أفلام سعودية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي شخصيات هامشية وأمكنة منسية وجرأة في الأساليب
حضرت السينما السعودية في النسخة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بكثافة لم تشهدها الدورتان السابقتان. أكثر من 20 فِلمًا سعوديًّا روائيًّا طويلًا وقصيرًا، أتيحت في قاعات العرض. كما التقى الممثلون فيها الجمهور وزوار المهرجان، ونشأ نقاش حول هذه الأفلام وما يتوقعه الممثلون من ردود أفعال. في هذه الأفلام، بتنوعها، يتأكد أن لدى السعوديين قصصهم التي يحرصون على تقديمها للجمهور السعودي وللعالم. وكان من الطبيعي أن يعثر زوار المهرجان على قصصهم الخاصة في المهرجان، الذي حمل شعار «قصتك في مهرجانك». في المهرجان ظهر الجمهور السعودي داعمًا قويًّا لصناع السينما السعوديين، فمعظم الأفلام السعودية التي عرضت بيعت تذاكرها كاملة مبكرًا، وكانت قاعات العرض، سواء في الريتز كارلتون أو في فوكس سينما في الريد سي مول، ممتلئة بالكامل. وبدا واضحًا تفاعل الجمهور مع ما يشاهده من أفلام، وكان يحيي طاقم الفِلم، قبل العرض وبعده، بحرارة شديدة، وبهتاف منقطع النظير. هذا الهتاف الذي يجسد محبة الجمهور لنجومه المفضلين، الذين طالما تابعهم، منذ أن كانوا صناع أفلام قصيرة تعرض في اليوتيوب.
مخرجون سعوديون شباب، كتبوا وأنجزوا أفلامًا روائية طويلة، هي الأولى لمعظمهم. غالبية هذه الأفلام، مكنت المتفرج من بلورة فكرة، مفادها أنه إزاء تنوع في الأساليب والأنماط السينمائية، قد لا تكون هذه الأساليب واضحة، لكنها تعطي الانطباع عن تعدد في زوايا التعاطي السينمائي مع الواقع الاجتماعي. أفلام سعودية كانت لها حصص متفاوتة، من النضج والمستويات الفنية العميقة. أفلام عالجت موضوعاتها بكثير من الجرأة، وبغير قليل من الاحترافية. فالكاميرا التي تبدو جامحة ومضطربة في فِلم «ناقة»، مثلًا، ما هي إلا انعكاس للحالات الشعورية لدى أبطال الفِلم، الذين ليسوا سوى شباب مغامر لا يحسب حسابًا للعواقب، خصوصًا مع تعاطي المخدر. هذه الكاميرا في «ناقة»، غيرها الكاميرا التي أفردت مساحة كبيرة لليل مدينة الرياض، في فِلم «مندوب الليل» كاميرا مستقرة، مهيبة، لكنها تذهب في كشف التناقضات والمفارقات التي تحفل بها هذه المدينة المترامية. «ناقة» و«مندوب الليل» قدما مدينة الرياض من زوايا مختلفة، وبأبعاد فنية متعددة، وأظهرا مجتمع المدينة في حال من التنوع والتناقض والطبقية. قدما المدينة من الداخل ومن الخارج أيضًا، هدوئها وصخبها، المواطن فيها والمقيم العربي، الشباب وكبار السن، النساء والرجال على حد السواء.
في الأفلام الروائية الطويلة زاحمت الممثلة السعودية الممثل السعودي، وانتزعت منه البطولة في بعضها. لم تكن مشاركة الممثلة السعودية باهتة وهامشية، إنما كانت عنصرًا أساسيًّا وحيويًّا في الفِلم، وعاملًا مهمًّا جدًّا في نجاحه.
الحضور للممثلة السعودية، جاء ليعكس بدوره اهتمام السينما السعودية بالمرأة، خصوصًا الفتيات، وقضاياها. في الأفلام الروائية الطويلة، واجه المتفرج المرأة التي تسعى إلى التمرد على مواضعات المجتمع وقيوده. واجه أيضًا المرأة التي تنشد تحقيق ذاتها، والاستغناء من خلال إمكاناتها وحدها. كما كانت هناك الفتاة المغامرة، التي تخوض تجارب جديدة وخطرة. والمرأة الصلبة والصامدة أمام طغيان الرجل وصلافته.
أضواء بدر، ماريا بحراوي، شيماء الطيب، عائشة كاي، سارة طيبة، هاجر الشمري، تولين بربود وغيرهن، ممثلات واعدات أَدَّيْنَ أدوارهن بشغف، وكشفن عن طموح لا يعرف الحدود.
«ناقة»: مخرج بمخيلة جامحة
كشف فِلم «ناقة»، كتابة وإخراج مشعل الجاسر وبطولة أضواء بدر ويزيد المجيول وجبران الجبران وأمل الحربي، عن مخرج بمخيلة جامحة، يزاوج بين المعطى الواقعي وذلك الذي لا يحتكم إلى منطق. طبعًا لفِلم «ناقة» منطقه الخاص، وواقعه الذي يتحول إلى رعب فانتازي، جاعلًا المتفرج يعيش في جو من الإثارة حتى آخر لحظة. يبدأ الفِلم بمشهد عنيف، مليء بالدماء، ترافقه موسيقا صاخبة جدًّا وكاميرا لا تستقر، تصور موضوعها من أعلى. مشهد يقتحم فيه الأب عيادة للولادة ويقتل الطبيب والزوجة، التي سمحت لرجل بالكشف عليها. غير أن هذه ليست البداية في الفِلم، إنه مشهد تتم استعادته من الماضي. البداية الفعلية تنطلق من ترك الأب لابنته سارة (أضواء بدر) في السوق لشراء بعض اللوازم، ويحدد لها وقتًا لا يزيد دقيقة ولا ينقص دقيقة يعود فيه لاصطحابها. لكنها وفور أن تغادر سيارة الأب وتبدأ في الشراء، حتى تلتحق بصديقها سعد (يزيد المجيول) وتنطلق معه في رحلة مجنونة، خارج المدينة حيث نرى الطريق الأسفلتي المتعرج، تحفه الصحراء من الجانبين. في منتصف الطريق، وفي مكان تميزه جبال وتكوينات صخرية، يتوقفان لتعاطي المخدر. ثم يكشف الفِلم عن جملة من الأحداث المربكة، تتوالى في إيقاع مثير ومتوتر، جرى تصويرها بطريقة أقرب إلى الهلوسة والجنون. وفي الخضم من هذه الأحداث تحضر الناقة، مثيرة من الرعب ما يوازي الرعب الذي أشاعته ديناصورات سبيلبرغ في «الحديقة الجوراسية».
في الفِلم نتعرف إلى حياة أخرى، بعيدة من مألوف الحياة العادية، تدور في مخيم كبير، يضج بشباب وشابات. حياة مليئة بشتى الممارسات، تبدأ من رقص حماسي وعنيف ينتهي بإصابة بعض الراقصين بالإغماء، في مشهد تهيمن عليه عوالم الجن، إلى تعاطي الكحول والمخدرات. شباب وشابات يمارسون في الصحراء، ما لا يستطيعون فعله داخل جدران المدينة. وتحت ضغط الوقت الذي حدده والدها الصارم، تحاول الفتاة الاتصال بصديقتها، إلا أنها تكتشف أن هاتفها يحتاج إلى شحن، لتبدأ رحلة لا تخلو من الفانتازيا بحثًا عن شاحن سامسونج. وفيما هي تنتظر شحن هاتفها في خيمة ضخمة جدًّا، مجهزة بكل ما يلزم من أثاث فاخر وتحف، تنصت لحوار يدور بين شخصين، تتعرف من خلاله، إلى شاعر للتو فاز بجائزة مرموقة (يؤدي دوره جبران الجبران) والشخص الآخر يلقنه قصيدة جديدة، وهو ما يعني أن هناك من يكتب القصائد لهذا الشاعر المشهور. يكتشف الشاعر وجودها، ويحاول النيل منها، لكن مداهمة الشرطة للمخيم تدفعه إلى مغادرة الخيمة سريعًا. قبل هذا المشهد، يحدث أن تدخل الفتاة مكانًا مظلمًا، لا يرى المشاهد ما يحدث، ويسمع صوت صديقها وهو يدافع عن نفسه، لكنها تخرج منفعلة ومصدومة، وهي تتوعده. تنشر الشرطة الفوضى في المكان، وينجح صديقها في جعلها تركب معه، وفي الطريق يصطدمان بالشرطة، التي تقبض على صديقها، وتهرب هي وحيدة في السيارة، لكنها تتوه في الصحراء، وتقع ضحية للرعب، جراء الناقة الحانقة لمقتل ابنها، الذي تسبب به صديقها في أثناء رحلة الذهاب. في النهاية تعثر الفتاة على أكثر من وسيلة شاقة، تمكنها من الوصول إلى السوق، لتكتشف أن حريقًا هائلًا شب في أحد المحال الكبيرة، وهو الأمر الذي خلف ضحايا. وستلمح والدها في حالة من الذهول وهو يفتش عنها، ربما ظنًّا منه أنها كانت إحدى ضحايا الحريق.
الموسيقا الصاخبة والتصوير بكاميرا مضطربة في معظم الفِلم، تعكس مستوى الفوضى والارتباك والتشويش لدى الشخصيات، إما جراء تعاطي المخدر أو تسارع الأحداث وفق وتيرة غرائبية. كل ذلك بدا محسوبًا ومخططًا له، ولا يخرج عن رؤية الفِلم لموضوعه. كان لافتًا الجهد الذي بذلته بطلة الفِلم، الممثلة الشابة أضواء بدر. جاء أداؤها حيويًّا ومقنعًا وبعيدًا من الافتعال. الحال نفسها مع الممثل يزيد المجيول، بلهجته البسيطة وطريقته الأقرب إلى العفوية في التمثيل. يرسم مشعل الجاسر، في أول أفلامه الروائية، ملامح اتجاه سينمائي، يقوم على الإثارة والتوتر وانقطاع الأنفاس. بجرأته الأسلوبية والموضوعية، سيعطي هذا الاتجاه الذي يتبناه الجاسر تنوعًا للسينما السعودية، ويفتحها على أجواء جديدة، مليئة بالرعب والإثارة.
«مندوب الليل» عالم ليلي متعدد الطبقات
لئن كان فِلم «ناقة» سيحوز على إقبال شريحة واسعة من الشباب، نظرًا إلى طبيعته الجامحة التي لا تعترف بمنطق سوى منطقها الخاص، فإن فِلم «مندوب الليل»، كتابة وإخراج علي الكلثمي وبطولة محمد الدوخي ومحمد الطويان ومحمد القرعاوي وسارة طيبة وهاجر الشمري وفهد بن سالم، فيما يبدو أنه يخاطب أكثر من شريحة. الكاميرا التي تتجول برصانة في ليل الرياض، تقتنص بهدوء مشاهدها ولقطاتها من زوايا مختلفة. تعد من أول وهلة بعوالم وطبقات وفئات بعضها مترف، وبعضها الآخر هامشي ومطحون. يبدأ الفِلم موضوعه من لحظة طرد فهد (محمد الدوخي) من الشركة التي يعمل فيها، لسبب لا يبدو وجيهًا للغاية، إلا أن هذا السبب كان ذريعة الفِلم، لدفع فهد إلى حياة الليل وتناقضاته، من خلال العمل في توصيل الطلبات.
شخصية فهد بدت أنها الرهان الأساسي للمخرج الكلثمي، لكشف تناقضات المجتمع في مدينة مثل الرياض. يعيش فهد في أسرة مكونة من أخته المطلقة (هاجر الشمري) وطفلتها، الأخت التي تحاول الاعتماد على نفسها، بوصفها من الأسر المنتجة التي تُعِدّ نوعًا من المأكولات، ومن طريقه تتحصل على الدعم لتدشين مشروعها الصغير، والأب المريض (محمد الطويان) الذي يلجأ إلى أحد الشخصيات الثرية للمساعدة في علاجه. أسرة بسيطة ليست معدمة لكنها فقيرة، وفقرها هذا لا يبدو ضاغطًا عليها، ولا يدخل الفِلم في جو كئيب وسوداوي، بل إننا نرى فهدًا يضفي شيئًا من المرح والفكاهة، في الأوقات التي يكون فيها مع والده، أو حين يلتقي ابن عمه (فهد بن سالم)، وأيضًا في أثناء المكالمات التي جمعته بزميلته السابقة (سارة طيبة).
حتى حين يصطدم فهد، في أثناء مزاولته عمله الليلي، بالفارق الشاسع، عندما يوصل طلبًا لأحد العملاء؛ إذ يتفاجأ بمستوى من البذخ والفارق الطبقي يجعله في حال من الانشداه، إلا أنه بدلًا من التذمر من واقعه، فإنه يلتمس صورة مع أحد المشاهير، ممن كانوا ضمن ضيوف صاحب الشقة. بدت شخصية فهد غير قابلة للكسر، متصالحة مع نفسها بطريقة غريبة. في الواقع، لا ندري ما إن كان فهد متصالحًا مع نفسه، أو أنه ينتمي إلى تلك الفئة التي استسلمت للواقع، يأسًا أو قناعة، فلا تعود تتطلع إلى بعيد. يكشف الكلثمي، من خلال هذه الشخصية، عورات المجتمع، لكن بلا أيديولوجيا تقوم على الصراخ أو التقريرية.
في لحظة من الفِلم، يتصادف أن يعرف فهد، نوعًا آخر من المناديب، يوصل طلبات في مقابل أجر كبير، بالنظر إلى ما يأخذه هو. ليست هذه الطلبات سوى الخمور. ومع أن شخصيته تبدو أبعد من أن تورط نفسها في مهام من هذا النوع، إلا أن فهدًا يرضخ تحت ضغط الحاجة إلى المال، لوجود من يطالبه بأموال مدين بها له. يتعقب فهد المندوب المتخصص في توصيل طلبات الكحول، ويعرف من أين يجلب لزبائنه ما يرغبون فيه من خمور. يحدث ذلك مرتين وثلاثًا حتى يقرر فجأة اقتحام مصنع الخمور، ونهب عدد من الصناديق والهرب بها بسيارته. وفي أثناء هروبه يصدم شخصًا، فيتمكن حارس المصنع من تصويره. وبطريقة ما ستكشف العصابة، التي تدير المصنع، هويته، وتبدأ بملاحقته. بين اكتشاف هويته للعصابة، وبين قرارهم اختطافه بعيدًا، سيمر وقت ليس قليلًا، ما يدفع المشاهد إلى التساؤل عن كل هذا التأخير. فالعصابة تقرر اختطافه قبل نهاية الفِلم بوقت قصير. وخلال عملية الاختطاف ورفضه الخضوع لهم، يحدث أن يتعرضوا لحادث مروع، تتدحرج معه السيارة إلى أسفل الطريق. لكنّ فهدًا ينجو بأعجوبة. وينتهي الفِلم به وهو داخل حافلة، تقل عددًا من المناديب، لقطة طويلة ومؤثرة لأشخاص عاثري الحظ، يبدون منهكين بعد ساعات طويلة من العمل الليلي الشاق.
نقع في بعض مشاهد الفِلم، على الغربة التي يشعر بها فهد، مثلًا، حين أصر على دعوة زميلته السابقة للعشاء، ممنيًا نفسه بلقاء رومانسي، إلا أنه تفاجأه بمجيئها برفقة بعض زملاء العمل، الذين سرعان ما سينخرطون في أحاديث ليست في متناوله، أحاديث تطغى عليها اللغة الإنجليزية. لم يشعر المشاهد بأن فهدًا، بإمكاناته البسيطة، في مأزق حقيقي، من أين سيدفع فاتورة عشاء مكلف في مطعم يبدو عليه أنه فاخر جدًّا. كل ما هنالك أن فهدًا محبط من زميلته التي لم تأتِه وحيدة، كما كان يرغب. ليست شخصية فهد ناقمة، ولا حانقة على الواقع. في المقابل لا يبدو أنها شخصية سلبية، غير قادرة على تغيير واقعها. لكن يمكن القول: إن الكلثمي أحرز نجاحًا كبيرًا بالتقاطه هذه الشخصية، التي تعبر عن فردية مميزة، على طريقتها، فردية تستطيع بتلقائية دفع المتفرج لتحديد الموقف منها، وكيف يراها.
ينحاز الكلثمي إلى شخصية هامشية في المجتمع. شخصية رافقها في ليل الرياض، فأخذته إلى أنماط من البشر وطبقات لا تحسب كثيرًا للمال، طبقة منفتحة على الاختلاط، ذكور وإناث بعضهم مع بعض. نرى الرياض، من خلال شوارعها الفسيحة وأنوارها الساطعة، وأحيائها الفاخرة، وشققها ذات الطابقين. ثم نراها أيضًا في الحارات البعيدة بأزقتها الضيقة، المكتظة بالسيارات، وبأضوائها الشاحبة. «مندوب الليل» فِلم هادئ، مرح نوعًا ما، يعالج موضوعه بمستوى عالٍ من النضج الفني.
أنجز على الكلثمي فِلمًا متماسكًا وجريئًا، من حيث ذهابه إلى منطقة متوارية وغير معلنة، من حياة الليل في الرياض. بهذا الفِلم، وأفلام أخرى، تمضي السينما في السعودية إلى المستقبل، بخطوات طموحة وشغف كبير.
«نورة»: ضرورة الفن في قرية منسية
«نورة»، الفِلم الروائي الأول لتوفيق الزايدي، وهو أول فِلم يصور في العلا، ويفوز أيضًا بجائزة أفضل فِلم سعودي في مهرجان البحر الأحمر، الجائزة المقدمة من فِلم العلا، يصور هذا الفِلم قرية منسية، في منتصف التسعينيات الميلادية، قرية تتدبر شؤونها ببدائية شديدة؛ إذ تفتقد لكل الوسائل الحديثة، وأهلها لا يفكرون سوى في المطر وتكاثر الماشية. في هذا الفضاء المحدود والفقير تصدى الفِلم لمعالجة موضوعه، أو أحد وجوهه، وهو ضرورة الفن للمجتمع، وأهمية التعليم والمستقبل. نورة (ماريا بحراوي) فتاة تحلم بالتغيير عبر الانتقال إلى المدينة. وحدها من تقرأ المجلات الفنية وتحب الأغاني. إلى جانب نورة، يأتي المعلم (يعقوب الفرحان) الوافد الجديد على القرية، الذي إضافة إلى كونه معلمًا، فهو فنان لكنه تخلى عن الفن بسبب المتطرفين، ومحاربتهم لكل ما له صلة بالفنون. لا يعالج الفِلم موضوع التطرف في صورة مباشرة، إنما يكتفي بالإشارة إليه، أو إلى أحد ضحاياه، وهو المعلم، الفنان.
نورة يتيمة الأبوين تعيش هي وأخوها في منزل عائلة والدها، رافضة الزواج من أحد شباب القرية؛ بسبب أميته وبعده من الصورة التي ترسمها لزوج المستقبل. ومع مجيء معلم جديد في مدرسة القرية تشهد حياتها تغيرًا ملحوظًا، من خلال الحوارات القصيرة التي تديرها معه، حول المدينة وما تعج به من أشياء لا وجود لها في القرية. وتصرُّ نورة على أن يرسمها المعلم، بعد أن عرفت أنه يجيد الرسم، حتى تكون لها صورة مثل الفنانات اللاتي تطالع صورهن في المجلات. يتمنع المعلم عن تلبية طلبها، ثم ما لبث أن أذعن. وفي الدكان الوحيد في القرية، المكان الذي يبدو بعيدًا من الشبهات، حين تلتقي فتاة شابًّا، يرسم لها صورة تظهر عينيها فقط. في حواراته معها أو في أثناء الدروس التي يقدمها للتلاميذ، سيتطرق المعلم إلى أهمية القراءة والكتابة وإلى ضرورة الفنون، مع إشارات طفيفة إلى ما يحدث في تلك الحقبة الزمنية من تشدد في الموقف من الفنون ومن مشاهدة الأفلام. وبسبب هذه اللقاءات، وإثر شكوى من خطيب نورة الرافضة له، يرغم شيخ القرية (عبدالله السدحان) المعلم على الرحيل. إلا أن نورة تصرّ على مرافقته إلى المدينة. وفي منتصف الطريق يعترض خطيبها سيارة المعلم، ويهدده بالقتل إذا لم يُخْلِ سبيلها.
يسرد الفِلم موضوعه بإيقاع متسارع نوعًا ما، ليزج بالمتفرج في أحداث متلاحقة، كلها لا تستطيع تغيير رتابة الحياة في القرية. بدت قصة الفِلم بسيطة، خالية من التعقيد وبلا ذُرى درامية، تجعل من الفِلم مشوقًا ومثيرًا، باستثناء الجزء الأخير منه. يبدأ الفِلم بمحاولة اثنين من شباب القرية اصطياد ضب، وينتهي الأمر وهما يطهوان طعامهما في البرية. وبين اللقطتين تمضي الحياة بصورة رتيبة. فلا المعلم ينجح في تعميق الموقف من التعليم، وأهميته بالنسبة لمستقبل التلاميذ، الذين يضطر بعضهم لترك الدروس، لمساعدة ذويهم في أشغال الزراعة. ومن ناحية، تخفق مساعي نورة في التغيير والخروج من القرية. بيد أن المتفرج سيراها عند نهاية الفِلم، وقد تخلصت من غطاء الوجه تمامًا، ومن جو القرية، وبدت جميلة وناضجة وهي تشاهد لوحة كبيرة بها صورة رائعة لوجهها كاملًا، ضمن رسومات أخرى يضمها معرض فني. الفِلم لا يوضح كيف استطاعت نورة الانتقال إلى المدينة، ولا كيف تحولت إلى فتاة مدينية. لعل المخرج شاء أن يوحي لنا بأن التغيير حتمي، وألا شيء يمكن أن يعوق تقدمه، على الرغم من أن الفِلم ينتهي أيضًا بلقطات صامتة، تعمق من الحياة البسيطة والمملة في القرية.
لم يَخْلُ الفِلم من هفوات فنية، ومنها اللقطة التي يظهر فيها المعلم، قبل أن نعرف أنه كذلك، وهو يتفحص خريطة فوق سيارة أميركية، تقف بجوار طريق صحراوي. لم يعتد المتفرج منظر مثل هذا، سوى في الأفلام الأجنبية. ولعل المخرج قصد من هذا المشهد، الإيحاء بأن القرية نائية ومنسية، إلى حد يتعذر الاستدلال عليها إلا بواسطة خريطة.
لقطة أخرى، تظهر المعلم وهو يحمل سبورة، داخلًا بها المدرسة، علمًا بأن المدرسة كان بها مقاعد وطاولات، وكان لها معلم سابق، فكيف ستخلو من لوح للكتابة؟ كما لم يكن مفهومًا عدم السماح لجد الفتاة، نورة، بأن يرى حفيدته. في نهاية الفِلم يقول المعلم لنورة، إنه جاء للقرية بطلب من جدها، الذي لم يحدث أن أبصرها، كي يرسم لها صورة. ولا ندري لماذا سرد الفِلم، في الجزء الأخير ودفعة واحدة، على لسان العمة (عائشة كاي)، كيف تزوج والدا نورة وكيف كانت نهايتهما في حادثة مأساوية. مثل هذه الأمور جعلت من قصة الفِلم، في جزء كبير منها، غير مقنعة نوعًا ما. كانت تحتاج إلى مزيد من الاشتغال، من المخرج الذي تولى أيضًا مهمة الكتابة. بالصورة التي ظهر عليها الفِلم، بدت القصة كأنما أخضعت للتغيير والتطوير على مراحل متباعدة.
غير أن المخرج نجح في اقتناص تعبيرات فريدة على وجوه التلاميذ، في مواجهتهم اليومية مع الدروس الجديدة، خصوصًا حين الكلام عن الفن والقراءة، كما كشف عن مناطق غنية في الحوارات القصيرة بين نورة والمعلم، وبين المعلم والبقال الهندي. أضفى كل ذلك طابعًا من الحيوية والفكاهة والعمق للفِلم، الذي يكشف الزايدي من خلاله عن وعود كبيرة، كيف لا؟ وهو الفائز الوحيد من بين أبرز المخرجين السينمائيين الشباب.
«هجان»: علاقة الإنسان بالحيوان
لئن كان فِلم «مندوب الليل» ذهب إلى شخصيات هامشية، ليضيء عوالم الليل في مدينة الرياض ويفضح تناقضات المجتمع، فإن فِلم «هجان» (كتابة مفرج المجفل وعمر شامة، وإخراج أبو بكر شوقي، وإنتاج مركز «إثراء») قام، بصورة أو أخرى، على شخصيات ليست هامشية فقط، إنما أيضًا منسية. شخصيات «هجان» هم أولئك الذين يعتلون ظهور الإبل في السباقات الحاسمة وغير الحاسمة، من هجانة صغار السن، لكنهم يجلبون «الناموس» لطبقة الملاك، الذين لا يكترثون سوى لتخليد أسمائهم في لوحة الشرف. تغذت قصة الفِلم، على ما تعج به السباقات المصيرية من تنافس شريف وغير شريف، ومن بحث عن المجد. وإضافة إلى ذلك، على تلك العلاقة الحميمة والدافئة التي تجمع الهجان بناقته أو بعيره، وهي علاقة قوامها معايشة طويلة لمزاج الحيوان وطبيعته. في جزء من الفِلم، يأخذ أحد المستخدمين على جاسر (عبدالمحسن النمر، أحد كبار الملاك) أن إبله لا تميز صوته، عادًّا هذه نقيصة في حقه. كل تلك عناصر ضمنت للفِلم درجة عالية من التماسك، وصعدت من وتيرة التشويق.
مضى الفِلم في صورة سباقات متتالية، محمومة ومليئة بالإثارة والتصعيد الدرامي. فهناك أكثر من خط درامي، من مالك إبل يتحين سباق الصفوة منذ زمن ليفوز بالخلود، إلى مطر (اجتهد في أداء دوره عمر العطوي، الممثل الموهوب الذي سبق أن اختاره المخرج البريطاني روبرت وايت ليكون أحد أبطال فِلم «محارب الصحراء») وهو هجان يستعيد سيرة جده، في مفاصل مهمة من الفِلم، جده الذي كان هجانًا ووصل إلى خط النهاية في حين أن الجيش لا يزال في بدايات الطريق، كما تقول تلك الأهزوجة المؤثرة التي تأتي في مفتتح الفِلم وبها ينتهي. ستتغير موازين السباق عند مطر، حين يعرف أن أخاه غنام مات مقتولًا في السباق. فجاسر لا يتوانى عن اقتراف الأفعال الشنيعة في سبيل الفوز.
يراهن الهجان مطرًا على السباق مع «حفيرة»، الناقة التي يبدأ الفِلم بولادتها من أم ميتة، ويتولى رعايتها هو منذ تلك اللحظة، التي بدت فيها ميتة، إلا أنها نهضت من موتها، حين راح يترنم بتلك الأهزوجة لجده، ولن نعرف أنها لم تمت سوى في خاتمة الفِلم. وهي الناقة نفسها التي ستقتل جاسرًا عندما حاول الانتقام منها، وقد خسر كل شيء وآل إلى عدم، ثم يحاول مطر إعادتها إلى الحياة بالأهزوجة نفسها، التي لها فعل السحر. يلتمس الفِلم عناصر غير واقعية، لكنها تتحول إلى واقعية، أكثر من الواقع نفسه، في سياق يتأثث من تقاليد العيش والعلاقة الطويلة مع الإبل. كي ينقذ «حفيرة» من ذبحها وأكل لحمها، يضطر مطر للعمل هجانًا لمصلحة جاسر، متحملًا شره وقسوته.
وإذا كانت وظيفة الفِلم الاحتفال بأحد ملامح الثقافة في السعودية، أو في منطقة منها، فإن المخرج (أبو بكر شوقي) حقق نجاحًا لافتًا، حين أخذ قصة الفِلم إلى مستويات عميقة من الفعل الدرامي واحتدام المشاعر، وسط طبيعة نجح أيضًا، من زوايا فنية متفردة، في تقديمها للمتفرج في صور خلابة ومهيبة لجبال شاهقة أو صحراء مترامية.
قدم الممثل عبدالمحسن النمر، واحدًا من أداءاته المميزة، وعلى الرغم من كمية الشر في شخصية جاسر، المكروه حتى من إبله، الذي يطمح إلى أن يسجله التاريخ في أبهى صفحاته، ومن أجل ذلك فهو لا يتوانى عن ارتكاب كل ما شأنه أن يوصله إلى هدفه، من أفعال لا أخلاقية. بسمرة وجهه وقسوته وإكسسواراته واستفزازه لجميع من حوله، حول الفِلم بدقائقه المئة والعشرين إلى فرجة لا تمل. طبعًا، دون أن ننسى أبدًا أداء عمر العطوي الذي يبدو عفويًّا، لكن يمور بكثير من القلق، معبرًا عن واحدة من أهم شخصيات الفِلم الأساسية. مرات عديدة صفق له الجمهور إعجابًا وتفاعلًا مع دوره.
ولئن بدا إبراهيم الحساوي في دور ثانوي، إلا أنه في كل مرة يظهر فيها كان يملأ الكادر بامتياز، ويشحن الفِلم بأحد أكثر معانيه نبلًا وجاذبية. شيماء الطيب، نجحت في تقمص دور المرأة البدوية، وكانت ندًّا، بدرجة أو أكثر، لشخصية جاسر، وكشفت عن إمكانات جديدة لممثلة تعد بالكثير. كذلك تولين بربود التي قامت بدور مجد، التي كانت تفوز في كل السباقات، واختارت أن تفصح عن هويتها الأنثوية؛ إذ لم يكن أحد يعرف أنها أنثى، حين رفعت الغطاء عن شعرها، في سباق الصفوة، في تصفية حساب موجعة مع جاسر، عمها وزوج أمها بعد وفاة والدها، فحرمته من «الناموس» وبالتالي الخلود.
ويبقى عزام النمري، الذي ظهر في بداية الفِلم في شخصية غانم، الأخ الأكبر لمطر، فهذا الممثل أدى دوره ببراعة لافتة. كان دوره قصيرًا، لكنه من الأدوار القصيرة التي ستبقى تقاوم النسيان، فهو طبع الفِلم بملامح جادة ومثيرة، منذ أول وهلة أطل فيها. ولم يكن عبثًا استعادته في لحظات الفِلم الأخيرة.
الإدارة المتقنة من المخرج لكل عنصر في الفِلم، من الممثلين والإبل حتى توظيف الطبيعة، والأداء الخلاق لفريق التمثيل، وقوة النص وجاذبيته؛ يمكن القول: إنها عوامل أسهمت بالتساوي في نجاح «هجان».