلاق إلى أوديموس، الأخلاق إلى نيقوماخوس، الأخلاق الكبرى. أيضًا، في جزء من بلاغته وفي أطروحة موجزة عن الفضائل والرذائل. تشير عناوين أول عملين من الأعمال المذكورة، الأول إلى أوديموس، وهو صديق عظيم لأرسطو، وإلى نيقوماخوس، ابنه من زوجته الثانية هيربيليس.

أنطونيو باتشيكو

في فكر أرسطو، العلاقة الوثيقة والحميمة بين الوجود والخير واضحة: العديد من الخيرات المعينة الموزعة عن طريق القياس تتوافق مع تعدد الكائن. كل كائن يتوافق مع مصلحته، وهو تحقيق الكمال الخاص به. جميع الكائنات، المكونة من الفعل والقوة، من الصورة والمادة، مقدر لها بطبيعتها تحقيق درجة الكمال التي تتوافق معها على مقياسها وتعتمد تلك الدرجة على مبادئ كل منها الواردة في الصورة.

على عكس أفلاطون الذي يَعُدّ الخير فكرة أبدية وغير قابلة للتغيير، يقترح أرسطو خيرًا جزئيًّا لكل درجة من درجات الوجود: خير المواد السماوية والبشر، وخير الكائنات الحية وحاملة الأخرى: الحيوانات والخضروات والمعادن.

النسبية التي يتعامل بها أرسطو مع المفاهيم الأخلاقية، تحدده بالبحث فيما هو الخير والكمال والسعادة التي تتوافق مع الإنسان ليتناغم معها التوجه العملي لسلوكه. في هذا الصدد، يوضح الفيلسوف اليوناني أن الخير المناسب لكل كائن عامةً، وللإنسان خاصةً، تحدده إمكانيات طبيعته. بصرف النظر عن هذا المبدأ، كما يقول في «الأخلاق إلى نيقوماخوس»: «يمكننا حتى أن نرغب في أشياء مستحيلة، مثل الخلود».

بحكم طبيعتها، وفقًا لأرسطو، فجميع الأعمال البشرية موجهة نحو تحقيق خير ما، وعلى هذه الغاية تتوقف المتعة والسعادة: «يبدو أن كل فن، وكل طريقة، وكذلك كل اختيار، يرغب في بعض الخير. لهذا السبب عرّف القدماء الخير على أنه ما يشتهيه كل شيء»((أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس، الكتاب الأول، الباب الثاني.)).

بشكل عام، يتبع ابن رشد الخطوط الموضحة في هذه الأطروحات، على الرغم من أن لحظته التاريخية والاجتماعية مختلفة تمامًا عن لحظة أرسطو، ولهذا السبب، في تعليقه على «الأخلاق» للمعلم الأول، أكد الجوانبَ ذات العلاقة بـتحقيق الخير الأعلى في كنف مدينة، أي في المدينة المثالية الموحدية كما تصورها. من الواضح أن الأخلاق والسياسة، في رؤيته للعالم، كما لدى أرسطو بالدرجة نفسها، مجالان مفاهيميان مترابطان بشكل وثيق، حيث الأولى تشكّل الجانب النظري للسياسة الواقعية، والثانية ما يتعلق بالجانب العملي أو الحكومة السياسية، أو المدينة. ومن ثم، تبدو الأخلاق تحضيرًا وتمهيدًا للسياسة، وهذا هو الفارق الدقيق الأساسي الذي يمكن ملاحظته في عمل ابن رشد، ويتجلى في التلميح الذي قدّمه عن الطب عندما تحدث عن أنه ساهم فيه بمساهمات نظرية وعملية ذات أهمية، وكلاهما مرتبط ارتباطًا وثيقًا.

أمّا ابن رشد، فالجانب النظري للسياسة يعني له ضمنًا النظر في معرفة تهدف إلى تحقيق سعادة المواطن، وعلى الرغم من رؤيته العامة للواقع، فالسعادة الأكثر أصالة والأنبل هي تلك المستمدة من إنجازات العقل. لقد رأى، في تعليقه الأخلاقي، أنه يفضل إظهار نوع السعادة التي يمكن لأكبر عدد من الناس الوصول إليها. هذا التكريس لشرح الجوانب العملية للأخلاق التي تُفهم على أنها أخلاق المواطن وكذلك الحاكم، يرتبط ارتباطًا مباشرًا، من ناحية أخرى، بتصنيفه لقدرات عقول المختارين والجمهور المشار إليها سابقًا.

في عمل أرسطو، ثمة إشارة ملحوظة للعدالة كأساس لكل عمل أخلاقي، وفي الوقت نفسه، كإطار يجب أن تحقق فيه هذه الأخلاق أهدافها. إذا كانت الأخلاق تشير مباشرة إلى الفضائل، فإن أعلاها، بالنسبة إلى أرسطو، هي العدالة، وهو ما يُدخل التناغم في الجسد الاجتماعي، ويخصص لكل عنصر من العناصر التي تشكله المكان الذي يتوافق مع الطبيعة.

العدالة إذن هي أساس نظام الكون بأسره، ومن الواضح أن عالم البشر يجب أن يوجه جميع أنشطته نحو تحقيق تلك الفضيلة النبيلة: «عدالة واحدة تحتوي على كل الفضائل»، كما يقول الفيلسوف اليوناني في الفصل الخامس من كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس». ومع ذلك، يتابع: إن اعتبارًا منفردًا لهذه الفضيلة لن يكون له أي معنى، وبالتالي، من الضروري الإشارة إلى عدالة الإنسان ككائن اجتماعي، أي إلى ما يمكن أن نسميه العدالة السياسية والمدنية.

والعدالة، في جانبها العملي، تشير مباشرةً إلى القانون وهذا، من وجهة نظر أخرى، يمكن اعتباره طبيعيًّا أو قانونًا محضًا. يقول أرسطو في هذا الصدد: إن «جزءًا من القانون السياسي من أصل طبيعي والآخر قانوني محض. فما هو طبيعي إنما هو هذا الذي له قوته حيثما كان، وليس تابعًا البتة للقوانين التي يصدرها الناس لمعنى أو لمعنى آخر؛ وما هو قانوني محض هو ذلك الذي يمكن مبدئيًّا أن يقع على صورة أو أخرى مضادة لها بلا فرق وعلى سواء. غير أنه تزول عنه هذه السوائية متى نصه القانون. مثال ذلك أن القانون يأمر بحمل فدية الأسرى أو أن تذبح معزة لزيوس لا نعجتين. وعلى هذا النحو جميع النصوص الخاصة بالأفراد، فللقانون أن يأمر بتقريب القربان إلى برازيديس. وذلك هو الشأن في كل ما توجبه الأوامر العالية الخاصة (…)((المصدر نفسه، الكتاب الخامس، الباب السابع. ملحوظة: اعتمدنا هنا ترجمة أحمد لطفي السيد، مع اختلاف أنه ترجمها «لا نعجة». (المترجم).))».

يشارك ابن رشد في هذه الأفكار، بل يقبل أن أرسطو يقترح التضحية كجزء من الجانب التقليدي للعدالة، على الرغم من أنه بعيد من اعتبار أن القانون الطبيعي له أي علاقة بعدالة الآلهة، كما يؤكد ضمنيًّا النص الأرسطي.

ما يهم فيلسوف قرطبة هو الرؤية العامة التي يقدمها الفيلسوف اليوناني للقانون، وبناءً عليها، يطبق ما تقدمه عمومياته باعتبارها قابلة للفهم والتطبيق في مجتمع عصره، أي المجتمع الموحدي. مع ذلك، فالتصحيحات التي أجراها على النص الأرسطي في هذا الصدد، وبخاصة تلك المتعلقة بأساسه الديني، يشير فيها إلى أنه يرفض فكرة أرسطو. وهكذا، عندما يتحدث أرسطو عن العدالة كشيء بشري في الأساس مقارنة بالآلهة التي تعتبر فكرة الإنسان عن العدالة غريبة عنهم، فإن ابن رشد يطرح القضية من منظور مؤمن بأن العدل الإلهي، ومصيره هو سلوك الإنسان، يستمر إلى درجة لا تشكل أسسها القانونية والتشريعية الشغل الشاغل للإنسان. إن نطاق هذه العدالة وحدودها مذكورة صراحة في القرآن الكريم. من جهة، الله هو المشرّع الأعلى الذي يشرّع بإنصاف ويفعل ذلك عن طريق الأحكام المتعلقة بمختلف جوانب المجتمع: توزيع الميراث، ومعاملة الأيتام والأرامل، عقوبات السارق والزاني وسلسلة كاملة من الأحكام التشريعية التي نزلت مباشرةً وظهرت على هذا النحو في السور القرآنية. وكقاعدة عامة لهم جميعًا، ما حدده المشرّع في الآية الثامنة من سورة المائدة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

في الرسالة الحاسمة المؤرخة في عام 1179م التي سنتحدث عنها على نطاق أوسع لاحقًا، يحاول ابن رشد إفهام معاصريه، كما فعل هو نفسه، رؤية عالم المفكرين اليونانيين، مع التنبيه أن رؤية اليونان للعالم مختلفة تمامًا عن الإسلام، ولهذا السبب لا مكان للتأكيدات ذات الطابع العقائدي أو الديني للأول في الثانية؛ لذلك، يجب فهم الدعم الذي تقدمه الأخلاق الأرسطية، في عمل الفيلسوف القرطبي، في جانبه النظري والتأسيسي للمفاهيم السياسية المجسدة في مجتمعه. المجتمع الذي، من ناحية أخرى، يجد وسائل الكمال الأخلاقي الخاص به في سياق سياسة عادلة يجب تحليلها في مجال الأخلاق العملية. سيكرس ابن رشد نفسه لهذه الدراسة في تعليقه على الجمهورية لأفلاطون.

أزلية العالم

إن محتوى تأمل مفكري القرن الثاني عشر، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، يحدده إلى حد كبير خلفية دينية تغذي وتملأ تفرغهم الفكري وتطلعاتهم الروحية. في الغرب، من ينتمون إلى الدرجة الدينية، وبخاصة الأوغسطينيون والدومينيكيون والفرنسيسكان، هم من لديهم إمكانية الوصول إلى الأفق الواسع للافتراضات الفلسفية التي، بدءًا من ذلك القرن، ستزداد عمقًا واتساعًا بفضل مساهمة الترجمات. في الإسلام، وُلد التيار العقلاني وكل ما تفرع عنه وتميز به من وجهات نظر، تحت ضغط الحاجة المُلِحّة لتأويل محتوى النص المنزّل.

مع ابن رشد، يبدو أن الفكر الإسلامي قد وصل إلى الإنجاز الكلي لكل هذه الجهود النظرية. إذا وضعنا في تاريخ الفكر الإسلامي فيلسوف قرطبة في قمة تمثيل نوع معين من العقلانية، وجعله نموذجًا لاعتبار جزئي وضيق فيما يتعلق بإعمال العقل، فإن فهم عمله كان مختزلًا. ومع ذلك، إذا فكرنا في هذا العمل باعتباره تأملًا لما سيحدده كانط في أفكاره الثلاثة: الله والروح والعالم، فإننا نقترب أكثر من فهم أكثر ملاءمة لما اعتقده وكتبه ابن رشد حقًّا.

كل هذا يقودنا إلى اعتبار عمله نصًّا يمكن من خلاله فهم مرحلة كاملة من الفكر الإسلامي دون الحاجة إلى اللجوء إلى إعادة بناء الأفكار الفلسفية قبل تلك المرحلة نفسها، بل إنها حاضرة وتغدو حديثة ضمن النص نفسه الذي فهمه ولخصه وقدّم له نظرة كونية ذات طبيعة كلية.

إن فلسفة ابن رشد، التي ولدت من رحم ذاتية شخصية وراحت إلى الكلية، تدين لذاتيات أخرى كانت شخصية في زمنها: الذاتية الأرسطية وذاتية معلقيه من جهة، وذاتية المفكرين المسلمين الشرقيين والغربيين الكبار قبله. لقد أتاح التوليف التكاملي لابن رشد صعودًا تأمليًّا انطلق من حقائق ملموسة محددة إلى قمم نظرية، وبالتالي، فالمعمار الهندسي لفكره استفاد من امتيازات كل مجال من مجالات المعرفة، اللاهوتية والنفسية والكونية، وربطها بتأمل كلي أطرافه الإنسان وخالقه.

يبدو أن أغلب فلاسفة العالم العربي والإسلامي، بما فيهم ابن رشد، شعروا بأن الإغريق قد فلسفوا العالم من الخارج، وأنهم جاؤوا ليكملوا هذا التحليل، وكانت النتيجة نتاجًا فكريًّا التزم بالنص المنزّل. من الواضح أنه من هذا الطموح نشأت معضلات وأزمات لم تظهر في البداية؛ لكون واحدة منها مرتبطة بأزلية العالم. هذا السؤال، الذي أثار بالفعل شكوك ابن رشد ومخاوفه عندما طرحه الخليفة الموحدي، لم يخل من حضور دائم في أفكاره، وحيث إن وضعه في القضاء أصبح أكثر صلابة، حاول معالجته في واحد من أعماله.

عن مادة السماء

في 1178م، ومن خلال تلميحات واستنتاجات نصية ذات ترتيب زمني، كتب ابن رشد أطروحة موجزة لا توجد منها مخطوطة عربية معروفة، لكنه تحدث فيها عن خلود أو أزلية العالم ككل. كان العنوان العربي، الذي أعيد بناؤه بهذه اللغة، يُقرأ على أنه مقالة في شهور الفلك. عنوانه اللاتيني، الذي يُعرف به هذا العمل بشكل عام، هو Sermo de Substantia Orbis((يمكن ترجمة هذا العنوان بـ«مقالة في جوهر العالم» (المترجم).)) وتشير البيانات القابلة للاستنتاج من تحقيقه إلى أن ابن رشد عاش في مراكش في ذلك الوقت. حظي هذا العمل بالعديد من التعليقات، أقدمها وأشهرها لألبارو دي توليدو، ويرجع تاريخه إلى السنوات الأخيرة من القرن الثالث عشر. كما علّق عليه مفكرون يهود مثل ليفي بن جيرسون (ت: 1344م) وموسى الناربوني (ت: 1349م). وبدايةً من القرنين الخامس والسادس عشر، اطلعنا على تعليقات ممثلي ما يسمى بالرشدية اللاتينية.

يجدر التساؤل عن شعبية هذا الكتاب بين الفلاسفة اليهود وفلاسفة الغرب اللاتيني، ويرد أحد الباحثين المشهورين في تاريخ الأفكار الكونية على هذا: «إن Sermo de Substantia Orbis كتاب جميل، وبالتالي، فإن الإعجاب الذي عبّر عنه المدرسون اللاتينيون مفهوم تمامًا؛ لتماسك فكره، وترتيب استنتاجاته، ووضوح صياغاته وإيجازها، ينافس ابن رشد أرسطو. لقد استخدم في طرحه أكثر الطرق منطقية وتناغمًا لتلك المستعرضة في الميتافيزيقا. من ناحية أخرى، لم يكن لمؤلفها أي نية سوى توضيح واستكمال ما كشفه معلمه، ويصرح بذلك في نهاية الفصل الأول من كتابه: لقد حاولنا في هذا الخطاب أن نوضح ما هو جوهر الجنة وما قلناه فيه يتوافق مع ما أظهره أرسطو في أعماله والنتائج التي انعكست فيها»((P, Dauhem, Le systéme de Monde, 15, Paris, 1916, p 534.)).

في «مقالة في الفلك»، يفكك ابن رشد البنية التي صاغها الفارابي وابن سينا ​​حول الأجرام السماوية ومحركاتها، وفي الوقت نفسه، يكمل الجوانب التي كشفها أرسطو بطريقة موجزة جدًّا؛ لأنه تعامل إلى حد أكبر مع تناول الكائنات دون القمرية، والقابلة للفساد والمولدة. في عمله، ينحدر ابن رشد من منهجية منطقية تبدأ من تقدير المادة الخام الأرسطية.

وفقًا لأرسطو، فمفهوم المادة، كقوة خالصة في النظام الهيولاني، يشير إلى طبقة أساسية أبدية وكلية تأتي منها جميع الأجسام. تضاف إلى هذه الفكرة فكرة الشكل الجوهري بالنسبة للهيولى وهو ذو واقع إيجابي، رغم أنه لا يمكن أن يوجد من تلقاء نفسه، ولكنه متحد مع مبدأ مشترك جوهري هو مبدأ الصورة التي تتمثل وظيفتها في تحديد المادة وتحديثها.

المادة الأولى تقع في أصغر درجة من سلم الواقع. هذه المادة، في حال كونها شيئًا غير محدد في الفعل، تتصف بقوة أن تكون كل شيء: «نقول: إن هناك مادة من أجسام محسوسة، لكنها غير منفصلة أبدًا، ولا توجد أبدًا بدون بعض الصور المعاكسة، التي ينطلق منها ما يسمى بالعناصر»((أرسطو، الميتافيزيقا، الكتاب السابع، 10، 1036، 8.)).

هذه المادة التي لا يمكن معرفتها في حد ذاتها ولا تدركها الحواس، موجودة وتُصَوَّر من طريق القياس على تغيرات تحدث في نظام المادة المحسوسة، المادة الثانية. بنفس طريقة نحات يستطيع استخراج العديد من الأشياء المختلفة من كتلة من الرخام، تحت كل التحولات الجوهرية للعالم المادي، يجب أن يكون هناك أيضًا شيء مشترك، من دون تحديد، من المحتمل أن يكون قادرًا على تلقي أكثر الأشكال تنوعًا بعمل السبب الفعال.

وبهذه الطريقة، فالمادة الأولى، وفقًا لأرسطو، لها الخصائص التالية: أنها مفهومة، حيث يمكن إدراكها من خلال العقل؛ أنها غير قابلة للفساد؛ لأن كل شيء يخرج منها وكل شيء يذوب فيها، وأنها غير محدودة وغير معرّفة، وهي صفة أيضًا شائعة ومطابقة لجميع المواد المادية للعالم الأرضي، إضافة إلى الموضوع الأول والأخير لجميع الأجيال والفساد الكبير في ذلك العالم.

في الفكر الأفلاطوني الجديد، كما قلنا، هذه المادة الأولية أو المادة الخام الأرسطية هي العدم، اللاوجود؛ لذلك، لا يمكن التكهن بطبيعتها لأنها غير موجودة. وفي الفكر الإسلامي، يلمح الفارابي، مثل ابن سينا​​، إلى مادة أولية مشتركة بين جميع العناصر. الأول يقول: إن للأجرام السماوية، إلى جانب العناصر الأربعة، خاصية مشتركة، فهي تتكون من مادة وصورة. مع ذلك، فإن «موضوع الكرات والأجرام السماوية يختلف عن مسألة العناصر الأربعة والأشياء القابلة للفساد. من جانبهم، فإن الأجرام السماوية لها صور مختلفة فيما يتعلق بالأجسام الأخرى، رغم أنها تشاركها في الجسدية، وبالتالي، في الأبعاد الثلاثة الموجودة في جميع الأجسام»((عبدالرحمن بدوي مستشهدًا بـ«دوهيم»، ص 817.)).

بالفعل في التعليق الأوسط على الميتافيزيقا الأرسطية، انتقد ابن رشد هذه المفاهيم حول المادة الأولى، وعلى وجه التحديد أطروحة ابن سينا​​، كما جادل في مقالة في الفلك، أن المادة الأولية ليس لها أبعاد: «يفترض ابن سينا ​​أن التصرف في الأبعاد الثلاثة غير المحددة قد تم تحديده. لهذا السبب، يفترض أنه في المادة الأولى يجب بالضرورة أن يكون هناك صورة أولى قبل أن تشكل الأبعاد جزءًا منه»((دوهيم يستشهد بابن رشد، ص 547.)).

لا تتكوّن الأجرام السماوية ومحيطها الذي يحتويها من مادة يمكن تقسيمها وبطريقة تمنحها أبعادًا معينة. لا يخضع الجرم السماوي، مثل الجسد الأرضي، للتوليد والفساد، وبالتالي لا علاقة له بمركب المادة والصورة. إنه كيان بسيط، من دون إمكانية التقسيم في العمل. يقول ابن رشد في هذا الصدد: «في الجسد دون القمري، الهيولى شيء يكون وجوده محتملًا ولا توجد صورة مستقلة عن الهيولى. في الواحد السماوي، على العكس، الهيولى ليس شيئًا موجودًا بالقوة. إنه الدعم، موضوع الصورة، لكن ليس كاحتمالية بل كحقيقة. الصورة، في هذه الحالة، موجودة بشكل مستقل عن الهيولى، وبالتالي، فإن وظيفته ليست جعل الفعل ينتقل إلى مادته المقابلة. نحن نتحدث عن الأجرام عندما نشير إلى الأجرام السماوية والقمرية، ولكن هذا فقط من خلال الاصطلاح اللغوي. تختلف طبيعتا كليهما اختلافًا جوهريًّا»((المصدر نفسه، ص 547.)).