المسرح السعودي.. تنوع في الطرح وتحدٍّ للظروف
المُطلع على المسرح السعودي مِن قربٍ ودراسةٍ يُدرك التنوع الشديد الذي حظي به منذ بداياته. وعلى الرغم من قسوة النقد أحيانًا، أو تجاهل النصوص أحيانًا أخرى، فإن الكاتب المسرحي السعودي كان في إبداعه لا يتوقف، ولا يتوانى، ويستمر في التأليف والعروض المسرحية ومحاولات النجاح.
مسرح رجاء عالم
على سبيل المثال قدمت «رجاء عالم» المسرح الفلسفي الصوفي في الثمانينيات؛ وسلّطت الضوء على أهمية الروحانيات في الحياة ونبذ الدنيا والتركيز على حب العمل والعلم معًا لبناء عالم نقي وداعم لحياة الإنسان الحقيقية، ونبّهت إلى ضرورة الانعزال عن الملذات في الدنيا، وذلك في مسرحية «الموت الأخير للممثل»، وكانت أول من أدخل العنصر النسائي في النصوص المسرحية، فجعلتها بطلة وقائدة ومؤثرة تأثيرًا واضحًا في السياق الدرامي، وذلك في مسرحيتها «ثقوب في الظهر». وكانت أول من وظفت الأسطورة أيضًا في النصوص المحلية، فقد وظفت أسطورة بيجماليون وزرقاء اليمامة في مسرحيتها «الموت الأخير للممثل» وقدمت أسطورة عنترة في مسرحيتها «ثقوب في الظهر». وفي مسرحيتها «360 كوة لوجه امرأة» لفتت الانتباه إلى حب السلطة والاندفاع للمجهول عند الرجل، ودور المرأة في خلق استقراره النفسي وتوجيهه للحكمة، كما أنها كتبتْ في العلاقة بين الجنسين في مسرحيتها «البيّات الزجاجي»، إضافة إلى أنها سلّطت الضوءَ على السُّلطة الذكورية السلبية، وتأثيرها في الأبناء في مسرحيتها «ثقوب في الظهر»، وبينت سلوك التضحية عند البنت تجاه أسرتها. وعلى الرغم من «رجاء عالم» بدأَتِ الكتابة في ظل الصحوة المُتشددة التي تمنع أو تحد من وجود المرأة الحيوي في عالم الذكور، فإنها كانت جريئة في الطرح ومؤمنة بأن الدراما الحقيقية هي تعبير عن الواقع، ولا يمكن التحايل عليه بالأقنعة وتجسيد الذكور لأدوار الإناث.
ونتساءل: ماذا لو مُثلتْ هذه النصوص في وقتها على خشبة المسرح مرارًا وتكرارًا وبرؤى إخراجية مختلفة، كيف سيكون حال الفكر والتعامل مع المرأة في المجتمع خلال الثمانينيات والتسعينيات؟ ربما ستفوز المرأة المحلية في نهضة أدوارها في الحياة والعمل والتربية على جميع نساء العالم؟ لقد كانت «رجاء عالم» صاحبة رؤى مستقبلية بخطوات متقدمة، لكن نصوصها بكل أسف لم تلقَ التقدير من الوسط الثقافي والنقدي والاجتماعي في وقتها؛ كي تظفر البلد بقصب السبق. إن معالجتها الدرامية مع الجرأة في الطرح جعلتاها تفوز بجائزتين، وهما «جائزة الكويت للمسرح»، و«جائزة رؤيا» للمسرح بجمهورية مصر العربية عن نصوصها المسرحية.
نظرية ملحة عبدالله
ومن الأمثلة المسرحية المشرفة لتاريخ المسرح المحلي جهود سيدة المسرح السعودي «ملحة عبدالله» فقد كانت رائدة في التأليف المسرحي بأكثر من خمسين نصًّا مسرحيًّا، وهذه إنتاجية غزيرة جدًّا، والعجب أنها صدرت من امرأة محافظة في وقت التشدد الديني في السعودية، بل إن المسرح صار نافذتها المفتوحة على العالم العربي والدولي، إضافة إلى دراساتها وبحوثها ونظرياتها التي جعلتها ضمن مصافّ المُكرمين على مستوى العالم، كأول عربية تحظى بتكريم من «هيئة الأمم المتحدة». وحازت الدكتوراه الفخرية على نظريتها «البعد الخامس»، والمركز الأول في المسابقة الدولية للمسرح من «منظمة اليونسكو»؛ لتنعم بتكريم رسمي من وطنها كأول مسرحية سعودية، وليتبعه العديد من الاحتفاءات والتكريمات داخل نطاق بلدها وخارجه، على الرغم من معاناتها بسبب قسوة المجتمع والظروف التي واجهتهما الدكتورة «ملحة»، وقد ذكرتهما في أكثر من لقاء إلا أنها بجرأتها وثباتها استطاعت تخطي كل تلك العقبات لشغفها الكبير بفن المسرح.
اعتمدتْ نظريتها «البعد الخامس» من جامعة «بيركلي الأميركية» على أنها النظرية العلمية في المسرح، وصُنفت كسبق يُحسب لها، والنظرية تُعنى بالوجدان ومحاولة التحكم فيه وإرسال الرسائل إليه تلقائيًّا لا جبرًا، وبالتالي، تجعل الجمهور مشدودًا طيلة العرض، فلا يتسرب إليه الملل، أو النفور، بل يتأثر بكل العناصر التي يراها أو يسمعها في العرض الدرامي، مُحدِثة عبر العاطفة ما يُسمى «الانزلاق الوجداني» وعن طريق «التسرب الانفعالي» يحدث التحكم بالوجدان، موطن العاطفة، التي في حال امتلاكها تقدر على امتلاك عقل المتلقي؛ لتكشف النظرية أن هذا التأثير يقوم على ثلاثة عناصر، وهي: السرد والعقيدة وإثارة الخيال، التي بمقدورها النفاذ إلى فص في الدماغ «الإميغدالا» ليفرز مادة «الدوبامين» المسؤولة عن الإحساس باللذة أو بالتوتر والحزن، وتجعله يتفاعل بمتعة أو أسى عن طريق العناصر الثلاثة المذكورة سلفًا. وقد واجهت النظرية كثيرًا من التساؤلات والاستحسان والنقد لكونها ذات أصول مركبة ومعقدة، تهتم بأولئك المعنيين بالرسالة، ولا تخص المتلقي فقط، وقد طُبعت في كتاب تُرجم إلى اللغة الإنجليزية.
ومن الموضوعات الجريئة التي قدمتها سيدة المسرح نموذج المرأة السلبية في المجتمع؛ بسبب سوء التعامل معها من كل الأطراف، وسلب مالها من الزوج، وامتهان هواياتها الفنية والأدبية، والرغبة في جعلها خادمة عند الرجل فقط، وذلك في مسرحيتها «العازفة» الحاصلة على جائزة من «اليونسكو» عامَيْ 2011م و2018م.
الجرأة في المسرح السعودي
الكاتب السعودي جريء في أطروحاته الدرامية أيضًا، معاندًا المجتمع الذكوري التقليدي. فالكاتب المسرحي «سامي الجمعان» يتناول قضايا المرأة المُعنّفة بصورة واضحة، يذكر فيها التجاوزات الجنسية على المرأة، مثل: الاغتصاب، ولكن من غير أن يُثيرَ حَنَقَ النقادِ عليه، فقد كان ذكيّ الحيلة في تقديم هذه القضايا الحساسة التي تحطم التابوهات المعروفة في الكتابة. فعلى سبيل المثال وظف سيرة الكاتبة الأميركية «فيرجينيا وولف» في نصوصه، وهي امرأة انتحرت؛ بسبب كثرة المآسي في حياتها، ومنها تعنيف الذكور لها، فجعلها «الجمعان» قضية درامية معبرًا عن إيمانه بدور المرأة وأهمية السلوك الرقيق والمحترم معًا في التعامل معها.
وقد واجه الجمعان نقدًا حادًّا من بعض الرجال في مجتمعه؛ لإيمانه بقضايا المرأة والدفاع عن حقوقها في الحياة مقابل ذكره لتجاوزات الذكور عليها، لكنه كان جريئًا في طرحه، متمسكًا بمبادئه، ولم يتنازل عنها أبدًا في صراعاته الدرامية احترامًا لكيان المرأة وأهمية دورها في كل مجالات الحياة وطبيعتها الخاصة التي تحتاج إلى الحنان والاحترام معًا بعيدًا من الاستغلال لأنوثتها ورقتها.
المرأة السعودية على خشبة المسرح
وقد تشكلّتِ الجرأة في المسرح السعودي من خلال قرار التمثيل أيضًا. تقول «فاطمة بنوي» بطلة الفِلْم السعودي «بركة يقابل بركة»: «خذوا مني اللايكات والمعجبين وأعطوني خشبة مسرح». وكان ذلك في أحد المشاهد؛ معبّرةً عن أحد مطالب المرأة السعودية التي سعت لتحقيقها منذ سنوات عدة؛ إذ لم يسبق أن اعتلت ممثلة سعودية خشبة مسرح من قبل؛ في الأربعين سنة الماضية. وعليه كان المسرح السعودي العام مفتوحًا للرجال فقط الذين كانوا يواجهون العديد من الصعوبات بتجسيد الأدوار النسائية، ناهيك عن موجات الغضب والانتقادات من المجتمع لاعتباره تشبهًا من الرجال بالنساء، فيما اقتصر المسرح النسائي على إقامة عروض مغلقة في مختلف الجامعات من شابات هاويات يبحثن عن فرصة صعود على مسرح حقيقي.
استمر الوضع على هذا الحال حتى سبتمبر 2017م، حيث اعتلت امرأة للمرة الأولى خشبة مسرح ضمن عرض مسرحية «ملحمة وطن» وذلك خلال فعاليات اليوم الوطني الـ87 للمملكة. ومع التطورات والتغيرات الحالية في السعودية التي تدعم دخول المرأة مختلف المجالات، جاء القرار بالسماح للمرأة السعودية بالتمثيل على خشبة المسرح بجانب الرجال وأمام عامة الحضور. وحال ما صدر القرار، فتح الفريق المسرحي المعروف بـ«الستائر الحمراء» The Red Curtains الذي يضم نحو 20 عضوًا ومقرُّه جدةُ، بابَ المشاركةِ للشابات وإقامة تجارب أداء لهن للتجهيز لمسرحية «حياة الإمبراطور» لتكون بطلة المسرحية أول سعودية تقف مع الممثلين على مسرح عام في تاريخ الفن السعودي.
وقد أعلنت الهيئة العامة للترفيه عن إقامة هذه المسرحية «حياة الإمبراطور» على أرض مسرح جامعة «دار العلوم» بالرياض في فبراير 2018م. وبهذا جعلت النساء للمرة الأولى تُمثل في مسرح مفتوح، وعلى مدار يومين، في استعراض مسرحي باقتباس من قصة ديزني الشهيرة للإمبراطور «كاسكو» الأناني، الذي تتدخل مساعدته العجوز في شؤون حُكمه.
وتأتي المسرحية في قالب فكاهي ساخر، كما يتضح من الكواليس المرافقة للحملة الدعائية، وتمثل دور المرأة العجوز فيها الممثلة السعودية «نجاة»، التي تظهر على أنها متقدمة في السن، بمشاركة مجموعة من الممثلين السعوديين الشباب الذين يسعون إلى ضخ دماء التجديد في عروق المسرح السعودي حاليًّا.
مؤسس الستائر الحمراء ومخرج المسرحية «أماوري عزاية»، 27 عامًا، لم يُخفِ سعادته بكونه جزءًا من هذا العمل الذي يراه إنجازًا شخصيًّا وفنيًّا، يقول: «كنا نسأل دومًا لماذا لا يمكن للمرأة أن تقف على خشبة المسرح، ولم نحصل على أي رد حتى تواصلنا مع هيئة الترفيه السعودية التي درست المسألة للمرة الأخيرة أمام لجنة رؤية 2030 وتم إصدار القرار في مطلع عام 2018م بالسماح للسيدات بالتمثيل على خشبة المسرح مع الرجال».
وعن الحدث المتجدد في المسرح، قال الكاتب المسرحي الراحل «محمد العثيم»: إن المرأة كانت مشاركة في الحراك المسرحي قبل نحو 50 عامًا؛ إذ وقفت على خشبة المسرح الممثلة السعودية «مريم الغامدي» وسيدات أخريات، مشددًا على أن العنصر النسائي مهم جدًّا في العمل المسرحي، وتابع: «في الستينيات، وتحديدًا عام 1968م، كان الحراك لافتًا في مسارح الأندية، وكنا كذلك نُلبس أحد الشباب لباس المرأة لأداء دور الأم أو الفتاة، بما يخدم المسرح الاجتماعي».
موضوعات حساسة
من الموضوعات الحساسة التي تناولها المسرح السعودي «السايكو دراما»، من خلال تناول الكاتب المسرحي الكبير «فهد ردة الحارثي». فقد ناقش صراع الروح مع الأنا الشريرة، وجعل لكل منها شخصية تتقاطع مع الأخرى على خشبة المسرح، فالأولى تمثل العبث بالمستقبل، والأخرى تتمرد على العمل، وذلك في مسرحيته «تشابك» التي حصلت على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان «الشارقة للمسرح الخليجي»، إضافة إلى جائزة أفضل نص مسرحي وأفضل ديكور عام 2017م.
أوصي بأن تهتم «هيئة المسرح» السعودية بأرشيف المسرح المحلي حتى لا تضيع الجهود الثمينة للمسرحيين السعوديين نقادًا ومؤلفين ومخرجين؛ إذ إن الجيل الجديد لا يعلم كثيرًا عن هذه الجهود المنسية؛ فالثقافة المسرحية في حاجة إلى هذا التاريخ من كل الجهات.