قصص طالب الرفاعي تخترق النوع بخطاب القيم
عُرف طالب الرفاعي كاتبَ رواية، أولًا، وقصصٍ قصيرة، ثانيًا، ودائمًا. وعمومًا، هما نوعان يتجاوران ويتوازيان في مجموع كتابته السردية التي قضى في إنجازها، بناءً على ببليوغرافيته المنشورة، ثلاثة عقود ونيفًا. هي مدةٌ هيّأته وسمحت له بأن يتمرّن على طرائقَ في السرد ويثابرَ لتملُّكها ضمن التجربة العامة للأدب الحديث في الكويت، ومنها إلى خصوصيةٍ دأب عليها يختبرها ويقترح بها صيَغًا وتصوراتٍ في نمذجتها الفنية وتشخيصاتها الاجتماعية، في إطار رؤيةٍ واقعيةٍ تُراوِح بين المحاكاة العاكسة، والتصويرِ من منظور الممكن والمحتمل، وهو في كل هذا يُجسِّد ويَحدِس.
نريد أن نُعنى هنا بكتابته للقصة القصيرة التي له فيها تسعُ مجموعات ابتداءً من «أبو عجاج طال عمرك» (1992م)، وصولًا إلى «رمادي داكن» (2018م)، وانتهاءً بالمجموعة الأخيرة بين يدينا: «الدكتور نازل» (منشورات ذات السلاسل، الكويت، 2023م). تحمل المجموعة في غلافها جنسَها الأدبي «قصص»، وهذه دعوة للقارئ كي يتلقّى النصَّ بهذا التعيين ويستخدمَ أدواتِ تلقّيه كما تعلّمها ويستمدُّها من جملة القواعد المؤسِّسةِ لنظام وجماليةِ كتابةٍ، بحكم النوع، أدبية ومحددة بشروط. أستبق إلى هذا التذكير لأن القاصّ الرفاعي في مجموعته حديثة الصدور (أربع وعشرون قصة، أغلب عناوينها في كلمة واحدة، والكلمة دالٌّ ومدلول، وجميعُها تخلُص بك في الأخير إلى دلالة) وهو يكتب على طرز القصة القصيرة هيكلًا عامًّا نجدها عنده تنزاح عنها شكلًا ونوعًا. وهذا من شأنه أن يقلب عملية التلقي رأسًا على عقب، أو ينبغي، وهذا بالنسبة لقارئ لا يكتفي بالاستهلاك، ويضطر أن يطرح الأسئلة على نصوص مقلقة؛ لأنها تجدّد الصلة بمفهوم الأدب.
وجوه الدكتور نازل
لنستعرض أولًا بعض هذه الـ(قصص) من نواحي سردِها ومحكياتِها وبنائها للتعرّف إلى بعض رهانِها من خلال أغراضها. «الدكتور نازل»، هو عنوان المجموعة كلها، لكن لن نجد أية قصة تحمل هذا العنوان. لماذا؟ ببساطة لأن «نازل» اسم علم، شخصيةٌ مركزيةٌ، قطبُ الرحى تدور حوله باقي الشخصيات والأطياف والظلال والأحداث والأمكنة والفضاءات، إما تبدأ منه، أو في محيطه، ولا بد أن تنتهي إليه. وهو مفردٌ متعدِّد. كائنٌ وشبح. شخصٌ ورمز. ويمكن أن يندرج في (ثيمة) تبرزها موضوعات لأغراض محددة: وطنية، اجتماعية، أخلاقية. نقدم الأمثلة التالية: قصة «شهادة تاون» تحكي عن طالبين كويتيين، واحد ثريّ والثاني صديقه. الأول (نازل) بعد أن يخفق في دراسته يجرّ معه صديقه للتحايل، ويرتب تسجيلًا لهما في جامعة أميركية وينجح بطرق ملتوية، الرشوة أولها، للفوز مع رفيقه في جامعة (تاون) -لنفترض أنها جورج تاون بضاحية واشنطن- بشهادة الدكتوراه، ويعودان متوجين باللقب المنشود: «اليوم أبدأ مشوار عملي، وحرف الدال يسبق اسمي»(14).
يزهو الدكتور نازل، الذي سيبدأ مباشرة مشروعاته، بتأسيس معهد تقام فيه «دورة تدريبية تفاعلية بشهادات معتمدة مع البروفيسور نازل تضمن لكم التفوق والتميز»، و«تعلّم أسرار النجاح في ثلاثة أيام». في «بخور كيو أيت Q8» تقفز إلى ذهن صاحب شركة كبيرة، نازل، فكرة مشروع شركة جديدة لتجارة البخور، اعتمادًا على فرضية حاجة مؤسسات الدولة بجميع مراتبها إلى البخور؛ إذ «كيف يمكن لمكتب وزير أو وكيل، أن يكون بلا بخور» و«البخور يطرد الحسد والعين»، ويُسخِّر حديثًا نبويًّا سندُه السيدة عائشة رضي الله عنها في إطرائه. يعيّن مسؤولًا يستورد البخورَ من بلدان آسيا، ويدور الحولُ وإذا الشركة تحقق بناءً على حساب مسبق بعدد دوائر الدولة أرباحًا بملايين الدولارات.. ويتفتق الذكاء التجاري للدكتور نازل عن فكرة عبقرية لتأسيس (شركة الكذب العالمي) يبيع فيها سلعة رمزية (مثلبة خلقية) ويجد لها مسوّغاتٍ ورواجًا ما دام العالم عنده «من أقصاه إلى أقصاه يكذب بعضه على بعض: المفكرون، الفلاسفة، المسؤولون، دكاترة الجامعة، الكتاب، الصحفيون» (48).
ينتقل طالب الرفاعي بشخصيته بين مرافق الحياة والعمل والأوضاع المختلفة، يُطلّ بواسطة عينيه وأفعاله، وحكاياته الواقعية أو المختلقة، على عديد أوساط، ويرسم أنواعَ سلوك، وأنماطَ أخلاقيات. وإذا قلنا سابقًا: إنه واحدٌ ومتعدد، فإننا نعود لنقول: إنه واحد فقط، أي الكاتب- السارد، وهما يتماهيان إلى حد التطابق، يعجن النموذج الذي يشاء بالمنظور الخلقي التوجيهي النقدي الثابت في الذهن أطروحة.
سأستعرض أمثلة لـ(قصص) أخرى تُجلي هذا المنحى لننتقل إلى ما يبدو لي الأهم في هذه المجموعة. قصة «اعتصام» تتناول غشّ الطلبة في الامتحانات باستخدام تقنية حديثة للاستماع سمّيت «النحلة»، واحتجاج الآباء على فضح الغش بإهانة المدرسين والاعتصام. مثلها قصة «الأيام التالية»، الغشّ موضوعُها والتقاعسُ عن الدراسة بحجة ظرف كورونا. في قصة «بالحلال» شخصية «نازل» (دائمًا)، في دور العاشق الذي يسعى لنيل وطره بالمخاتلة مستغلًّا مدة أو عُرف الخطوبة قبل الزواج ثم بعد ذلك التحلل من وعده كاشفًا أنه وغد ونذل، وفاضحًا سلوكًا يبدو أنه متفشٍّ في المجتمع. الدكتور نازل نفسه في قصة «رحلة»، مستغلًّا منصبه، يطمع في سكرتيرته المتزوجة فيصطنع سفرة عمل إلى الخارج ويدعوها لمرافقته. تشترط عليه باريس بدل لندن ويفتضح أمرُه في الطائرة؛ إذ هي رتّبت مرافقة زوجها لها لذكرى شهر عسل أمضياه فيها. ما أكثرها الزلات الأخلاقية للدكتور نازل، فهو مرة أخرى في «امرأة مختلفة» يجسّد فعل الخيانة الزوجية؛ إذ يراود فتاةً تعيش مع أمها ويلحّ عليها غزلًا معسولًا إلى أن تتظاهر بالإذعان له فتُعد له (مقلبًا)، تجلبُه إلى غرفة نومها وبخطة مدبّرة تُصوّره عاريًا بكاميرا خفية وتوعز بنشر صوره عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليفتضح أمره محليًّا وعربيًّا. ولأنه شخصية ذات شأن يعمد إلى التكذيب واعتبار الأمر تسجيلًا مزورًا ومؤامرةً للنيل منه.
هكذا هي أربع وعشرون قصة، أو لوحة قصصية، تحضر فيها شخصية (الدكتور نازل) مركزيةً استقطابيةً وإطارية، تتوالى في سلسلة الحكايات المصنوعة بها ولها لتكون الجامع المشترك بينها، وهي في كل مرة تتنزل في صورة وقيمة وخليقة. غالبًا يشار إليها من خارج وبضمير الغائب، أو تتكفّل شخصية رديفٌ تابعٌ لها بإعلان دورها وتنفيذ نزواتها؛ إذ النزوة بمعنى الهوى الخارج عن الصواب والشاهر للفساد والشطط العام لفئة في المجتمع هي الثيمة الكبرى واللازمة المترددة. وإذا جاءت شخصيته بضمير المتكلم فبأوصاف عامة مثل كثيف الشَّعر أو بمظهر الهندام لا تتميز هي وغيرها إلا بسلوك الجشع والبطر والاستقواء وتغوّل الفساد العام.
الغاية تبرر الوسيلة
وعليه، فإن هذه القصص ذات طبيعة أليغورية بالدرجة الأولى، أليغورية رمزية تُشغِّل جملة من العناصر والمحددات المادية لتجسيد معنى مجرد. ولنا أن نقلب التعريف فنقول: إنها تمثيل للمجرد بواسطة عناصر ومواد حقيقية محسوسة، بوضعها في صور مجازية. ولسبب ما تعذّر تقديمها مباشرة، من ذلك مثلًا الخوف من المنع أو التحايل على الرقابة لنشر النص. يشير طالب الرفاعي نفسُه خارج المتن في نهاية الكتاب إلى أنه أرسله مباشرة بعد الانتهاء منه إلى دار النشر التي رحّبت فورًا وطلب صاحبها انتظار التوصل برخصة الرقيب في وزارة الإعلام التي رفضت المجموعة؛ لأن المؤلف كتب أسماء جميع الشخصيات بأسمائها الحقيقية، فما كان منه إلا أن عالج المشكل بإطلاق اسم واحد (نازل) عليها جميعًا، فأجازها الرقيب.
لكن هذا لا يغيّر شيئًا من أن الشخصية كانت ستبقى ذاتَها مع تعدّد الأسماء؛ لأنها ليست شخصياتٍ قصصية بقدر ما هي كنايات عن قيَم ومفاهيم ومُثل رمزية مصبوبة في قالب مغلق واستنساخي، وبسردية خطّية منطقُها وتصورُها مسبقان يؤديان إلى نتيجة حتمية واضحة في ذهن الكاتب ويسخّر آليات لتحقيقها. سواء وضع بجواره زوجتَه دلال، ومساعدَه الهندي، أو صديقًا مفترضًا، أو امرأةً خصمًا، لخلق ثنائية وإما توتر مطلوبين، فإن الأحاديةَ في التمثيل والبعدَ الواحد في المعنى ثابتان.
لا يمر هذا من دون التأثير في شكل القصّ، ونمط السرد وبنية اللغة والأسلوب، جاءت منسجمةً ومُسخّرة بدورها لخدمة وبلورة النزعة الغائية. وإذا قيل: إن الغاية تبرر الوسيلة، فإن ما يستخدم في القصة يُوظّف لإعلائه. من ذلك مثلًا أن القصة القصيرة معلومةٌ بكونها فنَّ التلميح لا التصريح، تعتمد الوصف المادي والتعيين للكائن والمكان في زمن، في بؤرة محددة لا عائمة وتخفي في الثنايا الخطاب، أي أن لغتها، وهي تلفظ، إيحاءٌ لا تصريح، والصورة فيها كلام غنيّ عن شرح وهامش. وسواء اعتمدت الوحدات الثلاث بنيةً فنيةً أو تلاعبت بها بالحذف والاجتزاء والتقديم والتأخير وما إلى هذا، تبقى منغلقةً على سرّها الذي هو سحرُها الأخّاذ يفكّ القارئ مغاليقها إن استطاع لذلك سبيلًا، ثم المتلقي، في جدلية النص والتأويل. بينما جاء اختيار الرفاعي في هذه المجموعة مختلفًا، هو الذي جرّب قبلها عديدَ دروب وخبِرَها. أراد أن يكتب القصة التربوية بالطريقة التلقينية والهدف المباشر للنقد الاجتماعي وللفضح والإدانة مباشرة، وهو لم يألُ جهدًا في توفير ما ينبغي من عُدة في ترتيب جيّد لهذه المراتب. الباروديا أو السخريةُ السوداء تقدم الشخصيةَ بهيئاتٍ ونعوتٍ كاريكاتيرية، لونُها فاقعٌ وطعمُها حادّ، تصاحب المجموعة في سائر أطوارها إلى حدّ التشهير في الاسم العنوان (نازل نقيض صاعد).
هي قصة إطار انضوت بداخلها وحداتٌ صغرى، فلتكن متواليةً سرديةً باستعارتنا لاصطلاح التحليل البنيوي للسرد، بموجبها ينقسم النص إلى وحدات تشكل عددًا من المتواليات السردية يربطها ناظم داخلي يحقق لهذا النص (لنقل القصة) وحدته ويكفل انسجامه. نرى أن نصوص (قصص الدكتور نازل) تتوفر على أكثر من ناظم، هو الشخصيةُ العابرة لها كلها، والصفةُ الرمزية لتمثيليتها ثانيًا، والدلالة القيمية (الأيتيقية) قاعدتها المبنية عليها والناطقة بها.
هذه مثلثةً، في النهاية واحدٌ؛ بحكم تسخير الكاتب لها لتأليف وإشهار خطاب إصلاحي جهير فضفاض أوسعَ من جلباب القصة القصيرة بضوابطها المحكمة والمتحوّلة معًا؛ لذا تفيض من المتن إلى الهامش، هنا حيث يلغي الكاتب الساردَ والشخصيةَ وأي محفل آخر ويضع خاتمة خارجية لكل قصة بنص خطاب منه بين التعليق والتأكيد واستخلاص المغزى. وبذا ينتقل إلى نوع آخر من الأدب الخبري يسمى (الأمثولة) l’exemplum الأجدر بنسبة هذه القصص إليه. ثم إلى منوال الخاطرة والانطباع والتعليق الصحفي، ومنه إلى العِظة؛ سجلاتٌ كتابيةٌ متنوعةٌ مسبوكةٌ في سبحة حكائية مهجِنةً للقص تهجينًا مرادًا أو اعتباطًا، في المحصلة خادمة لمنظومة قيَمية أخلاقية عارية الأعضاء، عالية الصوت بالنقد والفضح والشجب والسخرية؛ كي تندرج في نثر الأدب العام، ما اقتضى لغةً واضحةً وأسلوبًا متقشّفًا غايته البلاغ، فابتعد من الغموض والتنميق. ولأن مرسل خطابه يعي جيدًا لمن يرسله وينبغي أن يقرأه ويسمعه، من هنا أيضًا نبرته الشفوية وهي سِجِلٌّ آخر لكتابته يقول فيها جهارًا وإعلان هوية أنا، تعزز الطرائق الأخرى لإنتاجه وتعددها كي تصل الرسالة.