إسماعيل هاجاني على الربوة العالية
ترجمة مجموعة قصصية كردية إلى العربية، ظاهرة ثقافية عربية شبه نادرة، بين قضيتين: سابقة، لفرصة اهتمام النقد العربي بالقصة الكردية، ولاحقة، للتواصل الحضاري بين شعبين صديقين مسلمين متجاورين. هذا ما حققه ماجد الحيدر، بترجمته مجموعة قصصية للقاص إسماعيل هاجاني بعنوان «بانسيون الربوة العالية»، وقد صدرت عن دار النشر والثقافة الكردية في بغداد 2021م.
بمقدورنا تخمين المتون من عناوينها، التي تُلمِّح للمتن الحكائي أو تختصره. شخصيات أسطورية وأعمال جليلة ومدهشة داخل حبكة معقولة ومتوقَّعة ومُقنِعة، بتشويق وترقب. دراما ملحمية ولغة محلية تعتمد رمزية الإيماءة والتعبير اللالفظي، رقص شعبي ورمي الرصاص في الهواء، نظرة متبادلة وفعل الانتحار. وهو ما يضمن تحقيق مستويات عِدَّة من المفارقة والسخرية والعواطف والانفعالات. فانتحار العاشق يجد صداه في أساطير كثيرة، وكذلك وصايا الآباء والأجداد حول مقتنياتهم وتقاليدهم المُقدَّسة! وبقية شخصيات القصص، كذلك، تردد نمطًا أسطوريًّا ملحميًّا لكلية الروح القومي قبل نشأة الدولة الحديثة.
لكل شخصية من شخصيات هاجاني، طُرَّة أسطورية على الجبين، تحكي تحولات الضمير الشعبي. قصة «إفطار العريس»، الإفطار أسطوري مُتخيَّل لا يتكرر بعد ليلة الدخلة، يوقظون العريس بزمَّارٍ ودبكات قرب نافذته. والعرس أسطوري مُتخيَّل، لشاب عاشق ينتحر منعًا لتحقيق حلمه المسروق لغيره!
الحبكة أسطورية، بضمير المُخاطَب كحيلة شعرية وقِناع أدبي للأنا الأسطورية القروية المُتخمَة ببطولات العشق المستحيل. الموقف: عاشقان، العقدة الفكرة: تقاليد كردية بالية: ابنة العم لابن العم وللعاشق الموت. الحل، الفعل: انتحار أو قتل. هذه البنية البسيطة المكررة، تجاوزها هاجاني شكلًا، بخلط الأزمان وتدخلات الراوي تقديمًا وتأخيرًا. رفض العاشق خوفًا من حربٍ عشائرية، اقتراح صديقهِ، خطف الحبيبة والزواج منها من دون موافقة أهلها، وهو تقليدٌ بالٍ آخر يكاد يندثر.
هيمنة الأساطير القروية: العاشق، العازف، العرس الدبكات والفرح، الحزن والفقر وصعوبات الحياة الجبلية وضغوطات المجتمع العشائري، تتكرر في معظم القصص. «تناهت إلى أسماعكم أصوات طبول ومزامير قادمة من أطراف القرية التي تعملون فيها. فألقى في ذلك الصباح الباكر مالَجه وأمسك بخرقة من القماش وشرع بالرقص وهو في مكانه وصاح مرتين وثلاثًا:
فِدَاك وفدى مزمارك نفسي ونفس أمي يا حاجكو! يا لك من زمّار ساحر».
القاص بثلاث نقلات سردية، ومشهد واحد، جمعَ ماضي العشق المُضمر المعلوم، بالحاضر «تناهت إلى أسماعكم» برؤية مستقبلية «كأنني أراكَ الآن» وحلم «متى يأتي اليوم الذي تقف فيه عند شباكنا؟». ومن هذه الحفلة الراقصة، نقلة سردية مفاجئة «عندما وقعت عيناك على شاهده بين القبور تذكرت قوله هذا فابتعدت». ونقلةٍ أخرى، ليسردَ لنا حادثة الانتحار وكيف تدلَّى العاشق والحبل في عنقهِ، لحظة التقت عيناه بعيني حبيبته وهي تُزَفُّ إلى ابن عمِّها!
لكل مكان ولكل شيء في قصص هاجاني، جوهره الأسطوري المُتخيَّل، قصة «المدينة تحت الأرض» امتدادًا لرحلة أوديسيوس، ورسالة الغفران للمعري وكوميديا دانتي، والمحاورات المجازية ما هي إلا خيط بين أساطير الموت السابقة واللاحقة، لكن أحاديث الموتى هنا نقدية وواقعية إلى حَدٍّ ما، عن ضياع الألفة والعلاقات الحميمة بين الأحياء والأحياء، وبين الأحياء والأموات؛ بسبب شِدَّة الارتهان بوسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من اشتغال قصة «أنَّات الكمنجة» بنقد الواقع الاجتماعي للشعب الكردي وعلاقته الخاصة بالأعراس والدبكات الشعبية والموسيقا «نحن والطمبور.. الطمبور ونحن، لا بارك الله بي عندما أدخلتك المدرسة وأردت لك أنْ تكون معلمًا، لا مطربًا!»، لكنها توغلت حفرًا أسطوريًّا في حفلة العازفين العميان في بيت الباشا، وفيها تلميح إلى قصة أنور محمد طاهر «مقهى العميان».
صناديق ملونة
قصة «الصندوق الأصفر»: الحبكة، الموقف: وصية. والفكرة: الالتزام بوصايا الآباء والأجداد. الفعل نسيان الوصية وتجاهلها. تحكي قصة أجيال من عشائر الكرد البدو الذين يُطلق عليهم الكوجر، والحرية التي كانوا يعيشونها بالتنقل بين أربع دول متجاورة. أسطورة واحدة لأربعة أجيال وأربعة أجزاء وأربعة ألوان، لكل لون مرحلة زمنية، والصندوق هو نفسه، واللون يتغير بحسب المدة الزمنية والظروف المناخية، النحاس الأصفر كالذهب، الأصفر المائل للحمرة بسبب الرطوبة والزمن، الأحمر المائل للخضرة، الأسود بعد حرق بيت العائلة. التغيرات رمز سطوة المفردات المادية على الأخلاق والتقاليد والأُلفة الاجتماعية للعائلة الواحدة.
«عندما عاد جدي الثالث من اجتماع الحلف المقدس، معرِّجًا في طريقه على مدينة وان، ليزور صديقه الأرمني، كان يحمل صندوقًا أصفر يلمع كالذهب». الصندوق الأسطوري يكشف عجز الإنسان عن التطابق مع أساطيره الشعبية، بينما يستمرُّ الإنسان في صناعة أساطيره التي تحاول أن تتطابق مع حياته.
الصندوق الأحمر: «ترك والد جدي لورثته صندوقًا تغير لونه على مر السنين حتى لم يعودوا يسمونه الصندوق الأصفر. وعندما يرتحلون من مكان لآخر كان يناديهم: أين الصندوق الأحمر؟».
الصندوق الأخضر: «قال جدي: صرت رب الأسرة ووريث هذا الصندوق، لم يكن الشيب قد خط لحيتي. وعندما جاء الطاعون حلت الفوضى وتقاتل الناس فيما بينهم، حافظت على رباطة جأشي. لقد اجتزنا أيامًا سوداء لا عدّ لها. لم أحفل بالجزية والضرائب التي صار العثمانيون يضاعفونها، وجاء الإنجليز والفرنسيون، قطعوا علينا الطرق والأنهار، جعلونا مثل طيور كسيرة الجناح ومنعونا من ارتياد مصائفنا ومراعينا ومسارح أغنامنا. لكننا أصررنا على البقاء أحرار نأبى التدجين».
الصندوق الأسود: «وصل الصندوق إلى يد أبي ولونه قد اخضر بسبب عوادي الزمن. كان أبي يخاطبنا كل مرة نرمم فيها جدران البيت ونطليها قائلًا: ضعوا الصندوق الأخضر جانبًا يا شباب. لكن بعد اندلاع الثورة واحتراق بيتنا تغير اسمه إلى الصندوق الأسود». لا شيء يربط بين تحولات لون الصندوق، غير الأسطورة الموروثة. وقد ربط هاجاني تحولات اللون من الأصفر الذهبي اللمَّاع الغالي، إلى الأسود المظلم الداكن، كما ربطَ توماس هاردي طهارة بطلته تس دربرفيل باللون الأبيض، الملوث بدم العذراء التي لم تعد عذراء، وتنتهي قاتلة. تبدأ بالأبيض ونقاوة باطنها الملوث بظلم المجتمع الإنجليزي الذكوري، وتكرار رؤيا المركبة: «لم أسمع تلك الخرافة قط. قال أُوثر ألا أفصلها لك الآن، ولكن مجملها أن أحد أبناء در برقيل في القرن السادس عشر أو السابع عشر، اقترف جريمة في مركبة أسرته، ومنذ ذلك العهد يرى أبناء الأسرة المركبة أو يسمعونها كلما… هذه المركبة الوقور قد أعادت إلى مخيلتك معرفة ضئيلة قديمة بهذه الأسطورة». (توماس هاردي، «تس سليلة دربرفيل»، ترجمة فخري أبو السعود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1938م، ص226) وتكرار أسطورة ميديا الزوجة المهجورة المذبوحة بنار الغيرة، هي الوجه الآخر لأسطورة الكردي العاشق المنتحر، التي ما زالت تتكرر.