السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض الرئيس من المنهج الوصفي في الدراسات الاجتماعية كما هو معلوم وصف طبيعة التركيبة السكانية التي تُدرَس بدلًا من التركيز على «السبب» في وجودها المستمر. وهذا هو الضرر من تعظيم المنهجية الوصفية في البحث، والباحث الذي يؤسس تحليله على الوصف فقط، فإنه يقع في التعميمات ويعجز عن الوصول إلى حقيقة الارتباطات بين المنهج والواقع. وزعمنا أن المنهج الوصفي هو الأطغى في العمليات البحثية فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي للسودانيين.

الهويات المتداخلة ودور الاستعمار

إننا نعتقد أن المدخل الصحيح لفهم طبائع التفكير العرقي عند السودانيين ينبغي أن يبدأ من البحث عن المصدر الذي تستقي منه الثقافة السودانية ثنائيتها، ولعل هذا المصدر يتعمق حضوره أكثر في مناطق غنية بالتعقيد، وبحاجة إلى مِلَاحَة جادة لفهم أسرارها. فلو اكتفينا بالتحقيب التاريخي لمعرفة مصدر الثنائية فانظر إلى مملكة سنار أو ما يسمى بـ(لقاء العرب بالفونج) وهو لقاء أنتج مقولات (الهُوِيَّة المَزِيج)، وصنع السؤال الخالد: أنحن عرب؟ أم أفارقة؟ والإجابة أننا كل ذلك وأكثر.

ثم جاء الاستعمار التركي، وصنع فينا ثنائية أخرى وهي (الحكم التركي في السودان)، وبدوره صاغ سؤال مشرقية السودان من إفريقيته، أو طرح وجوده في فضاءين؛ أولهما: متوسطي مشدود إلى الشرق الأوسط، والآخر: إفريقي يتمدد في الغرب الإفريقي. ثم جاء الاستعمار (الإنجليزي/ المصري «الخديوي») وصنع مؤسسات للحداثة محروسة بالتمييز والمغايرة؛ لينشأ المتعلمون في أحضان سؤال (الأصالة والمعاصرة) (الحداثة والتراث) وغيرها من مفردات معجم الثنائية السودانية.

حقيقة، لا يمكننا أن نتغاضى عن الدور الاستعماري الذي يتحمل الوِزْر في تفشي العصبية القبلية، نعم، الاستعمار ليس مؤسسة خيرية تقدم لنا خدماتها من دون أن يكون ذلك دليلًا لتحصين وجود المُستعمر، ولست من دعاة إلقاء اللوم في كل مشكل اجتماعي عندنا على دور الاستعمار، لكن أيضًا إذا أردنا الخلوص من الأزمات فإن أُولى خُطانا ستكون التعرف إلى مكامن الأذى، والاستعمار هو الأذى كله.

لقد صُمِّمت هذه البلاد على أسس « قَبَلِيَّة» حتى يسهل على المستعمر إدارتها، وقد استقر في روع المُستعمِر وهو يقلب النظر داخل جغرافيا شاسعة، وبالطبع مُكلفة، أنه بالإمكان إحكام القبضة الاستعمارية في السودان عبر إقامة شكل من أشكال الشراكات مع السكان والأهالي. ولأن دوافع الاستعمار تتلخص في حفظ الأمن أولًا، فقد تقرر منح القبيلة في السودان دورًا في الإدارة أو ما بات يُعرف بـ«الإدارة الأهلية»، ومنحها صلاحيات تنفيذية، وهذا ما عزز حضورها ومنحها سلطة اجتماعية استقرت بالتقادم، فالقبيلة وجدت لنفسها موقعًا سياسيًّا وتحت حماية المُستعمِر. وهذا بالضرورة مكّن للخيال القَبَلِيّ من أن يؤسس وعي المجموعة الإثنية أو التي تدخل في حِلفِهِ جغرافيًّا، ففي ١٨ أكتوبر ١٩٢٦م عيّن سير «جون مافي» حاكمًا عامًّا للسودان، وقد كان قبلًا حاكمًا للإقليم الشمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة ١٩٢٧م: إنه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهلية وبتطبيق توصيات لجنة «ملنر» ١٩١٩م و١٩٢١م وقد خوَّل الأمر الصادر من مجلس الحاكم العام في سنة ١٩٢١م بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلَّف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى. («السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية» (الجزء الثاني) – 1935م – ص 149- منشورات مؤسسة «هنداوي» 2013م).

تجهيز القبيلة بسلاح الإدارة والمال

لم يقتصر الأمر عند منح الأهالي سلطات قضائية لحفظ الأمن؛ إذ وسَّع الاستعمار هذه الصلاحيات حتى يكون للقبيلة القوة في إدارة مجتمعاتها، ومن أجل ذلك مدّها بالمال والسلطة. ونقرأ كيف وُسِعّت الإدارة الأهلية عن طريق السماح للمشايخ الأكفاء والموثوق فيهم بالرقابة على ميزانيات القبائل، وألفت جمعية تعاونية مَدَّتها الحكومة بالمال تحت إشراف محكمة أهلية في طوكر بإدارة المال المخصص للسُّلف الزراعية للزرَّاع في دلتا البركة. وقد جعلت قبائل البجة مع الهدندوة تحت مديرية كسلا بدلًا من محافظة بورتسودان. وفي نهاية ١٩٢٩م كان هناك (72) محكمة أهليَّة في شمال السودان سمعت أكثر من عشرة آلاف قضية. وفي سنة ١٩٣١م صدر قرار بشأن القبائل اللادينية في الجنوب. كما صدر قرار آخر في صدد المحاكم الأهليَّة في الشمال حل محل التشريع السابق. (السابق- ص 150).

نعم لقد رتّب الاستعمارُ السودانَ على أساس التكوينات القبلية، وبذا جُهّزت القبيلة بسلاح الإدارة والمال حتى غدت مؤسسة بالمعنى الاجتماعي؛ أي لها أدوار ووظائف تتجاوز حدود تكوينها الأصل، والسلطات التي مُنحت لزعمائها أثمرت في الوعي الاجتماعي العام، ولم يستطع العقل السياسي أن يتخلص من حضور القبيلة، أو على الأقل أن يوجد بدائل سياسية تحل محل هذه السلطات. حتى قانون عام 1970م القاضي بحل الإدارة الأهلية، كانت تعوزه المعرفة الثقافية بأوضاع السودانيين؛ لأنه ليس بكافٍ أن تلغي قانونًا وتستبدل به آخر من دون أن يكون القانون الجديد قادرًا على تلبية مشاغل المجموعات القبلية، وأن يقوم بالأدوار ذاتها التي كانت توفرها قيادة الزعماء المحليين في مناطق السودان المختلفة؛ لذا يذهب عدد من المراقبين إلى أن العنف الذي انفجر في دارفور يعود إلى غياب الإدارة الأهلية التي كانت تحفظ السلم الاجتماعي بين الرعاة والمزارعين.

نعم، يمكننا وضع كل هذا الذي سبق في سياقه الطبيعي لتطور المجتمعات، وليس بمستغرب أن تعيش مجتمعات قديمة معركتها مع التحديث، والسودان ليس استثناءً، لكن المجتمع السوداني لم تَجْرِ فيه تحولات جذرية وظلت مشكلاته مُرَحَّلة وبصلاحيات غير نهائية. فقد ظلت القبيلة تتصف بقوة السلطة على أفرادها ولم يستطع المثقفون/المتعلمون أن يقيموا نظامًا سياسيًّا وطنيًّا يلبي حاجات السودانيين، بل ظلت الأنظمة (عسكرية/مدنية) في حالة خِصام مع البعد الثقافي للمجتمع، واعتقدت أنه من اليسير حُكم بلد شديد التنوع مثل السودان من داخل القصر الجمهوري فقط، أو أن شكلًا من أشكال الفيدرالية النظرية يصلح لحكم مجتمع التنوع.

العنف وأزمة الهوية

إن الثنائية التي مارست أقسى أنواع العنف ضد المجتمع السوداني هي ثنائية (نيل/غرب) أو (الشمال النيلي) و (الغَرّابة) وهي ثنائية تنتمي إلى ما قبل ظهور خُطة محمد أحمد في طرد الأتراك، وقبل ذلك دولة العنف الديني للخليفة عبدالله. هذه الثنائية هي خلاصة مُركزة للعنف الاجتماعي في السودان، وبمقدورنا نسبة مظاهرها إلى الحقبة السنارية والتركية، وقبلها إلى تاريخ الدويلات والشراكات القبلية التي ظهرت في سودان القرن الخامس عشر- الثامن عشر. فما  الطبيعة المعرفية لهذه الثنائية التي تُعَدّ المصدر الرئيس لكل أشكال الصراع في السودان؟

هي المشهد الأكبر لأزمتنا في الهوية بين (أبناء البحر وأبناء الغرب) وإذ أردنا الخلاص؛ الخلاص من العنف في مستقبل بلادنا، فإنه ينبغي العمل على إزالة هذا الورم السرطاني من الجسد الاجتماعي السوداني، وعلينا أن نطرح الأسئلة الحقيقية حول الصراع المؤجل والمكتوم بين (أبناء البحر) ويقصد بهم أبناء الشمال والوسط السوداني، و(أبناء الغرب) من كردفان ودارفور وجبال النوبة، وبالطبع شرق السودان حالة ينبغي دراستها، لكننا هنا نشتغل على ثنائية (شمال/غرب).

لكن السؤال، هل هذه ثنائية عنصرية؟ أم هي شكل من أشكال اللاتوازن الاجتماعي بين السودانيين جميعًا؟ وما هذه الثنائية إلا مظهر سطحي لأزمة أكبر. والسؤال كذلك، هل أبناء غرب السودان هم جماعة ثقافية واحدة؟ أي أنهم متساوون في الامتياز الهوياتي لكونهم يعيشون داخل إقليم واحد؟ أم إن هناك ثنائيات مخفية يعيشها غرب السودان نفسه؟ ثم هل أهل شمال ووسط السودان هم أقلية ثقافية تعيش حالة من التعالي العرقي والاجتماعي على بقية السودانيين؟ هكذا ضربة لازب.. هذه أسئلة يجدر بنا البحث فيها ليس فقط طمعًا في الإجابة عليها بشكل نهائي، وهذا ليس بشغل المعرفة، ولكن بحثًا في حقيقتها المعرفية قبل كل شيء.

وباعتراف صريح ينبغي أن يُقِر السوداني المحكوم بالقبيلة أن عَقد الزيجات من خارج القبيلة أو الجماعة الثقافية مواجهٌ بتعقيدات تنتمي إلى الخلفية العرقية والإثنية لمن يراد مصاهرتهم. هذا يحدث في غرب ووسط وشمال وشرق السودان؛ لذا محاولة اتهام طرف دون آخر بهذه «العائقة الاجتماعية» التي تقف أمام محاولات التمازج الوطني تهمة يعوزها الدليل وتحتاج إلى الاعتراف بأنه فعل نقوم به كلنا وجهًا لوجه؛ لأن متاعب هذا النوع من المصاهرة، والمصاهرة من صَهَرَ، وتقول المعاجم العربية: صَهَرَ الشَّحْمَ بِالنَّارِ: أَذابَهُ. أي حوّله إلى كتلة واحدة. نقول: إن الذي يقف حائلًا دون عمليات المصاهرة بين السودانيين جميعًا، يعود إلى هيمنة الموروث وتقليدية البنى الاجتماعية التي لم تتطور بالصورة التي تجعلها تتخلص من ذاكرتها الحرجة تجاه نفسها والآخرين.

فالمجتمعات التي تعيش فيها القبيلة أطول تعاني متاعب في الاتصال والتواصل، أي أن قنوات العلاقات بين قبيل وآخر تحتكم إلى قوانين لا تنتمي مباشرة إلى الموضوع. بمعنى أن رفض المصاهرة بين الشمال والغرب لا يرتبط إلا بسبب عِرقي مقيت، وهذا السبب يقوم قانونه على (وهم) النقاء العرقي عند بعض المجموعات الثقافية، وهذا النقاء هو حصيلة تراكم الهوية بالعرق لا الثقافة؛ لأن معامل العرق لا يصلح لبناء معرفة جادة بالهوية الفردية أو الجماعية، وذلك لأن العرق ليس اختيارًا، ولا يمكنه أن يعيش في حالة يباس دون الاتصال بالأعراق الأخرى، وبالتالي يستطيع أن يعيش مدة أطول داخل أي مجتمع، بمعنى أن الهوية العرقية (وهم)؛ لأنها تقوم على مفهوم خاطئ للذات، مفهوم يفترض أن اللون؛ لون البشرة، وجَعَادة الشعر، وطول الأنف، وغلاظة الشفاه هي محددات ثقافية، وفي الأصل هي محددات عرقية تنتسب إلى دراسات الاستعمار حول الشعوب، وهي تلك التي تربط بين العرق والوعي.

وقد عادت العلوم الاجتماعية اليوم لتسخر من مفهوم (الهوية العرقية)؛ فمصطلح العرق «مفيد جدًّا»؛ لأنه لا أحد يعرف بالضبط ما يعنيه، وأنه من الصعوبة تحليل نشاط المجتمعات على أساس عرقي، كما أن مفهوم المجتمع «الإثني» يتلاشى عندما يحاول المرء تصوره بدقة. (نهاية العرق (بالفرنسية) -كريستل مولر- الصفحات (15). ولذلك يظل مسعانا يتصل بقبولنا هذا الاختلاف لكن مع العمل على تطوير المجتمع عبر الكتابة والبحث والدراسة، أن نعيد تركيب المناهج بالصورة التي تكشف عن محددات تضامننا الاجتماعي وليس تعزيز الفوارق، فلا مصلحة لأحد في هذه الجغرافيا الغنية بالإنسان والموارد أن يظل أبناؤه في اقتتال على تخريبه لا إعماره، تخريب يستند على مشكلات زائفة ولكنها تجد التوظيف المؤذي. حقيقة إن السودان بلد يستحق منا أفضل مما نفعل.

السودان وجدلية التركيب (١)… سؤال الهوية السودانية عند محمد أبي القاسم حاج حمد

السودان وجدلية التركيب (١)… سؤال الهوية السودانية عند محمد أبي القاسم حاج حمد

«الهوية» في دفاتر الصفوة

كثيرة هي المساهمات التي قدمت حضورًا معرفيًّا لصالح مسألة الهوية السودانية، ومنهم: محمد أحمد محجوب، وخضر حمد، ومحمد عشري الصديق، وعبدالمجيد عابدين؛ وعابدين له دور في الثقافة السودانية، وإن لم يكن سودانيًّا، لكن أثره الفكري باقٍ ولو في شكل موجات، وكذلك محمد أبو القاسم حاج حمد. وبسبب غياب بعضهم عن الدرس الثقافي، ذلك أن كثيرين عملوا على مخارطة مسائلنا عبر القفز على البنية الأساسية، فلا يعدو أن نفهم كيف يمكن تحليل واقع ثقافي دون التعرض لرموزه، ودون دراسة للبيئة التي عملوا فيها؛ ذلك لأن عدد من المؤلفات اقتصر جهدها على توظيف بعض المناهج دون مراعاة لطبيعة الحقل الاجتماعي محل الدرس؛ لذا فإن بعض هذه المؤلفات عانت عدمَ أصالةٍ، وبدقة أصابها استلاب منهجي؛ فاللحظات السودانية غابت عند كثير من المحللين، ولا نلمس إلا بعد عناء لنص تأسيسي مما قالت به النخب في مطلع بناء الدولة، على العكس من رموز النقدية الجديدة في الدرس الفلسفي.

وهذا أمر مطلوب أن تستعين بأدوات منهجية أثبتت جديتها في البحث، ولكن لا أن تصير هذه الأدوات هي الحكم الوحيد في تفسير الظاهرة. وقد يُطرح سؤال عن سكوتنا لهم ضد آخرين، والحقيقة أنه ليس في الأمر أي غرض، إلا البحث عن الأصالة قدر ما نستطيع، كما أن عدم الوقوف عند المعاصرين الذين كتبوا في مسألة الهوية، فإن السبب يعود إلى أنهم انهمكوا في التوصيف وانخرطوا في التوظيف السياسي، ليتحصلوا على نتائج تعينهم في تثبيت موقف أيديولوجي، كمن يبحث في مخزن مظلم عن شيء ضائع، يفعلها دون استخدام مصباح ينير له الطريق.

ولذا فإننا لا نجد حضورًا حقيقيًّا لمقولات النخبة السودانية المؤسسة للثقافة والسياسة، فلا المحجوب حاضرًا، ومقولاته في القومية ليست محل عنايتهم، ولا نستثني منهم سوى محمد أبي القاسم حاج حمد، كما أننا نزعم أنهم لم يقدموا جهدًا معرفيًّا عن مسألة الهوية، بل نجد في أغلب الكتابات أنها تميل للتوصيف والتبرير، ولا ينقص كثيرها الغرض السياسي. والفكرة الرئيسة لدينا، هي الوقوف على طبيعة تفكير جيل الرواد من المثقفين السودانيين، والوقوف بشكل أعمق عند الأستاذ محمد أبي القاسم حاج حمد؛ لما للرجل من تنظير يستحق الوقوف، لشموله على إعادة دمج وتركيب الوعي السوداني لصالح معنى أعمق للثقافة السودانية. وهذه النماذج توفر بعض إجابات، عن كيف كانوا ينظرون إلى طبيعة وجودهم الاجتماعي؟ وكيف أجابوا عن سؤال الهوية؟ وماذا كانت دعواهم، وأُسسها في وضع ركائز ثقافية لمعنى القومية السودانية. 

وقد امتاز هذا التيار بأنه ينتمي إلى مدارس مختلفة من الثقافة السودانية، فجيل الثلاثينيات استمد حضوره من النشاط الفكري الكثيف الذي كان يقوم به تعويضًا عن نقص التعليم، بل عن فكرة «التجهيزي». كان الاستعمار يطلق على كلية غوردون التجهيزي، بمعنى أنه يُخرج فقط موظفين يملؤون الشواغر من الوظائف الدنيا. و«غوردون» التي انشأها المستعمر لم تكن فقط عملًا تذكاريًّا لتخليد بطلهم المتوهم، بل لأسباب أخرى تكشف براغماتية حرجة للعقل الاستعماري في السودان، وكانت تهدف إلى قطع الوجود المصري الموصوف بالعربي في ذهن المُستَعِمر؛ ففي تقرير اللورد كرومر سنة 1902م، يرى ضرورة ماسة لتمهيد الطريق أمام السودانيين ليحلوا محل المصريين بغرض تخفيف الأثر المصري في السودان. يقول: «إنه ليس من المبالغة في شيء التأكيد على أهمية استنباط وسيلة لخلق طبقة متعلمة في السودان ببطء واطراد، والمطلوب الآن، هو أن يتعلم بعض السودانيين القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، ليتمكنوا من شغل الوظائف الدنيا في الحكومة»(٢).

الهوية عند حاج حمد: التركيب وجدلية الواقع

والأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942- 2004م)(٣) صاحب تنظير حقيقي، وإنتاج متفرد في سجل المثقفين السودانيين، ويقف مؤلفه «السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل»(٤) دليلًا على عمق انشغال الرجل بالمسألة السودانية في جوانبها كافة، كما أن له تأسيسًا سابقًا لما نطرح هنا -مسألة الهوية- وهو كتاب «الوجود القومي في السودان – 1964م» وقد قدمه للمكتبة السودانية وهو في مطلع العشرينيات من عمره، ومؤلفاته كثر امتدت لتتناول قضايا إسلامية ذات بعد منهجي جديد. والرجل مؤسس لما بات يعرف الآن بـ«إسلامية المعرفة». لكن ما يهمنا هنا هو تحليلاته حول قضية الهوية السودانية، وأدوار النخب فيها.

فالسودان جغرافية خاصة، صنعت منه قطرًا يحمل معنى مغايرًا لشبيهاته في المحيطين العربي والإفريقي. ويعود السبب إلى طبيعة تشكله القديم؛ فقد احتوى ما تبقى من الحضور العربي في المنطقة. وبسبب النشأة الخاصة والجغرافيا الجامعة كان السودان حاصل جمع التناقضات السياسية للبلاد، من فرس إلى كرمة إلى مروي إلى سوبا حتى سنار. كل هذا جعل السودان يفتقد عنصر القوة في بنائه القومي؛ فهذه الممالك لم تسقط بفعل تدخل عسكري منظم، بل انهارت من تلقاء نفسها، انهارت تجربتها الحضارية لتصبح خلاصاتها المُؤسلِبة قابعة في الظل، لكنها مع ذلك تمارس تأثيرًا يجعل إعادة دمجها في وعاء شامل مسألة مكلفة جدًّا.

وأسباب عويصة جعلت من الجغرافيا السودانية وفعلها الاجتماعي حالة لا تملك أن تصنع قوى قومية تؤسس سودانًا جامعًا؛ وذلك لأن ممالك السودان القديمة، لم تستطع تشكيل دولة مركزية لافتقادها عناصر النمو والوحدة. يقول حاج حمد في هذا الصدد: إن السودان لم يستطع أن يشكل دولة مركزية تستوي على الحدود الجغرافية السياسية الراهنة، وإن الأمر يرجع إلى أن السلطنات الإسلامية نشأت في السودان الشمالي في مرحلة الانحسار والانحطاط العربي، بداية من سقوط غرناطة في يد الإفرنج القرن الخامس عشر ميلادي، فالسلطنات الإسلامية السودانية افتقرت منذ نشوئها إلى العمق العربي الحضاري والدفاعي الذي يرفد جهدها (الذاتي) للتطور والنمو والوحدة بعناصر قوة مكملة في العمق العربي الإسلامي(٥).

وقد قدم حاج حمد نقدًا باكرًا بل جذريًّا للمثقف السوداني، أو سودان التعليم الحديث، وله نظرات في طبيعة المَهمة التي أراد المستعمِّر أن يوكلها لخريج غوردون. وللرجل رأي أن الصوفية قد وفرت غطاءً للاندماج الوطني، بحسب شروط وواقع البلاد، وأنها قد قفزت على التنازع القبلي واستوعبته بشكل جذاب «كانت من أهم الآثار التي ترتبت على نشر العقائد الصوفية، أن برزت التجمعات الدينية في مظاهر مختلفة أهمها (الاندماج القبلي والتجمع)، ومعنى الاندماج القبلي التأثير في الأنساب وترتيبها وتعديلها أحيانًا»(٦).

(السودان) يَحتوي ولا يُحتوى

مثله وآخرون يرى حاج حمد في الغزو التركي المصري للسودان دورًا في بناء نواة لوحدة جغرافية وسياسية، كان لها الأثر فيما بعد في صناعة جغرافيا السودان. فقد فرض الفتح المصري نوعًا من الوحدة الجغرافية السياسية على السودان، باستثناء سلطنة دارفور في أقصى غرب السودان التي أُلحقت فيما بعد، وقد توسعت حدود السودان السياسية لتشمل جنوب السودان الذي اهتم به محمد علي في عام 1839م، حينما أرسل أولى الحملات بقيادة (سليم قبودان)؛ للكشف عن منابع النيل والبحث عن المعادن. وقد أحدث العهد التركي في السودان تغيرات في المجتمع السوداني؛ أبرزها مركزية الإدارة حيث خضعت كل البلاد لحكم واحد أزال إلى حد كبير المنافسات القبلية وأصبح السودان قطرًا موحدًا(٧).

والسودان في نظر حاج حمد جِمَاع لحظات (النوبية الوثنية والمسيحية- الممالك الإسلامية- المتوسطية والنيلية والمهدية…) وتركيب هذه اللحظات يسمح ببناء لحظة «أم» للسودانيين؛ «فالسودان جدلية متسعة تحتوي في كليتها من الأجزاء ما يغني التركيب، ويفيض على الوعي به، فإذا انحلت أجزاؤه أو انحلت لحظاته فهو الذي يَحتوي ولا يُحتَوى، ويَستوعب ولا يُستَوعب؛ لأن الحضارات المتوسطة قد تدامجت بإفريقيا وانتشرت فيها، ثم إنه (السودان) إفريقيا قد تدامجت ببعضها، ثم إنه التاريخ وقد تفرع وتقلص»(٨).

الهوية الثقافية وشد الأجزاء

مما يصعب معه إجراء تحليل مُرضٍ للأطراف الثقافية السودانية كافة، هو البناء القومي السوداني وخصوصيته، بل لنقل أزمته الخالدة؛ «فالسودان لم يتشكل بعد، هو في طور التأسيس (فالسودان لم يتدامج (قوميًّا) أو (وطنيًّا) ليصبح الحكم الذاتي تتويجًا ديمقراطيًّا لذلك التدامج»(٩). وفوق تعدديته المعترف بها يظل وعي المثقف السوداني قاصرًا على إدارة حوار الهوية. «إنه بلد يعيش وحدة سطحية في تنوع عميق»(١٠). ولحاج حمد رأي في العقل النخبوي الذي أدار عملية البناء عبر مؤسسات النخبة والطليعة (نادي ثم مؤتمر الخريجين)، ويرى الأثر العرفاني في القيادة السياسية الأولى واضحًا. «كان الأزهري نفسه أقل الناس إدراكًا لدوره كزعيم لحركة المثقفين من جيل الاستقلال، فقد كان هو شخصيًّا أضعف الحلقات في تكوين المثقف السوداني»(١١). وحقيقة ينبغي علينا ألا نغفل ونحن نأخذ نقد حاج حمد للسيد إسماعيل الأزهري طبيعة العلاقات بين الرجلين، ولكن هذا لا يمنع أن لرأي حاج حمد ثقلًا لكونه صادرًا من رجل تخلص من الأيديولوجيا وبات أكثر انزياحًا إلى المعرفة.

وقف حاج حمد على لحظة فارقة في تكوين السودانيين، وهي «المهدية»، وبحق، وعلى الأقل في نظرنا، يظل تنظير الرجل الأكثر عمقًا في فهم جدلية التركيب للمهدية التي تعتبر في نظر بعضٍ، بل كثيرٍ منهم هي المشهد الأكثر شمولًا لبناء حس قومي سوداني يقفز عن تناقضات التكوين. ورؤية حاج تقوم على أن غرب السودان قد تجمع حول المهدي باعتباره مهديًّا منتظرًا. وكان الغرب يعني «جماع الفور والمسبعات وتقلي» وهي تتسم بحداثة إسلامها وانعزالها الإقليمي والجغرافي الطبيعي من مراكز الحضارة المتوسطية. إضافة إلى تركيبتها الاجتماعية القبلية الأكثر تخلفًا في السودان(١٢). وكيف أن المهدي يقابله في الواقع قبائل عربية التكوين في الغالب الأعم، ونعني تاريخيًّا تلك الدائرة التي احتواها نشاط العبدلاب ثلاثة قرون قبل التركية. ثم إن إسلامها تراثي راسخ(١٣).

ويكشف حاج حمد عن أرضية الانشقاق في الهوية وتشظيها، بعد فحصه الثنائية المزعومة، وأثر ذلك في تكوين سودان النخبة. فالقضية (المهدية في طورها التأسيسي) في رأيه، لم تُحسَم بعد: قضية الفور تقلي المسبعات التي أصبحت مهدية الغرب السودانية. وقضية (دينج) العائد بعد غياب طويل، التي أصبحت (إفريقية)، وقضية (عبدالله جمَّاع) التي أصبحت ختمية اتحادية شقيقة. تركيبة السودان التاريخية التقليدية(١٤).

والثنائية التي قال بها كثيرون هي تعبير عن زوجين (استلاب- عزلة) يعانيها العقل السوداني، وهذا يؤكد زعمنا بتهافت الثنائية الهوياتية في السودان. والأمر في تصوره أنه وحين نمضي إلى أعمق من ذلك نجد أن وحدة وادي النيل لم تكن إلا ذلك الاستلاب المصري القديم لشمال السودان ووسطه وشرقه، وأن دعوة السودان للسودانيين ليست سوى التعبير عن روح العزلة الاجتماعية والفكرية في غرب السودان، وأن حركات الجنوب ليست سوى ذلك الاستلاب الإفريقي الاستوائي لقبائل الجنوب(١٥).

كما يجترح حاج حمد فكرة قد تبدو مُبْهَمَة، وهي العمل على إيجاد قيادة مركزية لإعادة بناء الدولة، من مهامها العمل على تسخير الإنتاج لصالح البناء؛ لأن مجتمعًا كمجتمع السودان… متخلف… ويفتقر إلى قاعدة موحدة للنمو تستقطب وتحدد مشروعات التنمية. والحل: نحن في حاجة إلى قيادة وطنية (مركزية) صارمة تضع كل إمكانياتها النضالية في سبيل بناء قاعدة حديثة للإنتاج معززة بعلاقات نافية لعلاقات التخلف والتجزئة والاستغلال(١٦).

يظل كسب الأستاذ حاج حمد المحاولة الأكثر جدية في بناء الفضاء المفاهيمي الخاص بسؤال الهوية السودانية، ومساهماته هي التركيب الأجذر في ناحية فهم طبيعة الهوية ومشكلاتها.


هوامش:

(١) نستخدم هنا عنوان مؤَلف الأستاذ حاج حمد (السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل: جدلية التركيب).

(٢) محمد أحمد يس- مذكرات- مركز محمد عمر بشير – أم درمان 2001م- صفحة (10).

(٣) كنا قد أفردنا له بابًا كاملًا في كتابنا ديكور العويل (في معنى السيرة) – غسان علي عثمان – 2014م- ضمن إصدارات (مئة كتاب في الثقافة السودانية)- باب (المشاكس: محمد أبو القاسم حاج حمد). الصفحة 57.

(٤) السودان، المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، جدلية التركيب، ابن حزم للطباعة والنشر – بيروت – 1996م.

(٥) مرجع سابق، صفحة 192 – 193 – الجزء الأول.

(٦) مرجع سابق، صفحة 61.

(٧) مرجع سابق، صفحة 63.

(٨) مرجع سابق، صفحة 149.

(٩) السودان، المأزق التاريخي، ص 12.

(١٠) السودان، المأزق التاريخي، ص 16 .

(١١) السودان، المأزق التاريخي، ص 18.

(١٢) السودان، المأزق التاريخي، ص 94.

(١٣) السودان، المأزق التاريخي، ص 96.

(١٤) السودان، المأزق التاريخي ، ص 480.

(١٥) السودان، المأزق التاريخي، ص 171.

(١٦) السودان، المأزق التاريخي، ص 122.