مقالات   |   دراسات   |   قضايا   |   سيرة ذاتية   |   إعلامتحقيقات   |   ثقافات   | تراث   |   تاريخ   |   بورتريه   |   فضاءات   |   فنون   |   كاريكاتير   |   كتب   |   نصوص   |   مدن   |   رسائل

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

الصورة: من المحاكاة إلى البناء الجمالي

يعد اللسان أرقى أنساقِ التواصل وأكثرَها قدرةً على وصف وتأويلِ ما يأتي من المنافذِ الحسية، فلا يُمكننا استخراج القواعدِ التي تحتكم إليها منتجاتُ هذه المنافذ، في اشتغالها وفي إنتاجِ دلالاتِها، إلا بالاستنادِ إلى ما تَقولُه الكلماتُ عنها. إن اللسان يُعين ويسمي ويَصف ويُفكرُ في نفسه ويُؤول أنساقًا أخرى في الوقتِ ذاته؛ لذلك كانت اللغةُ وحدها قادرةً على التجريد وتسميةِ مناطقَ في النفس والوجودِ والفصلِ بين حالاتِها، «فأنْ نَمنح الشيءَ اسمًا معناه أنْ نَنْتزعهُ من مآله ومن سياقه الزمني، ونُحولهُ إلى جوهر قابل للتعميم»(1). وهذا الاسمُ هو القاعدةُ الرئيسةُ التي تقوم عليها الوقائعُ الإبلاغيةُ، فهو ما تحتفظُ به الذاكرة وتحتفي به. فالعنقاءُ والقارنُ والغولُ كلها كائنات موجودةٌ في اللغةِ وحدها، وموقعُها هذا هو الذي يَمنحها إحالات مجازية داخل التجربةِ الإنسانيةِ.

الذهن وما يوجد خارجه

وهذا مصدرُ التمييز بين وجودِ الأشياءِ حقيقةً وبين إدراكِها في الذهن، يتعلق الأمرُ بما يُقابل بين البُعد المادي في حقيقةِ الوجودِ وبين البُعد المفهومي في الذهن. فالثابتُ أن العيْنَ لا تُسجل سلبيًّا ما يأتيها من خارجِها، إنها لا تلتَقط معطياتٍ صامتةً من عدم لا يُسنده أي شيء، إنها تَتحكم في أشيائِها وتُعمم وتُهذب التجربَة الإدراكية لكي تكون قادرةً على الاحتفاظ بأقسام عامة، لا بأشياء أو كائنات معزولةٍ، فالعام هو أساس القاعدة وهو أساسُ الاستِذكار أيضًا. فنحن نُصنفُ ونميزُ ونفصلُ ونُقارنُ، إننا في المجملِ نفهمُ ما نُدركُه استنادًا إلى قدرتِنا على تنظيمِ الأشياءِ والكائناتِ في أقسام وفصائل. وهذا الفهمُ هو الذي يجعلُ التجريدَ «أعلى مرتبةً» من التشخيصِ، إنه يَصُب البُعدَ الحسي في مفاهيم تُعيد تسميتَه. وخارج هذا التفاعلِ ليس هناك سوى العماءِ.

وهذا معناه أن «الذهنَ، محروم مما يجري في الزمان وفي الفضاء، عاجزٌ على القيام بأي شيء»(2)، ففي حالتِه هاته سيكونُ وعاءً فارغًا، ولكنْ لا قيمة أيضًا لما يَتسربُ إليه دون مفاهيم تُعيد تَرتيبَ مُدركاتهِ، «فالحدوسُ الحسيةُ بلا مفاهيمَ عمياءُ، والمفاهيمُ بدون حدوسٍ حسيةٍ جوفاء»، كما يقول كانط. فلا وُجودَ إذن لشيءٍ في الذهن لا معادلَ له في العالم الخارجي، بالحقيقةِ المادية أو بالاستيهام الاستعاري فقط، فحتى في الحالة التي نَتصور فيها كائناتٍ آتية من مجراتٍ أخرى، فإننا نَفعل ذلك استنادًا إلى ما تُوفره بنيةٌ مألوفةٌ لدينا، هي بنيةُ الإنسانِ نفسهِ كما استقرت في كل الأذهان. إن الذات «تصطدمُ» بما يُوجدُ خارجَها، وذاك مصدرُ إحساسِها بوجودِها، ما يُشبهُ الفعلَ ورد الفعلِ، إنه الضرب على البابِ من أجل فتْحه، أو هو الإمساكُ بغُصنِ الشجرةِ حذَر السقوطِ. يتعلق الأمرُ بإحالةٍ متبادلةٍ بين ذهنٍ موجهٍ إلى ما يُوجدُ خارجَه، وبين أشياءَ لا يُمكن أنْ يَستقيم وجودُها في الذاكرةِ خارج وعيٍ يَسْتهدفُها.

وتلك هي الوظيفةُ المركزيةُ للذهن، «إنه يَقوم بنحتِ المفاهيمِ ومراكمةِ المعارفِ وخلقِ الترابطات الممكنةِ والقيام باستنتاجات»(3)، إنه نشاطٌ لساني محض تَتسربُ عبره الأشياءُ إلى عوالم أخرى تُولدُ وتنمو في التجريدِ المفهومي. فالأشياءُ في اللغة ليست معادلةً لنظيرتِها في حقيقةِ الواقع؛ ذلك أن الكلمات ليست تسميةً فحسب، إنها تُعد أيضًا غطاءً استعاريًّا يُعيدُ تنظيمَ الكونِ في عوالمِ التجريدِ، وذاك ما يُسْهم في تَوسيع ذاكرتِه، إن العالمَ في اللغةِ أرحبُ وأوسعُ مما هو عليه في حالتِه الخام.

إن الذات تَصب، من خلال هذا التفاعل بين المشخص والمفهومي، ما يُرى عيانًا فيما يُمكن أنْ تَأتيَ به تمثيلاتٌ أخرى تُبنى في القصد الرمزي وحده. يتعلق الأمرُ بمنحِ الذات المتكلمَةِ قدرةً على إيداع جزء من انفعالاتها وقناعاتها في محيطها. فالصورة لا تُمثل فقط، إنها تقول لنا أشياءَ أخرى غير ما تقوم بتمثيله، إنها تَكشف عن شرط وجود الأشياء ضمن شرطِها الأيقوني، «فهي لا تُحاكي وجودَ الأشياءِ في العالم وإنما تُحاكي غيابَها»(4). وهذا معناه «أن الرابط بين الدال والمدلول في حالةِ الإبصارِ يَتحقق عبر انصهارِ عينٍ تَرى في نظرة تستوطنُ المفاهيم»(5)؛ لذلك «عُد الكلام، إلى جانب الإيماءات والنظرة، إحدى الوسائلِ التي يستعملها الإنسانُ للخروجِ من نفسهِ واحتضان العالِم الخارجي»(6). فنحن نذهبُ إلى الأشياءِ بالمفاهيمِ لا بالانفعالِ البصري وحدَه.

اللفظ والصورة

ووفق ذلك يُمَيَّزُ بين اللفظ والصورة. إن للفظ وقعًا دلاليًّا مباشرًا، وذاك ما تُحيل عليه التسميةُ والوصفُ وكل الإحالاتِ القاموسية، أما الصورةُ فتُخاطبُ العيْن بالأشكال والألوان والوِضعات(7) وتصميمِ اللقطات وغيرها؛ إنها بذلك تَستثير الانفعالات وحدها. وقد يكون ذاك هو مصدر المتعةِ فيها، إنها تمثيلٌ للحس وأسْرٌ لقواه وتوجيهٌ للهوى في الذات. ومع ذلك ستظل اللغةُ وحدها، في الحالتين معًا، قادرةً على شرح طبيعة ما يُحس به المشاهد، ما يستثيرهُ وما يَشتهيه وما يود تجنبَه أو امتلاكَه. يتم هذا استنادًا إلى طبيعةِ الممثلِ في الصورة واستنادًا إلى قصدِ المتلفظ البصري في الوقتِ ذاته. فالمعنَى ليس في الـمُمَثلِ وحده، بل مصدرُه العيْن التي تراهُ أيضًا. إنه التلفظ البصري، مخلفاتُ العين فيما رأت، أو موقفُها مما مَثَّلَتْه.

وتبعًا لذلك لا تَستهدفُ الصورة شيئًا، إنها تلتقطُ معناه. إنها تُصبحُ عملًا فنيًّا حين تَتخلص من «المستَهدَف» الحقيقي وتُحولهُ إلى نظرةٍ في العين، أي خبرة تنمو وتُزهر في الرمز في المقام الأول، إنها لا تقوم بانتزاعنا من التربةِ المألوفةِ لدينا بطابعِها الاستِنساخي، إنها تفعل ذلك لأنها بناءٌ فني. وبذلك تُصبحُ ناطقةً من خلال النظرةِ فيها. وهذا معناه أن الأشياء لا تَتسرب إلى الذهن باعتبارها واقعًا محسوسًا، إنها تحضرُ فيه دائمًا باعتبارها تمثيلاتٍ رمزيةٍ. فالعالم موضوعي في ذاته، أما في العين التي تراهُ فهو سلسلةٌ من المضافاتِ مصدرُها النشاطُ الثقافي في المقام الأول. هناك فاصلٌ بين الموضوعِ الغائبِ وبين ما ينبعثُ من أحاسيسَ مصدرُها الشيءُ أو الكائنُ الماثل أمام العينِ.

بعبارة أخرى، إن «الصورةَ لا تَتمتعُ بمرجعٍ محسوسٍ، فما تقوم بتَمثيله هو موضوع يُبنى في الرمز»(8)، لا في تفاصيلِ الطبيعةِ. وهي صيغةٌ أخرى للقولِ، إن الصورةَ لا تُعين شيئًا، إنها، على العكس من ذلك، تُحيلُ على «قسمٍ من الأشياءِ»(9). وبذلك عُد مضمونُ الإحالةِ «وحدةً ثقافيةً»، لا شيئًا مودعًا في الطبيعة. فلا قدرةَ للعينِ على التقاط كل ما يَـمْثُل أمامها في العيان. «فالوجودُ يقتضي وعيًا بالموجودِ»(10). ففي هذا الوعي تتحدد كينونة المستهدَف.

يتعلق الأمرُ بالإحالة على سيْرورتَين في الإدراك، ما يُبنى في اللفظ في شكل مفاهيم مجردة هو ما يُشكلُ المضمونَ الذهني للأشياء، وما يُبنى في شكل خطاطات تَقود العين إلى التعرف إلى موضوعاتها في الذاكرةِ. إنهما سيرورتان متوازيتان هما ما يتحكمُ في نمط اشتغالِ العلامةِ، وهما ما يُحدد مكوناتِها في الوقت ذاته. بعبارةٍ أخرى: «إن ما تعرضُه الصورة على العين ليس معطى محسوسًا يَتمتع بنظامِه الخاص، وليس شكلًا خالصًا أيضًا، إنها تُشير إلى الطريقة التي يَحتضن هذا الشكلُ من خلالها الممثلَ فيها ويُعيد صياغتَه»(11). إن الأشياءَ تَتسرب إلى الذهن من خلال مفْهمةٍ لفظيةٍ وتمثيلٍ بصري في الوقت ذاته.

وتلك صيغةٌ أخرى للقولِ: إن «الصورة لا تحل محل الأشياء، وإنما تُرينا كيف تَنفتح هذه الأشياءُ أمامَنا، وكيف نتسللُ إليها»(12). فما يَستثير الذهنَ هو الرغبةُ في استعادةِ «الحقيقي» من خلال ما يقوم بتمثيلهِ في البصري. فالصورة ليست محاكاةً، ولا تنقل بحيادٍ أو بصدقٍ ما تُمَثّله، إنها، على العكسِ من ذلك، تَتصرف في ممكناتِ موضوعاتِها وتُعيدُ رسْم مساحاتٍ داخل الممثل تكون النظرةُ داخلَها مدعوةً إلى استيعابِها لكي تتحرر من الرابط الذي يشُدها إلى الأشياءِ. فمن خلال هذهِ المساحاتِ تَتسلل النظرةُ إلى هذه الموضوعات لتَبنيَ عوالمَ مستقلةً دون أنْ تفقدَ، مع ذلك، صِلتَها مع عالمٍ يَأتيها من الخارج (وتلك حالةُ الصورة الإشهاريةِ، إنها تُركزُ على رمزية الوجودِ دون أنْ تنسى أنها موجهةٌ لبيعِ مُنْتجاتٍ).

ستقومُ النظرةُ، تبعًا لذلك، «بتخليصِنا من المرئي، فذاك ما يُحددُ القصدَ والغايةَ من كل رؤية، إنها ليست شيئًا آخر غير البعدِ الإنساني للإدراك، وذاك سبيلُها إلى القصدِ وما يُثير الانتباه»(13). إن العينَ أسيرةُ ما تَراه في الرؤية، أما في النظرةِ فتَكون مالكةً لكل ما يمثُل أمامَها وفق مسبقات دلاليةٍ. «فأنْ تَرى معناه أنْ تلِج عالمًا من الكائنات القابلة للرؤيةِ، ولن يكونَ هذا العالمُ في مرمَى العين إذا لم يَكن متواريًا خلفَها. إن رؤيةَ الشيءِ تقتضي استيطانَه، وذاك ما يُمكنُ الرائي من الإمساك بكل الأشياءِ وَفق الوجوهِ التي تَتوجه إليها»(14). وتلك هي وظيفةُ العينِ في الذهاب إلى العالم، إنها تُجزئ المدركَ في النظرةِ وتخلصه من الحسية فيه.

التخيلي والمخيالي

هناك إذن «شكلان من التمثل تُنتجُهما المخيلة: التمثل «التخيلي» أو الاستنساخي من جهة، وهناك التمثل المخيالي من جهة أخرى. يَستهدف الأول حضور الشيء «بالقوة»، إن لا واقعيةَ موضوعِه مؤقتةٌ، إنها مرتبطةٌ بالتجربةِ، بشكلٍ مزدوج: هناك تجربةُ الإدراكِ الأصلي الذي تُعيد إنتاجَه، وهناك تجربةُ الإدراكِ السابقةِ عليه. فنحن نَتخيل استنادًا إلى ما سبقَ أنْ رأيناه أو استنادًا إلى ما نَعرفُه. فما تُنتجه المخيلة في هذه الإحالةِ هو نسخةٌ مُحورةٌ عن أصلٍ موجودٍ فعلًا، فقد تكون المخيلةُ قادرةً على إنتاج ما تشاء، ولكنها في جميع الحالات لا يُمكن أنْ تُنتج إلا ما يُمكن أنْ تُوفره التجربةُ الواقعية(15). بعبارةٍ أخرى، إن المتخيلَ لا يبتدعُ موضوعاتٍ تكونُ هي مادةَ تخيله، بل يَكتفي باستعارة ما يَتخيلُه من الأشياءِ والكائناتِ المحيطةِ به.

والأمرُ على العكس من ذلك في الحالة الثانية، التمثل المخيالي، «ففي هذه الحالة تَتخلص العين من كل شيء: إن لا واقعية الشيء مستهدفة بشكل نهائي. واستنادًا إلى ذلك، فإن المخيال يَتحايَل على الزمان والمكان: إنه يُسقط الذاتية على زمنية فضائية خاصة»(16). فلا معادِل للجن في التجربةِ الواقعية، ومع ذلك نَستطيعُ بناءَ كيانٍ يَستوطن عالمًا لا نراهُ، ولكنه موجودٌ في مخيلتِنا، وهو ما يخافُه الناسُ ويستعيذُون بالله من شُرورهِ. وتلك هي وظيفةُ كل الأشكال الرمزيةِ، إنها توسع من ذاكرةِ ما تقترحُه الطبيعةُ على العين.

ووَفق ذلك «تَـمْثُل الصورةُ أمامَنا باعتبارها غيابًا للشيء، فظاهريتها الخالصةِ، اللطخات السوداءُ على مساحةٍ بيضاء، لا تلِجُ الوعيَ إلا من خلال انزياحِها عما تُمثله، ما يُشير إلى الحضورِ الفعلي للشيء»(17). فنحن نَلتقط «الظاهر» الذي يُوازي خبرةً في الوعيِ الذي تَسوطنُه الأشياءُ باعتبارها معنى. وفي جميع الحالاتِ، فإن تَعريفَ العلامةِ البصريةِ (الصورةُ أساسًا) يَقتَضي الخروجَ من إسار «أنطولوجيةٍ ماديةٍ» تَكون الصورة فيها هي النظيرُ أو الشبيهُ لها، من أجل استحضارِ خبرةٍ تَنمو في النظرةِ. فما يَتسربُ إلى الذهنِ ليس أشياء في حالتِها الغُفلِ، بل مُجْمل أشكال حضورِها الرمزي فيه.

وهذا ما سيَتضح أكثر إذا نحن أخذْنا رسمًا للفرس لا يُوهمُ بالاستنساخِ، كما تفعلُ ذلك الصورة، بل يكتفي بتَقديم ما يُمكن أنْ يقود العين إلى استحضارِ النموذج البصري الذي يَتضمن كل النسخِ التي يُشير إليها الرسمُ. فما يُمثله الرسمُ عادةً هو مجموعةٌ من الخطوط لا غير، فهي التي تُمكن العيْنَ من التمييز بين فضاءٍ داخلي مفترضٍ، وبين آخر خارجي مفترضٍ هو الآخر. ومع ذلك، لا يُمكن للعين أنْ تتجاهلَ أن ما هو معروضٌ أمامَها يُحيل على فرَسٍ داخل تجربَةِ النظرةِ. إن الفرسَ الوحيدَ القابلَ للرؤيةِ هو فرسُ هذه التجربةِ، «فلكي نُدرك وجودَه فعلًا علينا أنْ ننتزعه من فرادتِه، ونُدرجَه ضِمن علاقةٍ، أي يجب أنْ نتخلص من كل ما يُشير إلى حقيقتِه في الواقع»(18). إن ما يَتم التخلصُ منه، في هذه الحالةِ، هو فكرةُ «الاستهْداف الواقعي للحصانِ، إن الصورةَ تَحرمُه من أي وجودٍ واقعي»(19). فلكيْ يَحضر الفرَسُ في العين يَجب أنْ تتراجعَ نُسختُه وتُخليَ السبيلَ أمامَ النموذج الذي يحتضنُه.

حينها «يمكن القولُ: إن علاقة الظاهرة بمادية الشيء، شبيهةٌ بعلاقة الصورة بحقيقةِ الظاهرة»(20). إن الحصانَ يَتحول إلى «ظاهرة»، إنه «ظاهر في العين»(21)، وذاك ما يلتقطُه الوعيُ، إنه موجودٌ في انفصالٍ عن حقيقةِ الموجود. وهذا ما يَصدُق على صورةِ الحصانِ «الفعلية»، إنه حصانٌ في الذاكرة لا في العين التي تراه بشكل مباشر.

وهذا معناه أن الذي يَرسم حصانًا على الورق لا يَستعيدُ من حقيقتِه سوى ما يُمكن أنْ يستوطنَ وعيًا يَبني مادةَ وعيِه استنادًا إلى تَجربة سابقةٍ، لا استنادًا إلى حقيقةِ الحصانِ في الواقع. إننا نقومُ باختصار التجربةِ إلى حدودِها القُصوى لكيلا نَحتفظَ إلا بما يُمكن أنْ يُشكل بنيةً تصدقُ على كل الأفراسِ الممكنةِ. إن الخطوطَ، وهي الحقيقةُ الوحيدةُ في وجودِ الفرسِ في العينِ، لا يَدل على الفرسِ، ولا يُمكن أنْ يكونَ بديلًا عنه، ولكنه يُعد، مع ذلك، سبيلًا إلى استحضارِ صورتِه في الذهنِ. وتلك هي القوةُ الضاربةُ للخط، إنه مبتدأ كل الأشكالِ ومنتهاها، «فلكي نَرى شيئًا ما علينا رسم خط، فالخط حد لكل شيء»(22)، إنه ممتد في تجربةٍ أو تجارب استبطنتْها العين، وهو ما يُمكن الذات من الربط بين هذا الرسم وبين فرسٍ حقيقي.

الشيء وصورته، الوعي والموضوع

وقد تكونُ هي المحدداتُ ذاتُها التي انطلقَ منها جان بول سارتر من أجلِ تحديدِ وضعِ الصورةِ في الذاكرةِ، بما فيها ما يَعودُ إلى الصور الذهنيةِ وطرقِ تشكلِها في الوعيِ. ففي تصوره، لا يُمكنُ للكرسي الماثلِ أمامَ العينِ أنْ يَحضرَ في الوعيِ إلا من خلالِ بعضِ مظاهِره، فنحنُ لا يُمكُن من خلال عمليةِ إدراكٍ واحدةٍ استيعابَ جميع ما يُشكلُ كينونةَ الكرسي. ستَظل هناك دائمًا واجهاتٌ خارجَ الإدراكِ. وتبعًا لذلك، لا «يُمكنُ لصورةِ الكرسي أنْ تكونَ هي الكرسي ذاته»(23). وهو ما يعني أن «كلمةَ «صورة» لا تُحيلُ على الشيء، بل تُحيلُ على الرابطِ بين الوعيِ والموضوعِ، إنها طريقةٌ يَمْثُل من خلالها الموضوعُ في الوعيِ»(24).

والشيءُ ذاتُه يمكن قولُه عن لوحةِ كارافاجيو الشهيرة(25). فلم تكن هذه اللوحةُ وهي تمثل لطبيعة «ميتة» تُريد أنْ تُرينا سلةً من الفواكهِ، فما هو معروضٌ فيها لم يكن شيئًا يُرى بعين صامتةٍ، لقد نقلتها اللوحةُ من شيء لذاتِه إلى فواكه في نظرة المتفرج. إننا ننسى فواكهَ اللوحةِ لكي نلتفتَ إلى المضافات، ما يعودُ إلى اللون والشكل والملمس، وما يعود إلى موقعها ضِمن نظامٍ غذائي إنساني يُحددُ للفواكِه موقعَها في الوجبة الرئيسة. فهذه المضافاتُ هي التي تَستوقفُ العين وليس الفاكهة المعروضة للأكل؛ «إننا لا نقومُ سوى بالتوقف عند الجزئيات والتفاصيلِ لكي نَسكن عالـمَها»(26) (لن نُسارع إلى السوق لشراء الفواكه ونحن نشاهدُ لوحةَ كارافاجيو).

وذاك هو المنطقُ الذي يَتحكم في بناء الصورة الإشهارية أيضًا. فالـمُنْتج الذي تَعرضُه الصورة ليس موضوعًا قابلًا للاستهلاك (المنتجاتُ مودعةٌ في المخازنِ والأسواقِ الممتازةِ)، وليس مقصودًا في ذاته، رغم الغاية الربحية الصريحة للوصلة. إن حضوره يَتجسدُ في كونِه معروضًا على العين، فلكيْ تَنجح الصورةُ في مراميها يجب ألّا تُحيل على مُنتجٍ حقيقي، بل يَجب عليها أنْ تجعل من الممثل فيها ممرًّا نحو ما يُمكن أنْ يَستثيرَه من انفعالاتٍ في ذاكرة المتلقي، فيَجبُ على الناظرِ ألّا يقفَ عند حدودِ وظيفتِه أو مذاقه أو متانَتِه، عليه أنْ يجعله مطيةً نحو عوالمَ تُعشش في اللاوعي.

ستكون التجربة البصرية في هذه الحالة، طريقةً يَهَبُ الشيء من خلالها نفسَه إلى القارئ باعتباره ظاهرةً، أي باعتباره لحظةً خاصةً في الوجود. إن الصورةَ (واللوحةَ أيضًا) «تستنفدُ كل ممكنات النظرةِ في الحضور، ولكنها في الوقت ذاته تفتحُ السبيلَ أمامها نحو غيابٍ، إنها تستثيرُ الوعيَ وتُوجهُه نحو مكان آخر لا حضورَ له»(27). فلكي تَتشكلَ النظرةُ في العين، عليها أنْ تستحضرَ الغائبَ في اللوحةِ.

وهذا هو الفاصلُ بين اللفظي والبصري في استحضارِ التجربةِ الوجوديةِ. فالصورة على عكس اللغة لا تتكلم عن نفسها، إنها تمثلُ دائمًا شيئًا يوجدُ خارجها، بالحقيقةِ الماديةِ أو بالاستعمال الاستعاري. إنها «تدل» و«تعني» و«توحي» و«توهم». وذاك ما يُحددُ طاقاتها التعبيريةِ. إنها «بحكمِ وضعِها هذا هي ما يُمكنُنا من إنتاج، ضدًّا على إرادتِنا، الشرط الضروري لكينونتِها الملتَبسَة، المتمثل في المعنى»(28). إنها جزءٌ من الحجمِ الإنساني الذي يُعبر عن نفسهِ في مضافاتٍ رمزيةٍ منها اللغة والصورةُ والطقوس الاجتماعية ومجموعُ الاستعمالات الاستعارية لأشياء محيطه. إن الصورة ذكرى في الوعيِ يجبُ أن تُحيلَ على حالة انتظارٍ لن يكونَ سوى معنى المنشود مما تَقومُ بتمثيلِه.


هوامش:

(1) A Kibedi Varga: Discours, récit, image , éd Mardaga éditeur, 1985, p. 8.

(2) Rudolf Arnheim: La pensée visuelle, éd Champs Flammarion, 1975, p. 9.

(3) نفسه، ص 10.

(4) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(5) سعيد بنكراد : التأويل وتجربة المعنى، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2023م ، ص 12.

(6) Kibédi Varga : discours, récit , image, éd Pierre Mardaga éditeur, 1985, p. 7.

(7) الوضعة جميع وضعات pose في الفوتوغرافيا. ويميز الفوتوغرافيون بين ثلاث وِضعات: وِضعة أمامية، ووِضعة جانبية، ووِضعة خلفية، وهناك من يضيف وِضعة ثالثة هي وِضعة الثلاثة أرباع. انظر كتابنا : تجليات الصورة، في سميائيات الأنساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، بيروت 2019م الفصل الرابع.

(8) Groupe µ: Traité du signe visuel, pour une sémiotique de l’image, éd Seuil,1992,p.130 objet culturalisé.

(9) classe d’objets.

(10) Jean Paul Sartre : L’imagination, éd P U F , 1989,p. 1.

(11) Laurent Lavaud: L’image, p. 15.

(12) Philippe Jacottet: Paysage avec figures absentes, p 17,in Laurent Lavaud : L’image, p. 15.

(13) Jacques Aumont: L’image, Armand Colin,2011, p. 37.

(14) Maurice Merleau-Ponty :Phénoménologie de la perception, éd Gallimard 2005, p. 96.

(15) Laurent Lavaud: L’image, p. 20.

(16) Laurent Lavaud: L’image, p. 20.

(17) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(18) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(19) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(20) Laurent Lavaud: L’image, p. 14.

(21) Laurent Lavaud: L’image, p. 13.

(22) Emanuel Levinas: Totalité et infini, essai sur l’extériorité, éd Kluwer Academic,1971, p. 207.

(23) Jean Pal Sartre: L’imaginaire, éd Gallimard, 1940-1986 ,p. 20.

(24) Jean Pal Sartre: L’imaginaire, op cit ,p. 21.

(25) Corbeille de fruits وكارافاج فنان إيطالي اسمه الكامل Michelangelo Merisi da Caravaggio ولد سنة 1571 وتوفي سنة 1610.

(26) Vultur Iona: Comprendre , L’herméneutique et les sciences humaines,Gallimard,2017,p. 437.

(27) Laurent Lavaud: L’image, p. 16.

(28) René Lindekend: Essai de sémiotique visuelle( le photographique, le filmique, le graphique, éd Klincksiek , 1976, p.11.

النظرة وتاريخها المفترض

النظرة وتاريخها المفترض

لقد كانت النظرة مركزية في العين، فهي التي قادت خطاها في الإبصار، كما كانت الخبرة في اليد هي المدخل الضروري للتحول من مخلفات الكتابة على الجدران والبردي، إلى تصوير حالات الوجود الإنساني بِنَفس قصدي. يتعلق الأمر ببلورة «نصوص» بصرية استنادًا إلى غايات مسبقة، إما سحرية/ دينية، وإما فنية/ جمالية، وإما اقتصادية/ تسويقية. إنها تُمثل، في هذه الحالات مجتمعة، تاريخًا مفترضًا لتحولات النظرة. فقد تَعلم الإنسان من خلالها كيف يَفْصل، داخل العوالم الـمُصورة، بين ما ينتمي إلى فعل بصري يكتفي بالتقاط الأشياء، كما يوردها الحس على العين، وبين ما ينتمي إلى تجربة جديدة تتصرف في مُنتجات البصر، فهذه التجربة ليست جزءًا طبيعيًّا في الذات، بل هي حاصل الانتقال من الرؤية الحافية إلى دلالاتها في الوجدان.

وهذا التاريخ هو ما حاول ريجيس دوبري في عمله الكبير «حياة الصورة وموتها»(١) تفصيل القول فيه. فالنظرة في تصوره تتوزع على عصور ثلاثة تستوعب حالات الوعي الوجودي عند الإنسان، وهي حالات تجسدت في سيرورة التحولات التي لحقت النشاط البصري عنده بدءًا من الغرافيات الأولى ببعديها البصري الأسطوري (اليد) والتعبير الشفهي (الوجه)، مرورًا بمرحلة الفن الذي كان إيذانًا بميلاد الجماليات، وانتهاء بما يسميه «العصر البصري» الذي يُغطي المرحلة الراهنة، ويُعد التعبير الأمثل عن لحظة إنسانية مفارقة تسود فيها الصورة الافتراضية وتندثر النظرة وتتلاشى قيمتها في الوقت ذاته.

يتعلق الأمر بعصر الخطاب logo sphere وعصر الغرافية graph sphere الكتابة وعصر الشاشة video sphere. إنها لحظات حاسمة في التاريخ البصري تجسدت بدءًا في طقوس العبادة (صورة الوثن)، وفي الممارسة الفنية بعد ذلك (الفنون التشكيلية)، وانتشرت أخيرًا فيما تُقدمه صور الراهن باعتبارها إحالة على نشاط اقتصادي بمردود صريح في التواصل وفي سوق منتجات الاستهلاك (صور الإشهار أساسًا وكل ملحقاته، كما يتجسد ذلك حاليًّا في شبكات التواصل الاجتماعي).

وقد كان لكل عالم بصري من هذه العوالم خاصياته وأشكال تجليه. فقد كان الوثن موضوعًا للعبادة؛ لذلك كان مصدرًا لروحانية بلا ضفاف، وكان الفن متعة واحتفاء بالجمال في المقام الأول، وكانت الصورة الإشهارية مُثيرًا برانيًّا للعين. وكان ذلك انعكاسًا لروابط وجدانية بين عوالم لا تُرى بالعين المجردة. «فما يأتي من السماء يُشير إلى التقوى، وما ينبع من الداخل دال على العبقرية، أما ما يأتي من الخارج فيُعين عوالم الإشهار»(٢).

لا تُشير «هذه الأنواع البصرية الثلاثة إلى طبيعة الـمُمَثل فيها، بل تؤكد نمط استيطانه للنظرة»(٣). فالإنسان في هذه الحالات مجتمعة كان دائمًا يُبْصر، وذاك ما مكنه من تبين طريقه والتعرف إلى مظاهر الوجود من خلال حاسة البصر ذاتها، ولكنه تعلم، في الوقت ذاته، كيف ينظر، أي كيف يُودِع من خلال نظرته جزءًا من ذاته فيما تُبصره عيناه. لقد تعلم كيف يَفْصل بالنظرة داخل العوالم الـمُصورة بين ما ينتمي إلى فعل بصري يكتفي بالتقاط الأشياء، وبين ما ينتمي إلى تجربة بصرية تُصاغ في الرمز، فهذه ليست جزءًا طبيعيًّا من ذاك، بل هي حاصل الانتقال من الرؤية الحافية إلى دلالاتها في الوجدان. لقد كان الإبصار عابرًا في العين أما النظرة فخالدة فيها.

طبيعة الصورة

كان مصدر النظرة الأولى هو الرغبة في استكناه المرئي ذاته والبحث فيه عن شيء ما لا تُدركه الأبصار. إنها تُشير إلى مرحلة كان الإنسان فيها يتحسس طريقه نحو ما يسمو به عن وجود محكوم بفناء لا راد لقضائه، فكانت الأصنام والأوثان بكل أشكالها هي ملاذه المباشر الذي قد لا «يَقيه» من شر طبيعي واجتماعي يهدد وجودًا منذورًا للعدم والتلاشي، ولكنها قد تمنحه، مع ذلك، طمأنينة من يخاف من خطر داهم لا يعرفه. وهو ما يكشف عنه أيضًا التعلق بالأبطال وكل الكائنات الخارقة التي انبثقت من «داخل» نفسي لم يتوقف أبدًا عن استبطان صور لم يعرف مصدرَها دائمًا بشكل واعٍ، وهي أيضًا ما يُغذي إلى عصرنا هذا كل أشكال التماهي. وتجسدت في مرحلة ثانية في الأيقونات ذات الطابع الديني الصريح(٤).

لقد كان المرئي في هذه الأيقونات، في الحالتين معًا، «ممرًّا ضروريًّا نحو اللامرئي أو هو خلفية له»(٥). لم تكن الغاية منه هي تجسيد ما يُؤمن به الناس، أو يعتقدون حقًّا في وجوده، بل كان استشرافًا لوجود كائن أعلى يُوجد في مكان آخر من خلال الوثن الذي يُذَكر به؛ لذلك لم يكن «الأيقون بورتريه يُحيل على تشابه، بل كان صورة إلهية في المقام الأول، فقيمته ليست في شكله المرئي، بل في الطابع التعبدي للرؤية في العين، إنها قيمة مستمدة من الأثر الذي يُمكن أنْ يُحدثه»(٦).

وبذلك كان «الوثن صورة عن زمن ثابت، إنه يُشير إلى الخلود (…)، إنه مرتبط ببيئات محلية خلقت لنفسها آلهة نابعة من محيط ثقافي وطبيعي. إنه وثيق الصلة بالإثنيات»(٧). لقد شكل في هذه البيئات مرحلة فارقة في تاريخ الوعي الإنساني، فقد كان «يُشير إلى انتقال الوعي الإنساني من السحري إلى الديني»(٨). فما هو موضوع للعبادة ليس إلهًا إلا عند من يؤمن به.

وتلك هي في الواقع طبيعة الصورة في كل تجلياتها، إنها دالة دائمًا على غياب يَطول الكائنات والأشياء التي تمثلها. قد يكون ذلك إحالة ضمنية على الموت ذاته، كما استبطنته انفعالات تسللت إلى كل منتجات الإنسان الرمزية، وقد يكون الأمر دالًّا على رغبة في التحايل على الزمن للحد من جبروته، فالصورة تُؤبد ما تلتهمه الزمنية دون رحمة. فنحن لا نستطيع أبدًا الانتصارَ على الفَنَاء، إننا كائنات محكومة بالزوال والتلاشي، ولكننا نستطيع، مع ذلك، العيش في حضن تمثيلات تتطور على هامش الزمنية وضدًّا على قوانينها. وألبومات العائلة دالة على ذلك، إنها ذاكرة بصرية تَشهد على تحولاتنا في الزمن، كما هي صور السيلفي الجديدة دالة اليوم على اللهاث وراء خلود كاريكاتيري.

التمثيل البصري للمعبودات

شواهد كثيرة في التاريخ تُؤكد ذلك؛ منها التماثيل الصغيرة والكبيرة التي وصلتنا من العصور القديمة، ومنها الأيقونات المسيحية وأصنام الجزيرة العربية، وكل المعبودات المشخصة في التراث الآسيوي والإغريقي. بل إن الأمر يتعلق في هذه المرحلة أيضًا بما هو أبعد من الاقتراب من المعبود لكي يتم التعبير، من خلال التمثيل البصري ذاته، عن علاقة الفرد بالعالم. فلم تكن النظرة في هذا الوثن معنية بتأمل محيطها، بل كانت تهفو إلى خلق كون صغير ليس سوى محاولة للإمساك بتناغم الكون الأكبر من خلال حضور استيهامي لما يُحاكيه في الشكل. وقد يكون ذاك هو ما يُفسر أن هذه التمثيلات البصرية كانت دائمًا قريبة من الموضوعات الفنية، ولكنها كانت موجهة نحو موضوع يجب ألّا تستقر عليه العين، لقد كانت ترغب في إجلاء جوهرِ ما يُمكن أنْ تقود إليه النظرة فيها.

وضمن ذلك تندرج الأشكال الرمزية للبدايات الأولى للألوهة، كما مارسها الإنسان بالفطرة خارج كل الوسائط. ما يتعلق في المقام الأول بما يطلق عليه بعضٌ «الأم الكبرى»، وهي عشتار، وكل الإلهات اللاتي خرجن من رحمها واشتققن منها. لقد أدرك الإنسان بالحدس والخبرة الفطرية أن المرأة هي إلهه وهي خالقه، هناك تناظر بينها وبين الأرض، فكلتاهما مصدر للعطاء والحياة والتجدد. وستتناسل هذه الأم وتتكاثر في كثير من شبيهاتها وما انفصل عنها بصفات ستتحول مع الأيام إلى أسماء تُشير إلى إلاهات بوظائف محددة في الأرض والسماء، فكل واحدة منهن كانت تختص بنشاط معين موجه إلى ضبط علاقات الناس مع أنفسهم ومع السماء.

لقد نحتها من الطين ورسمها في شكل دمى صغيرة كانت هي العين التي تسهر على طمأْنينته في الحقول والجبال والمغارات. وعندما استقر به المقام وبنى المستوطنات الأولى، شيد لها المعابد ومنحها أشكالًا تنوعت بتنوع الوظائف التي كانت تقوم بها. وقد كانت في الحالتين معًا هي الشكل الربوبي الذي حماه من طغيان البشر ومن غضب الطبيعة(٩).

وهكذا لم تكن مناة واللات والعزى وأرتميس وديميتر وإنانا وغيرها من الإلهات سوى صفات للأم الكبرى عشتار. لقد كانت جميعها تجسد الأصل والفكرة المركزية التي نقلت شرط المرأة في الأرض ووضعتها شرطًا للألوهية. وهذا ما يفسر كيف أن هذه الصفات ستَتحول إلى أسماء دالة على إلهات تتحرك وفق ما يقتضيه شرطها في البيئات المختلفة التي احتضنتها. وأصل هذا الوثن هو طبيعة المرأة ذاتها، «فقد كانت بالنسبة لإنسان العصور القديمة موضع حب ورغبة وموضع خوف ورهبة في آنٍ معًا (…) لقد كانت المرأة سرًّا أصغر مرتبطًا بسر أكبر، سرّ كامن خلف التبدلات في الطبيعة والأكوان، فوراء ذلك أنثى كونية عظمى هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات وإلى رحمها يؤول كل شيء»(١٠).

وكان الإغريق يُولون هذه التمثيلات أهمية قصوى، فقد كانت في نظرهم تشكل صلة وصل بين الصورة الكلية التي تستوعب الملكوت الإلهي، وبين الشكل الذي يُمكن أنْ تحضر من خلاله في العين. كانوا يودون التعبير عن قوى غيبية لا تُرى من خلال أشكال مرئية. وذاك كان جزءًا من نمط تمثلاتهم للكون وأشيائه(١١). ووفق ذلك كان الكولوسوس(١٢) Colossos هو الرمز الدال على ذلك. فقد كان هذا الوثن يتميز عن غيره من التماثيل القديمة في الكثير من الجوانب منها ثباته، فهو إما تمثال في شكل عماد، وإما تمثال في شكل صخرة منتصبة. وقد كان هذا المبدأ من الأسس التي قامت عليها وظيفته(١٣).

من الديني إلى التاريخي والإنساني

أما النظرة الثانية، النظرة الفنية، فقد انبثقت من الداخل. لقد أطلقت عنان الذات المبدعة، وحررت موضوعات الفن في الوقت ذاته. لقد كانت هذه النظرة وليدة إبدالات جديدة منها ما تسرب إليها من التقنية الجديدة للكتابة ذاتها (المطبعة)، ومنها ما ترتب عن ظهور التيار الإنسي الذي أعاد للفرد عبقريته وحريته في الاحتفاء بالوجود خارج أية غاية. فلم تعد العين تبحث في الفن عن شيء آخر غير الاستمتاع بموضوعات تخلصت من نفعيتها وتحولت إلى غطاء
للروح وحدها.

«لقد كان ظهور الفن إعلانًا عن انتقال من الديني إلى التاريخي، أو إنْ شئتم، من الإلهي إلى الإنساني»(١٤). لم يكن العمل الفني سرمديًّا، كما كان الوثن قبله، بل كان يتحقق في التاريخ الإنساني، وكان بذلك جزءًا من لحظة فارقة في تاريخ الفن وتاريخ الإنسان على حد سواء. «لقد كان إيقاعه بطيئًا، ولكنه كان يُسرب الحركة إلى الأشكال»(١٥). بعبارة أخرى، إن الأشكال هي مصدر المتعة لا ما يُمكن أنْ تقوم بتمثيله، فهي أصل الجمال؛ لذلك «لم يكن قضية جمالية بل كان قضية دينية، أي قضية إيمان»(١٦). «فعندما يكف خلاص المؤمن عن أن يكون في الصور المقدسة، فإنه يحتمي بعوالم الفن»(١٧).

لقد تخلص الفن من الدين، وخرج من الكنائس والأديرة، ليلج القصور والإقامات الأميرية والمتاحف بعد ذلك. لم تعد النظرة موجهة إلى السماء، لقد عادت إلى الأرض تبحث فيها عما يُغذي العبقرية ويُوسع من آفاقها. ومن خلال ذلك تخلص الفنان من ملكوت الله، ليُصبح جزءًا من نظام سياسي، وجزءًا من نهضة عامة شملت كل شيء في الحياة، بما في ذلك شرط الإنسان على الأرض. «ففي نظام الفن تُصبح غيبيات العالم الطبيعي هي التمثيل ذاته»(١٨)، فهي مصدر الإلهام ومادة الجميل. «لقد تحررت الصورة الإنسانية من العبادة وأنتجت ثقافتها الخاصة، لقد انتقلت من القدسي إلى العلماني، وانتقلت من الجماعة إلى الفرد»(١٩).

وعلى هذا الأساس سيكون «الفن منتجًا من منتجات الحرية الإنسانية، إنه لا يُشبه عمل النحلة، فما تقوم به النحلة ليس عملًا فنيًّا، بل هو منتج من منتجات الطبيعة»(٢٠). فهذا الكائن الصغير خاضع لموجهات شبيهة بالبرمجة(٢١) فهي التي تُحدد له ما يجب أن تكون عليه حياته، وما يجب أنْ يأكله، وما يجب أنْ يقوم به وما لا يقوم به؛ أما الإنسان فحر، إنه يُولد لكي يكون مسؤولًا عن مواقفه؛ لذلك كان الإبداع عنده سمة من سمات الثقافة، إنه ينتج أعمالًا فنية ليأسر قوى تُوجد خارجه، أو يفعل ذلك من أجل توسيع ذاكرة العالم الذي يعيش داخله. وهو ما يعني «أن حقيقة العمل الفني مودعة في الفنان لا في الطبيعة أو الألوهية؛ ذلك أن العمل الفني ليس انعكاسًا لعالم غيبي ومتعالٍ، بل هو التعبير الأمثل عن شخصية الفنان»(٢٢).

وهذا معناه أن «الحرية التي يستند إليها الفن ليست متولدة عن الغريزة، بل هي قصد المخلوق في علاقته بالخالق»(٢٣)؛ لذلك، وعلى عكس الوثن الذي كان «نظرة لا موضوع لها»، فإن «الفن كان يضع الإنسان موضوعًا وراء كل نظرة»(٢٤). لم يكن الفن استجابة لغايات أخرى غير غاية المتعة الجمالية، لقد اكتشف الإنسان من خلال العمل الفني الجمال داخله. «لم يعد الفنان يكتشف ويعبر عن حقائق مصدرها الله. لقد أصبح هو مبدعها وتلك كانت عبقريته. وضمن هذه العبقرية أصبح التخيل «سيد الملكات» (بودلير)، إنه ينافس ملكوت الله من خلال أعمال فنية لم ير الناس مثيلًا لها»(٢٥).

صور العصر البصري

أما في العصر الثالث، العصر البصري، فإن النظرة تتميز بكونها «رؤية بلا نظرة»(٢٦) vision sans regard، إن الصورة فيه تكتفي ببيع السلع والأفكار والخدمات واللوك، وتُحيل من خلال ذلك كله على عوالم الحس الذي يُدبر شأنه ضمن دوائر الاستهلاك. إنها تكتفي باستثارة سلسلة من الأهواء التي تتحرك خارج أية غاية سوى غايات التسويق وحدها. إننا لا نستهلك مواد لكي نعيش، بل نفعل ذلك لكي نستمتع بما رأيناه في الصورة. إننا نتعرف إلى العالم في الصور قبل أنْ نعاين أشياءه وكائناته في الواقع. فما يُحيط بنا من الصور يدعونا إلى عبادة الصورة في ذاتها قبل أنْ ننتبه إلى ما يمكن أنْ تُحيل عليه. فالإحالة ليست جزءًا من الصورة، إنها ذريعة فقط.

لقد غادر الناس في هذا العصر محيطهم واستوطنوا صورًا هي الدليل الوحيد على وجودهم. وربما هذا ما يجعل صور «العصر البصري شبيهة بالوثن أكثر مما هي شبيهة بالصور التي تُصنف ضمن الفن»(٢٧). وهذه الحقيقة ليست منفصلة عن تصورنا للفضاء والزمان. إن الفضاء أفقي يحدده حجم الشاشة ببعديها، أما الزمن فلحظي. وتلك هي مفارقات العصر، إنه وثيق الصلة باللحظة لا بالاسترسال الطولي. لقد انتشرت الصورة فيه إلى درجة ابتلاعها لحقيقة الوجود ذاته، «لقد كان الأيقون المسيحي يُذكر الناس أن الله حاضر أبدًا، أما أيقونة العصر الحالي فتعلن لهم أن الحاضر وحده ربهم»(٢٨). لقد اختفى الماوراء الغيبي خلف ما رواء جديد من طبيعة افتراضية، ولم تعد الصورة انفتاحًا على آفاق في المخيلة والذاكرة والمخيال يُعاد انطلاقًا منها صياغة عوالم تُغني الواقع وتوسع من ذاكرته، كما كان شأنها في الفن، بل أصبحت حالة عابرة هي البداية والمنتهى في العين والذاكرة على حد سواء.

ولهذا السبب، يجنح هذا العصر إلى أن يكون تمثيلًا بصريًّا يَتملص من كل ضبط مَقامي يمكن أنْ يقود إلى الاستقرار على دلالة بعينها. فعندما يُصبح كل شيء صورة سيجنح الناس إلى التشكيك في الواقع نفسه. وتلك سمة من سمات العصر البصري. «إنه يتميز بحركية لا تتوقف، إنه إيقاع خالص تستبد به السرعة، إنه عالمي، ولغته أمريكية»(٢٩). بعبارة أخرى، لقد وحد بين الناس في كل القارات، وتحولت الصورة إلى بديل لما يمكن أنْ يروه ويتأملوه؛ لذلك كان «إعلانًا عن الانتقال من الفرد المعزول إلى الوسط الكوني»(٣٠).

لا تشير «هذه الأنواع البصرية الثلاثة إلى طبيعة الـمُمَثل فيها، بل تؤكد نمط استيطانه للنظرة» (دوبري). بعبارة أخرى، لا يعود الفاصل بين هذه المدارات إلى شكل الصورة أو مضمونها، بل يعود إلى طبيعة النظرة ذاتها، أي نمط حضورها في العين؛ ذلك أن الموضوع فيها واحد، ففي جميع هذه العصور سيظل الله والقديس والبطل والنجم الرياضي والسياسي حاضرين في كل الوقائع الإبلاغية، ولكن بأشكال تختلف في الغايات والتجلي. سيَلْتَهِم العصر «البصري» عوالم الفن والأشكال التعبدية في الوقت ذاته. إن الصورة فيه تبيع المنتجات والخدمات والآراء، إنها موجودة لكي تُحيل على شيء آخر غير المتعة فيها.


هوامش:

(١)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, éd Gallimard , 1992 وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربية فريد الزاهي: «حياة الصورة وموتها» الصادر عن إفريقيا الشرق.

(٢)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.291

(٣)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.297

(٤)  سعيد بنكراد: بين اللفظ والصورة، تعددية الحقائق وفرجة الممكن، المركز الثقافي العربي، بيروت 2017م، ص120.

(٥)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.307

(٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.305

(٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.290-291

(٩)  فراس السواح: «لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة»، منشورات علاء الدين، 1985م، ص 25.

(١٠)  نفسه ص 25.

(١١)  Jean –Pierre Vernat : Mythes et pensée chez les grecs, études de psychologie historique, éd La découverte, poche,1996, p.325

(١٢)  colosssos ويعني التمثال الضخم.

(١٣)  نفسه ص 326.

(١٤)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.290-291FN14

(١٥)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(١٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.294

(١٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 317

(١٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 297

(١٩)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 317

(٢٠)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 311

(٢١)  logiciel.

(٢٢)  Luc Ferry: Le sens du beau, aux origines de la culture contemporaine, éd Le livre du poche, 2011,p.20

(٢٣)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 312

(٢٤)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p. 320

(٢٥)  Luc Ferry: Homo Aestheticus : éd Livre de poche, 1990 , p.47

(٢٦)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.320

(٢٧)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.411

(٢٨)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.415

(٢٩)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.289

(٣٠)  Régis Debray: Vie et mort de l’image, op cit, p.291