ضد النسوية.. موقف من داخل الثقافة الغربية
في ذروة تألقها المهني في التلفزيون الألماني، وحصولها على لقب «أكثر مذيعة محبوبة في ألمانيا» عام 2006م أصدرت إيفا هيرمان كتابها «مبدأ حواء: من أجل أنوثة جديدة». أحدث الكتاب صدمة لكثير من متابعيها؛ ذلك أنها عرضت أفكارًا ومواقف ضد ما تمثله هي في حياة الألمان. دعت إيفا المرأة إلى العودة إلى البيت، والتفرغ لأطفالها، والاهتمام بأسرتها. كان كتابها مزيجًا من الانطباعات الشخصية والبحث القائم على أرقام وإحصاءات، خلاصته أن معدلات الزيادة السكانية تتناقص، وأن الأسر تتفكك، وأن هذا أمر لا يمكن التقليل من أهميته(1).
أفكار إيفا هيرمان لم تكن وليدة هذا الكتاب فقط، فقد كتبت مقالًا قبل ذلك بسنوات عنوانه: «التحرر- هل هو مغالطة؟» ناقشت فيها أسباب انخفاض معدل المواليد في ألمانيا، ورأت أن سبب هذا هو المفاهيم التي طرحتها الحركة النسوية؛ لأنها تدعو إلى أفكار ليست من طبيعة النساء، فالمكان الطبيعي للنساء هو البيت داخل الأسرة بمفهومها التقليدي. رأت هيرمان في هذه المقالة أن الحركة النسوية تحاول أن تجعل النساء مثل الرجال، في حين تعتقد أن كثيرًا من الأعمال لا تناسب إلا الرجال. لكن النساء في اقتحامهنّ الدؤوب لكل مجالات العمل الذكوري تخاطر بأن تحمل في ذاتها صفات ذكورية، وتبتعد من طبيعتها الأولى، وهذا سيؤدي إلى انخفاض المواليد. لم تكن إيفا هيرمان هي الصوت الوحيد من داخل الثقافة الغربية الذي خاطر بإعلان هذا الموقف المضاد. أصوات كثيرة رأت في جموح الحركة النسوية واندفاعها خطرًا يخلخل الأسس الاجتماعية التي قامت عليها المجتمعات الغربية، ويهدد بانقراضها. لقد غفلت الحركة النسوية في توحشها واتساع مجال تأثيرها عن مراجعة نفسها لتتبين إلى أن يصل بها كل ما قدمته من أفكار. إن ما بدا ملاكًا في أوائله تحول إلى شيطان في اللحظة الراهنة.
مفاهيم كبرى
يصعب في هذا السياق المحدود استكشاف الجذور التي آلت بالمرأة إلى هذا الوضع المعقد الآن. فالحركة النسوية بعيدة في بداياتها زمنيًّا، متسعة في تأثيرها جغرافيًّا، متشعبة في الأفكار التي طرحتها، ملتبسة في ردود الأفعال حولها. مع ذلك يمكن رصد جملة من المفاهيم الكبرى حاضرة في كل جدل حول المرأة. مفاهيم مثل: البطريركية patriarchy، والاضطهاد، والاختلاف، والهوية، والجنوسة. وهي مفاهيم جرت السيطرة عليها من النسويات الأوائل، وإعادة صياغتها لتتوافق مع الاتجاهات الكبرى للحركة النسوية. لكن يظل مفهوم البطريركية هو المظلة التي تتجمع حولها كل المفاهيم الأخرى، الكبرى منها والصغرى. يمكن لنا هنا أن نتحاور مع هذه المفاهيم من خارج الثقافة الغربية، ومن منطلقات أيديولوجية واجتماعية مغايرة لما طُرِح في البيئات الأصلية لها، لكني هنا سأعرض لنقد واحدة من أهم الأصوات النسوية الفرنسية: جوليا كريستيفا الفيلسوفة والناقدة البلغارية الأصل، وهي صاحبة الصياغة الأشهر لمصطلح «التناص». كانت كريستيفا صوتًا نسويًّا قويًّا، وجزءًا فاعلًا في الحركة النسوية الفرنسية التي توصف بأنها أهم الحركات النسوية في العالم بجانب النسوية الأميركية، وقد أفرزت أهم الأصوات في الحركة النسوية، لعل سيمون دي بوفوار وكتابها «الجنس الثاني»(2) وجملتها الأشهر «المرأة لا تُولَد امرأة، بل تصبح امرأة» هي التعبير الأبرز عن قوة النسوية الفرنسية.
لكن كريستيفا بدأت مبكرًا في مراجعة مسلّماتها النسوية، فانسحبت وكتبت أفكارها الخاصة. طرحت كريستيفا مفهوم «الأمومة maternity»، لم تواجه به البطريركية التي تفهمت أسباب وجودها، وقبلت جزئيًّا بعض تجلياتها، بل واجهت الأفكار النسوية. إن قراءة مجمل الموقف الجديد لكريستيفا يخلص إلى أنها ترى أن الأمومة هي واجب المرأة(3)، وهي تعتقد أن الرجال يخلقون عالم القوة والتمثيل representation، في حين تخلق المرأة الأطفال. الأمومة لديها مثال للخبرة التي تستدعي تساؤلًا عن الذات الموحدة، وتصبح الأمومة هي الذات في حالة تكون، وتطرح سؤالًا عن الحد بين الذات والآخر؛ لأن الجسد الأمومي يحتوي على آخر. مع الأمومة من المستحيل التمييز بين الذات والموضوع من دون الدخول في تقسيمات اعتباطية. وهي تحلل الأمومة كي تقدم رؤيتها التي ترى أن هذا التمييز بين الذات والموضوع، وكل التحديدات للذوات الموحدة، كلها أمور اعتباطية(4).
الاختلاف عن الرجل
إن المفهوم الآخر الذي دخلت معه كريستيفا في نقاش هو مفهوم «الاختلاف»، وهو مصطلح متجذر في أدبيات الحركات النسوية على تنوعها، يقصدن به في أبسط تعريف له «الاختلاف عن الرجل»، لكنه في الحقيقة مفهوم معقد يستدعي معه مفهومين أساسيين: «الجنوسة» و«الهوية». لقد كان مفهوم «الاختلاف» ملتبسًا عند النسويات، فعلى حين رتبن على الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة نتائج يتصل أغلبها بالجنس مما لا يتسع المقام لعرضه هنا، فإنهن لم يسلمن بأن لهذا الاختلاف البيولوجي آثارًا تتصل بتقسيم العمل بينهما. أما كريستيفا فقد سلمت بذلك، وأفردت مساحة كبيرة في كتاباتها النسائية لموضوع تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وأفردت مساحة لأهمية الإنجاب في حياة المرأة، وما يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى في طبيعة الوظائف التي يمكن أن تقوم بها، والحفاظ على الأسرة التي تنجب في إطارها، والبيت الذي ترعى فيه الطفل داخله. رأت كريستيفا أن اضطهاد المرأة يرجع جزئيًّا إلى اختزال الثقافة الغربية للنساء في موضوع الإنجاب، بينما يجب أن نعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الأمرين، يجب أن نعيد الاعتبار للأمومة، وأن نعيد النظر في العلاقة بين الأم والطفل.
ركزت كريستيفا على مفهوم الاختلاف من الزاوية التي تطرحها الحركات النسوية، لقد رأت أنهم يتحدثون عن الاختلاف بمفهومه الواسع، أي اختلاف النساء عن الرجال من دون مراعاة للفروق الفردية داخل كل نوع، بينما ترى هي أنه «من الصعب الحديث باسم كل النساء»؛ لأن الحديث باسم المجموع يعني إنكار الفروق الفردية، ودمج الأفراد في المجموعات هو سلوك القطيع. نبع موقفها هذا من رؤيتها بأن النسوية هي حركة النساء البيض الغربيات من الطبقة الوسطى، ومن الصعب تعميم أطروحتها لتشمل كل النساء داخل هذه الثقافة من دون اعتبار للفروق الفردية، أو حتى الفروق الجماعية بين الطبقات. وإذا كانت هذه رؤية كريستيفا، فالأولى أن نقول معها كما قال أرنولد توينبي قبلها: إن بعض الأفكار قد تُكوِّن ملائكة في مجتمعاتها، لكنها تتحول إلى شياطين إذا انتقلت لمجتمعات أخرى(5). ما سبق لم يكن كل الموقف الذي أخذته كريستيفا من النسوية، لقد كانت لها آراء أخرى حول العلاقة بين الرمزي والسيميائي والموقف من المرأة، والكيفية التي يجري بها تأطير المرأة في سياق الثقافة الغربية، لكن مجمل موقفها لخصته في عبارة «السخرية من النسوية هي الحل».
إن خطورة الحركة النسوية –كما أرى- أنها خلطت حقًّا كثيرًا بباطل أكثر، فأن تعيش المرأة بكرامة، وأن يكفّ الرجل عن اعتبارها نوعًا أدنى، وما يترتب على ذلك؛ فيتصرف في أمورها الشخصية فيما لا يحق له أن يفعل. كل هذه الأمور من حقوقها الإنسانية التي يحق لها أن تناضل من أجلها. لكن الحركة النسوية تجاوزت في مطالبها في ردة فعلها حول ما تسميه الاضطهاد الذكوري. وكان البحث العميق في الهوية الجنسية في أدبيات الحركة النسوية ثمرة جموحها في مطالبها. وقد أثمر هذا البحث اعتراف كثير من المجتمعات الغربية بالحقوق الطبيعية الجنسية لكل فرد، الذي قاد بطريق شديد التعقيد إلى إقرار زواج المثليين في أغلب الدول الأوربية، وفي أكثر الولايات الأميركية.
وعلى الرغم من ذلك فإن إيفا هيرمان وجوليا كريستيفا ليستا الأصوات الوحيدة المناهضة للحركة النسوية؛ توجد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في أثناء التصويت على قانون السماح بزواج المثليين صرحت بأنها لا ترى الزواج إلا بين رجل وامرأة، وبات روبرتسون القس الأميركي المتطرف الذي رشح نفسه في الانتخابات الأميركية؛ قال: إن النسوية حركة اشتراكية ضد الأسرة، حركة سياسية تدفع بالمرأة إلى أن تترك زوجها، وتقتل أطفالها، وتمارس قوة السحر، وتدمر الرأسمالية لتصبح سحاقية. وقس آخر هو جيري فالويل؛ قال: إن النسويات يكرهن الرجال، وهذه هي المشكلة.
أما في مجتمعاتنا العربية فلا بد من تفكيك أطروحات الحركة النسوية، وإجراء مناقشات عقلانية عميقة حول كل ما تقدم؛ لأن المغالطات التي تقدمها ستؤول بمجتمعاتنا إلى ما نراه في الغرب الآن. وهو مصير أرجو ألَّا نصل إليه.
هوامش:
1-Eva Herman, DAS EVA PRINZEP: Fuer eine neue Weiblichkeit- by Pendo Verlag GmbH& Co. KG Muenchen Und Zuerich- 2007
2- Simone de Beauvoir, The second Sex: First Vintage Books Edition, May 2011
3- Jones, Ann Rosalind: Julia Kristeva on Femininity: The limits of semiotic politics. Feminist Review 18 (Winter): 56- 73
4- Kelly Oliver: Julia Kristeva›s Feminist Revolutions- Hypatia, Vol 8 No. 3 (summer, 1993) p. 106
5-Ibid: 94- 104