وائل فاروق يتتبع فوضى المعنى في مسرح ما بعد الحداثة الغربي
يُحِيل اسم كتاب «الاختباء في النور»، للناقد والأكاديمي المصري وائل فاروق (دار المتوسط)، إلى كتاب آخر يحمل الاسم ذاته «الاختباء في النور: في الصور والأشياء» للإنجليزي ديك هيبدايج، المنشور عام 1988م. يعبر ذلك التناص المقصود عن المشترك الموضوعي بين الكتابين، ويكشفه العنوان الفرعي لوائل فاروق «تجارب ما بعد حداثية من المسرح المعاصر»، وهو تعبير بلاغي يبين واحدة من أهم خصائص ما بعد الحداثة في جمعها بين المتناقضات، وسعيها إلى تدمير فكرة المركز مع تدمير أي إمكانية لظهور مركز جديد؛ لأن غياب المركز هو الضمانة الوحيدة لعدم العودة إلى الهامش. تعبير بلاغي يكشف عن إستراتيجية معرفية مُتبنّاة ومُؤكَّدة في فكر ما بعد الحداثة من خلال آلية الجَّمْع دون المَّنْع.
مصطلح بلا تعريف
يناقش الفصل الأول من الكتاب مسألة جوهرية تتعلق بمصطلح «ما بعد الحداثة» وصعوبة العثور على تعريف له على الرغم من الحضور الطاغي للمسمى في مجالات معرفية متعددة؛ فقد عجز كبار مُنظِّريها مثل إيهاب حسن، وجان فرانسوا ليوتار في صك التعريف المناسب لذلك المصطلح المراوغ الذي وصفه بعضٌ بأنه مطلي بالصابون، منزلق الدلالة، ويشي بالخداع. ورغم أنه ليسَ ثمَّةَ ستار حديدي أو سُورٌ كسُور الصين يفصِلُ بين الحَداثة وما بعد الحَداثة على حد تعبير إيهاب حسن؛ فإن المصطلح يحيل إلى العصر الذي تلا عصر الحداثة بسردياته الكبرى الشمولية التي آمنت بالعقل ورفضت الدين والأسطورة، فقد بدأت الحداثة عصرًا جديدًا في القرن الثامن عشر يؤمن بالعلم والعقل.
مسرح فَوْضَويّ
ارتبط ظهور مصطلح ما بعد الحداثة بالهندسة إلا أنه سرعان ما انتقل إلى الفلسفة والفن والاجتماع والسياسة والاقتصاد وشتى نواحي المعرفة. ولم يكن المسرح بعيدًا من هذه المجالات بل هو من أوائل الفنون التي تَجَلَّتْ فيه خصائص ما بعد الحداثة، بظهور مدارس مسرحية حديثة ترفض المسرح الأرسطي الدرامي بنسقه المعتاد وتتجه إلى مسرح مغاير مثل المسرح العبثي والتكعيبي والسريالي والدادائي ومسرح القسوة والملحمي؛ لتحل مظاهر جمالية جديدة في المسرح لم تكن موجودة من قبل. جماليات تحتفي بالتشظي وانهيار اليقين وتعدد المعنى. ويظهر ذلك بوضوح في تنظير الفرنسي أنتونان آرتو (1896- 1948م) لمسرح القسوة في كتابه «المسرح وقرينه» حيث عاش في صلب الصدمة الغربية وانهيار القيم وأزمة البحث عن المعنى. يقول معبرًا عن أزمة الذات الأوربية فكريًّا: «نحن نعيش في فترة ربما كانت فريدة من نوعها في تاريخ العالم، فترة ترى فيها العالم المفحوص بدقة قيمه تنهار، تتحلل الحياة المحترقة من القاعدة، ويترجم هذا على المستوى الأخلاقي أو الاجتماعي بانطلاق الشهوات من عقالها انطلاقًا وحشيًّا، وتحرير أحط الغرائز…». وتبرز هذه الأزمة من مقدمة الكتاب التي يصف فيها الحالة العامة للروح العبثية وافتقاد المعنى في أوربا في تلك الآونة بقوله: «وهناك توازٍ غريب بين هذا الانهيار العام للحياة، الذي هو أساس فقدان الروح المعنوية حاليًّا، والاهتمام بثقافة لم تطابق الحياة قط، بل جُعلت كي تحكمها»؛ لذلك يدعو إلى مسرح ثائر فوضوي يحرر المشاعر المقهورة ويدفعها إلى الظهور: «وإذا كان المسرح جوهريًّا كالطاعون، فليس لأنه معدٍ، بل لأنه كالطاعون يكشف ويدفع إلى الخارج جوهرًا من القسوة الكامنة تتمركز عن طريقه كل إمكانيات الفكر الفاسدة على فرد أو شعب». فسبب تدهور المسرح المعاصر بالنسبة إليه أنه قطع صلته بروح الفوضى العميقة أساس كل شعر. يبحث عن مسرح يبتعد من الكلمة فحتى الكلمة قد باتت فاقدة للمعنى. عصر جديد يكون فيه للمسرح لغته الخاصة الخالصة عبر الأداء الحركي والديكورات والملابس والموسيقا، والرقص والنحت، والإيماءات، والإضاءة المبهمة رافضًا كل أشكال المسرح المعتمد على الكلمة. وبعبارته: «المؤلف الذي يستخدم الكلمات المكتوبة لا مكان له»؛ لذا يجب «أن نفعل ذلك ونربط المسرح بإمكانيات التعبير بالأشكال، وكل ما هو حركة، وصوت ولون وتشكيل… إلخ، يعني رده إلى مصيره الأول، وإعادته إلى شكله الديني والميتافيزيقي يعني التوفيق بينه وبين الكون».
مسرح بلا نص
ينجح وائل فاروق في الفصل الثاني الموسوم بـ«جماليات مسرح ما بعد الحداثة» في رصد تلك الخصائص التي أشار إليها آرتو وتميز بها مسرح ما بعد الحداثة أو مسرح ما بعد الدراما، عن المسرح الأرسطي. أبرز تلك السمات وأوضحها هو التباعد بين الجانب الأدبي المتعلق بالنص والجانب الأدائي المتعلق بالعرض المسرحي. ففي مسرح ما بعد الحداثة يفقد النص أوليته وأولويته ويصبح عنصرًا من عناصر العرض، أهميته لا تزيد على أهمية العناصر الأخرى. كما أنه يُعِيد المسرح إلى جذوره الدينية الطقسية التي نشأ في أحضانها في العصور الغابرة التي تعتمد على الأداء والغناء. وإذا كان المسرح الأرسطي يقوم على التطور الدرامي القائم على التناسق «بداية ووسط ونهاية»، فمسرح ما بعد الحداثة يقوم على التشظي، لا يحكي قصة، وتتعدد فيه اللغات المسرحية الأدائية والصوتية والعلامات، ويتعرض فيه المُتَفَرِّج إلى حافزات حسية ونفسية مختلفة تجبره على اختيار ما يستطيع أن يستوعبه من العرض، وأن يجد المعنى الذي يخصه ويكونه بنفسه، وهو ما يسمح بتعددية القصديات، فيتحول المُشَاهِد من متلقٍّ إلى منشئ معنى العرض المسرحي الذي يشاهده، فتتعدد القراءات والتأويلات للعرض الواحد بتعدد المشاهدين، كلٌّ يملأ الفراغات المتروكة حسب رؤيته.
إسقاط الجدار الوهمي
من السمات الرئيسة في مسرح ما بعد الحداثة «إسقاط الجدار الرابع» تلك الآلية التي احتفى بها الألماني بروتلد بريخت في مسرحه الملحمي، ذلك الحائط الوهمي الذي كان يفصل الممثلين عن المشاهدين في المسرح الدرامي، حيث يعمل مسرح ما بعد الحداثة على تذكير المشاهد أنه في عرض مسرحي رافضًا أن يندمج مع الأحداث التي تقدم أمامه، يوجه الممثلون فيه حديثًا مباشرًا إلى الجمهور يحثونهم على إبداء آرائهم فيما يقدم أمامهم. بل أحيانًا تعمل على استفزازهم مثلما فعل بيتر هاندكه، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، في مسرحيته الشهيرة «إهانات للجمهور» عام 1966م التي يشار إليها باسم «العمل المسرحي الضد» التي يسمع فيها أصوات أربعة ممثلين أو أكثر توجه الإهانات للجمهور ولا تقدم له أي قصة.
موت الشخصية
يختلف مفهوم الشخصية في مسرح ما بعد الحداثة عن المسرح الدرامي؛ لذلك يتحدث فوتشس عن موت الشخصية. وفي الحالات القصوى تصبح الشخصية صوتًا مجردًا، ولا يجسد الممثل شخصية بل يستسلم للكلمات، وتصبح الشخصية كائنًا لغويًّا، ليست له أي حقيقة إلا حقيقة صوته والكلام الذي ينطق به. ويؤدي ظهور مثل هذه الشخصيات إلى إجبار المتفرج على إشعال خياله ولا يفرض عليه معاني بل يوحي إليه أفكارًا وعليه أن يجد لها تفسيرًا. فعلى سبيل المثال في المسرح الملحمي لم تعد الشخصية تحتل الصدارة بصفتها الفردية، فهي رمز لمصير اجتماعي، حيث إن البطل يطرح مشكلة اجتماعية تعني المجتمع ككل، يفقد فيها البطل الفردي مكانته في المسرح الملحمي.
غياب السَّبَبِية
ومن خصائص مسرح ما بعد الحداثة التي يشير إليها وائل فاروق في كتابه أن العرض المسرحي ما بعد الحداثي هو ناتج عملية المونتاج بين المَشَاهد المتشظية المنفصلة التي لا تربطها علاقة سبب ونتيجة وإنما علاقة التشابه أو التناقض أو التوازي أو التجاور، فالربط بين هذه المشاهد ومعانيها متروك له. وهذه الطريقة تضمن أن يتركز انتباه المتفرج على تلك الروابط من دون أن يفرض عليه أي تفسير مسبق. وعندما تصبح العلاقة بين اللوحات/ المَشَاهِد المقدمة على الخشبة ضئيلة للغاية ينحصر دور المُتَفَرِّج في تجميع هذه اللوحات المنفصلة، وليس في البحث عن معنى لها. فمسرح ما بعد الحداثة لم يعد يقدم منتجًا، بل تجربة وحدثًا مشتركًا مع الجمهور، لا يقدم معاني ولا ظواهر، لا يقدم معلومات بل مشاعر وطاقة.
تعدد المعنى
تتجلى هذه السمات السابقة لمسرح ما بعد الحداثة بشكل نقدي تطبيقي في الفصل الثالث من الكتاب الذي يقدم فيه وائل فاروق تحليلًا لسِتّ مسرحيات غربية ما بعد حداثية معاصرة بداية من الألفية الثانية حتى ظهور وباء كورونا. مثل مسرحية «بعيدًا» faraway للإنجليزية كاريل تشرتشل التي عرضت لأول مرة في عام 2000م في مسرح رويال كورت بلندن، وهي من إخراج ستيفن دالدري. اعتمدت المسرحية في بنائها الدرامي على نمط الهايكو الياباني وهو تركيب شعري يتميز بإيجازه الشديد وبساطته ويحتشد مضمونه بقوة إيحائية. ويظهر في المسرحية عدم الترابط بين أجزائها الثلاثة، عوالم مستقلة بعضها عن بعضها الآخر لا ترتبط بعلاقة سببية واضحة، لا تهتم بذكر أسماء الشخصيات المشاركة في العرض، وتدخل فيها عناصر مزعجة تنتمي إلى عالم عبثي، يكتسي بالغموض وترك الفراغات التي تسمح بتعدد القراءات للعرض، وهو ما يذكره المخرج ماسيميليانو فاراو الذي أعاد إخراج المسرحية في عام 2003م في الدورة الحادية والعشرين من مهرجان مسرح بارما: «النص الدرامي موجود ليقول شيئًا لا يمكن أن يقال بطريقة أو وسيلة أخرى، ليس مقبولًا أن يقلل شخص ما من تعقيده ويستخرج معنى واحدًا منه ويرميه في وجه الجمهور». مشيرًا بذلك إلى واحدة من أهم خصائص المسرح ما بعد الحداثي التي تحتفي بتعدد المعنى للعرض وحرية المخرج في تكييف النص وفقًا لرؤيته الإخراجية بوصفه مؤلف العرض المسرحي، فالنص المسرحي ما بعد الحداثي تتعدد تأويلاته باختلاف المخرجين والمتفرجين أيضًا.