زياد عبدالفتاح: أعرف عن محمود درويش ما لا يعرفه أحد
الكاتب الروائي والإعلامي الفلسطيني زياد عبدالفتاح كان أحد الأشخاص المقربين من الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وكلما حلت ذكرى رحيل صاحب «مديح الظل العالي»، تفتش الصحافة الثقافية عن جديد تنشره، علمًا أن النشر عن درويش لا يحتاج إلى مناسبة. من هنا حاورت «الفيصل» الروائي والإعلامي الفلسطيني زياد عبدالفتاح، الذي كان قريبًا من درويش بما يكفي لأن يعرف عنه أشياء، لم يسبق لأحد من المقربين لدرويش، أو من ادعوا ذلك، أن عرفوها. زياد عبدالفتاح، مواليد عام ١٩٣٩م بمدينة طولكرم الفلسطينية. درس في مدرسة الفاضلية الثانوية بطولكرم. عمل في التدريس مدة ست سنوات، ثم في الصحافة والإعلام. أحد مؤسسي إذاعة العاصفة عام ١٩٦٨م في القاهرة، ومؤسسي إذاعة العاصفة في درعا في سوريا عام 1971م. ثم مؤسس وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» بين ١٩٧٢ – ٢٠٠٦م في بيروت وتونس وغزة بفلسطين. عمل رئيس تحرير لجريدة «المعركة اليومية» في أثناء حصار بيروت ١٩٨٢م، ورئيس تحرير مجلة «لوتس» الأدبية الدولية بين عام ١٩٨٤م و١٩٨٩م. يحمل شهادة ليسانس حقوق من جامعة عين شمس في القاهرة عام ١٩٧٥م، وحائز على نوط القدس عام ١٩٨٤م، ووسام التميّز الثقافي والأدبي والإعلامي٢٠٢١م. له خمسة عشر مؤلفًا بين رواية ومجموعة قصصية.
محمود ابننا، ابن العائلة
يقول زياد عبدالفتاح: أنا لست مستودع أسرار درويش، ولكنني أعرف عنه ما لا يعرفه أحد. كتبت عنه في روايتي «صاقل الماس» معلومات لا يعرفها غيري. كنا «نتباوح» ونُسرّ لبعض بأشياء لا يعرفها كثيرون من العامة والخاصة. وعندما كان يأتي محمود إلى تونس لا يذهب إلى فندق، وإنما يعيش في بيتي، حيث كنا نخصص له غرفة مستقلة، وفيها حمّام «سويت».
ويضيف: كانت تربطه علاقة وطيدة مع والدتي التي كانت تُعِدّ له القهوة، ويستذكر فيها أمه، كان يُعتبر ابن العائلة، ابننا. تعرفت إليه أواخر عام 1969م، وكان حينها عائدًا من موسكو التي عاش فيها سنة واحدة فقط. كان يحب السمك، وكان مُغرمًا بالملوخية والبامية وطبيخ زوجتي ماجدة «أم طارق» على وجه الخصوص.
وفي رواية، سيرة ذاتية، أصدرها عبدالفتاح قبل سنوات سمّاها «صاقل الماس»، تحدث فيها عن أمور كثيرة تتعلق بالشاعر الكبير إلا أن «الفيصل» استطاعت الحصول على معلومات جديدة تُنشر للمرة الأولى ولم ترد في «صاقل الماس». يقول: كنت قريبًا جدًّا منه، في مرحلتي حياته الثانية والثالثة خارج الوطن في بيروت وتونس. كان محمود شاعرًا مُجيدًا تمامًا، والناس يتهافتون على صداقته ومعرفته ولقائه، والاستماع إلى ندواته وأمسياته الشعرية. محمود لم يحمل شهادة جامعية، ذهب إلى موسكو للدراسة إلا أنه لم يكمل تعليمه الجامعي. شعر بخيانة الشيوعية له فطلّقها دون أن يذمها لاحقًا، وقرر المغادرة إلى القاهرة، بدعوة من أحمد بهاء الدين الذي عينه في مجلة المصور بدار الهلال، ثم عمل في الأهرام مع محمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ.
قليل التواصل وغير منفتح على الناس
يستطرد عبدالفتاح: كان قليل التواصل مع الآخرين، غير منفتح على الناس، وهذا كان مهمًّا جدًّا. لم يكن كالشعراء الآخرين، ليس شاعرًا بوهيميًّا، وليس سهلًا، ولا يستسهل العلاقة مع الآخرين، لكنه كان دقيق العلاقات معهم، لا يقطع مع الشعراء والمثقفين والنقاد. وكان دائمًا لديه تصنيف في ذهنه لهذه العلاقة. سألته مستوضحًا: هل كان يخشى النقاد؟ أجاب عبدالفتاح: لا. كان يهتم بهم؛ لأنه يعرف أن الأدب بحاجة إلى من يروجون له ويتحدثون عنه، وبخاصة إذا كانت قامات نقدية. كان هناك أكثر من ناقد صديق له في باريس مثل الناقد العراقي كاظم جهاد. كان محمود حريصًا على صداقته، ولكن لم يكن يحثه على الكتابة عن أي شخص أو موضوع. قلت له مرة: إن كاظمًا نشر كتابًا بعنوان «أدونيس مُنتحلًا». قال: لا يُرضيني ذلك، ولا أتدخل فيما يكتبه، ولا أُحرض أحدًا ليكتب ضد مُنافسيّ أو مَنْ هُم في مُستواي. لقد كان محمود بهذه الرفعة الأخلاقية الجميلة.
طقوس الكتابة عند درويش
التقيت عبدالفتاح في فندق «الرتنو» بمدينة رام الله، الذي سمّى إحدى رواياته على اسمه. يقول: كان لدرويش برنامج يومي تقريبًا، غير صارم بخلاف كل الشعراء الذين عرفتهم. كان يجلس إلى مكتبه في بيته الساعة العاشرة صباحًا كموظّف يكتب الشعر حتى الساعة الثانية. لم يكن ذلك طقسًا إجباريًّا، بمعنى أنه يمكن أن يجلس دون كتابة، لكن الطقس الغريب أنه لم يكن يرتدي البيجاما أو البنطلون والقميص، بل كان يتأنق ويلبس البدلة وربطة العنق. كان يقول: أنا خادم في مملكة الشعر. كان يحترم الكتابة الشعرية، ولا بد من احتساء القهوة إلى جانب ذلك، فيشرب ما لا يقل عن أربعة فناجين، يُعِدّها بنفسه. كان أنيق الملبس، يشتري أحلاه وأغلاه، ويكتب بقلم الحبر السائل الأزرق، وخطّه جميل، أهداني قلمين من أقلامه طوال مسيرة حياته، من ماركة «مونت بلان»، «الجبل الأبيض» بالفرنسية، وهو أغلى قلم في العالم. وكان يُدخّن سجائر المارلبورو باعتدال، كان معتدلًا وغير مُسرف ماديًّا، وكريمًا حيث يحبّ، وغير كريم مع المتكسّبين. كان متواضعًا وغير متعالٍ، وبسيطًا جدًّا، إلا أنه كان يحافظ على مسافة بينه وبين الآخرين وبخاصة الشعراء، وكان يشرب الكحول باعتدال أيضًا.
سليم بركات زميله في العمل وليس صديقه
وحول ما نشره الكاتب السوري سليم بركات من أن درويشًا أفشى له سرًّا عام 1990م مفاده أن له ابنة غير شرعية من امرأة متزوجة، يضيف عبدالفتاح: كان سليم يعمل سكرتير تحرير لمجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها درويش، وكانت تصدر في نيقوسيا، وهو شاعر كردي يمتلك ناصية اللغة العربية بعمق هائل، ويقوم بتحرير نصوص المجلة وتدقيقها. كان أكثر شخص يلتقيه درويش هو سليم لإنجاز العمل. فيما أزعم لم يكن سليم صديقه الصدوق، وإنما كانت تربطهما علاقة عمل فقط، وإنْ ادّعى سليم صداقتَه له.
وحين يدافع شخص مثل نصري حجّاج عن سليم فهو يجامله لأنه صديقه، أنا أنقض رواية نصري لسببين؛ لأنه لم يكن على علاقة صداقة مع درويش تؤهله للحديث في هذا الموضوع. إن حبه لسليم، وتعاطفه معه، هو ما جعله يقول ذلك. لقد كتبت وقتها وقلت: لو كان هذا الكلام صحيحًا لكان محمود قد أسرّ لي بذلك. ممكن أن يكون قال ذلك في لحظة نزق أو استعراض فقط. أما السبب الأهم، فهو أن محمودًا تزوج مرتين، وحدث الطلاق في المرتين؛ الأولى: رنا قباني ابنة أخ الشاعر نزار قباني، واشترط عليها عدم الإنجاب. وعندما أصرت على الإنجاب اختلفا فطلقها. وزوجته الثانية مصرية اسمها حياة الهيني، واشترط عليها أيضًا عدم الإنجاب، واتفقا على الطلاق عندما أصرت. فكيف له أن ينجب من علاقة محرمة؟
حين بكى من حب المصرية حياة الهيني
كانت المصرية حياة الهيني أكثر غيرةً من السورية رنا قباني على الرغم من أنه كان مُرتاحًا معها. كانت تعمل مترجمة فورية في إحدى المنظمات الدولية في فيينا، التقاها في مؤتمر، وتعرّف إليها، وأصبح بينهما علاقة، وعندما زار تونس كان قد وقع في حبها. جاءني يومًا إلى البيت وكان متوترًا، وكشف لي حبه لها، فقلت له: تزوجها. فجلس يبكي قائلًا: أنا لا أصلح زوجًا لأن لدي شروطي التي ترفضها أية امرأة. أنت تعرفني لا أريد الأولاد، لا أتحمل أن يبكي ابني أو يمرض، أصبح كالمجنون، أنا كالزجاج في هذه المسألة هشّ وسهل الكسر، يكسرني الأطفال، على الرغم من أنه كان يحب أبناء أصدقائه.
توفير مساعدات مالية لأصدقائه
فيما يتعلق بطلب مساعدات مالية لبعض أصدقائه، يضيف عبدالفتاح الكاتب الشمولي والمثقف النوعي: سأروي لك أمرًا غريبًا، حكى لي محمود عن شاعر عراقي كبير ومعروف كان وضعه المادي في غاية الصعوبة، وطلب مني أن أوفر له مساعدة مالية وراتبًا شهريًّا من ياسر عرفات. لم يكن درويش يطلب لنفسه، لقد طلب مساعدات أيضًا للشاعر أحمد دحبور، ولأديب سوري كذلك، واعذرني في عدم نشر الأسماء، وكنت أقول لعرفات: إن هذه الأسماء أوصى بها درويش، ولم يكن يرد لنا طلبًا. نزار قباني ومحمود درويش كانا من أغنياء الشعر، لا يحتاج الواحد منهم أن يكون موظّفًا. محمود لم يكن يقبل الهبات والمساعدات. لم يطلب من عرفات مليمًا واحدًا، دور النشر كانت تدفع له آلاف الدولارات مثل دار العودة ودار الريس، وفي الوقت نفسه كان رئيس مركز الأبحاث وكان له راتب شهري.
عبدالباري عطوان الأكثر كذبًا في ادعاء صداقته
سألته: إنْ كان درويش قد تعرّض لخيانات من بعض الأصدقاء بعد رحيله؟ يجيب عبدالفتاح: لا أظنّ ذلك، رغم أنّ كثيرًا من الشعراء كانوا يغارون منه. محمود فيه ميزة عن كل شعراء العصر الحالي، أنا أعتبره بعد المتنبي، كان يعتني بشعره، وبواكير شعره مثل سجِلّ أنا عربي وأحنّ إلى خبز أمي، كان لا يحب قراءتها؛ لأنه يعتبرها ساذجة ومباشرة. ومع تطوّره دخل عصر الحداثة وما بعد الحداثة، في قصائد «مديح الظل العالي» و«لاعب النرد» و«ورد أقلّ»، وكان يتحدث عن الموت كثيرًا. أعتقد أن أكثر الناس كذبًا في ادعاء علاقته الحميمة بدرويش هو عبدالباري عطوان، وبخاصة عندما ادعى أن درويشًا زار باريس وكان مفلسًا، وأنه عزمه على الغداء، وهذا غير صحيح، درويش كان كريمًا ويعزم الناس ويرفض أن يدفع أحد له.
أسرار مجلة الكرمل وحظوة بعض الشعراء
يقول عبدالفتاح: كان درويش مُطلق اليد في مجلة الكرمل، التي كانت تصدر في العاصمة القبرصية نيقوسيا، ينشر ما يعتقد أنه إبداع؛ شعرًا ونثرًا، وكان يحترم من ينشر له. في يوم كنا في مؤتمر لاتحاد كتاب آسيا وإفريقيا في مدينة فارنا في بلغاريا، صدر عدد من المجلة، قلت له: أنت رئيس تحريرها، ويُحسب عليك ما يُنشر فيها. لماذا وضعت أول ثلاث قصائد للشاعر العراقي «فلان»، وهو الشاعر نفسه الذي طلب له مساعدة مالية وراتبًا شهريًّا من أبي عمار، من خلالي. أعتقد أن القصائد الثلاث لا ترقى إلى مستوى الكرمل، إلا أنه دافع عن ذلك، على الرغم من قناعتي أنه كان ينشر له أحيانًا بهدف منحه مكافآت مالية، وبذلك حظي بامتيازات كثيرة بطريقة مقصودة.
ليس هناك من يصحح قصائده
ويرى عبدالفتاح أن لغة درويش عالية جدًّا، وقد يعرض قصائده على أكثر من ناقد أو متذوق أو صديق، ليس بهدف التنقيح. مثلًا لمّا كتب قصيدة «مأساة النرجس، ملهاة الفضة»، عرضها عليّ، وأخذتها معي إلى بغداد، وكانت مسودة بخط يده، وقد كان يفعل هذا الأمر مع العديد من معارفه، فكان يعرض القصيدة على أشخاص كثيرين يثق بهم. مرة قرأ قصيدة لأحمد دحبور قال درويش فيها: إن الجحيم هو الجحيم. فقال دحبور: الصحيح هي الجحيم، لأن الجحيم لم ترد في القرآن إلا مؤنثة، فوافق على تعديلها. إن أي شخص يدعي أنه كان يُصحّح له فهذا غير صحيح. أنا صديقه الصدوق، ولغتي ممتازة، وأنا أولى بأن يعرض عليّ قصائده.
وحول تفتيش صديقه الكاتب اللبناني إلياس خوري لأغراض وأشياء محمود في منزله بضاحية عبدون في عمّان، بحضور شقيقه أحمد وأصدقاء آخرين، يقول: هو أمر طبيعي بهدف حصر إرثه الأدبي وحفظه وطباعته. لا أعتقد أن هناك انتهاكًا للخصوصية في ذلك، محمود شاعر عام، والبحث ليس بنيّة كشف الأسرار. لقد وجدوا قصيدة طويلة اسمها «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، ونُشِرَت بعد وفاته في مجموعة هي وقصائد أخرى لم تُنشَر من قبلُ.
رفض الخروج من بيروت التي أحبها وأحبته
ويؤكد عبدالفتاح بصوت هادئ ولغة سلسة: أنا الشاهد الوحيد على رفضه للخروج من بيروت عام 1982م. محمود شاعر أكثر من كونه سياسيًّا، وكان شاعرًا في أعماقه رومانسية شديدة، وعاش سنوات في بيروت التي تعلق أهلها فيه وكان ينظّم فيها العديد من الأمسيات. دار نقاش بيني وبينه في الشارع الأخير في «الفاكهاني». بدأ الخروج من بيروت فأحضرته ليرى المشهد، وحالة الضياع والقلق، وما الذي سيحدث. أحس الناس باليُتم بعد خروج الثورة من بيروت، من سيرعى شؤونهم؟ حاولت إقناعه بالخروج معنا فرفض. قال لي: أنت مقاتل. قلت له: أنا إعلامي ولست مقاتلًا، فقال: أنا شاعر ولست مطلوبًا. قلت له: أخاف عليك من اللبنانيين، فقال: لا إنهم يحبونني ويحترمونني ويُحبون أشعاري، وأنا أحبهم، وهم مجتمع حضاري، فقلت له: أنت فلسطيني إذًا أنت مطلوب.
يحب عرفات لكنه يتجنب معايشته
ويضيف: كان يحب أبا عمار ويختلف معه؛ لأن نشأته وتربيته شيوعية وإنسانية وعلمانية، بعكس عرفات الذي فيه عيوب الحاكم، فكان لا يعجبه. ولم يكن قريبًا من عرفات كما كان يعتقد بعضٌ، كان يعمل في مجلة الكرمل ومركز الأبحاث فقط. كان يحبه ويتجنب أن يُعايشه، لم يكن في حضنه كما كان يعتقد بعضٌ، ولم يكن يعرفه جيّدًا من الداخل. كان يقول عن ياسر عرفات: هذا الرجل القائد يمشي بين قطرات المطر ولا يبتلّ. وهذا تعبير شعري، كان بالنسبة إليه، بمرونته وقدرته السياسية، وقدرته على التزويغ، وتخطّي المواقع الصعبة، كمن يمشي بين قطرات المطر ولا يبتلّ، هذا تعبير لا يقدر عليه إلا محمود درويش، هي علاقة حب وتوازن بين ما يجب وما لا يجب.
القصة التي لا يعرفها أحد: كيف دخل درويش اللجنة التنفيذية؟
أبو عمار يريد درويشًا وأبو مازن يريد عبدالله الحوراني
يستطرد عبدالفتاح مبتسمًا: القصة الكاملة التي لا يعرفها أحد، ولم أكتبها في «صاقل الماس»، أن محمود درويش بعد «مديح الظل العالي» كنا في مؤتمر المجلس الوطني في الجزائر، وقتها قرأ القصيدة في المجلس الوطني. كان أبو مازن يرغب في إدخال عبدالله الحوراني عضوًا في اللجنة التنفيذية، ثم اختلف معه، وكان أبو عمار يرغب في إدخال محمود درويش الذي كان يرفض رفضًا قاطعًا. أخبرني أن أبا عمار أرسل إليه أكثر من شخص لإقناعه، فقلت له: أنا ممن طُلب منهم ذلك. كنا في فندق «أوراسي» بالجزائر فقلت له: اقبل. قال: «هم عجائز، كبار في السن بيزهّقوا وليس لي خُلُق». قلت له: أنت وشفيق الحوت صديقان حميمان. اشترط دخولك بدخول شفيق الحوت الذي كان يرفضه أبو عمار. وهكذا كان، حيث رضخ عرفات ووافق فدخل الحوت ودرويش في التنفيذية.
كانت أول رواية كتبتها اسمها «وداعًا مريم» سنة 1991م، أعطيتها لشفيق الحوت لقراءتها الذي اتصل بي مادحًا وطالبًا عدم التردد في نشرها. وبعثت نسخة في البريد السريع لمحمود الذي كان يقيم في فندق بتونس، روى لي لاحقًا أنه عندما رنّ جرس الباب، قام متكاسلًا غاضبًا فأخذها وألقاها على الطاولة وعاد محاولًا النوم فلم يتمكن من ذلك، فعاد إلى الرواية فقرأها دفعة واحدة، فاتصل بي مادحًا واقترح عليّ أن أسمّيها «وداعًا مريم». ترك درويش اللجنة التنفيذية بسبب اتفاق أوسلو. لم يكن موافقًا على الاتفاق؛ لأنه يعرف اليهود إذ عاش بينهم، فهم غير أوفياء للعهود، ولن يعطوا الفلسطينيين ما يطمئنون إليه أو تكون لهم دولة. عندما استقال لم يذكر هذا السبب، على الرغم من أن هذا هو السبب الحقيقي، فقد كان رافضًا للاتفاق.
عرفات يُغري درويشًا بمنصب وزير الثقافة:
سأُعيّنك نائبًا لي في رئاسة السلطة
سأقول لك ما لا يعرفه أحد. في يوم من الأيام وكنت مريضًا حينها، اتصل بي مدير مكتب عرفات وطلب مني القدوم إلى المطار لمرافقة عرفات في سفر، ركبنا طائرة سنغالية للزعيم عبده ضيوف، طويل القامة. كان ذاهبًا إلى نيلسون مانديلا، الزعيم الجنوبي الإفريقي، لاستشارته والاستئناس برأيه بوصفه زعيم حركة تحرّر وطني، وذلك قبل توقيع اتفاق أوسلو. قال لي: أريد منك إقناع محمود درويش بالعودة معنا إلى الوطن، وكان يعلم مدى العلاقة بيني وبينه. قلت له: لن يوافق. فقال: قل له سأعيّنه أول وزير للثقافة في فلسطين. فقلت له: لا أظن أنه سيقبل، ولكن وعدته بالحديث معه.
ثم قال لي: إن لم يوافق، أخبره أنني سأعيّنه نائبًا لي كرئيس أول سلطة وطنية فلسطينية. وطلب مني ألا أكتفي بمشاورته بل بالضغط عليه. تساءلت بعقلي السياسي، وأدركت أن عرفات كان متخوّفًا من هذه الخطوة، فكان يريد إلى جانبه شاعرًا عظيمًا، وقامة شعرية هي قامة محمود درويش إلى جانب قامة عرفات السياسية. رويت لمحمود ما حدث، فقال لي: هل أنت مجنون؟ أنا لا يُغريني أيّ منصب، اسمي الشاعر محمود درويش، أحب مهنتي، وسأظل شاعرًا طوال حياتي، ولن أعود معكم. قلت له: أتذكُر عندما رفضت الخروج من بيروت ثم خرجت لاحقًا؟ وترفض الآن العودة لكنك ستعود، ولن تبقى وحيدًا سنتقابل في غزة إن شاء الله، وهكذا كان. يومها ألقى قصيدة وداع تونس فبكى وأبكى. وعندما عاد لم يكن طامعًا في منصب أو مرتبة أو مكان، واكتفى بزيارة حيفا ويافا والجليل ومشاهدة أبناء بلده.
أدونيس الأقرب إليه شعريًّا، وغياب الود مع عز الدين المناصرة
وحول علاقته بالشعراء، يقول: محمود كان باطنيًّا، ولم يكن يُصرّح بكل شيء خاصة في علاقته بالشعراء. القامة الشعرية القريبة منه هو أدونيس، وصديقه معين بسيسو الذي كان يعتبره شاعرًا شيوعيًّا مباشرًا، وأُنسي الحاج، وأحمد دحبور الذي كان يعتبره شاعرًا مهمًّا وناقدًا مهمًا ولغويًّا متمكنًا. وكان يعتقد أن هناك شعراء من الصف الثاني مثل غسان زقطان ووليد خزندار؛ لأنه كان بحاجة إلى شعراء يمشون على ضفافه. وعلى النقيض، لم يكن هناك ودّ أو صداقة بينه وبين الشاعر عزّ الدين المناصرة، الذي كان يرى درويشًا شاعرًا عاديًّا، ودرويش كان يراه شاعرًا مهمًّا إلا أنه تقليدي.
عندما طار صواب الشعراء وجن جنونهم
محمود تعب على نفسه، فنمّى لغته، ونمّى أداءه الشعري. في المجلس الوطني في الجزائر، ألقى قصيدة «مديح الظل العالي»، فطار صواب الشعراء وجن جنونهم باستثناء أحمد دحبور، ومنهم عز الدين المناصرة، ومعين بسيسو، ويوسف الخطيب الذي خلع معطفه محتجًّا، وقال: ألسنا شعراء؟
منح جائزة لينين الثقافية
كان عضوًا في الأمانة العامة لاتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، وفي يوم جاءني درويش وأخبرني أنه سيلتقي محمود عباس وكان عضو لجنة تنفيذية، حيث كلّموه من السفارة السوفييتية في باريس، وسألوه إن كان درويش؛ باعتباره شخصية ثقافية مرموقة يقبل بجائزة لينين الثقافية، فأخبره أبو مازن بذلك، واستشارني، فقلت له: هذه جائزة تُقابل جائزة نوبل فلا تتردد في ذلك، ومنحت له بقيمة 50 ألف روبل.