شِعرية السينما.. الزمن كشكل مرئي
يُعد مفهوم «الشِّعري» في السينما واحدًا من أكثر الموضوعات إشكالًا، وذلك لضبابيته وتنوع معانيه. وهو إذ يبين طبيعة العلاقة بين السينما والشِّعر، يمنح (هذا المفهوم) الفِلمَ تأشيرة مرور ووسام شرف؛ لأنه نادرًا ما يُشير إلى إحالات سلبية. وعلى الرغم من شيوع استخدام مصطلح «الأفلام الشعرية»، بقي مفهومًا فضفاضًا، لا يملك اتجاهًا واحدًا. وهو «يهرب منا عندما نقترب منه لمنحه تعريفًا خاصًّا»، بحسب ناجا كوهين Nadja Cohen مؤلفة كتاب «الشعراء المعاصرون والسينما 1910- 1930م».
هناك خطأ شائع في استخدامات مصطلح شعري؛ لأن الغالبية من المختصين والمتابعين على حد سواء يخلطون بين كلمة شعري وشاعري. الشاعري مصطلح شائع يمكن أن يتجلى في شكل صور جميلة تتحرك فيها الكاميرا بانسيابية، في غروب للشمس أو جلسة رومانسية لعاشقين. وعليه لن أتوقف عند هذا المصطلح كثيرًا. ولكن الموضوع الذي يتناوله المقال يُعْنَى بالشعري باعتباره جوهر الشعر.
وتشدد كلمة شِعري في أحد تفاسيرها على تصوير الزمن الذي هو ليس حدثيًّا ولا حدود له وهو غير مرئي في حين تحاول السينما أن تعطي للزمن بُعْدًا مرئيًّا، وهنا يكمن البعد الشعري في السينما الشعرية.
تطول أسماء المخرجين الكبار الذين بنوا مجد هذا النوع من السينما: جان كوكتو، بيير بازوليني، أندريه تاركوفسكي، ألكسندر دفجنكو، أليخاندرو خدروفسكي، جيم جرموش، عباس كيارستمي.. وغيرهم؛ لكن لم تشفع أفلام هؤلاء لتنتشل مفهوم السينما الشعرية من الغموض والليونة؛ بل على العكس من ذلك بقي مفهومًا قلقًا بحدود متحركة، وذلك منذ أن بدأ هذا النوع من السينما أولى خطواته في عشرينيات القرن الماضي.
تقول ناجا كوهين (وهي ناقدة فرنسية وواحدة من أهم مَنْ كتب في سينما الشعر) بوجود أسباب تاريخية، منها سبب اشتقاقي قادم من الأصل الإغريقي (poiesis) «شِعري»، وخصّ هذا المصطلح كل أشكال الإبداع الفني. كما أن الشكلانيين الروس ضموا مفهوم الشعري إلى السينما كما في السرد. لكن حتى وإن بقينا في الإطار التخصصي فالشعري لم يُحَدَّدْ معناه بمصطلحات شكلية وظل مفهومًا تحيط به الضبابية.
حقًّا إن السينما حافظت على علاقة صداقة مع الشعر، ونشأت روابط عميقة بين المخرجين والشعر والشعراء. وعندما يهتم الأدباء بهذا الموضوع فإنهم يعتبرونه نمطًا من أنماط الشعر خارج الكتاب. ولكن ما الفِلْم الشعري وكيف نرسم مساحة لحدوده؟ وما أشكال التلاقي والسلوكيات في السينما الشعرية؟ ما خواص السينما الشعرية وما علاقة الكتاب والشعراء بالسينما؟
قبل الذهاب في مغامرة الإجابة عن هذه الأسئلة علينا أولًا أن نبدأ بمعرفة الحدود الفاصلة بين الشعر والسرد؟ إن السرد قائم على الرواية أو القصة وهو حدثي؛ مرتبط بالحدثية، أي الجري وراء الحدث منذ بدايته إلى نهايته بشكل أفقي. أما في الشعر فإن الزمن واحد مُتَّحِدٌ بكل حالاته (الماضي- الحاضر- المستقبل) وبهذا المعنى فإن الشعر هو حركة عمودية عكس الزمن السردي الأفقي. والشعري بهذا يكون استنباطيًّا، استحواذيًّا، تأمليًّا، أما السردي فمرتبط بتطور ونمو له بداية ونهاية في السينما. ومن ناحية الشكل فالشعر مبني على المفاجأة عبر رموز وصور تجريدية ومطلقة لكن السرد غير معنيّ بكل هذا.
خارج السرد
أول من نظّرَ للشعري في السينما هم الشكلانيون الروس. حيث بدأ هذا المفهوم يتبلور مع الأنتليجنسيا الروس الذين أرادوا تحويل الشعرية إلى موضوع للتحليل العلمي. فيعتقد شكلوفسكي أن الفوارق بين سينما الشعر وسينما النثر تحددها الفوارق بين الحكاية والتركيب. أما فيرتوف Dziga Vertov فلم تكن السينما بالنسبة له إلا شكلًا من أشكال النضال ضد منطق السرد «البرجوازي»؛ إذ على السينما الشعرية أن تتحرر من الأدب، وعلى السينما أن تكون فنًّا مستقلًّا بالكامل ولغة عالمية بشكل مطلق؛ سينما من دون موضوع. وهو يرى أن السينما أحاطت نفسها بأسوار منيعة (حدود) رفضت كل أشكال الحوار مع الفنون التي سبقتها (الأدب، المسرح، النحت… إلخ).
أما بازوليني (وربما كان جزءًا من حلمه السينمائي) فإنه توقع اختفاء السرد في «سينما الشعر»، فمنح الأسلوب الصدارة بديلًا عن التفاصيل أو الحقائق والتكرار. وبهذا فهو يكون قد انحرف بالسينما عن الحكاية لصالح الكثافة الشعرية. وهو من موقعه كشاعر أراد تقديم الحياة بصورة مختلفة؛ فبدت في أفلامه رسمًا متنوع الألوان على لوح قماش هي الشاشة نفسها.
ينسب دولوز وبازوليني أدوارًا إلى الصورة (بمفهومها المجازي) ويؤكدان بهذا على الأحاسيس من العمليات غير الواعية التي تثيرها الصورة، وهما يقترحان أن تُقرأ الصورة عندما نقرأ العالم. وبالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي فإن العالم الذي يُكشَف (بالصورة) ليس منذ البداية عالمًا مفاهيميًّا، بل هو عالم «الحضور المادي» حيث ما لا يقال قد يكون أكثر أهمية مما يُقال.
يتحقق في «السينما الشعرية» هذا «اللقاء الغامض» بين السينما والشعر ويحتفي بالصورة في أكثر تجلياتها غموضًا، وهي تستثمر، أحيانًا، المصادفات التي تحدث أثناء التصوير واللامتوقع لتفجير البعد الشعري الكامن لتلك الحوادث. وهذه الصدف مهدت للسينمائيين العبور إلى حدود جديدة. وبهذا المعنى نجد كوكتو يمتدح الهواة في مذكراته التي سجلها في أثناء تصوير فِلْمه «الجميلة والوحش». وفي تقديمه نفسه على أنه يجهل قواعد معينة في البناء الفِلمي. وهو يرحب «بأخطائه الإملائية» التي تفضل الجانبي (غير المقصود)، وبالتالي انبثاق الشعري، حسب رأيه.
نفهم من هذا أن السينما الشعرية ليست فنًّا من فنون الأدب (شِعر، نثر، دراما)، بل هي توسع مدى الأداء الشعري بمنحه أفقًا وأداة جديدة. وهي تلك الأشكال والمعاني التي يتخذها الشعر على الشاشة. فالمقصود منها ليس تحويل الشعر إلى صور سينمائية أو تصوير أمهات الأعمال الأدبية ونَقلَها سينمائيًّا ولا هي تلكَ المشاهد المصورة بالسرعة البطيئة أو قليلة الإنارة. وإنما تقع في السياق الذي يضع فيه صانع الفِلم صوره بحيث تكون للصور دلالاتها الجديدة ومعانيها المبتَكرة، لتحوّل علاقتنا المادية بالواقع إلى علاقة ذات اختصاص. وتصبح في هذه الحالة السينما صورة متخيلة؛ لأن سينما الشعر ما هي إلا عبور إلى حدود جديدة لا مكان فيها للواقع الجامد. وبهذه النظرة يعتقد بيل نيكولز أن «لغة السينما في جوهرها هي لغة الشعر».
شعراء جعلوا من السينما أداة الشعر
نعم! في بداياتها، كانت السينما سردية، مع الأخوين لوميير وأفلام باتيه، وذلك في تلك الأشرطة التي سجلت الحياة في حركتها اليومية وبتثبيتها الزمن كما هو. لكن تغيّر الأمر مع دخول الكتاب والشعراء إلى عالم الصور بعد أن احتلت السينما موقعًا ثقافيًّا مهمًّا في حياتهم؛ هؤلاء الشعراء جعلوا من السينما أداة الشعر. فذهب جان أبشتاين ليتحدث عن الإمكانيات التي تملكها السينما في «تحويل كل معطياتها الفيزيائية إلى حركة روحانية، وإلى شعر». وحثّ أبولونير الشعراء على التلاؤم مع هذا الوسيط الجديد- السينما. أمّا السورياليون فيقول مخرجها بونويل: إنه يتلقى إلهامه ويستقي إيحاءه من الشعر، متحررًا من العقل والأخلاقية التقليدية. وأَحَبَّ شاعرُ إسبانيا الكبيرُ غارسيا لوركا السينما كوسيلة لخلق عالم جديد ودافع عن سينما الشعر. أما بازوليني الذي كان يحمل عداءً شديدًا لسينما الواقع فقد رفض أن تكون السينما مجرد آلة لتسجيل الواقع وإعادة بثه، وآمن بأن السينما تملك صفات لا عقلانية وحلمية تجعلها شعرية. وتحولت السينما بفضل الشعراء والأدباء إلى وسيلة جديدة للشعر. صنع هذا المخرج الماركسي كل أفلامه من موقعه شاعرًا؛ الذي كان يهوى أن يُطابق قصائده ببعض اللقطات من أفلامه. فهو لا يفرق بين الشعر والحياة وليست الحياة بالنسبة له إلا مسرح كبير يصبح البشر فيه ممثلين يفرحون ويعانون على خشبته. ولكنه على الرغم مما عُرف عنه من مواقف سلبية إزاء سينما الواقع، فإنه أصبح فيما بعد أكثر ليونة إزاء هذا النوع من السينما، أو لنقل أقل حِدَّة إزاء السرد في السينما. فمرّة في جلسة عشاء مع بعض الأصدقاء، سُئِلَ إنْ كان بالإمكان عمل سينما الشعر من دون قصة؟ صادف أن كانت الأجواء هادئة وعازف رصيف يعزف أمامهم ألحانًا جميلة. وكان الأمر مؤثرًا إلى درجة صَدمَت الجميعَ. عندها قال المخرج: إن «الواقع يصبحُ أحيانًا نفسه شعريًّا». هكذا وجد المخرج الطلياني الشعر في الواقع اليومي المعيش.
بعيدًا من الرقابة
بدأت «السينما الشعرية» تشقُّ طريقها في الاتحاد السوفييتي لأسباب سياسة وليست جمالية. رائد هذه السينما هو المخرج السوفييتي الجنسية والأوكراني الأصل ألكسندر بتروفيش دفجنكو (1894 ــ 1956م). وهو مخرج «مشاكس» كان من أعضاء ما سُميّ بـ«النهضة التي أعدمت». وهم مجموعة من الكُتاب والفنانين الأوكرانيين الذين دافعوا عن ثقافة أوربية غربية بديلًا عن الثقافة الروسية (المدعومة من موسكو)، وذلك في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، فأعدموا أو أرسلوا إلى «الكولاك» وهي مراكز الاعتقال والنفي في سيبيريا بسبب حملات القمع السياسي آنئذ.
عالميًّا أصبح اسم دفجنكو مرتبطًا بالسينما الشعرية الذي كان رائدها. وهنا من المفيد القول: إن هذا النوع من السينما لم يكن إلا أسلوبًا ذكيًّا لكي يُمَرِّر هذا المخرج (وتبعه باقي المخرجين السوفييت الذين رفضوا أدلجة الفن) رسائلَه المشفرةَ وعدم ارتياحه من ضيق مساحة الحرية والبيروقراطية في زمن «الإرهاب العظيم» التي عُرف بها حكم ستالين. فكان اللجوء إلى الرمز والكثافة الشعرية والمشاهد الصوفية إحدى سمات هذه الحركة.
يُخبرنا كتاب «سينما تبحث عن الشعر»، لمجموعة من المختصين الفرنسيين، كيف صور سيرغي بارادجانوف (1924-1990م) شاعرًا أرمنيًّا. وهذا الأمر لم يكن إلا قرارًا موجهًا ضد سياسة ستالين الذي كان يحلم بثقافة سوفييتية جامعة في محاولة لمحو الخصوصية القومية لجميع البلدان التي كونت الاتحاد السوفييتي. في فِلمه «لون الرمان» استعادَ بارادجانوف شاعرًا مغمورًا وهو سايات نوفا (Sayat Nova) من القرن الثامن عشر، وقدم لنا قراءة سينمائية هي أقرب إلى لوحة تشكيلية من الألوان والفُلكلور الأرمني. وبهذا يكون قد وضع حدًّا فاصلًا بينه وبين المفهوم السوفييتي للسينما الواقعية.
وهنا لا نستطيع إلا تأكيد ما ذهبت له ناجا كوهين بقولها: إن المخرجين السوفييت الذين اشتغلوا على السينما الشعرية أغلبهم ليسوا من القومية الروسية، بل من مواطني الجمهوريات السوفييتية الأخرى. وهذه السينما التي ابتعدت من الواقع «ركزت على الفُلكلور الموسيقي والشعري والتقاليد والطقوس الوطنية وعلى الانتماء للأرض الأم». فيصبح أحيانًا لجوء صنّاع الأفلام إلى شعراء وفنانين تشكيليين في «سينما الشعر» كعبور إلى تخوم أمينة لا تصلها أيادي السلطة ولا مقص الرقيب، وهو هروب إلى الأمام من أجل سينما نقيّة وغير مؤدلجة، وكل هذا ليس إلا هربًا من السياسة الأممية للاتحاد السوفييتي وجوابًا عن الرغبة في العودة إلى الجذور بدلًا من السياسات الكوسموبوليتية للكرملين.
الزمن كشكل مرئي
يقول تاركوفسكي: إنه يريد أن يخلق عالمه الخاص به وصورًا لا تملك أي معانٍ غير الإيحاءات التي تبعثها الصور نفسها. هذا كلام نظري جميل، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك عمليًّا؟ تاركوفسكي وجد ضالته في الزمن الفِلمي. فبالنسبة له يقع الزمن في اللقطة نفسها وليس في تلاحم أو تضاد للقطات عن طريق عملية المونتاج، ولا في الزمن المُؤلّف (مونتاجيًّا)، وإنما من خلال كثافة الزمن داخل اللقطة نفسها؛ فالزمن (بمفهومه الفلسفي والشعري) هو العنصر الأساسي في الإيقاع، وهو ما يجعله شكلًا مرئيًّا من الواقع ويثبته في شريط الفِلم من خلال العلامات الخارجية القابلة للاستقبال عن طريق الإحساس.
تضعنا السينما الشعرية خارج حلبة الدراما، وفي حالة حُلميّة لا واقعية، وبهذا فالمخرجون يؤكدون في هذا النوع من السينما إظهارَ حركة الكاميرا بحيث نشعر بانتقالاتها. كما تتحصن بعض أفلام السينما الشعرية بالغموض (عدم وضوح الصورة) والطباعة المزدوجة للقطة أو يستعيد بعض المخرجين أفلام الأبيض والأسود. كما أن هناك ميولًا نحو استخدامات جمالية للعدسات الخاصة، مثل تقعر العدسة أو استخدام عدسات ذات بعد بؤري طويل أو تشويه للصورة، مع إفراغ الأفلام من الحوارات.
وأخيرًا فالسينما الشعرية تاريخ مليء بالانبهار والإنجازات، وهي سينما اللاحدود، سينما التلاقي بين الواقع والخيال، بين الأنا والآخرين، تبني علاقتها بالواقع على أساس شعري وفلسفي مغاير. وهي سينما «إكستريم» ذات بُعْد سياسي وجمالي يتفوق فيها الأسلوب حيث «النظرة تصنع المؤلف، أما الاختلاجات والإرهاصات فهي التي تصنع الأسلوب» (آنيس فاردا).